بعد ذلك أخذ إبراهيم باشا يمد يد التخريب والتدمير في ضواحي مدينة الدرعية، ليحول بينها وبين المؤنة والمدد؛ وبذلك اضطر عبد الله إلى الخضوع والاستسلام لسيطرته وسلطانه، فسلم نفسه في (ذي القعدة سنة 1233ه/سنة 1818م). ولم يعامله إبراهيم باشا إلا بكل كرامة وإحسان، ثم أرسله إلى والده بالقاهرة فبالغ في إكرامه أيضا، ثم أرسله إلى الباب العالي بعد أن استرد منه كل ما سلبه من الحرم الشريف، وبعد وصوله بزمن يسير أمر به فقتل. فلما بلغ أهل الدرعية مقتله هاجوا وماجوا، وانتثر عقد نظامهم؛ ولذلك أرسل محمد علي في طلب قرابة عبد الله إلى القاهرة، وأجرى عليهم وظائف تقوم بمعاشهم.
أما مدينة الدرعية فأصبحت أثرا بعد عين؛ لأن إبراهيم باشا رأى بقاءها عامرة حجر عثرة في طريقه، ولو تركها من غير تخريب لكانت ركنا مكينا ومعقلا حصينا لأعدائه، فلم يبق عليها لذلك، وساعده على تخريبها الأهالي أنفسهم، تقربا إليه واسترضاء له.
هكذا انتهت الحروب في بلاد العرب بعد القضاء على سلطة الوهابيين، الذين كانوا يدعون أنهم يسعون في سبيل استرداد مجد الإسلام الضائع. (3) فتح السودان
بعد أن تم النصر المبين لمحمد علي وقضى على الوهابيين القضاء المبرم، واستأصل شأفتهم من بلاد العرب، عنت له حاجة شديدة إلى فتح السودان، وضمه إلى سلطانه ونفوذه؛ وذلك لأسباب سياسية ومادية.
أما الأسباب السياسية فتلخص فيما يأتي: لما قضى محمد علي على دولة المماليك في مذبحة القلعة هرب أناس كثيرون منهم واعتصموا بالوجه القبلي، فطاردهم إبراهيم باشا حتى اجتازوا الحدود المصرية، وتحصنوا في دنقلة وأقاموا بها القلاع والحصون، وقد احتال محمد علي في القبض عليهم والإيقاع بهم فلم يفلح.
هذا إلى أن جنده الألبانيين كانوا خطرا عليه في كل وقت؛ لأنهم كانوا لا ينزلونه من أنفسهم إلا منزلة فرد منهم، وكان الضباط يشقون عصا طاعته ويأتمرون فيما بينهم ليسقطوه، ولم يذعنوا للإصلاح الذي أدخله في الجيش؛ ولذلك كان يصدرهم في مقدمة الجيش عند الالتحام ليبيدهم ويقضي عليهم فيربأ بنفسه عنهم، ويستبدل بهم أبناء السودان - الذين شبوا على الشجاعة والصبر ومقاومة أعباء الحروب - بعد تدريبهم على الفنون الحديثة الحربية؛ لأنه اعتقد أن أبناء مصر لا يصلحون للتجنيد لما ينقصهم من الصفات التي تؤهلهم لذلك.
أما الأسباب المادية فتلخص أيضا فيما يأتي: أراد محمد علي فتح السودان ليتسنى له بذلك تجديد طرق القوافل التي كانت بين مصر والسودان؛ فيتسع نطاق التجارة بين القطرين، ويناله من هذه التجارة ما يفرضه عليها من ضرائب ومكوس جمة، حتى يسترد ما أنفقه في محاربة الوهابيين، ويكون ذلك موردا دائميا من موارد خزانته، فضلا عما كان يسمع عن السودان وما فيه من مناجم الذهب الغنية التي يمكن استخراجها والانتفاع بها.
وإن من البواعث التي حركته لفتح السودان ما رآه من أن سعادة مصر متوقفة على استحواذه عليه وضمه إلى ملكه؛ لأن ريف مصر متوقف ريه على روافد النيل العليا؛ ولذلك أصبح من المحتم أن يكون النهر وروافده تحت سلطة واحدة، ليمكنها بذلك توزيع المياه على حسب الحاجة مع مراعاة المصلحة العامة.
ولما عزم محمد علي على إنفاذ رأيه، ورأى أن فتح السودان أمر من العظم بمكان، سير جيشا بادئ بدء إلى واحة سيوة لإخضاعها قبل الزحف على السودان، حتى لا تكون مصدر شر بجواره، فسار هذا الجيش الصغير في (جمادى الأولى سنة 1235ه/فبراير سنة 1820م)، فأخضع سكان الواحة، وصارت جزءا متمما لمصر من ذلك الوقت.
أما حملة السودان فإنها ابتدأت السير من القاهرة في (شوال سنة 1235ه/يوليو سنة 1820م)، وكانت مؤلفة من ثلاثة آلاف راجل، وألف وخمسمائة فارس، واثني عشر مدفعا، وخمسمائة من عرب العبابدة تحت إمرة شيخهم «عابدين كاشف» - وكان قد وعده محمد علي بولاية دنقلة بعد فتحها - فتجمع الجيش في أسوان، حيث رتبت هناك الميرة والذخيرة.
صفحة غير معروفة