تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تصانيف
وقد عد بعضهم دار الحكمة مدرسة؛ لأن الحاكم أقام بها القراء والمنجمين وأصحاب النحو واللغة والأطباء، وأجرى لهم الأرزاق، وأباح الدخول إليها إلى سائر الناس على اختلاف طبقاتهم من محبي المطالعة؛ ليقرءوا أو ينسخوا ما شاءوا، وجعل فيها ما يحتاجون إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر، وكان الحاكم يستحضر بعض علماء الدار المذكورة إلى ما بين يديه، ويأمرهم بالمناظرة كما كان يفعل المأمون ويخلع عليهم الخلع، وقد أباح المناظرة بين المترددين إلى دار الحكمة فكانوا يعقدون المجتمعات هناك، وتقوم المناظرات، وقد يفضي الجدال إلى الخصام، واتخذ بعض أصحاب البدع تلك الاجتماعات وسيلة لبث آرائه، فاضطر الأفضل بن أمير الجيوش في أوائل القرن السادس للهجرة إلى إبطالها دفعا للأسباب.
فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله وزيره المأمون بن البطائحي فأعادها سنة 517ه ولكنه اشترط فيها المسير على الأوضاع الشرعية، وأن يكون متوليها رجلا دينا، وأن يقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن، ولا نظن عدد كتبها يقل عن 100000 كتاب، ولما أفضت الدولة إلى صلاح الدين الأيوبي هدم دار الحكمة وبناها مدرسة للشافعية.
وهذه صورة النقود الذهبية التي ضربت في أيام الحاكم بأمر الله (انظر شكل
9-4 ).
شكل 9-4: نقود الحاكم بأمر الله. (4) خلافة الظاهر بن الحاكم (من سنة 411-427ه/1021-1036م)
وفي أيام الظاهر (سنة 422ه) توفي الخليفة القادر بالله العباسي الذي كان قد أقيم سنة 381ه خلفا للطائع، وأقيم مقامه في بغداد القائم بأمر الله، وكان سن الظاهر لما تولى الخلافة 16 سنة فخرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة، وحوله العساكر، وصلى بالناس في المصلى، وعاد فكتب بخلافته إلى الأعمال، وشرب الخمر ورخص فيه للناس وفي سماع الغناء، وشرب الفقاع، وأكل الملوخية، وجميع الأسماك فأقبل الناس على اللهو. (4-1) المجاعة
وكان الظاهر ضعيف الرأي منصرفا إلى اللهو فأفضى النفوذ إلى بضعة من رجال دولته، وقرروا أن لا يدخل على الظاهر غيرهم. فأصبحوا يتصرفون بأمور الدولة، ويمنعون أهل النصح من الوصول إلى الخليفة، وأخذوا في الاستئثار بالأموال فضاقت أبواب الرزق، ومنع الناس من ذبح الأبقار لقلتها، وعزت الأقوات بمصر، وقلت البهائم كلها حتى بيع الرأس البقر بخمسين دينارا، وكثر الخوف في ظواهر البلد، وكثر اضطراب الناس، وتحدث زعماء الدولة بمصادرة التجارة فاختلف بعضهم على بعض، وكثر ضجيج العسكر من الفقر والحاجة فلم يجابوا، وتحاسد زعماء الدولة فقبض على العميد محسن وضرب عنقه، واشتد الغلاء وفشت الأمراض، وكثر الموت في الناس، وفقد الحيوان فلم يقدر على دجاجة ولا فروج.
وعز الماء فعم البلاء من كل جهة، وعرض الناس أمتعتهم للبيع فلم يوجد من يشتريها، وخرج الحاج فقطع عليهم الطريق بعد رحيلهم من بركه الجب، وأخذت أموالهم، وقتل منهم كثير، وعاد من بقي فلم يحج أحد من أهل مصر، وتفاقم الأمر من شدة الغلاء فصاح الناس بالظاهر: «الجوع الجوع يا أمير المؤمنين، لم يصنع بنا هذا أبوك ولا جدك فالله الله في أمرنا.»
وطرقت عساكر ابن جراح الفرما ففر أهلها إلى القاهرة، وأصبح الناس بمصر على أقبح حال من الأمراض والموتان وشدة الغلاء وعدم الأقوات، وكثر الخوف من الذعار التي تكبس حتى إنه لما عمل سماط عيد النحر بالقصر كبس العبيد على السماط وهم يصيحون الجوع، ونهبوا سائر ما كان عليه، ونهبت الأرياف، وكثر طمع العبيد ونهبهم، وجرت أمور من العامة قبيحة، واحتاج الظاهر إلى القرض فحمل بعض أهل الدولة إليه مالا وامتنع آخرون، واجتمع نحو الألف عبد؛ لتنهب البلد من الجوع فنودي بأن من تعرض له أحد من العبيد فليقتله.
وندب جماعة لحفظ البلد، واستعد الناس فكانت نهبات بالساحل ووقائع مع العبيد احتاج الناس فيها إلى أن خندقوا عليهم خنادق، وعملوا الدروب على الأزقة والشوارع، وخرج معضاد في عسكر فطردهم، وقبض على جماعة منهم ضرب أعناقهم، وأخذ العبيد في طلب وجوه الدولة فحرسوا أنفسهم، وامتنعوا في دورهم، وانقضت السنة والناس في أنواع من البلاء.
صفحة غير معروفة