تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تصانيف
أما عمرو فما زال يتقدم بجيشه إلى الإسكندرية، وكانت هي قاعدة القطر المصري إلى ذلك العهد، وفيها من عظمة الروم ورهبتهم ما يرهب الأبطال، وحاصرها برا، أما بحرا فكانت الطريق مفتوحة بينها وبين القسطنطينية؛ يأتيها منها ما تحتاج إليه من المؤن والزخائر، فطال الحصار رغم الوسائل التي اتخذها العرب، فضجر عمرو فجمع إليه رجاله وخطب فيهم؛ فهاجموا الأسوار، وهو في مقدمتهم فخرقوها، ودخل عمرو واثنان من قواده هما مسلمة بن مخلد ووردان، إلا أنهم لم يكادوا يطأونها حتى أقفلت الأسوار وراءهم، وألقي القبض عليهم، وأحضروا أمام البطريق (الحاكم) فخاطبهم قائلا: «هو ذا أنتم أسرى في أيدينا، فأخبرونا ما الذي جاء بكم إلينا، وما الذي حملكم على قتالنا ؟» فأجابه عمرو بقلب لا يهاب الموت: «قد أتيناكم ندعوكم إلى الإسلام، فيكون لكم ما لنا، أو أن تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإلا فإننا نقاتلكم إلى أن نفيء لأمر الله.» فبهت الحاكم، وداخله الريب، فقال لمن في مجلسه من الروم باللغة اليونانية: «يظهر أن هذا الرجل من وجوه العرب، ولعله أمير القوم، فينبغي أن نضرب عنقه.» وكان وردان عارفا باللغة اليونانية، ففهم ما قاله البطريق، ولكي يطلع عمرا على ذلك لكمه مستهزئا، وناداه منتهرا «ما لك ولهذا القول، وأنت أدنى من في الجماعة وأقل، فاترك غيرك يتكلم.»
فاختلف ظن البطريق، وقال: «لو كان هذا أمير القوم ما كان يفعل به هكذا.» فقال مسلمة: «إن أميرنا كان عازما على الانصراف عنكم، وأراد أن يسير من أكابر القوم من يتفق معكم على شيء تتراضون عليه، فإن أطلقتمونا مضينا وعرفناه ما صنعتم بنا من الجميل، ويتفق الأمر بينكم وننصرف عنكم.»
فتوهم البطريق أن الأمر كذلك فأطلقهم، فلما خرجوا قال مسلمة لعمرو: «قد خلصتك لكمة وردان» فوصلوا إلى المعسكر وهم على نية تشديد الحصار إلى أن يقضي الله بما يشاء.
وكان الإمام عمر قد استبطأ فتح الإسكندرية. فكتب إلى عمرو: «أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر. إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، فإن الله - تبارك وتعالى - لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا قد غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب في الناس، وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تنزل الرحمة، ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم.» فجمع عمرو رجاله، وتلا عليهم كتاب أمير المؤمنين، فأثر فيهم تأثيرا عظيما، وعزموا على القيام به.
وفي خلال ذلك توفي هرقل ملك القسطنطينية، وعقب موته حدثت انقسامات داخلية، وحروب أهلية، سفكت فيها الدماء بسبب ادعاء الملك من هم من غير الأسرة الملوكية، وانتهى الأمر بأن أفضى الملك لولده هرقل الثاني أو قسطنطين الثالث، وهذا لم يمض عليه مائة يوم من جلوسه حتى قضى مسموما بيد مارتين امرأة أبيه، ثم بمساعي بطريرك القسطنطينية عقد على الملك بعده لهرقلينة ابنة مارتين المذكورة، وبعد بضعة أشهر نصب قسطان بن هرقل الثاني. فيقال إجمالا: إنه كان على القسطنطينية ثلاثة ملوك في وقت واحد؛ فازداد الانشقاق، وتعاظم الخصام، فضعفت همم الإسكندريين، وتضاعف يأسهم، فهاجر بعضهم بحرا، ولبث البعض الآخر في المدينة يريدون دفاعا لم يقووا عليه، فدخلها عمرو يوم الجمعة غرة شهر محرم سنة 20 للهجرة (أو 22 ديسمبر سنة 640 للميلاد) وأقام فيها احتفالا عظيما؛ تذكارا لما أوتيه من الفتح المبين، ثم كتب إلى أمير المؤمنين كتابا ونصه:
إلى الخليفة عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص، عليك سلام الله تعالى وبركاته، أما بعد، فقد فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملعب للملوك، واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.
وبعد أن استلم عمرو زمام الأحكام أخذ في استجلاب قلوب الأهلين؛ فجعل يقرب منه سراة القوم ووجوههم، ويحكم في الناس بالقسط، ويجيب التماسهم في كل ما كانوا يسألونه منه حتى أجمع الكل على الميل إليه، والإذعان لأمره. (ز) مكتبة الإسكندرية
وذكر ابن القفطي وأبو الفرج الملطي وغيرهما أن عمرا لما فتح الإسكندرية كان في جملة علمائها رجل اسمه يحيى الغراماطيقي، فدخل على عمرو، وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو، وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به، وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه. ثم قال له يحيى يوما: «إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية، وختمت على كل الأصناف الموجودة بها، فما لك به انتفاع فلا نعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به.»
فقال له عمرو: «ما الذي تحتاج إليه؟» قال «كتب الحكمة التي في الخزائن الملوكية.» فقال له عمرو: «هذا ما لا يمكنني أن آمر فيه إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.» فكتب إلى عمر وعرفه قول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: «وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها» فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها فاستنفدت في مدة ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب. ا.ه.
على أن بعض الكتبة ينزهون الإمام عمر بن الخطاب عن تلك الفعلة، وكنا قد جاريناهم في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ثم تبين لنا بالبحث ترجيح صحتها، وقد فصلنا الأدلة على ذلك في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي، ولا نزال عليه حتى يتبين لنا ما ينقضه، ونحن موالون البحث في هذا الشأن؛ إذ لا غرض لنا غير تقرير الحقيقة. (ح) بناء الفسطاط
صفحة غير معروفة