تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تصانيف
وفي سنة 197ه حمل طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين على بغداد، وحاصراها نحوا من سنة ، فضجر الأهالي، وملوا من طول هذه المحاصرة، وصاروا ينظرون لها نهاية فلم يروا لها حلا إلا بخلع الأمين فخلعوه للمرة الثانية ففر، وبعد قليل قبض عليه، وقتل، وجيء برأسه والخاتم والقضيب والبردة إلى المأمون، ولم يكن عمر الأمين عند موته إلا 29 سنة و3 أشهر وبضعة أيام، ومدة حكمه أربع سنين وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما، وكفت بموته الحروب وحقنت الدماء. (7) خلافة عبد الله المأمون (من 198-218ه/813-833م)
فبويع المأمون مبايعة قطعية في 25 محرم سنة 198ه يوم قتل أخيه الأمين. فاستقدم عباد بن محمد الذي كان عينه نائبا في مصر، وعهد إمارتها إلى المطلب بن عبد الله الخزاعي، وبعد أشهر قليلة أبدل بالعباس بن موسى بن عيسى الذي تولى على مصر ثلاث مرات في أيام هارون الرشيد فتولى صلاتها وخراجها، وفي سنة 199ه تخلى العباس بن موسى عن إمارة مصر؛ فأرسل المأمون عوضا عنه المطلب بن عبد الله سلفه، وبعد قليل أبدل بالسري بن الحكم، وأخذت من ذلك الحين تنتشر المملكة الإسلامية إلا أن الأيام تلد العجائب فتأتيك كل يوم بنبأ جديد.
فإن العلويين سلالة الإمام علي بن أبي طالب لم يكفوا عن المطالبة بحقوقهم في الخلافة؛ فدعوا الناس إلى مبايعة علي بن موسى. فلما علم المأمون بذلك، وكان لا يزال في خراسان استشار وزيره الفضل بن سهل في الأمر، فنصح له أن يوصي بالخلافة بعد وفاته لعلي المذكور؛ لأن الفضل كان شيعيا. إلا أن تلك السياسة لم تفد إلا زيادة الخرق اتساعا، فتضاعف التمرد، ونمت الأحزاب، وقد شق ذلك خصوصا على بني العباس؛ لأنهم رأوا الخلافة قد خرجت من أيديهم إلى العلويين، فثاروا في بغداد سنة 202ه ثورة شفت عن خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي.
أما سطوته فلم تتجاوز سور بغداد؛ لأنه لم يكن أهلا للأحكام، فخارت قواه دون ذلك، فعجز الذين أقاموه عن استبقائه أكثر من سنة وبضعة أشهر، فتنازل عن الخلافة سنة 203ه وفر هاربا، فعاد المأمون إلى بغداد في سنة 204ه فدخلها في حلة خضراء علوية، وبعد أسبوع عادت الجنود إلى الملابس السوداء العباسية .
وفي هذه السنة توفي الإمام محمد بن إدريس الملقب بالشافعي صاحب المذهب الشافعي، وكانت وفاته في الفسطاط، ولم يبلغ من العمر أكثر من 54 سنة، وتوفي أيضا السري بن الحكم أمير مصر، وأقيم مقامه محمد بن السري بمبايعة الجند له بقطع النظر عن أوامر الخليفة بهذا الشأن، وفي سنة 207ه توفي طاهر بن الحسين رئيس قواد المأمون في مرو عاصمة خراسان، وكان قد أقامه المأمون هناك حاكما، فقدم ابنه عبد الله بن طاهر إلى مصر، وأقام في بلبيس.
ونظرا لما بين مصر ودار الخلافة من بعد المسافة أصبح الناس لا يعبأون بالأوامر التي كانت تأتيهم منها، وزد على ذلك أن الدولة أصبحت في ضعف شديد؛ لما كان يهددها من تمرد عمالها، واحتقار رعيتها لها - ولا سيما المصريين - فإنهم كانوا لا ينفكون عن خرق حرمتها، ومخالفة أوامرها حتى عقدوا لعبد الله بن السري عليهم بمبايعة الجند - كما تقدم - وما زالوا على ذلك نحوا من خمس سنوات، وفي سنة 211ه تحصن عبد الله بن طاهر في بلبيس، فالتفت عليه عصبة من أهلها وبايعوه، فاستفحل أمره، فسار إلى الفسطاط في ربيع الأول من تلك السنة، وأنزل عبد الله بن السري، وجعل على الفسطاط عباد بن إبراهيم، وفي سنة 212ه أبدل عباد بعيسى بن يزيد الجلودي.
وفي سنة 213ه أنفذ المأمون إلى عبد الله بن طاهر أن يقف عند حده، وينسحب من مصر، وعقد على مصر وسوريا لأخيه المعتصم، وأعطاه خمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل هذا المبلغ هبة لعبد الله بن طاهر للتعيش، ويقال: إنه أمر بمثل ذلك أيضا لابنه العباس؛ فيكون جملة ما أخرج من خزينته في يوم واحد مليونا وخمسمائة ألف دينار، وهذا منتهى السخاء.
واستخلف المعتصم عمير بن الوليد التميمي على الصلاة في 17 صفر، فخرج ومعه عيسى الجلودي لقتال أهل الحوف، وكانت بينهم معارك عظيمة قتل فيها عمير، فاستخلف مكانه عيسى الجلودي، فحارب أهل الحوف بمنية مطر، ثم انهزم في رجب، وأقبل المعتصم إلى مصر في أربعة آلاف من أتراكه، فقاتل أهل الحوف في شعبان، ودخل إلى مدينة الفسطاط في 22 منه، وقتل أكابر الحوف، ثم خرج إلى الشام في أول محرم سنة 215ه في أتراكه، ومعه جمع من الأسارى في حر وجهد شديد، وولى على مصر عبدويه بن جبلة على الصلات، فخرج أهل الحوف في شعبان، فبعث إليهم وحاربهم حتى ظفر بهم.
ثم قدم الأفشين حيدر بن كاوس إلى مصر في 3 ذي الحجة، ومعه علي بن عبد العزيز الجروي؛ لأخذ ماله فلم يدفع إليه شيئا فقتله وصرف عبدويه، وخرج إلى برقة وولى عيسى بن منصور الرافعي فولي من قبل المعتصم أول سنة 216ه على الصلاة، فانتقضت مصر السفلى عربها وقبطها في جمادى الأولى، وأخرجوا العمال لسوء سيرتهم، وخلعوا الطاعة، فقدم الأفشين من برقة في منتصف جمادى الآخرة، ثم خرج هو وعيسى في شوال؛ فأوقعا بالقوم، وأسرا منهم وقتلا. ثم رجع عيسى فسار الأفشين إلى الحوف، وقتل جماعتهم، وكانت حروب إلى أن قدم الخليفة عبد الله المأمون في 10 محرم سنة 217ه فسخط على عيسى، وحل لواءه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له، وقال له: «لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك؛ حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتم الخبر حتى تفاقم الأمر، واضطربت البلاد.» ثم ولى كيدر الصفدي بالنيابة عن المعتصم.
وسبب قدوم الخليفة إلى مصر: أنه كان عائدا من محاربة الروم، فرأى أن يمر بمصر لمراقبة شئونها، وكان قلقا عليها لما بلغه من تمرد أهلها، ونقض عمالها، فدخلها وجعل يمر بقراها يتفقد أحوالها، ويقال: إنه كان يبني له في كل قرية دكة يضرب عليها سرادقه، والعساكر حوله، وكان يقيم في القرية يوما وليلة، وبلغ الفسطاط في يوم الجمعة 9 محرم سنة 217ه وما زال يتحرى أصول الفساد ويقتلعها إلى أن برح مصر في آخر صفر من تلك السنة قاصدا دمشق.
صفحة غير معروفة