تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تصانيف
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الصليبيين، وأرسل في الكتب شعور النساء، وقال: «هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك؛ لتنقذهن من الصليبيين.» فشرع نور الدين في تسيير الجيوش، وأما الصليبييون فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة، وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم. فأخلد إلى إعمال الحيلة فأرسل إلى ملك الصليبيين يذكر له مودته ومحبته له قديما، وأن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال؛ لئلا يتسلم البلاد نور الدين. فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه 1000000 دينار مصري يعجل البعض، ويمهل بالبعض. فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورأى الصليبيون أن البلاد قد امتنعت عليهم، وربما سلمت إلى نور الدين. فأجابوا كاريهن، وقالوا: «نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين.» فعجل لهم شاور مائة ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه؛ ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر (الفسطاط) فلم يتحصل له أكثر من خمسة آلاف دينار؛ لأن أهل الفسطاط كانوا قد احترقت دورهم وما فيها، وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط، وأما أهل القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم؛ فلهذا تعذرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر، وإقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثلث الذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتاب العاضد بحلب فأرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه، فخرج الرسول في طلبه فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه، وكان سبب وصوله أن كتب المصرييين وصلته أيضا في المعنى. فسار إلى نور الدين، واجتمع به، وعجب نور الدين من حضوره في الحال، وسره ذلك وتفاءل به، وأمر بالتجهيز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغيرها، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى باب دمشق فوصلها آخر صفر، ورحل إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة آخرين من الأمراء؛ منهم مملوكه عز الدين جرديك، وغرس الدين قلج، وشرف الدين برغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب أخي شيركوه على كره منه،
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه وسيرد خبر ذلك . (11-8) مقتل شاور
وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الصليبيون إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رساله في الآفاق مبشرين بذلك؛ فإنه كان فتحا جديدا لمصر، وحفظا لبلاد الشام وغيرها، وأما أسد الدين فإنه وصل القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد لدين الله فخلع عليه، وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور المنع عن ذلك؛ لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه، وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال، وإقطاع الجند، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين، ويسير معه ويعده ويمنيه.
ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه، ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الصليبيين فنهاه ابنه الكامل، وقال له: «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن شيركوه.» فقال له أبوه: «والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا.» فقال: «صدقت ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الصليبيون فإنه ليس بيني وبين عود الصليبيين إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارسا واحدا ويملكون البلاد.» فترك ما كان عزم عليه.
ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره فاتفق صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جرديك وغيرهم على قتل شاور. فنهاهم أسد الدين فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله.
فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى ليزور قبر الشافعي فلقيه صلاح الدين يوسف وجرديك في جمع من العسكر وخدموه، وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي. فقال: نمضي إليه. فساروا إليه جميعا فسايره صلاح الدين وجرديك، وألقوه إلى الأرض عن فرسه فهرب أصحابه عنه فأخذ أسيرا فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين فتوكلوا بحفظه، وسيروا أعلموا أسد الدين فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه.
وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور، وتابع الرسل بذلك فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر، ودخل أسد الدين القاهرة فرأى من اجتماع الخلق ما خافهم على نفسه، فقال لهم: «أمير المؤمنين (يعني العاضد) يأمركم بنهب دار شاور.» فتفرق الناس عنه فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد فخلع عليه خلع الوزارة، ولقب الملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة - وهي التي كان فيها شاور - فلم ير فيها ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلب عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق إليه من أصحابه، وأقطع البلاد لعساكره.
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وإخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم. فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم؛ لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء لصنيعه. (11-9) حضارة الفسطاط
صفحة غير معروفة