تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تصانيف
وأما الصليبيون فكانوا يتألفون عصبا، ويتقدمون في سوريا يفتتحون مدنها، وما زالوا في خطتهم هذه حتى لم يعد أمامهم إلا عدوان كبيران، وهما: نور الدين وصلاح الدين، وكان هذا الأخير يترقب الفرص لبلوغ مرامه، فكان يغتنم فرصة اشتغال نور الدين بالمحاربة في ما بين النهرين، ويسير إلى غزو سوريا، وحالما يعلم بقدومه إليها يعود إلى مصر حالا. (1-4) وفاة نور الدين ومناقبه
فآل ذلك إلى النفور الشديد بين هذين الرجلين، وهم نور الدين بحشد الجيوش، وتسييرها إلى مصر؛ لإخراج صلاح الدين منها، وإقامة حامية لحماية الحدود التي يخشى هجوم الصليبيين عليها، وبينما هو على أهبة الرحيل فاجأته المنية بعلة الخوانيق فمات في دمشق في شوال سنة 569ه وسنه ستون سنة، ومدة حكمه 29 سنة.
وكانت مملكته شاملة جميع سوريا الشرقية وقسما من سوريا الغربية ومصر والموصل وديار الجزيرة، وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين، وكان قد اتسع ملكه جدا، وخطب له بالحرمين بالشريفين وباليمن ، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه في الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو عشرين دينارا. فلما استقلتها قال: «ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جنهم لأجلك.» وكان يصلي كثيرا بالليل، وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه
ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر، وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ولا عشرا، بل أطلقها جميعا في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان يعظم الشريعة ويقف عند أحكامها، وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يقول: «قد جئت محاكما فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم.» وظهر الحق له فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: «أردت أن أترك له ما يدعيه، إنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة فحضرت ثم وهبته ما يدعيه.» وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي فيها ينصف المظلوم من الظالم ولو أنه ولده أو أكبر أمير عنده.
وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين ليقاتل بهما، فقال له القطب النساوي الفقيه: «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف.» فقال له نور الدين: «ومن محمود حتى يقال له هذا أمن قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو.»
وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق، وبنى الخانكاهات في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة، وكان حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري، وكان يكرم العلماء وأهل الدين، ويعظمهم، ويقوم إليهم، ويجلسهم معه، ويتبسط معهم، ولا يرد لهم قولا، ويكاتبهم بخط يده، وكان وقورا مهيبا مع تواضعه. (1-5) استقلال صلاح الدين بمصر والشام
فانتقلت مملكته بعد موته إلى ابنه الملك الصالح إسماعيل، وكان في الحادية عشرة من العمر. فأقيم شمس الدين محمد بن المقدم نائبا له في تدبير المملكة. فاستخف الناس به لصغر سنه حتى هم أفراد أسرته بتنزيله لكنهم لم ينجحوا، وحاول الملك أمري غزوه فعاد خائبا. أما الأمراء الذين كانوا على الإمارات في مملكته فحاول كل منهم الاستقلال بذاته، فأحب نائب الملك أن يسير إلى صلاح الدين يستنجده فأوقفه أولئك الأمراء، وفي خلال ذلك ورد إليهم وإلي نائب الملك كتب من صلاح الدين تقول بوجوب الخضوع التام لخليفة نور الدين كما كان له، وأرسل نقودا مضروبة في مصر باسم السلطان الجديد، ومما كتبه للأمراء قوله: «لو علم نور الدين أن فيكم من هو أكثر أهلية وأمانة مني لولاية مصر فلا أشك أنه كان يعهدها إليه، وهي أجمل وأخصب ولاياته، واعلموا أيضا أنه لو لم يفاجئه القضاء لأقامني وصيا على ابنه، وأرى أنكم تحاولون إخراج يدي، ولكني سأذهب إلى دمشق بنفسي، وأقدم عبوديتي إلى هذا السلطان الجديد معترفا بالأفضال العظيمة التي حملنيها أبوه، أما أنتم فسأعاملكم بمقتضى تصرف كل واحد منكم؛ لأني أعدكم من أهل الفتنة.»
وجاء صلاح الدين إلى دمشق بعد وصول كتبه بقليل، وأخرج منها سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين، وكان قد وضع يده عليها، وأعادها للملك الصالح، ثم أسرع في استرجاع الأماكن التي قد استقل بها بعض الأمراء الصغار من أسرة نور الدين في سوريا الشرقية استخفافا منهم بسلطة الملك الصالح. فاسترجع منهم حمص وحماة وبارين وسلامية وتل الخاطب وبعلبك والرها. إلا أن هذه الفتوح لم تجد الملك الصالح نفعا؛ لأنها دخلت في سلطة صلاح الدين، ولم يعط منها شيئا للملك الصالح. فاستنكف منه وخافه. ثم حاول صلاح الدين الاستيلاء على حلب، وكانت في حوزة الملك الصالح على نية أن يخرجه إلى شرقي البلاد السورية، واستنجد الملك الصالح ابن عمه سيف االدين غازي وكان قد ولاه الموصل فأمده. فاتحد الجيشان وهاجموا صلاح الدين في 19 رمضان سنة 570ه فتغلب عليهم، وسلب منهم أمتعتهم، واستولى على حلب، وأبطل الخطبة للملك الصالح وخطب لنفسه.
صفحة غير معروفة