تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تصانيف
فلما رأى سباقون ذلك خاف على بلاده فتقدم بجنوده إلى الشام لرد «سرجون» بعد أن انضم إليه «حانون» ملك غزة أحد المتحالفين، فالتقيا بجيوش الآشوريين في مدينة رفح، وانتشبت الحرب بين الفريقين فانهزمت الجيوش المصرية والشامية وأخذ «حانون» أسيرا، ونجا سباقون فضل في الصحراء إلى أن وجد من أهداه إلى طريق مصر. فكانت هذه المحاربة أمثولة له لكي لا يطمع فيما هو عاجز عن نيله، ولم يكن ذلك كله شقاءه فإنه بعد هذه الهزيمة ثار عليه سكان الوجه البحري تحت رئاسة إسطيفانيتس أحد أقرباء الملك «باكوريس» سعيا في إصلاح شئون البلاد فانهزم سباقون إلى الصعيد، واستقل باكوريس بالوجه البحري، لكنه لم ترسخ قدمه حتى انقسمت حكومته على نفسها، وقام النزاع بين فئتين من طالبي السيادة، وفي أثناء ذلك توفي «سباقون» وخلفه ابنه «سيخون» فاغتنم فرصة الانشقاق وحارب الوجه البحري واستولى عليه، وهذا ما لبث أن ثبتت قدمه حتى قتله «طهراق» وتولى مكانه.
شكل 1-13: إسرحدون يقود طهراق ملك مصر وبعل ملك صور بحيل.
أما «طهراق» هذا فكان رجلا محاربا نزع مدينة منف من «إستفانيتس» ثم جاءه إسرحدون ملك آشور فاتحا ففر طهراق (تهراكا أو ترهاكه) إلى النوبة، واستولى ملك آشور على منف وطيبة ونهب أمتعة هياكلها وقسوسها، وأرسلها إلى بلاده؛ لتحفظ تذكارا لتلك الغلبة. ثم اشتغل في إصلاح شئون مصر، وأعاد رؤساء الأقاليم كما كانوا كل واحد في إقليمه، وضرب عليهم الجزية، وبعد أن تم له ذلك سار إلى «نينوى» تاركا بعض جنوده حامية في قلاعه خوفا من غائلة الأثيوبيين فمر في أثناء الطريق بنهر الكاب قرب مدينة بيروت فنقش على الحجر الذي كان نصبه رعمسيس الثاني نقوشا كثيرة بين فيها فتكه بالمصريين والأثيوبيين.
وفي سنة 669ق.م اغتنم طهراق فرصة مرض إسرحدون، وهاجم المصريين لاسترجاع البلاد إليه، فلما علم أسرحدون بذلك، وعلم بعجزه عن الدفاع تنازل عن الملك لابنه الأكبر «آشوربانبال». فسار هذا إلى مصر، وأخرج منها الأثيوبيين، وأعاد السلطة لرؤساء الأقاليم، وعاد إلى وطنه. فعاد طهراق إلى مشروعه فتحالف مع المصريين سرا على أن يعضدوه فيما يريد، فعلم ملك آشور بذلك فقبض على الخائنين من رؤساء الأقاليم، وقادهم إليه أسرى إلا أن ذلك لم يمنع طهراق مما أراد فهجم على مصر، واستولى على منف، وأبطل عبادة الصنم «إبيس» منها.
أما ملك آشور فجعل يقرب منه رؤساء الأقاليم المأسورين عنده استجلابا لرضاهم وطلبا لمساعدتهم، فخلع عليهم، وأكثر من إكرامهم، وأرسلهم إلى مصر فأخذوا الوجه البحري ثم القبلي، ثم ما زالت مصر يتناوبها الآشوريون والأثيوبيون حتى انتهى الأمر بإغضاء الآشوريين عن تملكها لما يقتضي ذلك من المشقة، فدخلت في سلطة «نوان ميامون» ملك أثيوبيا بدون كبير مشقة، وترى كيفية استيلائه مكتوبة بالهيروغليف نقشا على حجر وجد في أطلال مدينة «نبته» بجبل برقل، وهو محفوظ في المتحف المصري. (3-9) العائلة السادسة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة 1287-1149ق.ه/665-527ق.م وعدد ملوكها 6)
أولهم «بسامتيك الأول» استولى على الوجه البحري والقبلي حتى الشلال الأول، وكان أجنبيا وليس من العصبية الملوكية إلا أنه اقترن بابنة من العائلة الملوكية فاكتسب حق التملك بواسطتها. فتولى الملك ومصر تئن ضعفا وقنوطا؛ لما قاسته من الحروب التي توالت عليها أعواما بين الآشوريين والأثيوبيين فأخذ في إحياء ربوعها وإعادة رونقها إليها؛ فبنى المعابد في منف، ووجهات معبد فتاح، وفتح فيها طرقات على عمد عديدة، وبنى القاعة الكبيرة التي كانوا يعلفون فيها العجل «إبيس» ورمم ما كان متهدما من معبد الكرنك.
وباشر جميع هذه الأعمال دفعة واحدة فأصبحت مصر كأنها معمل عظيم للبناء والترميم، ونشط على الخصوص صناعة الحفر والنقش فبلغت أوجا رفيعا. ثم نظر إلى مناعة البلاد فرآها محاطة بأعداء كثيرين أشد بأسا منها كالآشوريين والأثيوبيين، فأخذ في تحصينها؛ فبنى القلاع والحصون في مضايق طرق الشام من الشرق، وفي ضواحي بركة المنزلة، وفي مدينة دفنة بالقرب من «تسال» لمنع إغارة الآشوريين، وحصن أسوان لدفع الأثيوبيين.
على أنه عمد بعد الاكتفاء بالدفاع إلى الهجوم؛ فهاجم الأثيوبيين وحاربهم فظهر عليهم، ثم سار إلى الشام فاستولى على فلسطين، وأخذ مدينة أشدود من الكنعانيين، ثم عاد إلى بلاده قانعا بما أوتيه من النصر، وفي أيامه كثر تردد الأجانب إلى مصر - وفيهم اليونان - فكان يكرم مثواهم، ويقطعهم من بلاده على سواحل بحر طينة ما يبتنون فيه معاقل وبيوتا يقيمون فيها.
أما اليونان فأعجبتهم مصر وطاب لهم المقام فيها فأخذوا يتعلمون علومها وصنائعها، وأعجبتهم الديانة المصرية فاصطنعوا آلهتهم على مثال آلهة المصريين، وأدخلوا أحداثهم المدارس المصرية فنبغوا، وقام بينهم فلاسفة لا نزال نستفيد من تعاليمهم إلى هذا العهد، ومن هؤلاء الفلاسفة: سولون، وفيثاغورس، وأفلاطون ... وغيرهم، وقد كان المصريون قبل ذلك العهد ينظرون إلى اليونان نظر الاحتقار، ويجتنبون معاشرتهم، وكانوا يبالغون جدا في وجوب الابتعاد عنهم.
أما «بسامتيك» فكان يحبهم ويقربهم منه حتى جعل بطانته منهم، وألف ميمنة جيشة من رجالهم، فأصبحت مصر في قبضة يدهم. فعظم ذلك على المصريين إلى حد لم يمكنهم معه البقاء في بلادهم، ولم يجدوا سبيلا لشفاء ما في نفوسهم إلا بالمهاجرة من مواطنهم ومغادرتها لأولئك النزلاء، فاجتمع منهم نحو 240 ألفا، وهموا بالجلاء إلى أثيوبيا، فتبعهم الملك واستعطفهم أن لا يفعلوا فأتوا، فقال لهم: ولمن تغادرون نساءكم وأولادكم؟ قالوا أينما ذهبنا نجد نساء وأولادا، وما زالوا حتى دخلوا أثيوبيا فاستقبلهم ملكها وأكرم مثواهم، وأدخلهم في جيشه فتألفت منهم جيوش عرفت بالأسماخ، أي حجاب ميسرة الملك، وسماهم اليونان بعد ذلك «أنو بولس». أما «بسامتيك» فعرف بعد ذلك خطأه فأخذ في إصلاحه، فسعى في حشد الجيوش، ولكن هيهات أن تعود مصر إلى رونقها، وكان هو الجاني على نفسه.
صفحة غير معروفة