الجزء الأول
فاتحة الكتاب للطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
فذلكة في تاريخ مصر القديم
1 - الدور الجاهلي
2 - الدور المسيحي
تاريخ مصر الحديث
1 - فصل في مصادر تاريخ مصر الحديث
2 - جغرافية مصر الحديثة
3 - الدور الإسلامي
4 - الدولة الأموية
5 - الدولة العباسية للمرة الأولى
6 - الدولة الطولونية
7 - الدولة العباسية للمرة الثانية
8 - الدولة الإخشيدية
9 - الدولة الفاطمية
10 - الدولة الأيوبية
11 - دولة المماليك الأولى
12 - دولة المماليك الثانية
الجزء الثاني
بيان
1 - الدولة العثمانية
2 - الحملة الفرنساوية
3 - الأسرة المحمدية العلوية (من سنة 1805 ولا تزال)
الجزء الأول
فاتحة الكتاب للطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
فذلكة في تاريخ مصر القديم
1 - الدور الجاهلي
2 - الدور المسيحي
تاريخ مصر الحديث
1 - فصل في مصادر تاريخ مصر الحديث
2 - جغرافية مصر الحديثة
3 - الدور الإسلامي
4 - الدولة الأموية
5 - الدولة العباسية للمرة الأولى
6 - الدولة الطولونية
7 - الدولة العباسية للمرة الثانية
8 - الدولة الإخشيدية
9 - الدولة الفاطمية
10 - الدولة الأيوبية
11 - دولة المماليك الأولى
12 - دولة المماليك الثانية
الجزء الثاني
بيان
1 - الدولة العثمانية
2 - الحملة الفرنساوية
3 - الأسرة المحمدية العلوية (من سنة 1805 ولا تزال)
تاريخ مصر الحديث
تاريخ مصر الحديث
من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
تأليف
جرجي زيدان
الجزء الأول
فاتحة الكتاب للطبعة الأولى
حمدا لمن جعل أقاصيص الأولين عبرة للآخرين، أما بعد: فلا أزيد القارئ علما بحد التاريخ، ولا بما له من المنزلة الرفيعة بين سائر العلوم، ولا بما يترتب على الإقبال عليه من إصلاح الشئون، وإنما أكتفي بكونه أكثر ارتباطا بمصالح خاصة الناس منه بمصالح عامتهم. فقادة التمدن، ورجال السياسة، وكبار المصلحين أحوج إلى معرفته من سائر أفراد الأمة، ولذلك رأينا ولاة الأمور على اختلاف الأزمان والأحوال يصرفون العناية في مطالعته، وتفهم خفاياه، ويبذلون النفيس في استطلاع مكنوناته، وجمع شظاياه، فتكاد لا ترى مؤرخا من القدماء إلا وقد أوعز إليه ولي الأمر أو من جرى مجراه أن يضع في التاريخ كتابا، بل كثيرا ما رأينا من ولاة الأمور أنفسهم من ألف فيه كتابا غير مبال بما يقتضيه ذلك من تجشم المشاق، ولا مستنكف من أن يقول الناس: إنه اعتنى بما هو دون مقامه.
ذلك كان شأن هذا العلم في الأزمنة الخالية، يوم لم يكن يتيسر لضعيف مثلي أن يطرق بابه أو يخوض عبابه؛ لقصر باعه عما يحتاج إليه في ذلك من المادة التي تمتنع إلا على الملوك أو المقربين منهم.
أما الآن فما يتباحث فيه الملوك صباحا في مؤتمراتهم السرية بأقاصي المغرب لا يأتي عليه الضحى حتى يذيع بين الصانع والتاجر في أقاصي المشرق، والفضل في ذلك لأسلاك البرق وصحف الأخبار التي لم تغادر بين الخاصة والعامة حجابا. فلا غرو - والحالة هذه - إذا تجرأ من كان عاجزا مثلي على أن يضع في مثل ذلك كتابا.
ولما كانت المملكة المصرية من أقدم الممالك تمدنا، وأكثرها حوادث وطوارئ ومحنا؛ لكثرة ما تداول عليها من الدول المتباينة نزعة ولغة ووطنا، كانت أجدرها بتدوين تاريخها عبرة للذين يعتبرون.
وبما أن تاريخها بعد الفتح الإسلامي أكثر ارتباطا بحالتها الحاضرة من تاريخها قبله كان أكثر فائدة وأحوج إلى التدوين، وهذا ما ندعوه بتاريخ مصر الحديث.
وقد قام من كتبة العرب وأفاضلهم كثيرون اعتنوا بالكتابة عن مصر وتاريخها القديم والحديث، وسيأتي ذكرهم، وذكر مؤلفاتهم في الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام عن مصادر تاريخ مصر الحديث، وأحدث هذه المؤلفات: «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة، ومدنها، وبلادها القديمة والشهيرة» تأليف العلامة الفاضل صاحب السعادة علي باشا مبارك، ناظر عموم المعارف، جعله عشرين جزءا كبيرا، وهو من التآليف التي لا يقدم على كتابتها إلا أصحاب الهمم العالية، والمعارف الواسعة، وقد كان عليه معتمدي، وإليه مرجعي في كثير من المواضيع، ولا سيما فيما يتعلق بالشوارع والجوامع.
ومن الغريب أني لم أر بين المؤرخين الذين كتبوا عن مصر من اعتنى بوضع تاريخ لها مستوف على أسلوب قريب من فهم العامة، ورضى الخاصة، تتعاقب فيه الحوادث بتعاقب السنين مع علاقة كل ذلك بالدولة الإسلامية عموما وسائر الدول المعاصرة، وأغرب من ذلك أني لم أر بين مدارس القطر السعيد - من أميرية وغير أميرية - مدرسة تعتني بتدريس هذا التاريخ الذي هو تاريخ بلادها، ولعل السبب في ذلك : عدم وجود الكتب الموضوعة على أسلوب مناسب للتدريس.
وقد رأيت الناس يلهجون باحتياج البلاد إلى مثل هذا التاريخ؛ فأخذت على نفسي - مع علمي بعجزي - أن أبذل الجهد في سد هذا العوز، معتمدا على أصح الروايات، وأصدق الكتبة من ثقات المشرق والمغرب، ملتزما في كل ذلك صحة النقل، وانتقاء أصح الروايات، وتطبيق كل ذلك على الأحكام العقلية، وإغفال كل ما هو مقول بغير قياس من التقاليد والخرافات.
وقد عنيت إتماما لمعدات التأليف بتفقد الآثار العربية بنفسي بإذن من نظارة الأوقاف الجليلة، فزرت معظم جوامع القاهرة وضواحيها، ولا سيما ما كان منها قديما كجامع عمرو، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وجامع السلطان حسن، وجامع السلطان برقوق، وجامع قايت باي، وجامع الغوري ... وغيرها، وزرت ما هنالك من البنايات القديمة كالقلعة وما جرى مجراها، وتسلقت ما صعب مسلكه منها، ولا سيما أسوار القاهرة القديمة وأبوابها كباب النصر، وباب الفتوح، وباب الشعرية ... وغيرها، ومن هذه الأماكن ما قد تداعت أركانه، وصعب الصعود إليه إلا بالمخاطرة. فكثيرا ما كنت أخاطر بحياتي لهذه الغاية، ومن الآثار العربية التي تفقدتها - ما عدا الجوامع والمشاهد والتكيات والشوارع - قصر الشمع، أو دير النصارى في مصر القديمة، ودار التحف العربية في جامع الحاكم بشارع النحاسين، وغير هذه الأماكن في القاهرة وضواحيها كالقناطر الخيرية ... وغيرها.
أما الآثار المصرية القديمة: فقد تفقدتها كلها أيضا، ولا سيما ما هو منها في مصر العليا مبتدئا من أهرام الجيزة بجوار القاهرة إلى ما وراء وادي حلفا آخر حدود مصر، فزرت خرائب سقارة وإسنا، وطيبة، والكرنك، وبيبان الملوك، وجبل السلسلة، وأنس الوجود، وأبا سنبل ... وغيرها، ومثل ذلك آثار مصر السفلى مبتدئا بالمطرية فأتريب فغيرها، وفي مصر العليا فضلا عن الآثار المصرية القديمة آثار استحكامات وبنايات بناها المماليك أو غيرهم في حال محاربتهم حكومة البلاد أو دفاعهم عنها.
كل هذه الأماكن تفقدتها جيدا إتماما لمعدات التأليف، ولما توفرت لدي المواد اللازمة باشرت تأليف هذا الكتاب، ودعوته: «تاريخ مصر الحديث» من الفتح الإسلامي إلى هذه الأيام. ثم رأيت أن الفائدة لا تتم إلا إذا جعلت في مقدمته ملخص تاريخ مصر القديم؛ ربطا للحوادث بعضها ببعض، وبتزيينه بالرسوم، والخارطات، وإيضاحات أخرى. فجاء بحمد الله كتابا في جزأين كبيرين، وهاك ملخص ما تضمنه: (1)
فذلكة في تاريخ مصر القديم من أول عهدها إلى الفتح الإسلامي. (2)
تاريخ مصر الحديث من الفتح الإسلامي إلى هذه الأيام، وهو مقسوم إلى دول تحتها خلافات أو سلطنات أو أمارات مرتبة حسب أزمان حكمها، فيبدأ بدولة الخلفاء الراشدين، فبني أمية، فالعباسيين، وهكذا حتى العائلة المحمدية العلوية الحاضرة. (3)
وفي الكتاب زهاء مائة رسم، بينها رسوم الجناب العالي والمغفور له محمد علي باشا، والخديوي السابق، وبونابرت، ورعمسيس الثاني، وتحوتمس الثالث، وأمنوفيس الثالث وغيرهم، وبين هذه الرسوم أيضا معظم النقود الإسلامية، ولا سيما المضروبة في مصر منذ صدر الإسلام إلى اليوم، ورسوم أخرى كحجر رشيد، وآلهة المصريين، وخرائب المطرية، وأنس الوجود، وإدفو ... وغيرها. (4)
وفي ذيل الكتاب جدول عام لأسماء الذين تولوا مصر من الأمراء والخلفاء والسلاطين والباشوات، من الفتح الإسلامي إلى اليوم، مرتبة حسب أزمان حكمهم، وبجانب ذلك عدد الصفحة التي ذكرت فيها تولياتهم من هذا الكتاب، ثم إذا كانوا أمراء أو ولاة يذكر بإزاء ذلك أسماء الخلفاء أو السلاطين الذين تولوا البلاد باسمهم. (5)
في خاتمة الكتاب فهرس أبجدي عام لكل ما ورد في هذا الكتاب من المواضيع المهمة كالفتوحات، والمحاربات، والبنايات، والتقلبات، وأسماء الخلفاء والسلاطين والأمراء والباشوات ... وغيرهم ممن حكموا مصر. هذا فضلا عن فهرس خاص لكل من جزئي الكتاب. (6)
قد جعلت للكتاب فضلا عن الرسوم المتقدم ذكرها أربع خارطات، وهي: أولا: خارطة مدينة القاهرة كما هي الآن. ثانيا: خارطة مصر السفلى. ثالثا: خارطة مصر العليا. رابعا: خارطة القطر المصري قبل الفتح الإسلامي.
وقد عنيت في ضبط هذا التاريخ، وربط حوادثه جهد الطاقة، مغفلا كثيرا من الروايات التي ترجح فسادها بعد النظر والتروي، متحاشيا الألفاظ المستهجنة، والتعبيرات المعقدة ما أمكن، متخذا أفضل أسلوب تفهمه العامة، وترضاه الخاصة بغير إخلال ولا إملال. راجيا من أصحاب النقد أن ينظروا إليه بعين الرضى إذ العصمة لله وحده سبحانه وتعالى.
يقال في الأمثال «من ألف فقد استهدف، فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف» أما أنا فإن أحسنت فإن الفضل لأفاضل الكتبة، وثقات الرواة الذين سبقوني؛ لأني لم آت بشيء من عند نفسي ما خلا الحوادث التي قدر لي أن أكون فيها شاهد عين، وما تفقدته بنفسي من الآثار العربية والمصرية، وإن أسأت فذلك دأب العاجز، ولكني أرغب إلى من يعثر لي على خطأ أن ينبهني إليه، فأشكر سعيه، وأثني عليه؛ لأني أستحيي من الحق إذا عرفته أن لا أرجع إليه. أو يعذرني فإن أعقل الناس أعذرهم للناس، ولا أقول إن كل خطأ سهو جرى به القلم، بل أعترف أن ما أجهل أكثر مما أعلم، وما تمام العلم إلا لمن علم الإنسان ما لم يعلم.
هذا، وأرجو أن تصادف خدمتي هذه لدى إخواني أبناء هذا القطر السعيد قبولا وإقبالا، وأتقدم إلى رجال العلم منهم أن يتحفونا من نفثات أقلامهم بما هو أوفر مادة وأجزل نفعا؛ لأني أعلم أن بين ظهرانيهم رجالا لهم من العلم وسعة المعرفة ما يؤهلهم لما هو أفضل من ذلك كثيرا. فتتم سعادة البلاد، ونكون قد قمنا ببعض الواجب علينا نحوها ونحو أميرها الخطير سمو خديوينا المعظم محمد توفيق باشا الأفخم أدام الله أيامه باسمة الثغور، في ظل صاحب الخلافة العظمى مولانا السلطان الغازي عبد الحميد خان أيد الله أيام دولته بالعز والإقبال، وأدام شوكته واقتداره ما تكرر الجديدان.
مقدمة الطبعة الثانية
شكل 1: كاتب مصري قديم.
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1889 فلاقت إقبالا حسنا نشطنا على المثابرة في خدمة العلم، وما زلنا من ذلك الحين، ونحن نزداد معرفة في أحوال مصر، ونتتبع تاريخها. فلما عزمنا على إعادة الطبع أضفنا إلى الطبعة الأولى زيادات هامة في مواده ورسومه، فضلا عن زيادة التدقيق والتحري، وهاك مزيات هذه الطبعة: (1)
أنها أقرب إلى الدقة والتحقيق. (2)
تحتوي على تاريخ بضع وعشرين سنة لم تدركها الطبعة الأولى. (3)
قد توسعنا في أكثر المواد، وخصوصا في القسم الأخير، وعلى الأخص في تاريخ الأسرة الخديوية وما جرى في أيامها من الحوادث العظام؛ كالتقلبات السياسية التي جرت في زمن محمد علي، وما أدخله هذا الرجل العظيم من الإصلاحات العلمية والاقتصادية والسياسية والتجارية، وفعلنا مثل ذلك في أزمنة خلفائه إلى اليوم، ويدخل فيه علاقات مصر مع الدول على زمن إسماعيل باشا، والحوادث العرابية والسودانية في زمن الخديوي السابق، وما كان من النهضة العلمية والمالية والسياسية في زمن سمو الخديوي الحالي، ويصح أن يقال إننا كتبنا تاريخ الدولة الخديوية ثانية، ونظرنا فيه من الوجهة السياسية والعلمية والاقتصادية مع التوسع والتدقيق؛ فأصبح الكتاب أكبر حجما وأوسع مادة. (4)
زيناه بنيف ومائتين من الرسوم والخرائط، وبينها رسوم مشاهير مصر وغيرها في السياسة والعلم والإصلاح، وصور أهم المواقع التي جرت فيها الحوادث بمصر والشام، وآلات الحرب والحصار، وأشهر الآثار البنائية، فضلا عن النقود الإسلامية، والآثار المصرية القديمة، ومن الخرائط: خريطة مصر في زمن الفراعنة، والوجه البحري اليوم، ورسم القاهرة على اختلاف أعصرها، وخرائط بغداد، والخرطوم، وأم درمان ... وغيرها.
شكل 2: حجر رشيد.
فنرجو أن تصادف خدمتنا قبولا، والله حسبنا ونعم الوكيل.
مقدمة
(1) أقسام تاريخ مصر العام
يبدأ تاريخ مصر العام عند إقامة أول حكومة نظامية فيها، وقد علم من مصادر مختلفة سيأتي ذكرها أن أول حكومة أقيمت من هذا النوع كانت في أول القرن الستين قبل المسيح، أي: منذ نحو سبعة آلاف سنة على وجه التقريب.
أما قبل ذلك فكانت قبائل مستقلة تحت سلطة فئة من الكهنة، يقال لهم بلغة مصر القديمة: «حورشسو» وهم آخر من حكم المصريين قبل الدولة الملكية الأولى التي أول ملوكها «منا» وهو أول من أقام في وادي النيل حكومة نظامية، ومنه يبتدئ تاريخها.
وقد قسم المؤرخون تاريخ مصر العام بالنسبة إلى تمدنها إلى ثلاثة أدوار كبرى، وهي: (1)
الدور الجاهلي:
يبتدئ عند أول دخولها في سلك الممالك سنة 5626ق.ه أو 5004ق.م، وينتهي سنة 241ق.ه أو 381ب.م، وذلك عندما نهى الإمبراطور ثيودوسيوس عن عبادة النصب والتماثيل، وأمر باتباع الدين المسيحي. (2)
الدور المسيحي :
يبتدئ عند شيوع سنة ثيودوسيوس، وينتهي عند فتوح الإسلام سنة 18ب.ه أو 640ب.م. (3)
الدور الإسلامي:
ويبتدئ عند فتوح الإسلام، ولا يزال. (1-1) أقسام الدور الجاهلي
يقسم هذا الدور إلى خمس دول تسلط في أثنائها على مصر 34 عائلة، وهي: (1)
الدولة الملكية القديمة:
تبتدئ بتسلط العائلة الأولى، وتنتهي بانتهاء العائلة العاشرة (أي من 5626-3686ق.ه أو من 5004-3064ق.م)، ومدة حكمها 1940 سنة. (2)
الدولة الملكية الوسطى:
تبتدئ بالعائلة الحادية عشرة، وتنتهي بانتهاء العائلة السابعة عشرة (من 3686-2325ق.ه أو من 332-1703ق.م)، ومدة حكمها 1361 سنة. (3)
الدولة الملكية الأخيرة:
تبتدئ بالعائلة الثامنة عشرة، وتنتهي بانتهاء العائلة الحادية والثلاثين (من 2325 إلى 954ق.ه أو من 1703-332ق.م)، ومدة حكمها 1371 سنة. (4)
الدولة اليونانية:
تبتدئ بالعائلة الثانية والثلاثين، وتنتهي بانتهاء العائلة الثالثة والثلاثين (من 954-652ق.ه أو من 332-30ق.م)، ومدة حكمها 302 سنة. (5)
الدولة الرومانية:
ويسميها العرب دولة الروم، وهي العائلة الرابعة والثلاثون الرومانية (من 652-241ق.ه أو من 30ق.م-381ب.م)، ومدة حكمها 411 سنة. (1-2) الدور المسيحي
أما الدور المسيحي: فهو عبارة عن استمرار الدولة الرومانية بعد ثيودوسيوس إلى فتوح الإسلام (من 241ق.ه-18ب.ه أو من 381-640ب.م)، ومدته 360 سنة. (1-3) أقسام الدور الإسلامي
يقسم الدور الإسلامي إلى اثنتي عشرة دولة، وهي: (1)
دولة الخلفاء الراشدين (من 18-41ب.ه أو من 640-661ب.م). (2)
الدولة الأموية (من 41-132ب.ه أو من 661-250ب.م). (3)
الدولة العباسية للمرة الأولى (من 132-257ب.ه أو من 750-870ب.م). (4)
الدولة الطولونية (من 257-292ب.ه أو من 870-905ب.م). (5)
الدولة العباسية في المرة الثانية (من 292-323ب.ه أو من 905-934ب.م). (6)
الدولة الإخشيدية (من 323-358ب.ه أو من 934-969ب.م). (7)
الدولة الفاطمية (من 358-567ب.ه أو من 969-1171ب.م). (8)
الدولة الأيوبية (من 567-648ب.ه أو من 1171-1250ب.م). (9)
دولة المماليك الأولى (من 648-784ب.ه أو من 1250-1382ب.م). (10)
دولة المماليك الثانية (من 784-923ب.ه أو من 1382-1517ب.م). (11)
الدولة العثمانية (من 923-1216ب.ه أو من 1517-1801ب.م). (12)
الدولة المحمدية العلوية (من 1216ب.ه أو 1801ب.م، ولا تزال).
ويقسم تاريخ مصر العام أيضا إلى قسمين عظيمين: قديم، وحديث؛ أما القديم: فمن أول تاريخها إلى الفتح الإسلامي، ويشتمل على الدورين الأولين الجاهلي والمسيحي، والحديث: منذ الفتح الإسلامي إلى هذا اليوم، ولا يزال. (2) مصادر تاريخ مصر القديم
ما زال تاريخ مصر القديم محجوبا عنا حتى أتيح لأبناء القرن الماضي حل رموز الكتابة الهيروغليفية (القلم المصري القديم) على أن تاريخ العهد القديم لم يخل من بعض التلميح إلى ذلك مما لم يكن من النصوص التاريخية ما يعضده، وما زال ذلك شأن تاريخ مصر القديم إلى القرن السابع قبل المسيح عند استيلاء اليونان على وادي النيل، ومن مصادر تاريخ مصر القديم: (2-1) نصوص المؤرخين القدماء
إن هيرودوتس الرحالة المؤرخ اليوناني هو أقدم من كتب عن مصر ما يصح أن يسمى نصا تاريخيا، وقد جال هذا المؤرخ في وادي النيل سنة 455 قبل الميلاد.
وبعد هيرودوتس ظهر سبانيتوس أحد كهنة المصريين العظماء في القرن الثالث قبل المسيح، وكتب تاريخا نفيسا عن مصر، لكنه فقد، ولم يصلنا منه إلا بعض ما ذكره يوسيفوس في آثار الإسرائيليين، وما كتبه سنسلوس أحد كتبة القرن الثامن. ثم جاء ثيودوروس من صقلية سنة 8 قبل المسيح، ومن هؤلاء الثقات: سترابو العام الجغرافي، وبلوتارخس المؤرخ الذي ظهر في القرن الأول المسيحي، وأما قائمة أسماء الملوك لمانيثون فقد وجدت بين ما كتبه بعض المؤرخين المسيحيين، ويقال بالإجمال: إنه لم يكتب عن مصر شيء جدير أن يدعى نصا تاريخيا إلا منذ القرن الخامس قبل المسيح. (2-2) الآثار
واعلم أن ما كتبه أولئك المؤرخون لم يفدنا شيئا صريحا عما وراء القرن السابع قبل المسيح. أما الآثار - تلك الأطلال الباقية التي نراها ميتة لا حراك بها، وقد بقيت رغم تقلبات الزمان، وأفعال العناصر - فإنها تنطق بأفصح لسان، وتنادي بأجلى بيان عن عظمة صانعيها، وهي لا تخبرنا عن تاريخهم فقط بل توضح أمامنا أيضا عاداتهم وأخلاقهم ومكانتهم من الحضارة وعلو الهمة ورفعة المنزلة. فقد نقشوا عليها من الرسوم والرموز ما جعلها كتابا مزينا بالرسوم والأشكال لا تحرقه النار، ولا يخرقه الفار.
هذه الهياكل العظيمة، والمسلات الشامخة، والتماثيل الهائلة هذه المدافن، هذه الأهرام، هذا أبو الهول، بل هذه الجثث البالية نراها صماء، وقد أفعم الأحياء نطقها، وقد كانت بالحياة، وعلقت آمالها بالمعاد فابتنت لأنفسها البنايات الشاهقة القويمة العماد تبقى معها في عالم الخلود تقص على القادمين أقاصيص الأقدمين، وجميع هذه تعد من وثيق المصادر التاريخية. (2-3) الكتابة الهيروغليفية
يظهر أن ملوك الروم أثناء تسلطهم على مصر لم يكترثوا بهذه الكتابة، بل أهملوها شأن أكثر المفتتحين بلغة من يتسلطون عليهم، فبقيت محجوبة تغشاها دواعي الجهل إلى أيام الحملة الفرنساوية في أوائل القرن الماضي؛ إذ أتيح لأحد رجالها أن يحل بعض رموزها، وقام بعده جماعة اعتنوا بحلها فأتوا على فهمها جيدا بحيث أمكنهم قراءة ما كتب بها على البردي (البابيروس) والأحجار، فخدموا التاريخ خدمة تستحق الاعتبار، وهاك كيفية توصلهم إلى حلها بالإيجاز: لما قدم نابوليون الأول إلى مصر اكتشف أحد رجاله سنة 1799 بالقرب من ثغر رشيد حجرا أسود غير منتظم الشكل إلا سطحا منه كان مستويا أملس، في أعلاه كتابة بالقلم المصري القديم (الهيروغليف) تحتها كتابة أخرى بالقلم العامي أو الديموطيقي، وتحت هذه كتابة ثالثة باليونانية القديمة، فأهدى هذا الحجر إلى مجمع العلوم الفرنساوي في القاهرة، ولما تغلب الجنرال هتشنسون الإنكليزي على جنود بونابرت وضع يده على ذلك الحجر، ثم أهدي إلى المتحف البريطاني في لندرا ولا يزال هناك، وقد شاهدناه في ذلك المتحف سنة 1887 في صدر الآثار المصرية محفوظا في صندوق غطاؤه من زجاج، أما طول ذلك الحجر فثلاث أقدام وقيراطان، وعرضه قدمان وخمسة قراريط.
وفي سنة 1802 رسمت جمعية العاديات صورته، وفرقتها في جمهور العلماء؛ لينظروا في قراءتها، فقرءوا أولا الكتابة اليونانية بسهولة فإذا مفادها أن كهنة منف كتبوها للملك بطليموس أبيفانيس سنة 194ق.م يشكرونه لما أسبغه عليهم من النعم الجزيلة، وأنهم وضعوا منها نسخة في كل هيكل من هياكل الطبقة الأولى والثانية والثالثة بجانب تمثال ذلك الملك.
ثم إن العلماء - وفي مقدمتهم العالم الفرنساوي ده ساي - حالوا قراءة الكتابة الديموطيقية، وغاية ما وصلوا إليه أنهم عينوا مواقع الأعلام في الكتابة المصرية المقابلة للأعلام اليونانية، ثم عين العلامة أكربلاد الأسوجي لفظ بعض الأعلام في القلم المصري العامي. أما الهيروغليف فلم يطمع أحد منهم في حله إلى ذلك الحين.
وفي سنة 1818 شرع العالم فرنسوا شمبيليون الفرنساوي في حل هذه الكتابة بعد أن درس اللغة القبطية، وجغرافية مصر القديمة، وكل ما كتبه المتقدمون عن مصر والمصريين.
وكان بلزوني الإيطالي قد عثر في جزيرة البربة على مسلة مصرية عليها كتابة يوناية، وأرسل صورة الكتابة إلى أوروبا، فلما رآها شمبيليون ارتأى أن الكتابة اليونانية هي ترجمة الكتابة المصرية. ثم رأى في الكتابة اليونانية أعلاما، وأسماء الأعلام لا تترجم، فتوسم في ذلك سبيلا إلى معرفة لفظ بعض الحروف المصرية، ووجد في الكتابة المصرية نقوشا محاطة بخط إهليلجي، وقرأ في الكتابة اليونانية اسم بطليموس مكررا مرارا كثيرة؛ فاستنتج من ذلك أن النقوش الهيروغليفية المتقدم ذكرها هي اسم بطليموس، وزاد تأكيدا عندما رأى ذلك الاسم واردا في الكتابة اليونانية على الحجر الرشيدي، ويقابله في الكتابة الهيروغليفية هناك نقوش محاطة بخط إهليلجي كالنقوش التي على المسلة تماما، وبناء على ذلك تكون الصورة الأولى ضمن الخط الإهليلجي.
شكل 1: كليوبطرا.
شكل 2: بطليموس.
تقابل الحرف الأول من بطليموس أي الباء، والثانية تقابل الحرف الثاني أي الطاء، وهلم جرا، ووجد أيضا في الكتابة اليونانية اسم كليوبطرا ويقابله في الكتابة المصرية نقوش ضمن خط إهليلجي. فقال شمبيليون بنفسه: إذا كانت الأولى بطليموس فتكون هذه كليوبطرا، وأخذ بالمقابلة مستعينا باللغة القبطية؛ لأنها بقية اللغة المصرية القديمة، فرسم أمامه الشكلين اللذين ظنهما اسمي بطليموس وكليوبطرا، وجعل يقابل المماثلة في الاسمين كاللام والباء وغيرهما، فإذا بهما متماثلة تماما في الشكلين بمواقعها في الاسمين، وترى في الشكل الأول والثاني صورتي اسم كليوبطرا وبطليموس في القلم الهيروغليفي.
فالحرف الأول من اسم كليوبطرا صورة ركبة، واسم الركبة في اللغة القبطية يبتدئ بحرف الكاف فهو حرف الكاف، والحرف الثاني صورة أسد، واسم الأسد يبتدئ في اللغة القبطية بحرف اللام فهو صورة حرف اللام، وهو الحرف الرابع في اسم بطليموس؛ لأن الثالث بمثابة الحركة، والحرف الثالث من اسم كليوبطرا صورة قصبة، وهو الحرف السادس والسابع في اسم بطليموس فهو بمثابة الألف أو الياء، واسم القصبة في اللغة القبطية يبتدئ بالألف، والحرف الرابع صورة عقدة وهو حرف الواو، والحرف الخامس مثل الحرف الأول من اسم بطليموس فهو حرف الباء، والسادس صورة نسر، واسم النسر في القبطية يبتدئ بالألف فهو حرف الألف، والسابع صورة يد، واسم اليد في القبطية يبتدئ بحرف الطاء، والثامن صورة فم، واسم الفم في القبطية يبتدئ بحرف الراء فهو حرف الراء، والتاسع تقدم ذكره، والعاشر مثل الثاني في بطليموس فهو طاء أو تاء، والحادي عشر لا حرف له باليونانية، وقد عرف بعد ذلك أنه علامة تلحق آخر الأسماء المؤنثة.
وفي اسم بطليموس حرفان - هما الخامس والثامن - لم يردا في اسم كليوبطرا. فالأول هو الميم والثاني هو السين، وعلى هذه الصورة تمكن شمبيليون من معرفة كثير من حروف الهجاء، وقراءة كثير من الكتابات المصرية القديمة في تسع سنوات كلها بحث وجد، واعلم أن الكتابة الهيروغليفية ليست واحدة فإن من صورها ما هو حروف، ومنه ما هو مقاطع أو كلمات، ومبلغ عددها كلها.
هذا من قبيل حل الألفاظ، أما المعاني: فعرفت بالمقابلة باللغة القبطية نحو الألف، وببعض ما كان يكتبه المصريون القدماء من الرموز التي تدل على أشباهها كدلالة صورة الرجل على الرجل، وما شاكل ذلك.
ومن المؤلفات الحديثة التي استعنت بها في فذلكة تاريخ مصر القديم: كتاب العقد الثمين لأحمد بك كمال، ومصر لمري، وعادات المصريين لويلكنس وغيرها. (3) جغرافية مصر القديمة (وهي جغرافيتها في أيام الدول المصرية القديمة)
تدعى مصر في اللغة المصرية القديمة وفي اللغة القبطية: «خم» أو «أرض خم» ومعناها الأرض السوداء، نسبة إلى لون تربتها، وهذا ما يذكرنا بحام ونسله، وكان يدعوها الشعب العبراني: «مصرايم» ومعناها «المصران» ومنها اسمها في العربية اليوم. أما معنى تسمية العبرانيين لمصر فنظنه مشتقا من قولهم «صر» في العبرانية، ومعناها: الشدة والضيق، «ومصر» اسم مكان من صر أي مكان الشدة، ولعلها إشارة إلى ما قاساه الشعب العبراني من الشدة والاضطهاد في هذه البلاد إلى عهد موسى. أما كونها على صيغة المثنى: فربما نتج عن تسميتهم أولا أحد قسمي مصر البحري والقبلي بهذا الاسم، ثم جعلوه على صيغة المثنى؛ للدلالة على القسمين معا، والله أعلم. أما اليونانيون فكانوا يسمونها «إيجيبتوس» ومنها اسمها في لغات أوروبا الحديثة: «إيجبت».
ويستفاد من مصادر تاريخ مصر القديم أن القطر المصري كان يقسم إلى قسمين عظيمين: الواحد يدعى أرض الشمال أو الوجه البحري، والآخر أرض الجنوب أو الوجه القبلي، وكان الوجه البحري ممتدا من منف (البدرشين وميت رهينة) إلى البحر المتوسط، ويدعوه اليونان «الدلتا» لمشابهته بحرف الذال عندهم. أما الوجه القبلي: فيمتد جنوبا من منف إلى جزيرة الفنتين مقابل أسوان، وهذا ما ندعوه اليوم بأرض الصعيد، وكان من ألقاب ملوك مصر القدماء قولهم: «سلطان البرين» إشارة إلى تسلطه على الوجهين البحري والقبلي.
وكل من هذين القسمين يقسم عندهم إلى أقسام دعاها اليونان «نومس» أي مقاطعات، ومجموعها في الوجهين معا يختلف عدا باختلاف الرواة. فقد ورد في القوائم المصرية القديمة أنها 44، وقال إسترابوا وديودوروس إنها 36، والمعول عليه أنها 42 منها 20 في الوجه البحري و22 في القبلي، ولكل منها عاصمة مختصة بها فيها مقر الحاكم ومركز العبادة، وهاك جدولا يتضمن أسماء المقاطعات باليونانية، وأسماء عواصمها بالمصرية واليونانية والعربية.
مقاطعات الوجه القبلي (عواصمها).
أسماء المقاطعات باليونانية
بالمصرية القديمة
باليونانية
بالعربية (1) أوبيتس
أبو
أمبوس
كوم أمبو (2) أبولينويوليتس
تب
أبولينوبولس مانيا
أدفو (3) لاتوبوليتس
نخب
لانوبولس (إيليثيا)
إسنا «الكب» (4) هرمونثيتس
هرمونت
هرمونثس
أرمنت (5) باثيريتس
القرنة (6) ديوسبولنس
نوامن
ديوسبولس مانيا
الكرنك والأقصر (7) كوبتيتس
كوبتي
كوبتوس
قفط (8) تنتيريتس
تنتيرير
تنتيرا
دندرة (9) ديوسبوليتس
ها
ديوسبولس بارفا
هو (10) ثينيتس
أبدو
ثيس. أبيدوس
البربة. العرابة المدفونة (11) بانوبوليتس
أبو
بانوبولس
أخميم (12) أفروديتوبوليتس
تبو
أفروديتوبولس
العطف (13) أنتوبوليتس
نيانتباك
أنتيوبولس
قاو الكبير (14) هبسيليتس
شاسحوتب
هيبسليس
شدب (15) ليكوبوليتس
سوت
ميكوبولس
أسيوط (16) أنثينويتس
أنتينووبولس
الشيخ عبادة (17) هرموبوليتس
خمونو
هرموبولس مانيا
أشمونين (18) سينوبوليتس
كوسا
سينوبولس
القيس (19) أوكسيرينخيتس
بيماسا
أوكسيرنخيس
بهنسا (20) هيراكليوبوليتس
خيننسو
هيراكليوبولس
أهناس المدينة (21) أرسينويتس
كروكودينوبولس
مدينة الفيوم (22) أفروديتوبوليتس
تيباه
أفروديتوبولس
عطفية
شكل 3: خريطة مصر في أيام الفراعنة.
مقاطعات الوجه البحري (عواصمها).
أسماء المقاطعات باليونانية
بالمصرية القديمة
باليونانية
بالعربية (1) ممفيتس
منوفر
ممفيس
ميت رهينة (2) ليتوبوليتس
سوخم
ليتوبولس (3) ليبيا
نيانتهابي
إبيس (4) سايتس
زوكا
كانوبوس (5) سايتشس
صا
سايس
صا الحجر (6) خويتس
خسون
خويس
سخا (7) متليتس
سونتينوفر
متليس
فوه (8) سيثرويتس
ثوكوت
سيتروي (9) بوسيريتس
بيوسير
بوسيرس
بوصير (10) إثريبيتس
حاتا حيراب
إتريبس
تل أتريب. بنها العسل (11) كاباسيتس
كاهبيس
كاباسا
كوم شباس (12) سبنيتس
ثينوتر
سبنيتوس
سمنهود (13) هيليوبوليتس
أنو
أون. هيليوبولس
المطرية (14) تانبتس
زوان
تانس
صان (15) هرموبوليتس
بيثوت
هرموبولس بارفا
دمنهور (16) منديسيوس
يبينبداد
مندس
أشمون (17)ديوسوليتس
بيخون أن أمن
ديوسبولس (18) بوباستيتس
بيباست
بوباستس
تل بسطة (زقازيق) (19) بثينستس
بيوتو
بوتو (20) فربثيتس
كوسم
فاربيثوس
هربت
ويظهر أن هذين القسمين الكبيرين جعلا بعد ذلك ثلاثة عرفت بمصر العليا والوسطى والسفلى. فمصر العليا: تدعى أيضا باليونانية «ثيبايد» نسبة إلى ثيبس (طيبة) وتمتد من آخر الحدود القبلية إلى ديروط، والوسطى: يدعوها اليونان «هبتانومس» أي ذات السبع المقاطعات، وتمتد من ديروط إلى رأس الدلتا، والسفلى: تمتد من رأس الدلتا إلى البحر المتوسط، وقسمت مصر السفلى في آخر عهد اليونان إلى أربعة أقاليم كبرى تحت كل منها عدة مقاطعات.
ودعيت مصر السفلى في أيام أركاديوس بن ثيودوسيوس الأعظم «أركاديا» نسبة إليه، وقسمت مصر العليا أيضا إلى قسمين أو إقليمين دعيا ثيبايد العليا وثيبايد السفلى، تفصل بينهما أخميم أو ما يجاورها، وتكاثر عدد المقاطعات في آخر اليونان حتى بلغ 57 مقاطعة منها 34 في الدلتا فقط.
ثم إن بين ملوك مصر القدماء من وسع نطاق المملكة إلى ما وراء أسوان، وعلى الخصوص العائلة الخامسة والعشرون؛ لأن ملوكها كانوا أثيوبيين فامتد حكمهم إلى جبل برقل. أما في حكم اليونان: فبلغت حدود المملكة المصرية إلى موغراكا وراء وادي حلفا. (4) ديانة المصريين القدماء
زعم بعض قدماء المؤرخين أن المصريين القدماء كانوا من عبدة الأوثان، مستدلين على ذلك بما شاهدوه من التماثيل العظيمة التي أقيمت للعبادة، ولكن ظهر بعد استطلاع أسرار لغتهم، وقراءة ما كتبوه على هياكلهم وفي كتب موتاهم أنهم ليسوا من الوثنية على شيء، وأن هذه التماثيل إنما أقاموها في بادئ الرأي تمثيلا لبعض صفات إله حقيقي غير منظور، ولكن الزمان أرخى على تلك الحقيقة حجاب التقاليد والخرافات، فأصبح القوم لا يعرفون من معبوداتهم إلا تلك الحجارة الصماء التي هي من صنع أيديهم. على أن الحقيقة لم تكن محجوبة عن حكمائهم وكهنتهم.
أما آلهتهم فعديدة، وأسماؤها مختلفة، وصورها متنوعة، مرجعها جميعا إلى إلهين أصل هذه التنوعات، وهما «فتاح» في منف، ويقصدون به الخالق العظيم، و«رع» في طيبة الأقصر وهو الشمس، وهذان الإلهان هما أقدم آلهة المصريين، ويرجعان إلى أولهما؛ لأنهم يعتبرون الشمس تمثالا للإله الحقيقي الذي هو الخالق. ثم انتشرت هذه الديانة، وأتقنت صناعة البناء والرسم فأقاموا في كل مدينة تمثالا لأحد هذين الإلهين أو لكليهما، وكانوا يسمونها بأسماء مختلفة. فتعددت الأشباه ثم نسي المقصود الأصلي، وبقيت الظواهر، ومن جملة دواعي تعدد الآلهة: أنهم كانوا يجعلون للشمس مثلا أسماء تختلف باختلاف مواقعها من خط مسيرها فدعوها «هرمخيس» عند شروقها، وأقاموا لها أبا الهول تمثالا، و«رع» عندما تكون في خط الهاجرة، و«توم» عند الغروب و«أوزيريس» عند الظلام أي عندما تكون في العالم السفلي، وجعلوا لكل من هذه الحالات تمثالا مخصوصا، وقس على ذلك ما بقي من الآلهة الكثيرة التي أقاموا منها محاكم سماوية، وجعلوا من بينها قضاة وكتبة وجنودا.
شكل 4: أمن رع.
وفي أثناء ذلك استنبطوا المثلثات الإلهية، فكانوا يضمون ثلاثة آلهة إلى إله واحد. منها مثلث مؤلف من الآلهة أوزيريس وإيزيس وهوروس وهو المعروف بمثلث منف، والمتأمل في صورها يرى أن الأول أشبه برجل، والثاني بامرأة، والثالث بصبي.
وبين آلهة المصريين تفاوت في الدرجات؛ فعندهم ثمانية آلهة من الدرجة الأولى في منف، وهي فتاح وشو وتفنووست ونوت وأوزيريس وإزيس وهوروس، ولهم عن هذه الآلهة وغيرها أخبار وخرافات مطولة لا حاجة إلى ذكرها هنا، وإنما نذكر فيما يلي أسماء الآلهة المصرية مع ذكر مميزات كل منها بقدر الإمكان بحيث يمكن لمن يشاهدها في الآثار المصرية أن يميز أحدها من الآخر، وتسهيلا لفهم تلك المميزات نقسمها إلى قسمين بحسب نوع رءوسها:
أولا: ذوات الرءوس البشرية. ثانيا: ذوات الرءوس الحيوانية. والرءوس البشرية إما أن تكون رءوس ذكور. أو إناث، والرءوس الحيوانية إما أن تكون رءوس طيور أو حيوانات أخرى.
شكل 5: إيزيس.
فالآلهة ذات الرءوس البشرية للذكور سبعة، وهي: (1) «فتاح»: يمتاز بكونه على شكل جثة محنطة (مومية) وفي يديه صولجان، وليس على رأسه شيء يمتاز به. (2) «أمن» أو «رع»: على هيئة رجل منتصب، وعلى رأسه قبعة مبلطحة، تنتهي بريشتين غليظتين مستطيلتين بيده الواحدة مفتاح، وبالأخرى عصا، كما ترى في الشكل الثالث، وقد يكون على شكل جثة محنطة جالسا على كرسي، وعلى رأسه القبعة المتقدم ذكرها، وفي يده نمشة وعقافة وصولجان، ويدعى في هذه الحالة «أمن أوزيريس» (ش
6 ).
شكل 6: أوزيريس. (3) «هوروس»: صبي على رأسه تاج مزدوج يراد به تاجا الوجهين القبلي والبحري. يده اليسرى في فيه، وفي يده اليمنى مفتاح صليبي الشكل، وقد يكون هوروس برأس طير كما سيجيء. (4) «خم»: جثة محنطة، ويده اليمنى مرفوعة، وحاملة زاوية كبيرة. (5) «أوزيريس»: جثة محنطة على رأسه تاج مصر العليا بريشتي نعام، وأحيانا بغير ريش، وفي يده النمشة والعقافة، وأحيانا الصولجان أيضا، وقد يكون على رأسه هلال فيه قرص الشمس، كما ترى في شكل
6 . (6) «سب»: يمتاز ببطة واقفة على رأسه. (7) «توم»: على رأسه شعر طويل مكلل بزهرة حبقوق أو بريشة، وقد يكون على رأسه تاجا مصر العليا والسفلي.
أما الآلهة ذات الرءوس البشرية الأنثوية فهي: (1) «إيزيس»: على رأسها طاقية تشبه النسر، فوقها تاجا مصر العليا والسفلي، بيدها الواحدة مفتاح وبالأخرى صولجان - كما ترى في شكل
5 - وقد يكون على رأسها قرنان بينهما قرص الشمس، وفوق القرص ما يشه تاجي مصر. (2) «ما»: إلهة الصدق على رأسها ريشة واحدة منتصبة، وعلى عينيها غالبا غطاء يشبه العوينات. (3) «موت» (أم الجميع): على رأسها طاقية بشكل النسر، وفوقها تاجا مصر العليا والسفلي، وقد يكون لها رأس نسري. (4) «نيث»: على رأسها أحيانا مكوك، وأحيانا تاجا مصر العليا والسفلي. (5) «نفتيس»: على رأسها الطاقية النسرية، وفوقها ما يشبه البرج.
والآلهة برءوس الطيور هي: (1) «هوروس»: قد تقدم ذكره بين ذوي الرءوس البشرية، وقد يكون ذا رأس حيواني كرأس الصقر، وفوقه التاجان. (2) «خونس» (الشمس المشرقة): رأسه كرأس الصقر، فوقه هلال فيه قرص الشمس. (3) «رع» (شمس الهاجرة): رأسه كراس الصقر أيضا، عليه قرص الشمس فوقه ثعبان. (4) «توت» (إله القلم): رأسه كرأس اللقلق، عليه أحيانا هلال في وسطه ريشة.
وهذه آلهة برءوس حيوانات أخرى: (1) «بشت» (حبيبة فتاح): تمتاز برأس الهر، وأحيانا برأس الأسد، عليه قرص الشمس، فوقه ثعبان. (2) «عتور»: يمتاز برأس كرأس البقرة بين قرنيها دائرة البدر. (3) «كنوم» أو «كنف»: يمتاز برأس كبش عليه أكاليل وتجيان. (4) «أنوبيس»: يمتاز برأس كرأس ابن آوى.
وللمصريين القدماء آلهة كثيرة غير هذه قد أمسكنا عن ذكرها حبا بالاختصار.
فذلكة في تاريخ مصر القديم
لما فكر قدماء المصريين في وضع تاريخ لأمتهم تتبعوا الحوادث إلى مصادرها، وجمعوا ما كان لديهم من التقاليد الموروثة بالتلقين أبا عن جد، واستطلعوا سير ملوكهم الأقدمين فوصلوا إلى الملك «منا» فإذا هو أول من حكم ونظم، ولما لم يعثروا على ما كانت عليه مصر قبله فرضوا ثلاث عائلات وهمية زعموا أنها تسلطت على مصر بالتوالي، وانتهت ببداية الدولة الملكية القديمة التي أول ملوكها «منا» ودعوا العائلة الأولى: عائلة المعبودات، ويقال لها: العائلة المقدسة، والثانية: دعوها الشبيهة بالمقدسة، والثالثة: الكهنة «الحورشسو» ويزعمون أنهم أجدادهم.
ونقتصر في ما يلي على خلاصة تاريخ مصر القديم، ونبدأ بالملك منا، ونجري في تبويبه على مقتضى التقسيم المتقدم ذكره، فنبدأ بالدور الجاهلي، فالمسيحي، ونقسم كلا منهما إلى عائلات كما ستراه.
الفصل الأول
الدور الجاهلي
(1) الدولة الملكية القديمة (1-1) العائلة الأولى الطينية (حكمت من سنة 5626-5373ق.ه/5004-4751ق.م وعدد ملوكها 9)
أول ملوكها الملك «منا» أو «مينس» - وهو أول من حكم مصر بعد الكهنة «الحورشسو» نشأ في طينة (بقرب العرابة المدفونة بجوار جرجا) والظاهر أنه كان من الكهنة فثار في خاطره أمر الاستقلال بالملك، فقاومه الكهنة، فتغلب عليهم، فترك وطنه وأسس مدينة «منف» (البدرشين وميت رهينة) وجعلها سرير ملكه، وأنشأ حولها جسرا يعرف الآن بجسر قشيشة، وحول مجرى النيل إلى شرقيها، وكان يجري لجهة صحراء ليبيا.
فعمرت منف وأخصبت فشاد فيها الهياكل والمعابد، وأقام تماثيل الآلهة. فإذا زرت خرائب سقارة وشاهدت تمثال رعمسيس الثاني ملقى في البركة الشرقية لميت رهينة اعلم أن بقرب ذلك التمثال كان باب الهيكل الذي بناه هذا الملك لمعبوده «فتاح» وما زالت منف مركز التمدن إلى عصر اليونان.
ومما يذكر عنه أنه فتح ليبيا فاتسعت مملكة مصر في أيامه، وكان رفيقا برعاياه على ما اعتادوه، ولم يسلب الكهنة شيئا من حقوقهم في قبائلهم.
على أنه لم ينج من إيقاعهم به فزعموا أنه أضر بالعبادة من حيث تقاعد الناس في أيامه إلى الزهد، وأحدثوا أنواع الترف، فكانوا يتناولون طعامهم وهم مضطجعون على أسرتهم.
وقام بعد «منا» أخوه «تتا» فأسس القصر الملوكي في منف، وكان عالما بالطب، ولا سيما التشريح فكتب فيه رسالة جددت كتابتها في عهد رعمسيس الثاني.
ومن ملوك هذه العائلة «ونيفس» حصلت في أيامه مجاعة، وهو الذي بنى هرم «كوكمه» بقرب الهرم المدرج في سقارة؛ لدفن ما كانوا يعبدونه من الثيران في عصره، فإن صح ذلك كان هذا الهرم أول ما بني من الأهرام في مصر، ولم يبق من العائلة الأولى من يستحق الذكر. (1-2) العائلة الثانية الطينية (حكمت من سنة 5373-5071ق.ه/4751-4449ق.م وعدد ملوكها 9)
نشأت في طينة أيضا، والمظنون أن بينها وبين العائلة الأولى قرابة.
من ملوكها «كايه خوس» أجاز عبادة الحيوانات فأقام الثور «أبيس» في منف، والثور «منيفس» في مدينة الشمس (المطرية)، وقام بعده «بينوتريس» فجعل للنساء حق الحكم على سرير الملك إذا لم يكن للملك المتوفى أولاد ذكور، وزعم أن الملك نائب الآلهة في الأحكام، وادعى أن بينه وبين الآلهة نسبا، وما زال الملوك بعد ذلك يدعون مثل دعواه إلى عهد اليونان.
ومن ملوكها «إستنس» كان عالما وطبيبا فأتم الرسالة الطبية المتقدم ذكرها، واعلم أن الملك «منا» لم يقو في حياته على إخضاع جميع القبائل المصرية لحكمه، ولا أن يجعل مصر أمة واحدة. أما العائلة الثانية فلم تنته حتى جعلت ذلك أمرا مفعولا. (1-3) العائلة الثالثة المنفية (حكمت من سنة 5071-4857ق.ه/4449-4235ق.م وعدد ملوكها 9)
كانت طينة قبل ظهور الملك «منا» مدينة العلم والحكمة، ومحط رحال المنعة والسلطة. فلما بنيت منف تحول كل ذلك تدريجيا إليها، وما زالت تنحط شيئا فشيئا حتى انقرضت بانقراض العائلة الملكية الثانية.
أما العائلة الثالثة: فأول ملوكها «نخروفس» وفي أول حكمه تمردت ليبيا، وشقت عصا الطاعة، فسامها الرضوخ فأبت، فأدى به الأمر إلى تحكيم السيف، وكانت المعركة في ليلة مقمرة، يقال: إن الليبيين رأوا تلك الليلة دائرة القمر تتسع على غير المعتاد، فخيل لهم أن ذلك من غضب الآلهة على أعمالهم فألقوا السلاح وسلموا، وقام بعده الملك «توسرترس» وكان عالما بالطب فوضع فيه كتبا تداولها الناس إلى القرن الأول للتاريخ المسيحي.
أما من بقي من ملوك هذه العائلة فلم يصلنا من أخبارهم سوى أن المملكة زهت في أيامهم فتكاثرت مبانيها، وأقيمت فيها النصب الهائلة أعظمها أبو الهول التمثال المشهور بعظمه القائم إلى هذا العهد قرب أهرام الجيزة، ويسمى بلغتهم «خورميخي» أي شمس الأفقين، جعلوا جسمه جسم أسد، ورأسه رأس إنسان، إشارة إلى اجتماع القوة والتعقل وأشباه هذا التمثال كثيرة في الآثار المصرية بين ما حجمه هائل الكبر كأبي الهول الذي يبلغ طوله 20 مترا تقريبا، وعرضه أربعة أمتار، وما لا يزيد عن حب المرجان حجما كانوا يصنعونه من العقيق حلية للعقود.
شكل 1-1: شيخ البلد.
شكل 1-2: مصور مصري يلون تمثالا حجريا.
ومن آثارهم أيضا: الهيكل الكائن إلى جنوبي أهرام الجيزة بجوار أبي الهول، ويعرف بالكنيسة، وهو مبني من الحجارة الصوانية الضخمة، ولهم أيضا آثار أخرى كمدافن ومحاريب وغيرها.
ومن ملوك هذه العائلة أيضا «سنفرو» عمدت إلى ذكره لما عرف به من العدل والبر، وما أوتي من العزم والقدرة على الفتوح، فقهر أهل جبل الطور، واستولى على أرضهم، وبنى فيها حصونا ومعاقل، واحتقر آبارا، وجعل فيها رجالا يستخرجون معادنهم، ونقش رسمه على حجر في وادي مغارة، ويقال: إنه لما عاد إلى مصر ابتنى لنفسه هرما لم يعلم مقره إلى الآن. (1-4) العائلة الرابعة المنفية (حكمت من سنة 4857-4573ق.ه/4235-3951ق.م وعدد ملوكها 14)
أعظم ملوك هذه العائلة، وأحقها بالذكر: الملك «خوفو» كان بناء ماهرا، ومحاربا باسلا، فبنى أعظم أهرام الجيزة الذي تفتخر به مصر على سائر الأمصار، ويقال: إن الذين اشتغلوا في بنائه مائة ألف رجل في ثلاثين سنة، كانوا يتناوبون كل ثلاثة أشهر، وبنى له جسرا موصلا بينه وبين ضفة النيل؛ لنقل الحجارة، وارتفاع هذا الهرم 450 قدما وبعض القدم، وعرضه 746 قدما، وهو من جملة عجائب الدنيا، يقصده السياح والمتفرجون إلى هذا العهد.
ونحت «خوفو» عدة تماثيل للآلهة، ورمم بعض الهياكل، وقال بعضهم: إنه كان عاتيا يبخس الناس حقهم، ويهتضم أجورهم؛ لأنه ابتنى هرمه على نفقة الفعلة المساكين على أنه لم يكن على شيء من ذلك، وربما بنى المعنفون قولهم على أنه كان يستخدم الأسرى مجانا، وتلك عادة كانت متبعة في ذلك العهد.
ومن ملوك هذه العائلة: «خفرع» وهو الذي بنى الهرم الثاني في الجيزة بجانب هرم «خوفو» وسماه «أر» أي العظيم، ارتفاعه 447 قدما، وعرض قاعدته 690 قدما وبعض القدم، ولم ينج هذا من ألسنة القاذفين، فقد كان وسلفه «خوفو» مضغة في أفواه المرجفين، وقد بلغت قحتهم إلى أن أخرجوا جثتيهما من هرميهما وكسروا تابوتيهما ورموا بالجثتين إهانة واحتقارا، وقد وجد في المعبد بجوار الأهرام سبعة تماثيل من الحجر الصوان مصنوعة على مثال ذلك الملك بغاية الدقة، وهي الآن في المتحف المصري.
ومن ملوكها: «منكورع» بنى الهرم الثالث من أهرام الجيزة، وسماه «حور» أي الأعلى، جعل ارتفاعه 203 أقدام، وعرض قاعدته 352 قدما وبعض القدم، وقد كان حظ هذا الملك من الشعب غير حظ سالفيه؛ لأنهم بالغوا في مدحه كثيرا، ويقال: إنه أرسل ابنه ليطوف في الهياكل المصرية، ويرمم ما كان منها في احتياج إلى الترميم.
وكان «منكورع» عالما عاملا في الدين والأدب، وقد وجدت جثته محنطة في تابوت من الصوان في هرمه المتقدم ذكره، فحاولت الدولة الإنكليزية نقلها وتابوتها إلى متحفها، فغرقت بها السفينة على مقربة من البورتغال، ولم يبق إلا الجثة وغطاء التابوت، وهو مصنوع من خشب الجميز.
ومن ملوكها أيضا: «سبسكاف» ويسميه مانيثون «سبرخرس » وهذا بنى الإيوان المغربي بمعبد فتاح بمنف، وهو أعظم إيوان فيه، وكان محبا للعلوم فقيها، ويقال: إنه ابتدع فن الهندسة، ورصد الكواكب، وسن قانونا للقرض من مقتضاه أنه يجوز للإنسان أن يرهن مدفن أبيه على مبلغ يستدينه، وللدائن الحق في استخدام المدفن حتى يفيه الفلس الأخير. (1-5) العائلة الخامسة الأسوانية (حكمت من سنة 4573-4325ق.ه/3951-3703ق.م وعدد ملوكها 9)
منهم «سحورع» أو «سفرس» بنى هرما شمالي قرية أبي صير، وله في وادي مغارة لوح لا يزال هناك، محفورة عليه صورته، منصورا على أعدائه، وبعد وفاته عبده المصريون زمنا طويلا.
ومن ملوكها «نفراركارع» أو «نفرخرس» اتسع نطاق العلم في أيامه، وعمرت البلاد، وقد بنى هرما لا يعرف مقره.
ومن ملوكها «أعنوسر» وهو أول من أضاف إلى اسمه لقب عائلته «آن» فصار «عنوسرآن» غزا جزيرة جبل الطور، وانتصر عليها، ونقش صورته على حجر هناك، وبنى هرما في أبي صير، ودفن فيه بعد موته، وكان في عصر هذا الملك رجل يدعى «تي» بنى مقبرة بديعة الإتقان، وهي المقبرة المشهورة في سقارة على يسار المدفن المعروف ببربة «إبيس» يقصد المتفرجون من كل الأنحاء؛ لما فيها من الدقة، وبديع الصنعة، وجميل النقوش، وتعداد الرسوم، وكان هذا الرجل صهر الملك، وصاحب دولته، وله رسم محفوظ في المتحف المصري.
ومن ملوكها «ددكارع» اكتشف المعادن في وادي مغارة، وابتنى هرما لم يعلم مكانه، ولرجال دولته عدة مقابر في سقارة.
ومن ملوكها «أوناس» أو «أنوس» بنى هرما في سقارة إلى الجنوب الغربي من الهرم المدرج، ترى حوله كثيبا من الرمال والحصى قد تراكمت هناك عندما حاولوا فتحه سنة 1881 مما تساقط من كسائه الخارجي، وكان عرض قاعدته 220 قدما، ولا يبلغ هذا القدر الآن؛ لما لحقه من الهدم والتساقط، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن في هذه الأهرام كنوزا فيحاولون فتحها هدما، ولما هدموا هذا الهرم بعد المشقة لم يجدوا فيه إلا تابوت الملك من المرمر الأسود، وذراعه الأيمن، وساقه، وقطعا من أكفانه. (1-6) العائلة السادسة الأسوانية (حكمت من سنة 4325-4122ق.ه/3703-3500ق.م وعدد ملوكها 6)
من ملوك هذه العائلة «مريرع» اتخذ جزيرة أسوان سريرا لمملكته التي كانت شاملة لسائر القطر المصري، ومن ذلك الحين جعلت منف تنحط، وكان له وزير اشتهر بالدراية والحكمة، فعهد إليه بنظارة الأشغال، فقام بأعبائها حق القيام، فتضاعفت المحصولات، ولهذا الوزير حجر في متحف بولاق منقوش عليه ما يفهم منه شيء من سيرته.
ومن أعمال «مريرع» أنه فتح طريقا تجارية بين قفط والبحر الأحمر، وخط مدينة في مصر الوسطى، وأصلح معبد دندرة، وفتح بلاد الشام، واستولى عليها، كل ذلك مدون نقوشا على حجر وزيره المتقدم ذكره، وخضعت له النوبة وليبيا والحبشة وطور سينا، وهو أشهر ملوك هذه العائلة.
ومن ملوكها «مرنرع» الأول ابن المتقدم ذكره، ويسمى «سوكر مساف» وهو أول من اصطنع سفينة في مصر بهمة ودراية وزيره الذي كان وزيرا لأبيه قبله.
ومن ملوكها أيضا الملكة «ثيتوقريس» كذا دعاها مانيثون، وقال: إنها كانت أجمل وأكمل أهل عصرها، وكانت مع ذلك ذات حيلة ومكر، فكان لها أخ اتخذته بعلا فقتله بعض رجال دولته قبل توليتها الملك. فلما تولت أخذت تسعى في طلب الثأر فاصطنعت سردابا تحت الأرض يصل بين النيل ومحل أعدته لوليمة دعت إليها نفرا من الأعيان ورجال الدولة، ومن جملتهم القاتل، فلما التأم الجمع واشتغلوا بالوليمة فتحت باب السرداب من جهة النيل فسار الماء فيه إلى قاعة الوليمة فأغرق جميع من كان هناك. أما هي فأسرعت من غيظها وألقت نفسها في الرماد الحار فماتت.
وفي أيام هذه العائلة أتقنت الرسوم على أسلوب خاص بحيث أن من تعود معاينة الآثار المصرية يقدر على تعيين أي رسم كان من رسوم هذه العائلة. (1-7) العائلتان السابعة والثامنة المنفيتان والتاسعة والعاشرة الأهناسيتان (حكمتا من سنة 4122-3686ق.ه/3500-3064ق.م)
لم يعلم ما الداعي لطموس أخبار هذه العائلات؟ على أنه قد علم أن قاعدة العائلتين الأوليين كانت منف، والأخريين أهناس، وربما وجد في أهناس المدينة شيء من آثارهم إلا أنها على كل شيء لا تستحق الذكر. (2) الدولة الملكية الوسطى (2-1) العائلتان الحادية عشرة والثانية عشرة الطيبيتان سريرهما طيبة (حكمتا من سنة 3686-3473ق.ه/3064-2851ق.م، وعدد ملوكهما 24)
أول ملوك العائلة الحادية عشرة «أنتف عا» لم يكن من ذوي العصبية الملكية، إنما كان من عمال ملوك أهناس المدينة في الوجه القبلي. على أنه كان مهوبا لسطوته وعلو همته. بنى هرما من الطين في الجهة المعروفة بذراع أبي النجا بمديرية قنا، وجعل في وسطه ضريحا متقنا دفنت فيه جثته في تابوت غطاؤه مطلي بالذهب، استخرجه أهل تلك الناحية وذهبوا به. فلما توفي قام ابنه «منتوحتب» فجعل نفسه من مصاف الملوك، وليس له من الآثار ما يذكر به.
ومن هذه العائلة أيضا «أنتف الرابع» تمكن بحكمته وبطشه من الاستيلاء على الوجه القبلي رغما عن ملوك أهناس، واستقل بالحكم عليه وعلى آسيا الشمالية، وقد قال «إني استوليت على الوجه البحري» ولا مثبت لقوله، ومن مآثره أنه جدد بنايات رفيعة العماد في جهة قفط استعملت أنقاضها في هذه الأيام لبناء قنطرة، ولما مات دفن في ذراع أبي النجا، وقد وجدوا من آثاره مسلة بالقرب من العرابة المدفونة.
وتولى بعده «منتوحتب الرابع» ولقب «بنخررع» وهذا بالحقيقة نزع الوجه البحري من ملوك أهناس، وما زال يقاتلهم حتى استقل بالملك جميعه فكل من قبل هذا من هذه العائلة لم يكونوا ملوكا مستقلين.
وتولى بعده «سنخ كارع» ومن عظيم أعماله أنه أنفذ «حنو» أحد رجاله فأتم الطريق الموصلة بين مصر وبلاد العرب التي شرع فيها مريرع - المتقدم ذكره - جعل فيها خمس محطات فيها عيون من الماء، فيتم بها التواصل مع بلاد العرب والهند وشبه جزيرة العرب، وما زالت هذه الطريق كذلك إلى عصر اليونان فالروم.
ومن خصائص ملوك هذه العائلة أنهم كانوا يرسمون فوق توابيت موتاهم أشكالا مجنحة يلونونها بألوان مختلفة زعما منهم أن إحدى معبوداتهم «إيزيس» كانت ترف على أخيها «أوزيريس» ناشرة جناحيها حنوا، ومعظم آثار هذه العائلة في ذراع أبي النجا لا يزال محجوبا.
أما العائلة الثانية عشرة: فابتدأت بدور جديد، فقد كانت مصر قبلها منقسمة غالبا إلى حكومات متعددة في وقت واحد، أما في أيامهم فانضمت جميعها تحت لواء واحد قاعدته مدينة طيبة.
أول ملوك هذه العائلة: «أمنمحعت الأول» كان من أتباع الملك منتوحتب الثالث، ويسميه مانيثون «أمنميس» فلما استتب له الملك قاتل الذين كانوا يكدرون صفو راحة مصر، وهم عصب من أهالي ليبيا والنوبة وآسيا، تجمعوا لقتاله حول قلعة تاتوي غربي منف، فحاربهم حتى انتصر عليهم وطردهم، واستولى على منف، وكان عاقلا حكيما وشجاعا مدربا، استخرج المعادن من بلاد النوبة، وأخضع عدة أقاليم من بلاد الزنوج وغيرها.
وقبل وفاته ولى ابنه «أوسرتسن الأول» ويدعوه مانيثون «سيسونحوسيس» وهو صاحب المسلة المشهورة في المطرية التي طولها عشرون مترا وبعض المتر، نصبها أمام هيكل الشمس المدعو «أتوم» إجلالا لذلك الهيكل ومعبوده، ونصب بجانبها مسلة أخرى شاهدها عبد اللطيف البغدادي، وقد فقدت ولم يبق لها أثر الآن. أما الأولى فلا تزال باقية منقوشا عليها بالقلم المصري القديم ما ترجمته ملخصا: «إن الملك المنصور حياة كل موجود سلطان الوجه القبلي والبحري (خبر كارع) صاحب التاجين وسلالة الشمس (أوسرتسن) المحب لمعبودات المطرية دام بقاه، قد نصب هذا الأثر في مبدأ العيد الرسمي تخليدا لذكره وإحياء لهذا العيد.» انظر شكل
1-3 .
فإذا زرت قرية المطرية الآن، ووقفت بجانب مسلتها ترى حولك بقعة من الأرض فيها بعض الزرع طولها 4560 قدما بعرض 3560 محاطة بتلال متلاصقة كأنها سور من تراب. يقول مارييت: إن هذه البقعة ليست مساحة المدينة، وإنما هي مساحة الحوش الكبير الذي كان أمام هيكل الشمس، وجاء على ذلك بأدلة تقرب من الصواب.
ونصب أوسرتسن أيضا مسلة أخرى فيما يحاذي قرية بجيج بجهة الفيوم، وقد ظن بعض المؤرخين مستنتجا من سياق حكاية كتبها أحد معاصري هذا الملك أنه الفرعون الذي حصلت في أيامه المجاعة على عهد يوسف بن يعقوب، غير أن الجمهور على خلاف ذلك؛ لعدم مطابقة الزمن بين ما هو في العهد القديم وهذا التاريخ، ويقال بالإجمال: إن هذا الملك يعد من أول المؤسسين لهيكل طيبة «الأقصر» وقبل وفاته أمر مهندسه الخاص أن يبني له مقبرة فبناها، وجعل في داخلها عدة غرف أقامها على أعمدة ، وجعل فيها حوضا متصلا بالنيل، وصنع لها أبوابا ومسلات، ووجهة من حجر طرا الأبيض.
شكل 1-3: مسلة المطرية.
ومن ملوك هذه العائلة «أوسرتسن الثاني» ويسميه مانيثون «سيزوستريس» ترك آثارا كثيرة قلما يستفاد منها شيء عن تاريخه، وغاية ما علم منها أن مملكة مصر كانت في عصره محافظة على شوكتها متسعة النطاق.
ومن ملوكها أيضا «أوسرتسن الثالث» وكان رجلا حازما مقداما، واشتهر بهذه الصفات فارتفعت منزلته في قلوب الأهلين فعبدوه، ومن أعماله: أنه جرد على السودان (أثيوبيا) وما وراءها لتوسيع نطاق مملكته، وشاد في وادي حلفا قلاعا منها قلعتان تعرفان الآن «بقمنة» و«سمنة» لمنع الأعداء من مصر لا تزال تشاهد في أطلالهما الجدران الشامخة والبروج العالية والخنادق، وكان في داخلها معابد وعدة مساكن دمرت الآن.
وقد وجد الباحثون حجرين كانا منصوبين على حدود مصر الجنوبية. ذلك ما فهم مما هو مكتوب عليهما، وبعد وفاة هذا الملك بخمسة عشر قرنا أي في عصر العائلة الثامنة عشرة شاد «تحوتمس الثالث» معبدا في سمنة، وكتب عليه ابتهالات كان يتلوها المصريون في ذلك الحين، ولهذا الملك هرم في دهشور.
ومن ملوك هذه العائلة «أمنمحعت الثالث» ولهذا الملك يد بيضاء في أمر النيل وفيضانه في إقليم الفيوم، وذلك أن للنيل - كما لا يخفى - ارتفاعا معلوما إذا بلغه كان غيثا وحياة لأرض مصر، وإذا زاد عنه كان ضربة ودمارا فتسقط الجسور وتغرق البيوت، وإذا نقص لا تكون مياهه كافية للري فيخشى من المجاعة. فلما علم هذا الملك بذلك هم بتدارك الأمر. فرأى في الصحراء الغربية من مصر بادية شاسعة الأطراف يمكن غرسها واستغلالها، تعرف الآن بوادي الفيوم، يفصلها عن وادي النيل الأصلي برزخ قليل الارتفاع، وفي وسط تلك البادية بقعة من الأرض تكاد لا تزيد ارتفاعا عن أراضي وادي النيل تبلغ مساحتها عشرة ملايين من الأمتار المربعة، وبجانبه الغربي أرض منخفضة ذات اتساع عظيم تغمرها مياه البحيرة الطبيعية المعروفة الآن ببركة قارون «أو القرون» طولها يزيد عن عشرة فراسخ، فأمر بحفر ترعتين توصلان النيل بتلك البقعة؛ إحداهما : كانت تبتدئ من النيل بجانبه الغربي، وتجري بمحاذاة بحر يوسف الحالي، والأخرى: كانت تجري شمالا، وهاتان الترعتان تلتقيان وتصبان في تلك البقعة الفسيحة، وجعل عند ملتقاهما قناطر بحواجز تسد وتفتح حسب اللزوم. فكانت تلك البقعة بصفة حوض عظيم تجتمع فيه مياه النيل عند فيضانه عرفت ببركة موريس.
فإن كانت زيادة النيل أقل من احتياج الأرض انصرف إليها من مياهه ما يسد احتياجها، وإذا كانت أكثر من الحاجة صرف ما يزيد إلى ذلك الحوض، فإن طفح ماؤه انصرف إلى بحيرة قارون بواسطة حواجز تسد وتفتح على قدر الحاجة، وكانت الحكومة في كل سنة قبل ارتفاع النيل تنتدب من يسير إلى النوبة؛ لاستكشاف مقدار زيادته في جهة سمنة وقمنة، وفي تلك الجهات الآن كتابات هيروغليفية تشير إلى شيء من ذلك.
وكان في وسط بركة موريس هرمان في كل منهما تمثال، وأصل كلمة موريس «مري» ومعناها في اللغة المصرية بحيرة، وليس كما زعم اليونانيون من أنها دعيت بذلك نسبة إلى اسم أحد الفراعنة، وأصل كلمة الفيوم «بايوم» ومؤاداها باللغة المصرية: بلد البحر.
وإلى شرقي بحيرة موريس بناء هائل يعرف باسم «لابرانتا» واسمه بالمصرية «لابوراحونت» أي معبد فم البحر، بناه هذا الملك لاجتماع مجلس الأعيان من الكهنة، وفي هذا البناء رحبات إلى كل من الجانبين فيها من الغرف نحو من ثلاثة آلاف غرفة، ويحيط بالبناء من الخارج سور عليه نقوش.
أما بركة موريس فقد جفت، ولم يعد لها أثر الآن. أما موقعها فقد اختلف المهندسون في حقيقته، ومن رأي المستر كوب وايتهوس أنه واقع في واد وسيع إلى جنوبي بركة قارون بعرض 40 48° و30 29° شمالا، وهو المعروف الآن بوادي الريان، وقد اقترح وايتهوس على الحكومة المصرية أن تتخذ هذا الوادي مذخرا لماء النيل كما كان قديما.
وامتدت حدود مملكة هذه العائلة إلى بلاد النوبة، وكان بينها وبين ليبيا الشمالية وآسيا علاقات تجارية محورها ما بين بني سويف وأهناس المدينة، وبسبب هذه العلاقات تعلم المصريون من الليبيين علم الرياضة الجسدية (الجمباز) أما صناعة البناء في أيام هذه العائلة فقد كانت من الإتقان والتفنن على غاية حتى قيل إن معظم الأعمدة الحلزونية الشكل في الآثار المصرية إنما من مصنوعات هذه العائلة. (2-2) العائلة الثالثة عشرة الطيبية (حكمت من سنة 3473-3020ق.ه/2851-2398ق.م وعدد ملوكها 87)
من ملوك هذه العائلة «سبك حتب الثالث» له آثار كتابية على صخور شامخة صعبة التسلق عند ضفة النيل بقرب سمنة مفادها أن ماء النيل بلغ هذا الارتفاع في السنة الثالثة من حكم الملك سبك حتب الثالث، وأوطأ جزء من هذه الكتابة يعلو أعلى نقطة يبلغها النيل عند ارتفاعه في هذه الأيام بنحو سبعة أمتار، وذلك من الأدلة على أن النيل كان أكثر ارتفاعا في الأعصر الخالية منه في هذه الأيام بما يستحق الاعتبار، وهذه العائلة على كثرة عدد ملوكها قل ما يعرف عنها، ويظن مارييت أن أكثر آثارها مردوم في أسيوط.
شكل 1-4: حفار مصري يصنع تمثالا.
شكل 1-5: حفار مصري ينحت ذراعا. (2-3) العائلة الرابعة عشرة السخاوية (حكمت من سنة 3020-2836ق.ه/2398-2214ق.م وعدد ملوكها 75)
بسقوط العائلة الثالثة عشرة سقطت طيبة بعد أن كانت سريرا للدول المصرية نحوا من سبعمائة سنة. على أن ملوك العائلتين الثانية عشرة والثالثة عشرة لم يكونوا في اهتمام لحفظ رونقها وأفضليتها على سائر القطر المصري، وإنما صرفوا اهتمامهم في تعمير الدلتا، ورفع شأنه، فزهت منديس وسايس وبوباستس، وعلى الخصوص تانس، ولكنهم مع ذلك لم يتخذوا غير طيبة سريرا لملكهم. أما العائلة الرابعة عشرة فجعلت عاصمتها في الوجه البحري في مدينة خيس (سخا) في منتصف الدلتا. لا يعلم عن ملوك هذه العائلة ما يستحق الذكر سوى أن أسماءهم وجدت مكتوبة على صحيفة من البابيروس (البردي) حفظت في متحف تورين. (2-4) العائلات الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة (الرعاة) (حكمت من سنة 2836-2325ق.ه/2214-1703ق.م)
فالعائلة الخامسة عشرة مؤلفة من ملوك الرعاة الذين افتتحوا مصر، واتخذوا «أوريس» سريرا لملكهم، وكان معظم سلطتهم في الوجه البحري. أما القبلي فكان يحكمه بعض الملوك الوطنيين. أما منشأ ملوك الرعاة ويدعوهم اليونانيون «هيكسوس» فقد اختلف المؤرخون في حقيقته، وقد عقدنا فصلا في كتابنا تاريخ العرب قبل الإسلام بينا فيه أرجحية كون الرعاة عربا من القبائل التي يسميها العرب «العمالقة» فليراجع هناك، ويقال: إنهم جاءوا مصر من جنوبي آسيا ففاجئوا المصريين في الوجه البحري، وافتتحوا بلادهم، وتقاطروا إليها أفواجا حتى انتشروا فيها كالجراد، وجعلوا يعيثون استبدادا فأحرقوا المعابد، ونهبوا ما فيها، واتخذوا منف قاعدة لحكمهم، ففر الملوك المصريون إلى الصعيد.
وأول من ملك من العمالقة «سلاطيس» شاد قلاعا حصينة في أماكن مختلفة، وجعل في السويس جندا عظيما خيفة أن يهاجمه كنعانيو الشام والعراقيون، وفي أيامه تقاطر أهل آسيا إلى مصر أسرابا يطلبون ملجأ ورزقا، فبنى لهم في أواريس معسكرا عظيما يسع نحوا من مائتين وأربعين ألفا، وجعل حوله خندقا، ورتب لهم أرزاقا، فصاروا له أعوانا، فهابه المصريون.
ثم تداول خلفاؤه على سرير الملك الواحد الآخر، وعددهم 6، ومدة حكمهم جميعا 260 سنة، وقد كانوا في أول أمرهم مستبدين يسومون المصريين شر المعاملة، ولا يستخدمون في مصالح حكومتهم إلا الأجانب من أبناء جلدتهم. لكنهم في آخر الأمر قربوا الوطنيين منهم، واستخدموهم في مصالح الدولة، وصرفوا اهتمامهم إلى إحياء البلاد، وتجديد ثروتها، فبنوا المعابد، ودانوا بديانة أهل مصر. فخضع لهم الوجه القبلي فأصبحت مصر جميعها في أيديهم.
شكل 1-6: مهاجرو آسيا.
ثم خلفتهم دولة الرعاة الثانية، وهي العائلة السادسة عشرة، وعدد ملوكها اثنان وثلاثون لم يعرف منهم إلا ملك واحد يدعوه المصريون «إيابي أعاكنن» والعرب يدعونه «الريان بن الوليد» ومانثيون يدعوه «أبوفيس» وفي أيامه نزح كثيرون من أهل الشام إلى مصر واستوطنوها، لكنهم حافظوا على لغتهم ولم يبدلوها، وفي أيامه أيضا وفدت السيارة الذين باعوا يوسف بن يعقوب إلى قطفير وزير مصر الذي يدعى بلغة مصر القديمة «بدفير» أي هدية الشمس، وقصته مشهورة، وقد وجدت في الآثار حكاية استنتج منها بعضهم ما يؤيد قصة المجاعة التي حصلت في أيام يوسف، والله أعلم.
وأما العائلة السابعة عشرة: فكانت مصر في أيامها تحت حكومتين: وطنية بيد المصريين، وأجنبية بيد الرعاة، وبلغ عدد ملوك كل من الحكومتين نحوا من 43 ملكا قلما يعرف عنهم، وكانت قاعدة مملكة الرعاة «صان» والوطنيين «طيبة» وغاية ما يقال في هذه العائلة: إنها لم تنته حتى انتهى معها الرعاة، وبانقضائه انقضت الدولة الملكية الوسطى. (3) الدولة الملكية الأخيرة (حكمت من 2325-954ق.ه وعدد عائلاتها 14) (3-1) العائلة الثامنة عشرة الطيبية (حكمت من 2325-2084ق.ه/1703-1462ق.م وعدد ملوكها 14)
ولهذه العائلة شأن عظيم في تاريخ مصر القديم؛ لأن البلاد في أيامها نشطت وامتدت سطوتها إلى أنحاء بعيدة.
أول ملوكها «أحمس» ويسميه مانيثون «أموزيس» تزوج بابنة ملك أثيوبيا، وتحالف معه على طرد بقية العمالقة من مصر، وكانوا متحصنين في قلعة أوريس برا وبحرا، فحاصرهم ثم طردوهم منها، وما زال يتبعهم بجنوده حتى نهر الفرات، فتخلصت مصر منهم بعد أن استبدوا فيها ستمائة سنة، وبقيت منهم بقية رضخت لأحكامه قهرا، وما لبث أن عاد من هذه المحاربة حتى عصته أهل النوبة فجرد إليها وظهر عليها. أما الأثيوبيون فدخلوا في طاعته بغير حرب، وامتدت سلطته إلى البحر المتوسط، وفي السنة الثانية والعشرين من حكمه استعمل العمالقة؛ لقطع الحجارة من محاجر طرة لتجديد معبد «فتاح» في منف ومعبد «أمون» في الكرنك ولإنشاء معابد أخرى، وقد وجدت جثة هذا الملك في الدير البحري بجبل القرنة، وهي الآن في المتحف المصري.
ومن ملوكها «أمنحتب الأول» ويسميه مانيثون «أمنوفيس» كان ملكا عادلا مسالما، تزوج بابنة ملك أثيوبيا، وجثتاهما في المتحف المصري.
ومن ملوكها أيضا: «تحوتمس الأول» رغب في توسيع دائرة ملكه، فجعل يحارب جنوبا وشمالا، فامتدت سلطته إلى محاجر مدينة «إنبو» في وسط النوبة، ويستدل على ذلك بوجود اسمه منقوشا على حجر هناك، وقد وجدت نقوش أخرى في جهات أسوان تشير إلى شيء من ذلك، وامتدت مملكة مصر في أيامه جنوبا إلى جبل «أبته» في الحبشة، وشمالا إلى أقصى آسيا المعمورة من ضمنها فلسطين وبابل وغيرهما. أما معظم ثروة بلاده فكانت من أثيوبيا التي كانت تأتي منها البضائع مشحونة في مراكب النيل إلى مصر، وفيها الحيوان والحب والجلد والعاج والخشب والحجارة الكريمة والمعادن كالذهب وغيره، ويقال: إن اسم النوبة مأخوذ من «نب» أي ذهب، ومن آثاره أنه شاد معبد أمون في الكرنك، ومسلتين؛ إحداهما لا تزال إلى الآن عند باب المعبد المذكور، أما الثانية فقد ذهبت بها يد الزمان.
ومنهم الملكة «حعتشبو» ويسميها مانيثون «مفرس» ساست الأحكام بتدبير وحزم، ورسمت صورتها على الآثار بهيئة رجل ذي لحية ملوكية مهيبة، وقد سعت هذه الملكة في نشر سطوتها؛ ففتحت بلاد «بون» جنوبي بلاد العرب فكانت بابا للتجارة، وكانت تأتي منها بالخشب والعطريات والصمغ والذهب والفضة والحجارة الكريمة، وغير ذلك من لوازم بناء الهياكل.
ومن آثار هذه الملكة: مسلتان نصبتهما في الكرنك، لم تزل إحداهما قائمة إلى هذه الغاية عليها كتابة بالقلم المصري القديم تفيد أنها أقامت هاتين المسلتين تذكارا لوالدها، وكان على قمة كل منهما إكليل هرمي الشكل مصنوع من الذهب المغتنم من الأعداء، والمسلة الواحدة قطعة واحدة مقطوعة من محاجر أسوان استغرق عملهما معا أربعة عشرة شهرا، وارتفاع كل منهما ثلاثون مترا.
ومن ملوك هذه العائلة: «تحوتمس الثالث» وهو شقيق الملكة المتقدم ذكرها. لم يمكنه الملك إلا بعد وفاتها، ولم يكن راضيا بحكمها إلا رغم إرادته، فلما تولى محا اسمها عن أكثر الأماكن التي ذكرت فيها انتصاراتها، وكتب اسمه مكانه لتنسب تلك الانتصارات إليه.
وفي أيامه استقلت آسيا من سلطة المصريين إلا غزة وضواحيها. ثم ظهر التمرد في الشام فثار أهلها، وحرضوا سكان شمالي سوريا على مثل ما فعلوا. فقاتلهم وظهر عليهم وسلبهم مدينة حلب ومدنا أخرى، ثم سار إلى الفرات فأخضع العراق والجزيرة، وبعد انتصاره أراد إكرام جيشه فصرح لهم أن يصطادوا من حيوانات تلك البلاد ما شاءوا، وكان في جملة صيدهم مائة وعشرون فيلا، فعاد إلى مصر ظافرا.
ثم لم يمض يسير حتى عادت آسيا الشمالية إلى الثورة فشقت عصا الطاعة، وتمرد أهلها، وتابعهم أهل الجزيرة. فعاد إلى قتالهم، وما زال حتى استظهر عليهم وعاد إلى مصر، ثم خرج عليه الزنج والعبيد من النيل الأعلى فحاربهم ونهب بلادهم وهدم مساكنهم وحرقها وقادهم أسرى إلى مصر (انظر شكل
1-7 ).
ويقال بالإجمال: إن أكثر أيام هذا الملك كانت حروبا وشدائد، ولذلك لقبوه بالسلطان الأكبر، وفي المتحف المصري حجر جيء به من الكرنك عليه من الأعلى صورة الملك المذكور كأنه يقرب القرابين لبعض الآلهة وهم وقوف بين يديه، وتحت ذلك كتابة هيروغليفية بين نثر ونظم كتبت عن لسان أمون إله طيبة يخاطب بها الملك بما يشبه المدح والتنشيط.
شكل 1-7: أسرى الزنوج.
وكان في حوزته عند وفاته: الحبشة والنوبة والسودان والشام والجزيرة والعراق العربي وكردستان وأرمينيا وقبرس، أما جثته فتشاهد في المتحف المصري، ومن آثار تحوتمس الثالث مسلتان أقامهما في المطرية، حتى إذا كانت أيام الملكة كليوبطرا نلقتا إلى الإسكندرية وجعلتا أمام هيكل القيصر، وعرفتا بعد ذلك بمسلتي كليوبطرا، وعليهما كتابة هيروغليفية كثيرة بينهما أسماء تحوتمس الثالث ورعمسيس الثاني وسيتي الثاني ولا وجود لاسم كليوبطرا عليهما، وفي سنة 1877ب.م نقلت إحداهما إلى لندرا، وأقيمت على ضفاف التيمس، ثم نقلت المسلة الأخرى إلى أميركا بعد حين.
ومن ملوكها الملك «أمنوفيس الثاني» استلم زمام الأحكام وسلطة مصر منتشرة في أقاصي الأرض، فاجتهد في حفظها إلا أن آشور نظرا لبعدها من مصر ثارت واستمالت إليها ما حولها من المدن، فجهز إليها أمنوفيس وما زال يحاربها ومن تابعها نحوا من سنتين، كان يتردد أثناءهما بين العراق والجزيرة وأكاد، وأخيرا عاد إلى مصر بحرا غانما ظافرا، وفي جملة ما جاء به من الغنائم سبع جثث ممن قتلهم في تلك الحملة فعلق ستا منها على سور طيبة، ولهذا الملك رسم منقوش على مقبرة في القرنة هو فيه على هيئة ملك عظيم الشأن جالس على كرسي قد نقش على قاعدته أسماء البلاد الخاضعة له.
شكل 1-8: معاصر العنب عند المصريين.
ومن ملوكها أيضا الملك «تحوتمس الرابع» ومن أعماله: إعادة عبادة الشمس إلى مصر. فكرم أبا الهول المرموز به عنها، ومن يزر هذا التمثال العظيم في الجيزة ير في صدره لوحا ارتفاعه أربع عشرة قدما إنكليزية، في أعلاه إلى اليمين رسم هذا الملك يقدم العبادة لأبي الهول وإلى اليسار رسم الشمس، ويلي ذلك نقوش كتابية تفيد أن ذلك الملك لم يدخر وسعا في تحسين مدينتي منف والمطرية، وإعطاء المرتبات المقررة للمعابد، أو لإنشاء الهياكل والتماثيل، والمعبودات وكان ملكا قويا مهوبا.
ومن ملوكها أيضا «أمنوفيس الثالث» لما تولى الأحكام كانت حدود مملكة مصر ممتدة شمالا إلى نهر الفرات وجنوبا إلى جلة، ولسعة شهرته في الأقطار الغربية دعاه اليونان بالممنون، وله تمثال عظيم في طيبة مشهور بهذا الاسم، وقد كثرت في أيامه القلاقل والفتن فسعى في إخمادها بعزم ونشاط، وكان ذا وقار ومهابة، وفي الحروب باسلا مقداما. كل ذلك تراه مكتوبا نقشا على تاج هيكل الأقصر؛ لأنه جدد فيه قسما عظيما، وكان يلقب نفسه بسلطان البرين وأمير العالمين (يريد عالمي آسيا وإفريقيا) وكان حسن السياسة فزادت مصر في أيامه سطوة ومملكتها اتساعا.
ومن آثاره هيكل في «نبته» جعل في الطريق إلى بابه صفين من الكباش الراقدة على مثال أبي الهول، وحسن معبد تحوتمس الثالث في سولين بين الشلال الثاني والثالث، وشاد هيكلا غربي الكرنك خدمة للمعبود أمون، وهناك إصلاحات أخرى أجراها في هياكل ومعبودات أسوان وجزيرتها وجبل السلسلة وغيرها، وأنشأ على ضفة النيل الغربية تجاه الأقصر معبدا طالما كان من أعظم الآثار القديمة، أما الآن فقد أصبح خرابا لأسباب لا نعلمها إلا صنمين كبيرين كانا على بابه، ولا يزالان قائمين رغم مصادمة الأيام، ويعرفان بشامة وطامة، وكل منهما تمثال أمنوفيس الثالث، وبقيا إلى سنة 595 قبل الهجرة ولم ينتبه إليهما حتى حصلت زلزلة أسقطت جزء أحدهما الأعلى وبقيت قاعدته في مكانها، فلوحظ أن هذه القاعدة إذا سقط عليها الندى ثم أشرقت عليها الشمس أخرجت صوتا يستمر مدة، فجعلوا يقولون في شأنه أقوالا شتى أكثرها مبني على الوهم والخرافات، ثم اهتم القوم بإعادة الجزء الساقط إلى قاعدته فأعادوه وملطوا مكان الالتحام جيدا فلم يعد يسمع له صوت فعلموا أن ذلك الصوت كان يحدث من تأثير أشعة الشمس على نقط الندى بعد تخللها جسم ذلك الحجر.
ومن ملوكها أيضا «أمنوفيس الرابع» رغب في عبادة الشمس فابتنى في محل تل العمارنة على مقربة من المنيا مدينة جديدة جعلها سريرا لملكه بدلا من طيبة، ونقل إليها معبود قرص الشمس وسماه (أتن) على مثال إله اليهود (أدوناي) أقامه في معبد ابتناه من أجله، وقد نقبوا أطلال تلك المدينة فوجدوا بينها بقية ذلك المعبد على دهليزين وستة أعمدة مدرجة الوضع يظهر أنها كانت منصوبة في صحنه، وشاهدوا على جدرانه رسم الشمس مشرقة على الملك ورجاله وهم وقوف يقربون القرابين إليها، وبين أشعتها أيد ممتدة كأنها تنثر الحياة على المخلوقات، وحول هذه الرسوم أدعية وقصائد كان يتلوها المرتلون على نغمات الأوتار، وعلى جدران الهيكل أيضا رسم هذا الملك ورجاله على هيئة غير مصرية، ويشاهد أيضا في مقبرة بتل العمارنة نقوش بينها صورة الملك واقفا على عربته الحربية وبجانبه بناته السبع يقاتلن معه، وله آثار في سوليب، وهيكل ومسلة بمدينة طيبة.
ومن ملوكها أيضا الملك «حور محب» وهو من أقارب «أمنوفيس الرابع» ثارت عليه الرعية عند أول حكمه فأرضاهم بمحو عبادة الشمس وهدم معبدها والمدينة جميعها وإعادة الديانة المصرية، ولما خمدت الثورة بنى الوجهة الرابعة من معبد الكرنك، وفي أيامه خرجت آسيا من سلطة المصريين، وما زالت كذلك إلى أن جاءت العائلة التاسعة عشرة. (3-2) العائلة التاسعة عشرة الطيبية (حكمت من 2084-1910ق.ه/1462-1288ق.م وعدد ملوكها 8)
أول ملوكها «رعمسيس الأول» ولم يتحقق حتى الآن إذا كان مصري المولد أو آسيويه، تبوأ كرسي الملك شيخا، وكانت المملكة المصرية تئن لخروج معظم إيالاتها من طاعتها على إثر الحرب الدينية فجدد شبابها ونهض للجهاد، فحارب الأثيوبيين والحثيين، وكانوا أمة عظيمة تحتها عدة طوائف قد تحالفوا معا على قتال المصريين، ويقال: إن هذا الملك هو أول من ناهض الحثيين، واخترق بلادهم، وجال في أصقاعهم حتى ضفاف نهر العاص.
شكل 1-9: جنازة مصرية قديمة.
وخلفه ابنه «سيتي الأول» فسعى سعيا حميدا لتوسيع مملكته فغزا بعضا من بلاد آسيا الغربية. ذلك ما يستفاد مما كتب على هيكل الكرنك، فغزا غزوات عديدة إلى الشام والعراق وغيرها، ففتح بلادا تمتد من جنوبي الشام إلى أرمينيا، وقد كانت قبلا لا يطلب منها إلى جزية تدفعها وحكامها من أبنائها. أما هذه المرة فأدخل أهلها في طاعته، وجعل عليهم حكاما من أمرائه، وأحاطهم بنقط حصينة كغزة وعسقلان جعل فيها حاميات من رجاله فأمن طغيانهم، إلا ما جاور الفرات فإنه عجز عن إبقائه في حوزته وعصته الجزيرة والعراق، ولم يعد قادرا على مقاومتها فوقف عند حده، ولذلك كانت فتوحاته كبيرة في الظاهر حقيرة في الباطن، ولما عاد من تلك المحاربات جعل يمكن العلاقات مع إيالاته بواسطة النقط العسكرية التي كان قد جعلها فيها فزاد الارتباط بين المصريين والأمم المتحابة ولا سيما الكنعانيين، فأدخل المصريون معبود الكنعانيين (بعلا) في عداد معبوداتهم ومثلوه بالشمس، وكان لهذا المعبود زوجة اسمها استارته (عشتروت) مثلوها بالقمر، واتخذوا من آسيا أيضا آلهة أخرى.
ومن آثار هذا الملك هيكل في القرنة، وآخر في رداسية، وآخر في العرابة المدفونة، وقد نحت أعمدة كثيرة أقامها في النوبة، وحجرا جعله في أسوان، وفتح ترعة بين النيل والبحر الأحمر تبتدئ من تل بسطة وتجري شرقا في وادي الطملات إلى أن تصب في البحيرات المرة، وبنى خط دفاع شرقي مصر، وشاد محرابا في القرنة، وفتح طريقا للقافلة بين قرية رداسية بإقليم إسنا ومعدن الذهب بجبل أتوكي حيث اصطنع عينا صناعية ينفجر منها الماء غزيرا، وأصلح الغار الذي في بني حسن للمعبودة «بشت» ويعرف الآن بغار «أتيميدس» وأخيرا بنى لنفسه ضريحا في بيبان الملوك يعجب له كل من عاينه؛ لدقة صنعه، ولما فيه من المناظر الفلكية البديعة.
ومن ملوك هذه العائلة «رعمسيس الثاني» المشهور باسم «سيزوستريس» ويقال له: «رعمسيس الأكبر» لأنه في الواقع أعظم من ملك مصر حكمة وبطشا، حكم مدة طويلة كلها فتوحات وحروب ومبان ونقوش، فلا يكاد يوجد أثر من الآثار المصرية القديمة إلا وعليه اسمه ورسمه، ولي الملك صغيرا فشب معتادا على الأعمال السياسية، وكان متوقد الذهن وفيه فطنة ونباهة منذ حداثته.
ولما توفي والده قام بأعباء الملك بنفسه فأخذ في توسيع نطاقه بالفتوحات، وأول غارة شنها كانت على الشام فسار بجيشه، وما بلغ نهر الكلب بقرب بيروت حتى خمدت الفتنة، فعاد إلى مصر تاركا أثرا منقوشا على صخر هناك، وفي السنة الرابعة من حكمه ثار عليه سكان شمالي آسيا وهم الحثيون وكاتي وكركاميش وكوش، وكانوا أقواما من الشجاعة على جانب عظيم، فانضموا لمحاربته، وساروا جميعا حتى وادي الأرونط بقرب حدود مصر في ذلك العهد. فبلغ رعمسيس خبرهم فجمع إليه أمراءه ورجال دولته وقواده وجنوده، وسار في مقدمتهم، وما زالوا يخترقون سوريا حتى أتوا نهر العاص قرب مدينة قادس فإذا هي على جانب من المنعة، ففرق رجاله فرقا في نقط معينة، ثم سار في حاشيته منفردا فلقيه جواسيس الحثيين فأغروه على التقدم نحو المدينة، فسار في حاشيته تاركا جيشه في أماكنهم، فلما اقترب من المدينة علم أنها دسيسة أوقع فيها، فالتفت وإذا بمركبات الحثيين حوله لا عداد لها، فلما رأى ذلك رجال حاشيته طلبوا النجاة بأنفسهم، وبقي رعمسيس وحده فاستنجد إلهه وهاجم الحثيين بمفرده على مركبته ففرقهم وفاز بهم، وبعد يسير عاد إليه رجال حاشيته وقد كادوا يذوبون خجلا لما كان من فرارهم، أما هو فاكتفى بتوبيخهم، ثم اجتمع بجيشه ثانية، وهاجم العدو فهزمهم، وانتهى الأمر بعقد معاهدة بينه وبينهم، ثم هم بالجلاء من آسيا.
شكل 1-10: رعمسيس الثاني.
وبينما هو في طريقه إلى مصر ثار عليه الكنعانيون، وانضم إليهم الحثيون ناقضين العهد، وثار غيرهم معهم، فأصبح جميع من قطن ما بين ضفاف الفرات وضفاف النيل يقاتلون المصريين إلا أهل آسيا الصغرى فإنهم هجروا أوطانهم ولم يظهروا للقتال، وما زالت هذه الحروب متواصلة يتخللها هدنات وفترات مدة خمس عشرة سنة فاستولى رعمسيس على مدينتي ثابور وميروم وقلعة أورشليم وعسقلان. ثم سار شمالا وقاتل هناك حتى أخذ من الحثيين مدينتين، وجد في إحداهما الآن تمثاله، وما زالت الحرب سجالا حتى اضطر ملك الحثيين إلى المصالحة فطلبها فقبل رعمسيس ذلك في السنة الحادية والعشرين من حكمه، فعقدوا معاهدة كتبت أولا بلغة الحثيين، ثم نقشت على لوح من فضة وقدمت إلى رعمسيس، ومفادها أن الحثيين يتعهدون أنهم لن يعودوا بعد ذلك إلى حمل السلاح ضد المصريين، وعلى مثل ذلك يتعهد المصريون، وأن يكون الفريقان متحالفين إلى الأبد، وجعلوا في وسط لوح الفضة وعلى جانبه الأعلى صورة تمثال «ست» معبود المصريين معانقا تمثال «خيتا» معبود الحثيين، وما زالت هذه المعاهدة مرعية مدة ست وأربعين سنة كانت الراحة في أثنائها مستتبة، وتصاهر الملكان توطيدا للعلاقات الودية، فأصبح المصريون والحثيون قلبا واحدا، وبعد التوقيع على المعاهدة بيسير دعا رعمسيس الثاني ملك الحثيين لزيارته إلى مصر فزاره فأكرم مثواه.
ولما سكنت الحروب أخذ رعمسيس في تشييد المباني؛ فشاد في كل مدينة معبدا، وتمم معبد القرنة في الأقصر، وكان قد شرع فيه أبوه، ومن آثاره أيضا: هيكل بناه في شرقي الشيخ عبد القرنة بطيبة سماه شامبليون «رامسيون» منقوش فيه تفاصيل إحدى وقعاته، ومنها معابد في العرابة المدفونة ومنف وتل بسطة وغيرها، وأسس في الوجه البحري مدنا عديدة دعاها باسمه.
وكان لهذا الملك العظيم في قلوب رعيته من المحبة إلى حد الشغف، وكان لهم فيه من الثقة إلى حد العبادة، ولما مات دفن في مقبرة بيبان الملوك، ثم نقل إلى الأقصر لأسباب غير معلومة، ثم نقل إلى المتحف المصري وهو هناك إلى هذه الغاية.
ومن ملوك هذه العائلة «منفتاح الأول» ابن رعمسيس الثاني، اتبع خطوات أبيه، فجعل يزيد في بنايات الدلتا وتحسنها، ثم ثار عليه أهل آسيا الصغرى وطائفة الليبيين فأنفذوا إليه بوارجهم في البحر المتوسط إلى سواحل ليبيا مملوءة بالعدة والرجال من قبائل مختلفة ، وما زالوا حتى أتوا السواحل المصرية ودخلوها من غربي الدلتا، كل ذلك والمصريون لا يبدون حراكا إلا إذا كان للتسليم، ولم يمض كثير حتى أصبح معظم الوجه البحري في ذمة أولئك الوافدين.
فلما علم منفتاح بذلك تجند في منف وأرسل فرقة من فرسانه لمقابلة العدو، ثم أمر بتحصين جميع المراكز الواقعة على ضفتي فرع رشيد. فتثاقل الليبيون فأنفذ إليهم فرقة شتتتهم، وعاد المصريون فائزين غانمين بعد أن أحرقوا معسكر العدو فعاد الأمن إلى بلادهم، ويقال : إن الإسرائيليين هاجروا مصر في أيام هذا الملك ولهم على ذلك أدلة أعرضنا عن ذكرها لضيق المقام. (3-3) العائلة العشرون الطيبية (وتسمى الرعمسيسة) (حكمت من سنة 1910-1732ق.ه/1288-1110ق.م وعدد ملوكها 12)
من ملوكها «رعمسيس الثالث» وهو آخر من اشتهر من ملوك مصر القدماء، وفي أول حكمه ثار عليه أهل البادية، فهددوا استحكامات الدلتا، وأهانوا العملة الذين كانوا يستخرجون المعادن من جبل الطور، وخرجت ولايات الشام من طاعته، وسطا الليبيون على أرضه فاحتلوا بعضا من الدلتا من جهة الغرب.
فلما علم رعمسيس بما كان من تلك الوقاحة سار في جيش من رجاله على البدو فهزمهم، ثم على الليبيين فأقلعهم من محتلهم فعادوا على أعقابهم خاسرين. فلما علم أهل آسيا الصغرى والجزائر اليونانية بما كان جردوا جيوشهم متحالفين على محاربة رعمسيس، وما زالوا حتى أتوا الدلتا، فلاقتهم الجيوش المصرية عند مصاب النيل بقلوب لا تهاب الموت، وفي مقدمتهم رعمسيس الثالث غير مبال بما كان حوله من الأسهم المتساقطة عليه من كل الأنحاء، وما زالت الحرب سجالا إلى أن فاز المصريون فوزا تاما، ولهذه المعركة العظيمة رسم منقوش على جانب الحوش الأول من مباني مدينة «أبو» بطيبة.
واستتبت الراحة في ديار مصر بعد ذلك نحو سنتين، ثم عاد الليبيون إلى الثورة ثانية، وضموا إليهم بعضا من القبائل المجاورة لبلادهم، وأغاروا على مصر من غربيها فقابلهم المصريون بثبات فانتهت الحرب بنصرة المصريين، كل ذلك منقوش في مدينة «أبو» بطيبة أيضا. فاضطر الليبيون بعد المعركة الثانية إلى رعاية حقوق مصر عليهم فرضخوا لها صاغرين. ثم دخل في ذمة المصريين أيضا أهل الشام وسكان سيسيليا وغيرهم من الأمم المتعاهدة فأصبحت مصر دولة مهيبة واسعة النطاق، واستعز رعمسيس بالملك. إلا أنه لم ينج من بعض المتاعب الداخلية؛ لأن أخاه أرمانيس كان يسعى فيه بدسيسة يذهب بها حياته، ولم ينجح، فعلم رعمسيس بذلك فأتى بأخيه ومن شاركه، وبعد تحققه ارتكابهم جازى كلا منهم بما فعل، فصفا له الدهر، فجعل يجدد المباني، فبنى في مدينة «أبو» قصرا كبيرا نقش على جدرانه ما كان من محارباته، ووسع معبد الكرنك، وأصلح هيكل الأقصر وغيره من مباني الوجه البحري، وكانت التجارة في أيامه رائجة ممتدة الأطراف.
وتلا هذا الملك ملوك آخرون من هذه العائلة يعرفون برعمسيس الرابع والخامس ... إلخ، ويقال بالإجمال: إن سطوة مصر أخذت بالسقوط في أيامهم الواحد بعد الآخر إلى أيام رعمسيس الثالث عشر - وهو آخر من ملك من هذه العائلة - فإذا بمصر في أيامه منكسرة الشوكة، محصورة الحدود، يترصدها الأعداء يريدون التهامها، فكانت غنيمة لأحد كهنتها الذي يدعى «حرحور» وهو أول من ملك من العائلة الحادية والعشرين. (3-4) العائلة الحادية والعشرون الطيبية والطينية (حكمت من 1732-1602ق.ه/1110-980ق.م وعدد ملوكها 4)
أولهم الكاهن «حرحور» اختلس الحكم اختلاسا من العائلة الرعمسيسية على أسلوب دنيء منقوش على هيكل «خونسو» بطيبة، ثم نفى من بقي من العائلة المذكورة إلى الواحات في وسط الصحراء الكبرى.
وتولى بعده ابنه الكاهن «يعنخي» وليس له ما يذكر به سوى أنه تزوج بابنة ملك الشام.
ثم تولى بعده ابنه الكاهن «بينوزم الأول» وفي سنة 25 من حكمه قامت فتنة بين أهالي الوجه القبلي وأهالي الوجه البحري بسبب نفي العائلة الرعمسيسية، وانتهت باستدعاء أولئك المنفيين من الواحات إلى طيبة.
وفي أيامه أتى النمرود بجيشه من آشور متظاهرا بالدفاع عن العائلة الرعمسيسية، وإنما كان قصده الاستيلاء على البلاد المصرية فتحققت أماله، وأخذها عنوة، وضمها إلى بلاده، ثم توفي النمرود، ودفنته أمه في العرابة المدفونة، وجعلت لمدفنه المرتبات المعتادة، وتولى بعده ابنه «ششنق» على مصر وآشور، واتخذ مدينة «تانيس» سريرا لملكه، وسيأتي ذكره في الكلام على العائلة الثانية والعشرين. (3-5) العائلة الثانية والعشرون البسطية (حكمت من 1602-1432ق.ه/980-810ق.م)
سميت بسطية؛ لأن قاعدة ملكها كانت في تل بسطة بالشرقية قرب الزقازيق، وعدد ملوكها تسعة، ومدة حكمهم 170 سنة.
أول ملوكها الملك «ششنق الأول» ويدعى في التوراة شيشاق، وهو سامي الأصل ابن النمرود كما تقدم، ولد في مصر ونشأ فيها، ولما استتب له المقام في عاصمته سار إلى العرابة المدفونة لزيارة قبر أبيه فوجد خدمة القبر قد نهبوا ما كان في المعبد من الأمتعة الفضية، فأمر بقتلهم بعد أن سار إلى طيبة واستشار معبودها «أمن رع» بذلك، وأعاد إلى المعبد منهوباته، ورتب للخدمة مرتباتهم. كل ذلك منقوش على حجر في العرابة المدفونة.
ومن أعمال هذا الملك أنه سار إلى فلسطين، ووضع يده على أموال المسجد الأقصى الذي بناه سليمان الحكيم، وعلى أموال القصور الملوكية، وفيها الدروع السليمانية الذهبية المشهورة، ثم سار إلى الإسرائيليين فسلموا له القلاع بغير قتال، وبعد عوده من هذه الغزوة نقش صورته على الجدار القبلي لهيكل الكرنك بالقرب من إيوان البسايطة الذي أسسه هو، وبجانب صورته أسماء المدن التي افتتحها مكتوبة في ست وتسعين منزلة، ورسم صور الملوك الذين أصبحوا تحت حكمه، وفي جملتهم الملك رحبعام بن سليمان مكتوف اليدين وراء ظهره وفي عنقه حبل، وبنى عمارات كثيرة في طيبة بحجارة من جبل السلسلة من أعظمها الإيوان المتقدم ذكره، ولا تزال آثاره باقية إلى هذا العهد قبلي هيكل رعمسيس الثالث، ويعرف هذا الإيوان عند علماء اللغة الهيروغليفية بإيوان البسايطة، وتوفي بعد أن حكم 21 سنة.
شكل 1-11: نبات البردي الذي كانوا يصنعون منه البابيروس.
وتولى بعده ابنه «أوسوركون الأول» وليس له آثار تذكر، وخلف هذا ثلاثة ملوك ليس لدينا شيء من أخبارهم. ثم تولى الملك «تاكلوت الثاني» وله لوح حجري في رواق البسايطة بالكرنك منقوش عليه بالقلم الهيروغليفي شيء من سيرته، وفي أيامه ضعفت شوكة مصر فعصتها أعمالها، واستقلت في سلطتها. فأصبحت مصر حقيرة، وقد ذهب نفوذها ولا شيء من العزة والمنعة فيها.
ثم تولى بعد هذا «ششنق الثالث» و«بيمابي» و«ششنق الرابع» وفي عهدهم تجزأت مصر إلى أعمال متفرقة على كل منها حاكم ليبي تحت إدارتهم، فاستبد أولئك الحكام، وتغافل عنهم ملوكهم، فزادوا فجورا وما زالوا حتى أزالوا سلطة أولئك، وأخذوا الملك من أيديهم، ولقبوا أنفسهم بالفراعنة، ونزل الملوك الأصليون في بسطة، ثم هاجروا منها خوفا إلى منف، وانتهى الأمر بعد موت ششنق الرابع بخروج الدولة من يدهم إلى ملوك العائلة الثالثة والعشرين. (3-6) العائلة الثالثة والعشرون الطينية (حكمت من سنة 1423-1343ق.ه/810-721ق.م وعدد ملوكها 5)
قاعدة ملكهم «تانيس» المعروفة الآن بصان في الوجه البحري بمديرية الشرقية، وقد كانت عند أول استيلائهم على الوجه البحري مدينة بسطة، وكانت طيبة في أيدي الأثيوبين فنزعها منهم «بتوباستيس» وهو أول ملوك هذه العائلة، وفي أيام هذه العائلة انقسمت مصر إلى عشرين إقليما تحت كل منها أقسام يتولى القسم منها أمير يرجع في معضلات أحكامه إلى مركز الإقليم، وما زال الأمر كذلك حتى ظهرت العائلة الرابعة والعشرون. (3-7) العائلة الرابعة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة 1343-1337ق.ه/721-715ق.م وعدد ملوكها 5)
أولهم «تفنخت» وكان أحد أمراء الأقسام المتقدم ذكرهم. فقويت سطوته شيئا فشيئا حتى تمكن من جميع مصر قبليها وبحريها إلا إقليم الشرقية فإنه تركه للعائلة الملوكية السابقة، ولما علم ملك أثيوبيا بما كان جرد إليه جيشا وحاربه فقهره، ونقش صورة المحاربة على حجر وجد في جبل برقل، ثم نقل إلى متحف بولاق. فلما دخلت مصر في سلطة ملك أثيوبيا واسمه «يعنخي» جعلها ملحقة ببلاده لكنه أبقى لرؤسائها الامتياز، وجعل «تفنخت» ملكا عليهم بالأصالة، وبعد يسير مات يعنخي وخلفه آخر لم يكن أهلا للأحكام، فتحرر المصريون من سلطته فانسحب برجاله إلى بلاده، وفي أثناء ذلك مات تفنخت فتولى بعده ابنه «باكوريس» وكان قوي الإدراك فقيها بارعا فجعل مصر الوسطى والسفلى تحت حكمه إلا أن الدهر لم يدم له؛ لأن الدولة الأثويبية صارت إلى «سباقون» فجاء مصر وافتتحها عنوة وألقى باكوريس حيا في النار، وبموته ماتت العائلة الصاوية، وأمست مصر إيالة أثيوبية. (3-8) العائلة الخامسة والعشرون الأثيوبية (حكمت من سنة 1337-1287ق.ه/715-665ق.م وعدد ملوكها 4)
أولهم «سباقون» المتقدم ذكره تولى زمام مصر، وجعل لنفسه ألقاب الفراعنة، وأخذ يبث النظام في البلاد، ويحسن سياستها فأبقى كل رئيس على إقليمه مع حفظ نفوذه عليهم جميعا بمراقبة أمراء أثيوبيين. ثم شاد الجسور، واحتفر الترع حرصا على البلاد أن يمسها غرق أو شرق، ورمم كثيرا من المعابد، واستبدل عقوبة القتل بالأشغال الشاقة فاكتسب ثقة المصريين، واشتهر بالرأفة وحسن التدبير.
إلا أن ذلك لم يدم له؛ لأن مملكة آشور كانت في ذلك العهد قد امتدت سطوتها على الفينيقيين والإسرائيليين والفلسطينيين، ورغب هؤلاء في التخلص من نير الآشوريين فأجمعوا على أن يستنصروا «سباقون» في ذلك. فأنفذ هوشع ملك إسرائيل إليه هدايا فاخرة، وسأله التحالف معه على «شلمنصر» ملك الآشوريين فأجابه سباقون إلى طلبه طمعا منه بالحصول على ما كان لأسلافه من ملوك مصر العظام. فبلغ خبر تلك المعاهدة مسامع شلمنصر فاحتال على هوشع حتى أسره، وفاجأ قومه بالهجوم فظهر عليهم، فاعترفوا له بالسيادة بعد أن قنطوا من مساعدة سباقون. ثم سار «شلمنصر» إلى السامرة وحاصرها، ولكنه مات قبل افتتاحها، وكان آخر أبناء العائلة الملوكية الآشورية، فأقيم مكانه «سرجون» رئيس قواده فاقتدى به وسار على خطواته فأتم فتح السامرة، ثم سار إلى فلسطين، وقتل الملك «يهوبيد» أحد المتحالفين مع سباقون.
شكل 1-12: سرجون ملك آشور بيده الصولجان.
فلما رأى سباقون ذلك خاف على بلاده فتقدم بجنوده إلى الشام لرد «سرجون» بعد أن انضم إليه «حانون» ملك غزة أحد المتحالفين، فالتقيا بجيوش الآشوريين في مدينة رفح، وانتشبت الحرب بين الفريقين فانهزمت الجيوش المصرية والشامية وأخذ «حانون» أسيرا، ونجا سباقون فضل في الصحراء إلى أن وجد من أهداه إلى طريق مصر. فكانت هذه المحاربة أمثولة له لكي لا يطمع فيما هو عاجز عن نيله، ولم يكن ذلك كله شقاءه فإنه بعد هذه الهزيمة ثار عليه سكان الوجه البحري تحت رئاسة إسطيفانيتس أحد أقرباء الملك «باكوريس» سعيا في إصلاح شئون البلاد فانهزم سباقون إلى الصعيد، واستقل باكوريس بالوجه البحري، لكنه لم ترسخ قدمه حتى انقسمت حكومته على نفسها، وقام النزاع بين فئتين من طالبي السيادة، وفي أثناء ذلك توفي «سباقون» وخلفه ابنه «سيخون» فاغتنم فرصة الانشقاق وحارب الوجه البحري واستولى عليه، وهذا ما لبث أن ثبتت قدمه حتى قتله «طهراق» وتولى مكانه.
شكل 1-13: إسرحدون يقود طهراق ملك مصر وبعل ملك صور بحيل.
أما «طهراق» هذا فكان رجلا محاربا نزع مدينة منف من «إستفانيتس» ثم جاءه إسرحدون ملك آشور فاتحا ففر طهراق (تهراكا أو ترهاكه) إلى النوبة، واستولى ملك آشور على منف وطيبة ونهب أمتعة هياكلها وقسوسها، وأرسلها إلى بلاده؛ لتحفظ تذكارا لتلك الغلبة. ثم اشتغل في إصلاح شئون مصر، وأعاد رؤساء الأقاليم كما كانوا كل واحد في إقليمه، وضرب عليهم الجزية، وبعد أن تم له ذلك سار إلى «نينوى» تاركا بعض جنوده حامية في قلاعه خوفا من غائلة الأثيوبيين فمر في أثناء الطريق بنهر الكاب قرب مدينة بيروت فنقش على الحجر الذي كان نصبه رعمسيس الثاني نقوشا كثيرة بين فيها فتكه بالمصريين والأثيوبيين.
وفي سنة 669ق.م اغتنم طهراق فرصة مرض إسرحدون، وهاجم المصريين لاسترجاع البلاد إليه، فلما علم أسرحدون بذلك، وعلم بعجزه عن الدفاع تنازل عن الملك لابنه الأكبر «آشوربانبال». فسار هذا إلى مصر، وأخرج منها الأثيوبيين، وأعاد السلطة لرؤساء الأقاليم، وعاد إلى وطنه. فعاد طهراق إلى مشروعه فتحالف مع المصريين سرا على أن يعضدوه فيما يريد، فعلم ملك آشور بذلك فقبض على الخائنين من رؤساء الأقاليم، وقادهم إليه أسرى إلا أن ذلك لم يمنع طهراق مما أراد فهجم على مصر، واستولى على منف، وأبطل عبادة الصنم «إبيس» منها.
أما ملك آشور فجعل يقرب منه رؤساء الأقاليم المأسورين عنده استجلابا لرضاهم وطلبا لمساعدتهم، فخلع عليهم، وأكثر من إكرامهم، وأرسلهم إلى مصر فأخذوا الوجه البحري ثم القبلي، ثم ما زالت مصر يتناوبها الآشوريون والأثيوبيون حتى انتهى الأمر بإغضاء الآشوريين عن تملكها لما يقتضي ذلك من المشقة، فدخلت في سلطة «نوان ميامون» ملك أثيوبيا بدون كبير مشقة، وترى كيفية استيلائه مكتوبة بالهيروغليف نقشا على حجر وجد في أطلال مدينة «نبته» بجبل برقل، وهو محفوظ في المتحف المصري. (3-9) العائلة السادسة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة 1287-1149ق.ه/665-527ق.م وعدد ملوكها 6)
أولهم «بسامتيك الأول» استولى على الوجه البحري والقبلي حتى الشلال الأول، وكان أجنبيا وليس من العصبية الملوكية إلا أنه اقترن بابنة من العائلة الملوكية فاكتسب حق التملك بواسطتها. فتولى الملك ومصر تئن ضعفا وقنوطا؛ لما قاسته من الحروب التي توالت عليها أعواما بين الآشوريين والأثيوبيين فأخذ في إحياء ربوعها وإعادة رونقها إليها؛ فبنى المعابد في منف، ووجهات معبد فتاح، وفتح فيها طرقات على عمد عديدة، وبنى القاعة الكبيرة التي كانوا يعلفون فيها العجل «إبيس» ورمم ما كان متهدما من معبد الكرنك.
وباشر جميع هذه الأعمال دفعة واحدة فأصبحت مصر كأنها معمل عظيم للبناء والترميم، ونشط على الخصوص صناعة الحفر والنقش فبلغت أوجا رفيعا. ثم نظر إلى مناعة البلاد فرآها محاطة بأعداء كثيرين أشد بأسا منها كالآشوريين والأثيوبيين، فأخذ في تحصينها؛ فبنى القلاع والحصون في مضايق طرق الشام من الشرق، وفي ضواحي بركة المنزلة، وفي مدينة دفنة بالقرب من «تسال» لمنع إغارة الآشوريين، وحصن أسوان لدفع الأثيوبيين.
على أنه عمد بعد الاكتفاء بالدفاع إلى الهجوم؛ فهاجم الأثيوبيين وحاربهم فظهر عليهم، ثم سار إلى الشام فاستولى على فلسطين، وأخذ مدينة أشدود من الكنعانيين، ثم عاد إلى بلاده قانعا بما أوتيه من النصر، وفي أيامه كثر تردد الأجانب إلى مصر - وفيهم اليونان - فكان يكرم مثواهم، ويقطعهم من بلاده على سواحل بحر طينة ما يبتنون فيه معاقل وبيوتا يقيمون فيها.
أما اليونان فأعجبتهم مصر وطاب لهم المقام فيها فأخذوا يتعلمون علومها وصنائعها، وأعجبتهم الديانة المصرية فاصطنعوا آلهتهم على مثال آلهة المصريين، وأدخلوا أحداثهم المدارس المصرية فنبغوا، وقام بينهم فلاسفة لا نزال نستفيد من تعاليمهم إلى هذا العهد، ومن هؤلاء الفلاسفة: سولون، وفيثاغورس، وأفلاطون ... وغيرهم، وقد كان المصريون قبل ذلك العهد ينظرون إلى اليونان نظر الاحتقار، ويجتنبون معاشرتهم، وكانوا يبالغون جدا في وجوب الابتعاد عنهم.
أما «بسامتيك» فكان يحبهم ويقربهم منه حتى جعل بطانته منهم، وألف ميمنة جيشة من رجالهم، فأصبحت مصر في قبضة يدهم. فعظم ذلك على المصريين إلى حد لم يمكنهم معه البقاء في بلادهم، ولم يجدوا سبيلا لشفاء ما في نفوسهم إلا بالمهاجرة من مواطنهم ومغادرتها لأولئك النزلاء، فاجتمع منهم نحو 240 ألفا، وهموا بالجلاء إلى أثيوبيا، فتبعهم الملك واستعطفهم أن لا يفعلوا فأتوا، فقال لهم: ولمن تغادرون نساءكم وأولادكم؟ قالوا أينما ذهبنا نجد نساء وأولادا، وما زالوا حتى دخلوا أثيوبيا فاستقبلهم ملكها وأكرم مثواهم، وأدخلهم في جيشه فتألفت منهم جيوش عرفت بالأسماخ، أي حجاب ميسرة الملك، وسماهم اليونان بعد ذلك «أنو بولس». أما «بسامتيك» فعرف بعد ذلك خطأه فأخذ في إصلاحه، فسعى في حشد الجيوش، ولكن هيهات أن تعود مصر إلى رونقها، وكان هو الجاني على نفسه.
ولما توفي تولى ابنه «نخاو الثاني» فأتم تنظيم الجيوش، وكان ذا نفس أبية، وهمة عالية، فأنشأ معامل بحرية لتشييد السفن الحربية على نية افتتاح سواحل البحر الأحمر والمتوسط، وجعل رؤساء تلك المعامل من اليونان، ولاح له لإتمام مشروعه أن يوصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط، فحفر ترعة امتدادها أربع مراحل، وعرضها يسع سفينتين، أولها مدينة بسطة بقرب الزقازيق، وآخرها بركة التمساح؛ لأن البحر الأحمر كان على مقربة من تلك الجهة، وكان قد سبقه إلى هذا المشروع - حسب قول بعضهم - ملوك العائلة العشرين ففتحوا هذه الترعة لكنها سدت بعد ذلك بالرمال، وسيأتي أمامك كلام مفصل عن تاريخ الوسائل التي اتخذت لإيصال البحرين عند الكلام على ترعة السويس من هذا الكتاب.
ثم سار نخاو بجيش لافتتاح فلسطين، وافتتح معها أكثر البلاد في طريقه إليها، وكانت تحت سلطة الآشوريين، ولما عاد إلى مصر كافأ من كان في عساكره من اليونان.
ثم إن ملك الآشوريين «نبوخذ نصر» أرسل ابنه بختنصر في جيش لاسترجاع فلسطين والشام من المصريين، فسار ولم يبلغ مقصوده حتى بلغه موت أبيه، فعاد إلى بابل مسرعا بعد أن استرجع الشام، وحاول «نخاو الثاني» بعد ذلك الاستيلاء على بلاد الشام ثانية فلم يستطع.
ثم توفي، وخلفه ابنه «بسامتيك الثاني» وهذا لم تطل أيام حياته، فخلفه «وح أبرع» وهو الذي استنجد به «صدقيا» ملك اليهود على محاربة بختنصر ملك بابل في عصر أرميا النبي، فسارت جيوش مصر وما لبثت حتى عادت منهزمة، فاستولى الآشوريون على اليهود، فالتجأت اليهود إلى مصر فأقطعهم ملكها أرضا بقرب دفنة فانتشروا في مجدل ومنف، وبعضهم سكن الصعيد.
وبختنصر لما استولى على الشام طمع بمصر، فجاءها مهاجما، وقتل ملكها ، واستولى عليها، وأقام فيها عاملا من أمرائه، وعاد إلى بلاده، وساق معه جميع من كان في مصر من العملاء إلا أن هيرودوتس المؤرخ يقول خلاف ذلك.
ثم حكم مصر الملك «أموزيس» وهذا كان في خشية من غارات الفرس على بلاده، ولذلك كان يحاذرهم لقوتهم، على أنه لم ينج من غائلتهم، فسلبوه بعضا من بلاده، لكنه بالسياسة وحسن التدبير أمن من إغارتهم على كرسي ملكه، فارتاحت مصر في أيامه، فأقام فيها البنايات والمعابد والمسلات، واتسعت التجارة، ولا سيما مع اليونان فإنهم كانوا من البارعين فيها، فزاد عددهم في مصر حتى بلغ 200 ألف نفس، فأعطاهم أموزيس أرضا ابتنوا فيها بيوتا لهم بالغوا في إتقان بنائها فأصبحت مدينة من أجمل مدن مصر، ثم جعلوا يحصنونها، وبعد يسير سنوا لأنفسهم قانونا مخصوصا، وكانت تجارة مصر في أيديهم فاتسعت وباتساعها اتسعت شهرة مصر فطمع الناس فيها، فأتاها الطلاب من كل الجهات بين فلاسفة وتجار وأجناد. ثم رأى «أموزيس» من الحكمة أن يتحالف مع أثينا لعلها تفيده ضد ملك فارس ففعل، وتم التحالف.
وفي أثناء ذلك مات «قورش» ملك فارس فقام ابنه «كمبيز» مكانه، وكانت مطامعه لا تزال قوية في مصر، فأخذ منذ توليته الملك يسعى في هذا السبيل، فاستكشف أنسب طريق يؤدي إلى وادي النيل برا، ولزيادة التأمين عقد معاهدات مع القبائل البدوية التي في طريقه؛ ليمدوه بالماء الذي يحتاج إليه رجاله، وبناء على هذه المعاهدات سارت الجيوش الفارسية، وما زالوا حتى نزلوا أمام طينة، فبلغهم أن «أموزيس» توفي وتولى مكانه «بسامتيك الثالث» وهذا جهز جيوشه وعساكره عند طينة لدفع الفرس، فحصلت موقعة كبيرة، وكان الفرس لشدة مكرهم قد جعلوا أمام جيوشهم عددا عظيما من القطط والبزاة وغيرها من الحيوانات المقدسة عند المصريين، فذهب هؤلاء ولم يجسروا على رمي السهام مخافة أن تصيب تلك الحيوانات المقدسة فلم يكن لديهم إلا الفرار ففروا إلى منف.
فأرسل إليهم «كمبيز» رسلا في مركب يطلب إليهم التسليم، فخرج المصريون إلى ذلك المركب وكسروه إربا، وقتلوا من كان فيه جميعا ، فاستشاط كمبيز غضبا وانتقاما، فسار بجيشه إلى منف وفتحها عنوة، وقبض على بسامتيك وقيده وأهانه وأودعه السجن ومن معه، وكان بسامتيك صبورا فاحتمل كل ذلك ولم يبد تضجرا، فعجب كمبيز لصبره، ثم اتفق بينما كان بسامتيك جالسا في السجن مقيدا وكمبيز بجانبه؛ إذ مر به أحد ندمائه السالفين مترديا بثوب خلق، فتأفف بسامتيك وصفع بيده على جبهته متأسفا، فقال له كمبيز: ما لك تتأسف وتتأفف الآن، وقد احتملت منك إهانة عظيمة، ولم تبد في أثنائها أسفا؟! فقال: إنما أتأسف على حالة هذا الرجل فإنه كان في عز، وقد أصبح كما ترى، والرجل إذا حلت به المصائب وتجرد من ذات يده وأهين شرفه يحق عليه الأسف، فتأثر كمبيز من ذلك، وأسرع إلى حل قيوده، وأعاد إليه شرفه، إلا أنه رآه بعد ذلك يسعى ضده فأمر بقتله، فانتهت هذه العائلة، وابتدأت العائلة السابعة والعشرون. (3-10) العائلة السابعة والعشرون (الدولة الفارسية الأولى) (حكمت من سنة 1149-1028ق.ه/527-406ق.م وعدد ملوكها 7)
أولهم «كمبيز» المتقدم ذكره، فهذا كان يراعي ميل الوطنيين، فأبقاهم على ما كانوا يعبدون، وأعاد إلى أعيانهم امتيازاتهم وحقوقهم، وتلقى أسرارهم اللاهوتية؛ ليكون له إلمام فيها، وأضاف إلى اسمه ألقابا فرعونية، وكان لفتح مصر عظيم هيبة وتأثير عند الأمم المجاورة، فسعوا جميعا إلى كمبيز بالهدايا والجزية، وجعل كمبيز مصر حصنا يستعين به في فتح إفريقيا. ثم جند لقرطاجنة فلم يفز بها، فعاد وجند إلى واحات سيوى فلم يرجع من رجاله مخبر.
ثم طمع في أثيوبيا، وكانت إذ ذاك على جانب من المنعة والثروة، فأرسل إليها جواسيس معهم الهدايا، فساروا وقدموها إلى ملك أثيوبيا، وكان فطنا نبيها فعرف مقاصدهم لكنه أظهر استحسانا لهديتهم. ثم قال لهم وفي يده قوس كبيرة: «انظروا إلى هذه القوس» ورمى منها سهما، وقال: «خذوا هذه القوس إلى ملككم كمبيز، وأخبروه أن الأنسب أن يأتي هو بمفرده لفصل ما تحدثه به نفسه حقنا لدم العباد، وهذه القوس قولوا له إني أوترتها وحدي، فإذا استطاع ذلك جاز له شيء مما يكنه ضميره، وإلا فليحمد الآلهة لإغضائنا عن بلاده.»
فلما بلغ كمبيز ذلك أخذت به سورة الغضب فجرد جيشه، وطلب أثيوبيا من أقرب الطرق، فسار في صحراء كروسكو وهو لا يدرس مسافتها فعطش جيشه وجاع حتى أكل بعضهم بعضا، فاضطر إلى العود وفي نفسه من الغيظ ما كاد يذيبه، فجاء منف وكان أهلها في احتفال سنوي لأحد معبوداتهم فظنهم فرحين لخيبته فأمر بقتل كل الكهنة، وشق صوف العجل «أبيس» وألقاه للكلاب تأكله، ثم سخر بمعبوداتهم، فجعل أحدها فتاح على هيئة قزم زميم الخلق، ونهب جميع ما كان في المدافن القديمة، وزاد فجوره حتى قتل أخته وغيرها ممن هم بريئو الساحة، وهو مشهور بالقسوة والعسف، وبقي على كرسي الملك ثلاثة سنوات، ثم قتله شعبه.
وتولى بعده «دارا» فأخذ يسعى في وسيلة يستجلب بها رضى المصريين، فاتفق موت العجل أبيس في أول حكمه فجاء بنفسه إلى المعبد، وأظهر تأسفه الشديد لذلك، ووعد بمبلغ وافر لمن يأتي بعجل آخر مثله، فأحبه المصريون، واتسعت مملكة الفرس في أيامه كثيرا، فكان تحتها 31 ولاية، وقبل أن يبارح مصر زار معبد فتاح بمنف، وأراد أن يجعل تمثاله بجانب تمثال رعمسيس الثاني فمنعته الكهنة بحجة أنه لم يأت بعد على ما أتاه رعمسيس الأكبر، فقال لهم دارا: «إني أرجو أن أساوي رعمسيس الأكبر إن طال عمري بقدر عمره.» وأذعن دارا لقول الكهنة بكل احترام.
ومن مآثره أنه مهد سبل التجارة فأتم طريق التواصل بين البحرين، كما سترى عند الكلام على ترعة السويس، وفتح طريق قفط للمواصلات برا، وطريق أسيوط الممتدة إلى العرابة المدفونة، ومنها إلى أسوان، وأكثر من العساكر للمحافظة على الواحات الكبرى، وكان الفرس القاطنون في مصر مجوسا متعصبين، فصرح لهم باتباع دينهم على أن لا يستخدموا الكتابة الهيروغليفية على الإطلاق.
ثم ثار اليونان في آسيا فسار بجيش كبير لإقماعهم، فاغتنم المصريون فرصة غيابه وشقوا عصا الطاعة وأنزلوا ولاة «دارا» وعهدوا بالحكم إلى رجل يدعى «خبيش» من سلالة «بسماتيك» فعلم دارا بذلك فهم إليه لكنه توفي قبل إتمام مشروعه، فأقيم ابنه «شيارش» مكانه فجاء مصر واسترجعها عنوة، إلا أنه كان فاتر الهمة فأطلق تدبير الأحكام لولاة يعيثون بها كيف شاءوا، وهكذا كان شأنه في سائر ولاياته، فلم تمض مدة من الزمن حتى تجرد من سائر تلك الإيالات، وقتله من هم حوله، وتولى الملك بعده الملك «أرتحشارشا» فأحب المصريون الخروج من طاعته فاستنجدوا عليه اليونان فأنجدوهم، فحصلت حروب طويلة انتهت بانهزام المصريين، وثبوت قدم الفرس.
وفي سنة 425ق.م توفي «أرتحشارشا» وخلفه الملك «شيارش الثاني» ثم «سوغديانوس» ثم «دارا الثاني» وبه انتهت هذه العائلة، وعادت مصر للمصريين. (3-11) العائلة الثامنة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة 1028-1021ق.ه/406-399ق.م)
ليس لهذه العائلة إلا ملك واحد يدعى «أميرتيوس» ولاه المصريون عند تخلصهم من نير الفرس، وحكم مدة سبع سنين كلها إصلاح وترميم. (3-12) العائلة التاسعة والعشرون الأشمونية (حكمت من سنة 1021-1000ق.ه/399-378ق.م وعدد ملوكها 4)
وليس في تاريخها شيء مهم سوى أن الفرس كانوا يهددونها، وقدموا يريدون الاستيلاء عليها، ولم يظفروا. (3-13) العائلة الثلاثون السمنودية (حكمت من سنة 1000-962ق.ه/378-340ق.م وعدد ملوكها 3)
قضوا مدات حكمهم وهم بين دفاع وحذر من استيلاء الفرس، وحصل بينهما عدة وقائع كانت قيادة الجيوش المصرية فيها بيد قواد من اليونان مجربين، ولم يفز الفرس إلا في الواقعة الأخيرة، وكانت حكومة مصر بيد «نكتانيبس» فانهزم إلى النوبة، وهو آخر من حكم مصر من المصريين الأصليين؛ لأنها خرجت من يده إلى الفرس، ومنهم إلى اليونان، ثم الرومان، ثم العرب، ثم الترك كما سترى. (4) العائلة الحادية والثلاثون (الدولة الفارسية الثانية) (حكمت من سنة 962-954ق.ه/340-333ق.م وعدد ملوكها 3)
أولهم الملك «أوخوس» الملقب «بارتحشارشا الثالث» والذي نزع مصر من يد المصريين. مات مسموما فجاء ابنه «أرسيس» وحكم سنتين ثم مات، وخلفه أحد أقاربه المدعو الملك «دارا الثالث» وكان يدعى قبل توليته: «كودومانوس» وكان معاصرا للإسكندر المكدوني الشهير، وفي أيامه جعلت دولة الفرس تتقهقر، وبدا نجم اليونان بالإشراق، فأخذ الإسكندر في فتوحاته، وتوسيع مملكة أبيه؛ ففتح الهند، وفارس، واستولى على مصر بعد موقعة انتهت بانهزام الفرس ودارا الثالث معهم، وقتل كثير من رجاله، ثم قتله أحد نوابه؛ فانتقل بعده حكم مصر إلى اليونان.
شكل 1-14: إسكندر المكدوني. (5) العائلة الثانية والثلاثون (الدولة اليونانية) (حكمت من سنة 954-945ق.ه/332-323ق.م)
أول ملوكهم وآخرهم «إسكندر المكدوني». تغلب هذا الفاتح العظيم على الفرس، وأخرجهم من مصر، ودخلها عنوة، فمر ببقعة من الأرض على شاطئ البحر المتوسط من حدود مصر فاستحسن موقعها؛ لأنه رآها عبارة عن لسان من اليابسة داخل في البحر، وعلى أحد جانبيه بحيرة مريوط المشهورة، فلاح له أن يبتني فيها مدينة، فبناها على رسم مخصوص رسمه بنفسه، وعهد إتمام العمل إلى المهندس «نيوكراتس» فلما تم بناء المدينة دعاها الإسكندرية، ولا تزال معروفة بهذا الاسم إلى هذا العهد، وفي 24 مايو (أيار) سنة 323 قبل المسيح توفي هذا البطل الباسل في بابل وسنه 33 سنة، فنقلت جثته إلى الإسكندرية ودفنت فيها. (6) العائلة الثالثة والثلاثون (البطالسة) (حكمت من سنة 945-652ق.ه/323-30ق.م) (6-1) بطليموس الأول سوتر (حكم 323-285ق.م)
لما توفي الإسكندر جاء بطليموس الأول - واسمه سوتر - من بابل ووضع يده على مصر، وجعل يسعى في اكتساب ثقة أهلها، ثم أرسل أحد قواده المدعو «بيكانور» في جيش لافتتاح سوريا، فسار وحارب وفاز، ولم تمض بضع سنين حتى ضم إلى مصر سوريا وقبرص وفينيقية.
ثم شرع في بناء المعابد في الإسكندرية، وأقام على جزيرة فرعون التي يصلها بالإسكندرية برزخ صغير برجا يبلغ علوه ألف ذراع على قمته نور يستضيء به القادمون بحرا، وقد هدم هذا البرج الآن ولم يبق له أثر، ومن مآثر هذا الملك مدرسة الإسكندرية الشهيرة، فإنه جمع إليها العلماء والفلاسفة من اليونان وسائر بلاد العلم والصناعة في ذلك العهد، وكان يكرم وفادتهم، ويضعهم في مكانهم من الهيئة الاجتماعية، وأنشأ مكتبة نفيسة طار صيتها في الآفاق. (6-2) بطليموس الثاني فيلادلفوس (285-247ق.م)
شكل 1-15: فلكي إسكندري يرصد الأفلاك.
وفي السنة التاسعة والثلاثين من حكم سوتر عهد الملك لابنه البكر «فيلادلفوس» وأجلسه على كرسي الملك في حياته سنة 285 قبل المسيح، ولقبه ببطليموس الثاني، ثم توفي سنة 283 قبل المسيح، فاهتم بطليموس الثاني في توطيد العلاقات مع الدول المعاصرة ولا سيما دولة الروم (الرومانيين) ولم يكن بينهما سابق مخابرات مطلقا، وليتها لم تحصل؛ لأنها كانت - آخر الأمر - داعيا لاستيلاء الروم على مصر. ثم عكف هذا الملك على تنشيط العلم وذويه فزاد في مكتبة أبيه فبلغت الإسكندرية في أيامه مبلغا عظيما من العلم والثروة، ولم تعد ترى مثله بعد ذلك الحين. فقد كانت محور التجارة، ومحط رحال العلماء والفلاسفة، وفي أيامه أيضا ترجمت التوراة الترجمة السبعينية المشهورة.
ومن مآثره: خرائب أنس الوجود عند شلال أسوان، فإنه هو الذي شرع في بناء الهيكل الكبير الذي تشاهد أطلاله هناك إلى هذه الغاية على جزيرة فيلوي تجاه أسوان، ويدعوها العامة أيضا جزيرة البربة، وهي من الآثار المشهورة، وقد اشتغل في إتمام بناء الهيكل كل من جاء بعد فيلادلفوس من البطالسة. (6-3) بطليموس الثالث إفرجيت (247-222ق.م)
وكانت مدة حكم فيلادلفوس 38 سنة، ثم توفي وخلفه ابنه «إفرجيت الأول» ولقب ببطليموس الثالث، وكان محبا للفتوح؛ فجرد جيوشه إلى آسيا مقتديا برعمسيس الثاني، فلم يكن حظه منها بأقل من حظه؛ لأنه دوخ جميع البلاد التي على الفرات فبابل فالفرس فما وراءها، وضرب الجزية عليها كلها، وأعظم ما سر به المصريون: أنه استرجع من الفرس جميع ما كان منقولا إلى بلادهم من تماثيل الآلهة المصرية بأمر كمبيز، ثم غزا أثيوبيا حتى «أبريم». (6-4) بطليموس الرابع فيلوباتر (222-205ق.م)
وفي سنة 222 قبل المسيح توفي «إفرجيت الأول» بعد أن حكم 25 سنة تاركا الملك لابنه «فيلوباتر» فتولى الأحكام حال وفاة أبيه، ولقب ببطليموس الرابع، إلا أن المصريين اتهموه بقتل أبيه فكرهوه، وكان فظا عاتيا فزادهم كرها، وبعد جلوسه بيسير سار في جيش عظيم لمحاربة أنطيوخس صاحب سوريا فحاربه، فطلب الصلح بأن يرجع له سوريا وفينيقية فقبل فيلوباتر، وبقي هناك بضعة أشهر ثم عاد إلى الإسكندرية. كل ذلك وأخته «أرسينوا» معه لم تفارقه يوما واحدا. فأصبحت الإسكندرية بعد ذلك في رغد ورخاء، فعكف فيلوباتر على الملذات فنسي واجباته المقدسة نحو البلاد فكثر اللغط بين الأهلين، وتكررت التظلمات، وليس من يجيب.
وفي 9 أكتوبر (تشرين الأول ) سنة 212ق.م أو سنة 834 قبل الهجرة وضعت أرسينوا غلاما، ولم يكن من وارثي الملك غيره، فما كان من فيلوباتر إلا أنه قتل أرسينوا بدسيسة بعض ذويه، وفي 29 مارس (آذار) سنة 205 قبل المسيح مات فيلوباتر، وأخفى أصحابه خبره حينا ريثما يتمكنون من سلب أمواله. ثم شاع خبره فأقاموا عوضا عنه ابنه الوحيد «أبيفان» وهو يطليموس الخامس، ولم يكن له من العمر إلا خمس سنوات فأقيم عليه وصي من سراة الدولة.
وفيلوباتر هو المؤسس الأول لهيكل إدفو (فيما بين الأقصر وأسوان) وقد أتم بناءه من جاء بعده من البطالسة، والهيكل المذكور من أوضح الهياكل المصرية؛ لأنه باق برمته إلا أن الرمال قد غطت الجزء السفلي فنرى فيه الأعمدة والرواقات والأبواب مكشوفة كشفا تاما.
فلما رأى أنطيوخس حالة مصر من الارتباك بعد وفاة فيلوباتر عاد إلى ما كان شارعا فيه ففتح سوريا وفينيقية عنوة، وهم إلى مصر فعرض له شاغل أكثر أهمية، فعقد مع نواب مصر صلحا على أن يعطي ابنته كليوبطرا زوجة لبطليموس الخامس، وأن يترك له مقابل ذلك البلاد التي فتحها فقبلوا. (6-5) بطليموس الخامس أبيفان (205-181ق.م)
وفي 27 مارس سنة 205 قبل المسيح أجلس «أبيفان» على كرسي الملك، وسلم زمام الأحكام، فكتب الكهنة شيئا عن ذلك نقشا على حجارة في ثلاث لغات كانت متعارفة في ذلك العهد، وهي الهيروغليفية (القلم المصري القديم)، والديموطقية، واليونانية، وقد وجد أحد هذه الحجارة في رشيد، وبواسطته توصلوا إلى حل رموز القلم المصري القديم كما مر بك، وفي سنة 192 زفت «كليوبطرا» ابنة «أنطيوخس» إلى أبيفان بطليموس الخامس، وفي نحو السنة الثامنة عشرة من حكمه زادت التشكيات والتظلمات لسوء تدبيره وضعفه، وما زال الأهلون يزيدون عليه حنقا وحقدا حتى يئسوا من الإصلاح؛ فأماتوه مسموما في سنة 181 قبل المسيح. (6-6) بطليموس السادس فيلوماتر (181-146ق.م)
فتولى مكانه ابنه «فيلوماتر» وهو بطليموس السادس، وله من العمر خمس سنوات، فحكم تحت رعاية أمه كليوبطرا، فأقامت له أوصياء من رجال دولته العقلاء، وفي السنة الحادية عشرة من حكمه انتشبت الحرب بين مصر وسوريا، وما زالت بينهما سجالا حتى انتهت بانهزام المصريين وأسر ملكهم فيلوماتر، وسار السوريون في مصر برا إلى منف، أما الإسكندريون فلما علموا بسقوط منف وأسر ملكهم أقاموا عوضا عنه أخاه إفرجيت الثاني، وبعد أربع سنوات أخرج السوريون من مصر بمساعدة الروم، وعادت مصر لحكم البطالسة فعاد فيلوماتر إلى منصبه. (6-7) بطليموس السابع إفرجيت الثاني (146-117ق.م)
وفي سنة 768 قبل الهجرة أو 146 قبل المسيح توفي فيلوماتر بعد أن حكم 35 سنة، فأقيم على مصر «إفرجيت الثاني» وهو بطليموس السابع، وقد كان الحق في الحكم لابن فيلوماتر إلا أنه كان صغيرا فقتله عمه وتزوج بأمه فكان الوريث الوحيد، ولم يكن إفرجيت الثاني حسن السياسة؛ فكان يقتل، ويسجن، ويستبد في أحكامه بغير وجه حق، فكرهته الرعية وصاروا يتوقعون له داهية، وبالغوا في اضطهاده إلى حد أنه لم يعد يمكنه البقاء بينهم، ففر من مصر ثم عاد إليها، وما زال حملا ثقيلا على عاتق رعيته إلى آخر أيام حكمه، فاهتدى إلى الصراط المستقيم، وأخذ في تنشيط العلم والصناعة حتى إنه كان يمارسها بنفسه، وألف نحوا من أربعة وعشرين كتابا معظمها في علم الحيوان. (6-8) بطليموس الثامن والتاسع سوتر الثاني وإسكندر (117-82ق.م)
وفي سنة 739 قبل الهجرة أو سنة 117 قبل المسيح توفي إفرجيت الثاني بعد أن حكم 29 سنة ، فاستدعت كليوبطرا أولادها، وكان البكر في قبرص فأتى مصر فولته الملك، ودعته «سوتر الثاني»، ويسميه العرب «شوطار» فهو بطليموس الثامن، ثم سعت في إبعاده لغرض في نفسها فأشاعت أنه مضمر قتلها، فثارت الرعية عليه ففر إلى قبرس ثم إلى سوريا، فاستدعت أخاه «إسكندر» وولته الملك فكان بطليموس التاسع، فخاف على نفسه أيضا، ففضل الاعتزال على أخطار الملك، ففر إلى قبرس، وكان أخوه «سوتر الثاني» في سوريا يستعد للهجوم على مصر، فلما رأت كليوبطرا قرب مجيء الجيوش لمحاربتها أخطرت ابنها إسكندر فعاد من قبرس، وبعد يسير عادت الأمور إلى مجاريها، أما كليوبطرا فكانت رغم كل عاطفة والدية تحاول التخلص من ابنها هذا. أما هو فعلم بما في نفسها وسبقها إلى ذلك فذهب بحياتها، وفر من مصر، فاستدعى أهالي الإسكندرية سوتر الثاني من سوريا؛ ليستلم زمام الأحكام فقدم فرحب به المصريون إلا أهالي طيبة لكنهم ما لبثوا أن أذعنوا.
وفي أيام سوتر هذا كانت مملكة الروم آخذة في الاتساع، ودولتهم بالقوة والثروة، ثم مات سنة 82 قبل المسيح بعد أن حكم في المرة الأولى عشر سنوات، وفي الثانية سبع سنوات ونصف. (6-9) بطليموس العاشر إسكندر الثاني (82-80ق.م)
فتولى مكانه ابنه «إسكندر الثاني» أو بطليموس العاشر، ولم يحدث في أيامه ما يستحق الذكر إلا أن دولة الروم كانت قد استولت على سوريا وسيرينيا وليبيا واليونان، فأصبحت مصر محصورة لا تستطيع حراكا، وكان إسكندر هذا ساعيا جهده في إرضاء الرعية لكنهم لم يكونوا يحبونه بل كانوا يرون فيه العسف والظلم، وما زالوا عليه حتى أبعدوه من الإسكندرية، فسار إلى صور فاعتراه مرض اشتد عليه حتى ذهب بحياته. (6-10) بطليموس الحادي عشر أوليتس (80-52ق.م)
ولم يبق من العائلة الملوكية من يحكم بعد إسكندر، فانتخب الإسكندريون رجلا منهم يدعى «ديونيسيوس» ولقبوه «بأوليتس» لأنه كان مغرما بالفلوت (الآلة الموسيقية المعروفة) ولم يكن يهمه أمر الملك، على أن مصر كانت بغاية الاحتياج إلى الحكمة والتدبير؛ لما كان يهددها من المخاطر، فثار الأهالي عليه في طلب الإصلاح وهو غير قادر عليه، ولم يكن في وسعه إخماد الثورة؛ لأن الجيوش - الذين هم حامية البلاد - كانوا في جملة الثائرين، فترك مصر وفر إلى رومية، وكان له ابنتان الواحدة تدعى «كليوبطرا» والأخرى «برنيس» وبعد بضعة أشهر ماتت الأولى (كليوبطرا) فتولت الثانية مدة سنتين فعلم أوليتس بذلك فعاد إلى مصر وقتل ابنته قصاصا لها على اختلاسها الملك. (6-11) آخر البطالسة كليوبطرا (52-30ق.م)
وبعد يسير توفي أوليتس فتولت ابنة له ثالثة اسمها أيضا كليوبطرا، وكانت بالغة رشدها، ولولا ذلك لتولى أخوها ديونيسيوس الثاني، وقد كان لحرسه أن يتولى مكانه إلا أن كليوبطرا جلست على كرسي الملك حالا ودعت نفسها ملكة، وكانت مدة حكمها 22 سنة، وهي آخر من حكم من الدولة اليونانية في القطر المصري، وكان لهذه الملكة مطامع في السيادة، وقد ملكت رغم مشقات كثيرة كانت تحول بينها وبين ما تريد، ففي أول الأمر نازعها أحد إخوتها ووافقه الأهلون فأخرجوها من مصر، فسارت إلى سوريا، واستنجدت بجيوش الروم فساعدها يوليوس قيصر القائد الروماني الشهير، وأعاد لها الملك، وأغرق أخاها في النيل، فتولت وتزوجت أخاها الآخر. ثم سارت برفقة قيصر إلى رومية وبقيت عنده إلى يوم مقتله سنة 44ق.م، ولما جاء يوليوس قيصر الإسكندرية زار قبر الإسكندر، وكشف عن جثته، ووضع عليها إكليلا كما ترى في شكل
1-16 .
وفي سنة 42 قبل المسيح قتلت كليوبطرا أخاها بالسم فخلا لها الجو، ثم اتفق أن «أنطونيوس وأكتافيوس» القائدين الرومانيين كانا في حرب مع «بروتس» فأمدت هذا الأخير بعمارة بحرية، وكانت قبل ذلك قد ولدت ولدا دعته قيصرون نسبة إلى قيصر والده فكان هو الملك على مصر رسميا.
شكل 1-16: يوليوس قيصر أمام جثة الإسكندر.
فلما بلغ أنطونيوس وهو في طرسوس أن كليوبطرا أنجدت بروتس عدوه بالمال والرجال خلافا للمعاهدة استدعاها إلى طرسوس للمرافعة، فركبت زورقا جميلا مزخرفا؛ جؤجؤه من ذهب، ومجاديفه من فضة، تخرج عند التجديف بها صوتا موسيقيا مطربا، وكانت كليوبطرا من أجمل النساء؛ فلبست أفخر ما لديها من اللباس الثمين، وجعلت حولها الجواري في أحسن ما يكون من الترتيب والنظام، ونشرت الأرواح العطرية في ذلك الزورق. فلما بلغت طرسوس وشاهدها أنطونيوس شغف بها ولم يعد يخالف لها أمرا، فأصدر الحكم كما شاءت وشاء الغرام فعادت إلى مصر غانمة.
وبعد يسير زارها أنطونيوس في الإسكندرية فأكرمت مثواه فدعاها ملكة الملوك، ودعا ابنها قيصرون ملك الملوك بدعوى أنه ابن قيصر بحسب الشرع، وكان ذلك سنة 36 قبل المسيح، فزادت كليوبطرا عجبا على عجب، ولم تعد تكتفي بلقب الملوك فدعوها إيزيس الإلهة الجديدة، وأما أنطونيوس فأنساه الغرام كل واجباته، ولم يعد يعلم أهو نائب القيصر أم هو ملك مصر؟ لأنه أصبح أسيرا لكليوبطرا وكتب اسمهم بجانب اسمها.
ولما بلغ ذلك المشيخة الرومانية أشهرت الحرب على ملكة مصر سنة 32ق.م فبعثت أوكتافيوس بجيش، وجعلت نقطة المحاربة في «فارنتو» و«برندزي» فلم يقبل أنطونيوس بذلك، وطلب أن تكون الحرب في فرساليا، ثم أعد جيشه وسار في خمسمائة مركب، وسارت معه كليوبطرا في ستين مركبا، فالتقى الجيشان في أكتيوم باليونان، وأبت كليوبطرا إلا أن تكون الحرب بحرا.
ثم إنها خشيت أن تعود العاقبة على جيش أنطونيوس، فانسحبت بمراكبها شيئا فشيئا، وكان أنطونيوس مهتما بإعداد المهمات الحربية غير مبال بالموت في جانب مرضاة سالبة لبه، ثم التفت إلى مراكبها فإذا هي بعيدة تخترق عباب البحر، فاقتفى أثرها تاركا رجاله يحاربون ولا يدرون مقره، وما زال حتى أدركها وسار بها إلى مصر.
شكل 1-17: كليوبطرا والثعبان يلدغها.
أما الحرب فانتهت بانكسار جيوش أنطونيوس.
ثم رأت كليوبطرا أن محبها أنطونيوس لا يقوى على حمايتها فالتجأت إلى الجانب الأقوى؛ فأرسلت صولجانها سرا إلى أوكتافيوس، وطلبت مساعدته، فوعدها بما تريد بشرط أن تخلص من أنطونيوس، فعمدت إلى الحيلة، فأخفت نفسها وكل أمتعتها، وأشاعت أنها ماتت، فلما علم أنطونيوس بذلك لم يعد يهوى الحياة بعدها. ثم بلغته خيانتها فقتل نفسه.
أما أوكتافيوس فاستلم زمام الإسكندرية، ونوى بكليوبطرا سوءا، فأوجست هي خيفة منه، وجعلت تستجلبه بما استجلبت غيره من قبله فلم تفز، وفي آخر الأمر قبض عليها، ففضلت الانتحار على أن يقتلها غيرها، فقربت ثعبانا ساما إلى صدرها فلدغها فماتت في 15 أغسطس (آب) سنة 30 قبل المسيح، وقال آخرون في كيفية موتها غير ذلك، والله أعلم.
وكانت مدة حكمها 22 سنة، وكان ذلك اليوم آخر حكم اليونان بمصر، وأول حكم الروم فيها. (7) العائلة الرابعة والثلاثون (الدولة الرومانية) (حكمت من سنة 652-241ق.ه/30-381ب.م)
لما ماتت كليوبطرا على ما تقدم دخلت مصر في حوزة دولة الروم، وصارت ولاية من ولاياتهم يتولاها وال منهم يحكم بمقتضى شرائعهم.
وهذه الدولة هي آخر دول الدور الجاهلي، وقد توالى على مصر في حوزة بلاد الروم عدة ولاة ليس في سرد أخبارهم ما يستحق الذكر سوى ظهور الديانة المسيحية في العالم، ومجيء بعض نصرائها إلى مصر وما لاقوه فيها من الاضطهادات العنيفة، وأشهر تلك الاضطهادات: اضطهاد ديوقليطيانس فإنه بالغ في مطاردة المسيحيين، وقتل منهم جمعا غفيرا بين كهنة وعامة، ومن تولية هذا الملك (في 13 يونيو (حزيران) سنة 284ب.م) يبتدئ التاريخ القبطي المعروف بتاريخ الشهداء، وهو المعول عليه عند الطائفة القبطية إلى هذا العهد، وفي سنة 306ب.م جعل قسطنطين إمبراطور الروم سرير ملكه في مدينة بيزانس (القسطنطينية) فانحطت سطوة مصر.
شكل 1-18: ثيودوسيوس الأكبر.
وفي سنة 241ق.ه أو 381ب.م نهى الإمبراطور «ثيودوسيوس» المصريين عن عبادة الأصنام، وأمرهم باتباع الديانة المسيحية، وإنفاذا لأمره هذا أسرع في هدم الهياكل، وتنزيل الأنصاب، وإبطال التقاليد التي كان يعتبرها المصريون من ضروريات التدين، وكل ذلك بمساعدة بطريرك الإسكندرية ثيوفيلوس، وهنا ينتهي الدور الجاهلي، ويبتدئ الدور المسيحي.
الفصل الثاني
الدور المسيحي
من سنة 241ق.ه-18ب.ه/381-640ب.م
لما توفي «ثيودوسيوس» سنة 395ب.م قام ولداه «هونوريوس» و«أركاديوس» واقتسما المملكة الرومانية بينهما، فجعلاها مملكتين؛ شرقية، وغربية، وجعلا عاصمة الشرقية بيزانس، وعاصمة الغربية رومية، وكان كلاهما حاكمين معا في وقت واحد، أما مصر فكانت تابعة للمملكة الشرقية.
شكل 2-1: هرقل إمبراطور الروم وجنوده.
وكان هذا الانقسام رمزا عن قرب انحلال هذه الدولة؛ لأن الإمبراطورين ما فتئا يتناظران، والانقسامات الدينية تزيد كل يوم، والحرب قائمة سجالا بين لاهوتيي الإسكندرية، وكان لكل من الفريقين أحزاب جمة، وكثيرا ما اشتد الخصام بين هذه الأحزاب في الإسكندرية فآل إلى إشهار السلاح وإهراق الدماء، وكان الإمبراطوران عبثا يحاولان التوفيق بينهما.
وكان النصارى إذ ذاك قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم؛ أحدهما: أهل الدولة وكلهم روم، ورأيهم وديانتهم بأجمعهم الديانة الملكية، وعدتهم تزيد على ثلاثمائة ألف رومي.
والقسم الآخر: عامة أهل مصر، ويقال لهم: القبط، وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منها القبطي من الحبشي من النوبي من الإسرائيلي الأصل من غيره، وكلهم يعاقبة؛ فمنهم كتاب المملكة ومنهم التجار والباعة والأساقفة والقسوس وأهل الفلاحة والزرع وأهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية أهل الدولة من العداوة ما يمتنع تزاوجهم، ويوجب قتل بعضهم بعضا، وعددهم عدة ملايين، وهم بالحقيقة أهل مصر أعلاها وأسفلها.
وفي سنة 610 للميلاد تولى عرش القسطنطينية الإمبراطور هرقل، والمملكة لا تزال آخذة بالتقهقهر، وكانت طائفة القبط قد ظهرت على سواها، واتضح أنها ستكون المؤسسة للديانة المسيحية في مصر. على أن دولة الروم كانت ترغب في جعل المصريين على مذهبها في الدين؛ لتثبت لها مصر، لكن أولئك لم يغفلوا عن هذا، فثبتوا على مبادئهم، وحفظوا لغتهم، وحافظوا على شريعتهم الدينية فترجموا جميع تعاليمها إليها، ولا يخفى أن ذلك جمع كلمتهم، وشد عرى اتحادهم فقووا، وثار في خاطرهم أمر الاستقلال، وقد كان في وسعهم الحصول عليه لو طلبوه.
ومما كان زاد الأقباط ثبوتا ضد الروم أنهم كانوا يشاهدون قرب سقوط هذه الدولة، وما كان يهددها من جميع الجهات، فالفرس هددوا حدودها الشرقية، والمغاربة كانوا ينتظرون أول فرصة لرفع النير عنهم، وهكذا غيرهما من الولايات. إلا أن التقادير كانت تعد هذه البلاد لأمة حديثة نشأت في شبه جزيرة العرب؛ نعني الأمة الإسلامية.
وكانت شبه جزيرة العرب في ذلك العهد جزءا من مملكة الروم كسائر بلاد سوريا وفلسطين ومصر إلا أنهم لم يكونوا يسكنون فيها، ولا يعتنون بها على أنهم لم يأخذوها بالحرب، وإنما كان تسليطهم عليها لمجرد عظمتهم ونفوذهم، ولذلك لم يكن فيها حاميات من جنودهم، وهنا ينتهي الدور المسيحي، ويبتدئ الدور الإسلامي، وهو تاريخ مصر الحديث.
تاريخ مصر الحديث
الفصل الأول
فصل في مصادر تاريخ مصر الحديث
لم أر بين المؤرخين الكثيرين الذين كتبوا في تاريخ مصر الحديث من جاء على كتابة وافية تتعاقب فيها الحوادث بتعاقب السنين مع علاقة ذلك بعموم الدولة الإسلامية وسائر الدول المعاصرة. فبين مؤرخي المشرق - ولا سيما العرب - من أسهب في الكلام عن بعض أقسام مصر وعني بتاريخها على انفراد، ومنهم من انفرد بتاريخ بعض دول مصر دون البعض الآخر، ومنهم من اقتصر على تراجم بعض مشاهير حكام مصر أو علمائها أو أدبائها، ومنهم من وصف بعض وقائعها وحروبها بقطع النظر عن تعاقب السنين، ومنهم من نظر إلى تناسق الحوادث مع نسبتها لتعاقب السنين، لكنه أوجز كثيرا فلم يأت بالفائدة المطلوبة، ومنهم من جاء على تاريخ مصر عرضا في أثناء تاريخ الدولة الإسلامية عموما. فكان قوله متفرقا فضلا عن كونه موجزا.
أما مؤرخو الغرب (الإفرنج) ولا سيما المتأخرون فقد اتخذوا في كتاباتهم عن مصر أسلوبا أقرب إلى المقصود من قبيل تناسق الحوادث وتعاقبها بتعاقب السنين مع بعض الإسهاب، ولكنهم في الغالب لا يضبطون الأعلام؛ لأن حروف لغاتهم لا تساعدهم على ذلك، وقد يغفلون المخاطبات البليغة التي كان يتكاتب بها الخلفاء والأمراء، والخطب الفصيحة التي كانوا يقولونها في مجالسهم أو على جنودهم، أو إذا لم يغفلوها فإنهم يضعونها في لغة قومهم فتخسر بلاغتها ورونقها العربي، فإذا أريد ترجمتها إلى العربية لا يتفق أن تأتي مثل أصلها تماما.
فرأيت أن لكل من الطرفين حسنات فجمعت بينها ملتزما صحة النقل، وانتقاء أصح الروايات، وتطبيق كل ذلك على الأحكام التاريخية مع مراعاة الممكنات، وإغفال ما هو مقول بغير قياس، ومناقض لأحكام العقل بين مبالغات واختلاقات وتقاليد.
فزادت المؤلفات التي أخذت عنها كتابي على بضع عشرات فضلا عن القواميس، وهاك جدولا فيه أسماء أشهر المؤلفات العربية والإفرنجية التي استعنت بها في تأليف هذا التاريخ:
الكتب العربية.
اسم الكتاب
اسم المؤلف
الخطط
المقريزي
الكامل
ابن الأثير
الروضتين
شهاب الدين المقدسي
تاريخ المسلمين
ابن العميد
ديوان العبر
ابن خلدون
وفيات الأعيان
ابن خلكان
فوات الوفيات
ابن شاكر
أخبار الأول
الإسحاقي
الإفادة والاعتبار
عبد اللطيف البغدادي
النجوم الزاهرة
أبو المحاسن
مروج الذهب
المسعودي
عجائب الآثار
الجبرتي
بدائع الزهور
ابن إياس
خطط مصر
علي باشا مبارك
التبر المسبوك
السخاوي
تاريخ الدولة العثمانية
إبراهيم الطبيب
مصر للمصريين
سليم خليل النقاش
تاريخ السودان
نعوم بك شقير
هيرودوتس
ترجمة بسترس
الأمة القبطية
يعقوب نخلة
الخريدة النفيسة
أحد الرهبان
الكتب الإفرنجية.
تاريخ الحروب الصليبية
مونروند
فرنساوي
تاريخ مصر الحديث
مارسل
فرنساوي
تاريخ الحملة الفرنسية
أميديه ريم
فرنساوي
تاريخ محمد علي
ب وه
فرنساوي
الأنبياء الثلاثة (عرابي وغردون والمهدي)
مونرو
فرنساوي
المشرق ومصر
دافاسيه دي بونته
فرنساوي
نظرة في مصر
كلوت بك
فرنساوي
تاريخ الدوائر الصحية المصرية
نتروتسوس بك
فرنساوي
الآثار المصرية
مري
إنكليزي
تاريخ مصر القديم
شارب
إنكليزي
السيف والنار في السودان
سلاطين باشا
إنكليزي
الحوادث المصرية الأخيرة
شارلس رويل
إنكليزي
تاريخ المماليك إلى وفاة محمد علي
باتون
إنكليزي
المملكة العثمانية
جمعية الرسائل الدينية
إنكليزي
الإنسيكلوبيديا البريطانية وغيرها من القواميس الشهيرة
الفصل الثاني
جغرافية مصر الحديثة
(1) حدود مصر وأقسامها
كانت المملكة المصرية قبل انسلاخ الأقطار السودانية عنها تمتد شمالا إلى البحر المتوسط، وجنوبا إلى قرب خط الاستواء حيث الجبال الزرق وبحيرة البرت نيانزا، وشرقا تبتدئ من العريش على ساحل البحر المتوسط، وتسير جنوبا فتضم شبه جزيرة سينا وخليج العقبة حتى تلتقي بالبحر الأحمر مقابل رأس بنار على ساحل البحر الأحمر الغربي، ومن هناك تمتد إلى مصوع فخليج عدن حتى بربرا، أما في تلك الأنحاء الجنوبية فسلطة الخديوي لم تكن تتجاوز الشطوط، فضلا عن أن الحبشة وقبائل أخرى هناك كانت مستقلة، وغربا من رأس الكنائس عند البحر المتوسط مخترقة صحراء ليبيا حتى دارفور، ثم تنعطف شرقا إلى الجبال الزرق.
أما بعد الحوادث السودانية الأخيرة فانحصرت المملكة المصرية في القطر المصري، ويحده شمالا البحر المتوسط، وجنوبا الشلال الثاني (وادي حلفا) وشرقا قنال السويس فالبحر الأحمر، وغربا رأس الكنائس وصحراء ليبيا.
وينقسم القطر المصري الآن إلى قسمين عظيمين؛ هما الوجه القبلي والوجه البحري، أو مصر العليا ومصر السفلى، تفصل بينهما القاهرة، وكل من هذين القسمين يقسم إلى أقاليم ومديريات في كل منها مدينة كبيرة تقيم فيها حكومة تلك المديرية، وعلى كل من هذه المديريات حاكم يدعى مديرا، وهاك أسماء المديريات وقواعدها وعدد سكانها حسب إحصاء سنة 1907. (2) المديريات وقواعدها
أولا: الوجه البحري.
اسم المديرية
اسم قاعدتها
عدد سكان المديرية
القليوبية
قليوب
434575
المنوفية
شبين الكوم
971016
الغربية
طنطا
1484814
البحيرة
دمنهور
830015
الشرقية
الزقازيق
886346
الدقهلية
المنصورة
912428
ثانيا: الوجه القبلي.
اسم المديرية
اسم قاعدتها
عدد سكان المديرية
الجيزة
الجيزة
460080
بني سويف
بني سويف
376312
الفيوم
الفيوم
441583
المنيا
المنيا
663144
أسيوط
أسيوط
907435
جرجا
سوهاج
797940
قنا
قنا
780849
أسوان
أسوان
234602
ويشتمل القطر المصري عدا عن المديريات المذكورة على مراكز مستقلة بأحكامها يسمونها محافظات ، وهي مع عدد سكانها.
اسم المحافظة
عدد سكانها
القاهرة
654476
الإسكندرية
332246
بورسعيد
49884
الإسماعيلية
11448
العريش
18637
السويس
18347
سينا
25082 (3) السودان المصري
أما السودان المصري فقد قسم بعد استقلاله عن مصر إلى مديريات لكل منها مركز، وهذه أسماؤها مع أسماء بنادرها:
المديرية
البندر
الخرطوم
الخرطوم
بربر
الدامر
دنقلة
مروى
وادي حلفا
حلفا
البحر الأحمر
بورسودان
النيل الأبيض
الدويم
النيل الأزرق
واد مدني
سنار
سنجا
كسلا
كسلا
أعالي النيل
كودوك
بحر الغزال
واو
كردفان
الأبي
منجلا
منجلا (4) سكان مصر
بلغ عدد سكان مصر على تقويم سنة 1882 نحو 6809747 نفسا منهم 90888 من الأجانب، وبلغ حسب إحصائها سنة 1907 نحو 11300000 من النفوس الوطنيون منهم 11150000 والأجانب 150 ألفا، وهم على الأكثر يونانيون وإيطاليون وإنكليز وفرنساويون وأتراك، أما العربان المقيمون بالقطر المصري فمعدودون في الوطنيين، ويبلغ عددهم 600000 وغالبهم بدو يقطنون الخيش بالقرب من المزارع، والرحالة منهم يبلغ عددهم سدس مجموعهم.
ويظهر أن عدد سكان مصر في عهد المماليك القدماء لم يتجاوز هذا العدد، قال هيرودوتس المؤرخ: إنه كان في مصر على عهد الملك أماسيس 20000 مدينة، وقال ديودوروس: إن عدد السكان بلغ سبعة ملايين ويوسيفوس يقول سبعة ونصف. أما في الدولة الإسلامية فبلغ عددهم نحو 20000000 نفس، ثم انحط في عهد المماليك إلى ثلاثة ملايين، وأخذ في الزيادة من عهد المغفور له محمد علي باشا ولا يزال يتزايد إلى اليوم. (5) مزروعات مصر
تقسم مزروعات القطر المصري إلى المزروعات السنوية والأشجار، وقد حسب عدد هذه المزروعات على وجه العموم فبلغ نحو 1300 نوع.
فمن المزروعات السنوية: القمح والشعير والذرة والدخان والأرز وقصب السكر والفول والعدس والحمص والترمس والبشلة والباميا واللوبيا واللبلاب والبصل والكرات والثوم والخبيزة والخس والكرمب والباذنجان والرشاد والفجل والخيار والقثاء وعبد اللاوي والعجور والشمام والبطيخ والجزر واللفت والبرسيم والحلبة والقطن والكتان والقنب والقطرم والسمسم والنيلة والحناء والفوة والأفيون والخردل والكزبرة والبقدونس وغيرها.
ومن الأشجار: النخل والبرتقال والمندرين (يوسف أفندي) والليمون والتين والجميز والموز والمشمش والخوخ والرمان والتوت والعنب والزيتون واللوز والسنط والطرفة والخرنوب والنبق والدوم واللبخ وغيرها.
ومعظم هذه الأشجار كان معروفا لدى المصريين القدماء إلا أن بعضها قد دخل إلى البلاد حديثا منها اللبخ، وهو مزروع على معظم الشوارع العمومية في المدن الكبيرة للانتفاع بظله. (6) حيوانات مصر
تقسم إلى الحيوانات الداجنة، والحيوانات البرية.
فالداجنة منهاالجمل والفرس والحمار والبغل والجاموس والبقر والضأن والماعز والخنزير والكلب والهر والدجاج والديك الهندي والوز والحمام، ومن الغريب أن الجمل والجاموس والضأن والدجاج لم تكن معروفة لدى المصريين القدماء.
والحيوانات البرية منها الخنزير البري والضبع والغزال وبقر الوحش وكبش الجبل وأبو الحسين والذئب والثعلب والقط البري والنمس والأرنب والوطواط والتمساح، وحيوانات أخرى من الطيور والزحافات والأسماك لا حاجة بنا إلى ذكرها.
الفصل الثالث
الدور الإسلامي
دولة الخلفاء الراشدين (1) خلافة عمر بن الخطاب (من سنة 13-23ه أو 634-644م) (1-1) مبدأ الدولة الإسلامية
وفي خلال تلك الانقسامات الدينية في مصر كانت نشأة حضرة صاحب الشريعة الإسلامية محمد الهادي بن عبد الله القرشي، ولد في مكة المشرفة نحو سنة 569 لميلاد المسيح، وهاجر إلى المدينة في 16 يوليو (تموز) سنة 622، ومن هذا اليوم يبتدئ التاريخ الإسلامي، وهو تاريخ الهجرة النبوية المعول عليه الآن، وفي آخر السنة السادسة للهجرة كتب إلى الإمبراطور هرقل ملك القسطنطينية كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وكتب مثل ذلك إلى سائر ملوك العرب والعجم، وفي جملتها كتاب إلى المقوقس يوحنا بن قرقت حاكم مصر من قبل ملك الروم، فبعث إليه المقوقس أربع جوار منهن مارية أم إبراهيم ابنه، فكان ذلك أول الصلات بين دولة العرب ومصر.
ثم كانت الغزوات والفتوح المشهورة حتى السنة الحادية عشرة، فتوفي صاحب الشريعة، وبويع الخليفة أبو بكر الصديق، فعمل على استمرار الفتوح حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب سنة 13ه أو 634م.
فما لبث الإسلام أن ظهر في شبه جزيرة العرب حتى انتشر بسرعة غريبة إلى العراق وفارس والشام وفلسطين وغيرها، جهادا في سبيل الدين في مدة لا تتجاوز ثماني عشرة سنة.
فلما رأى الإمبراطور هرقل ما كان من افتتاح العرب لسوريا وغيرها من بلاده عنوة أوجس خيفة على باقيها ولا سيما مصر، إلا أنه لم يكن في حسبانه أن العرب يقدمون إلى مصر مفتتحين حالا على إثر فتوحهم الكثيرة، فعقد بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب معاهدة مآلها أن يدفع جزية سنوية معلومة لخزينة المسلمين قبالة إغضائهم عن فتح مصر. إلا أن هذه الجزية لم تكن تدفع في حينها وبالقدر المعين فاعتبر الخليفة تلك المعاهدة منقوضة.
شكل 3-1: النسخة الأصلية لكتاب النبي إلى المقوقس زعم بعض المستشرقين أنه وجدها في الصعيد (راجع الهلال سنة 13 صفحة 103 و160). (1-2) فتح مصر سنة 18ه أو 640م
وكان عمرو بن العاص لا يفتر عن ترغيب الخليفة عمر بن الخطاب في مصر وافتتاحها؛ لأنه كان قد جاءها قبل أن يعتنق الإسلام، ورأى فيها من العظمة والمجد ما جعله شديد الرغبة في افتتاحها، وكان يقول له: «إنك إن افتتحتها كانت قوة للمسلمين، وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا، وأعجز عن القتال والحرب.» وكان الإمام عمر يتخوف من ذلك، ولا سيما بعد أن عقد المعاهدة بينه وبين هرقل، لكنه بعد أن نقضت - على ما تقدم - رأى أن يجيب طلبه فأنفذ إليه أن يسير بأربعة آلاف رجل أشداء، وقال له: «سر إني مستخير الله في سيرك، وسيأتيك كتابي قريبا - إن شاء الله تعالى - فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره.» وكان ذلك بعد افتتاح بيت المقدس بأيام.
فسار عمرو بن العاص ومن معه قاصدا مصر، وهو يكاد لا يصدق أن أذن له بذلك. فلما بلغ رفح «وهي قرية تدعى الآن رفع تبعد نحو عشر ساعات عن العريش» حتى أدركه رسول من عمر، ودفع إليه كتابا فخاف أن يكون ذلك الكتاب مؤذنا بالانصراف عن مصر وهو لم يدخلها بعد، فأجل فتحه حتى يدخل أرضها، وكان إذ ذاك على مسافة يسيرة منها، فأمر بجد السير حتى أمسى المساء فسأل: أين نحن؟ فقيل له: في العريش، فعلم أنه دخل أرض مصر فأمر بالمبيت هناك، وعند الفجر نهض القوم للصلاة، وبعد إتمامها وقف عمرو وفي يده كتاب الخليفة ففضه بكل احترام وتلاه على الجمهور بصوت عال، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم من الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عليه سلام الله تعالى وبركاته. أما بعد، فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك وقد دخلتها أو شيئا من أرضها فامض واعلم أني ممدك.» فالتفت عمرو إلى من حوله قائلا: «أين نحن يا قوم؟» فقالوا: «في العريش.» فقال: «وهل هي من أرض مصر أم الشام؟» فأجابوا: «إنها من مصر.» فقال: «هلم بنا نعبر على خيرة الله تعالى.» وهكذا دخل عمرو بن العاص أرض مصر في أربعة آلاف رجل في السنة الثامنة عشرة للهجرة، وجعلوا يخترقونها جنوبا في قسمها الشرقي، وعددهم يزيد كل يوم ممن كان ينضم إليهم من القبائل البدوية التي كانوا يمرون بها في طريقهم.
فكان أول موضع قوتل فيه الفرما؛ قاتلت الروم قتالا شديدا نحوا من شهر، ثم فتح الله على المسلمين، وكان عبد الله بن سعد على ميمنة عمرو منذ توجه من قيسارية إلى أن فرغ من حربه. ثم تقدم عمرو وهو لا يقاتل إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس فقاتلوه فيها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، وكان في بلبيس أرمانوسة بنت المقوقس حاكم مصر من قبل الروم، فأحب عمرو ملاطفة المقوقس استجلابا لوده فسير إليه ابنته مكرمة في جميع ما لها، فسر أبوها بقدومها كثيرا.
ثم سار عمرو وما زال حتى مر بجانب الجبل المقطم فأشرف على حصن بابل أو بابليون القائم على ضفة النيل الشرقية مقابل الأهرام العظيمة، وكان حصنا منيعا رفيع العماد
1
إلى شرقيه جبل المقطم راسخ، وعلى وجهه تجعدات تدل على قديم عهده، وبين الجبل والحصن بقعة من الأرض لا شيء من العمارة فيها إلا بعض الأديرة والكنائس.
ثم نظر إلى الغرب فإذا بالنيل منحدر أمام ذلك الحصن فيزيده مناعة، وإلى ما وراء النيل أرض قد كستها الطبيعة من جمالها حلة خضراء بين أعشاب وأشجار خصبة، وهي جزيرة الروضة، وكانت تعرف بجزيرة مصر، والماء محيط بها مدار السنة، ويقطع النيل بين الحصن وهذه الجزيرة جسر من خشب، وكذلك فيما بينها والجيزة يمر عليهما الناس والدواب من البر الشرقي إلى الجزيرة، ومن هذه إلى البر الغربي، وكان هذان الجسران مؤلفين من مراكب بعضها بحذاء بعض، وموثقة بسلاسل من حديد، وفوق المراكب أخشاب ممتدة فوقها تراب، وكان عرض الجسر الواحد ثلاث قصبات.
شكل 3-2: حصن بابل كما كان لما حاصره العرب.
وتطلع عمرو إلى ما وراء الجزيرة؛ فإذا بالأهرام العظيمة راسخة كالجبال، وقد أثقلت كاهل الدهر فعجز عن هدمها. ثم رمى بنظره إلى جنوبي الأهرام فرأى ببقايا منف العظيمة ترهب القلوب؛ لما يتجلى فيها من العظمة والفخامة، ومن جملتها أهرامها المعروفة الآن بأهرام سقارة.
فأمر عمرو أن تنصب الخيم فيما بين الحصن والمقطم لجهة الشمال قرب مصر القديمة اليوم، ولم يكن هناك إلا بعض المزارع والغياض، وجعل يسرح نظره ويتأمل بما يهدده من الأخطار في مقاومة هذا الحصن. ثم نظر إلى وادي النيل فإذا هو يانع خصب يشتهيه النظر يخترقه النيل المبارك. على غربيه آثار منف والأهرام، وعلى شرقيه ذلك الحصن وفيه قد حشدت جنود الروم متأهبين للدفاع، ولم يكن قد رأى شيئا من ذلك فيما مر به من البلدان، فعظم عليه الأمر إلا أنه عاد إلى عزمه عندما تصور ما يلحق به من العار إذا عاد خائبا، وما يقع في يده من الخيرات إذا فاز بالنصر بعد الجهاد الحسن، وإذا لم يفز في جهاده هنا واستشهد ففي الآخرة ما هو أفضل مآبا.
وكان في الحصن المقوقس، وقد تقدم أنه حاكم من قبل دولة الروم على مصر العليا والسفلى ومعظم سكانها من القبط، وكانت عاصمة حكومته منف على الضفة الغربية، وأما هذا الحصن فقد اتخذه مركزا حربيا ليمنع العرب من المرور إلى عاصمته، وكان المقوقس من حزب الوطنيين، ويقال: إنه كان بينه وبين الرسول مكاتبة، وعلى كل فإنه لم يكن له أن يفعل ما يشاء.
فلما علم بقدوم جيوش المسلمين جهز جندا تحت قيادة أحد كبراء جيشه المدعو الأعيرج، وجاءوا بما لديهم من العدة والسلاح، وتحصنوا في ذلك الحصن.
أما عمرو فأخذ في المهاجمة مدة فأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى الخليفة يستمده؛ فأمده بأربعة آلاف رجل عليهم أربعة من كبار القواد، وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وقيل: إن الرابع خارجة بن حذافة دون مسلمة، وورد معهم خطاب أمير المؤمنين ونصه: «إني قد أنفذت إليك أربعة آلاف على كل ألف منهم رجل مقام ألف.»
فأنفذ عمرو أحد قواده - ولعله حذافة - بخمسمائة فارس إلى الجهة الثانية من الحصن من وراء الجبل، فساروا ليلا، وكان الروم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا وبذروا في أقنيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين أصبحوا فانهزم المصريون حتى دخلوا الحصن، فصارت العرب محيطة بالحصن من كل الجهات إلا النيل، وكان حول ذلك الحصن الخندق فلم يستطع العرب الهجوم عليه، واستمر رمي السهام صباحا ومساء، ثم تشاور عمرو والزبير بشأن ذلك فأقرا على تشديد الحصار، ففرقا الرجال حول الخندق، وألح عمرو على الحصن بالمنجنيق، ثم خابر القوم بشأن التسليم فلم يفعلوا، وكان المقوقس يريد التسليم تخلصا من نير الروم لما بينه وبينهم من الضغائن الدينية وإن لم يتجرأ على التصريح ببغيته؛ لأن رجاله لم يكونوا كلهم من حزبه ولا سيما الأعيرج، ولما رأى من إقدام العرب وصبرهم على القتال ورغبتهم فيه خاف أن يظهروا على رجاله فتكون الخسارة مزدوجة؛ فعمد برجاله إلى باب الحصن الغربي على ضفة النيل، وعبر بهم على الجسر إلى الجزيرة، ثم تبعه الأعيرج، ولم يترك في الحصن إلا نفرا قليلا من رجاله، والعرب غير عالمين.
ولما أبطأ الفتح قال الزبير: «إني أهب الله نفسي، وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين.» فعبر الخندق، ثم وضع سلما إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام، وأخبر عمرا أنهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا، فما شعر إلا والزبير على رأس الحصن يكبر والسيف في يده، فتحامل الناس على السلم حتى كادوا يكسرونه لكثرتهم فنهاهم، ثم كبر وكبر الناس معه، وأجابهم من كان خارجا، فظن من كان باقيا في الحصن من الروم أن العرب جميعهم هاجمون فهربوا، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحموا الحصن وتملكوه، ثم عمدوا إلى الجسر فتعقبوا القبط إلى الجزيرة، وأما هؤلاء فساروا إلى منف عاصمة ولايتهم، وبعد أن عبروا النيل رفعوا الجسر عنه فتوقف العرب عن تعقبهم؛ إذ لم يكونوا يستطيعون عبور النيل، فأصبحوا محاطين بالماء من كل الجهات. (أ) المخابرة بشأن الصلح
فلما رأى المقوقس ذلك أنفذ إلى عمرو كتابا نصه: «إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا يقدر عليها، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء.»
فلما أتى رسل المقوقس إلى عمرو حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس، وإنما أراد بذلك عمرو أن يروا حال المسلمين.
وعند ذلك رد عمرو الرسل وكتب إلى المقوقس: «إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال؛ إما إن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما إن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.»
فلما جاءت رسل المقوقس إليه قال: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة؛ إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، لا يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم.»
فأقسم المقوقس قائلا: «لو أن هؤلاء التقوا الجبال لأزالوها، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لن يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من مواضعهم.» وما زال على رجال حكومته حتى وافقوه على طلب الصلح، فكتب إلى عمرو: «ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى، وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.» (ب) الوفد إلى المقوقس
فبعث عمرو عشرة نفر؛ أحدهم عبادة بن الصامت، وكان رابط الجأش، هائل المنظر، أسود اللون، طوله عشرة أشبار، وجعله متكلم القوم، وأمره أن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إلا إحدى هذه الثلاث خصال قائلا: «إن أمير المؤمنين قد تقدم إلي في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث» فركبوا السفن حتى أتوا المقوقس، ودخلوا عليه، فتقدم عبادة في صدر أصحابه فهابه المقوقس لسواده وعظم جثته، وقال: «نحوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني.» فأجابوا: «إن هذا أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمرنا الأمير أن لا نخالف له أمرا.» فقال المقوقس: «وكيف رضيتم أن يكون هذا مقدما عليكم وهو أسود، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟!» فقالوا: «كلا وإن كان أسود فهو أفضلنا.»
فقال المقوقس لعبادة: «تقدم يا أسود، وكلمني برفق فإني أهاب سوادك.»
فتقدم، وقال: «قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود، كلهم أشد سوادا مني، وأفظع منظرا، وجميعهم أشد هيبة مني، وأنا قد وليت، وأدبر شبابي، وإني مع ذلك - بحمد الله - ما أهاب مائة رجل، وذلك إنما هو لرغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله، واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا، ولا طلب الاستكثار منها إلا أن الله - عز وجل - قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا منه حلالا، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار ذهب أو كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها ليسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في سبيل الله واقتصر على هذا الذي في يده، ويبلغه ما كان في الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس نعيما، ورخاءها ليس رخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك به جوعه، ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.»
فلما سمع المقوقس منه هذا الكلام قال لمن حوله بلسانهم: «هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب. إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها.» ثم أقبل على عبادة، وقال له: «أيها الرجل الصالح قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدة ما يبالي أحدهم بمن لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.» (ج) خطاب عبادة بن الصامت
فقال عبادة: «يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك ... أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا الذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا فلذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله - عزو جل - قال في كتابه:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وما منا رجل إلا ويدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا.
وأما قولك: إننا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذي تريده فبينه، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل. بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله من قبل إلينا.
أما إن أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم، ولا التعرض لكم.
وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإن نعاملكم على شيء نرضى نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم، وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا.
وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره فانظروا لأنفسكم.»
فأعظم المقوقس ذلك، وقال: «هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.»
فقال عبادة: «هو ذاك فاختر لنفسك ما شئت.»
فقال: «أفلا تجيبونا إلى غير هذه الثلاث الخصال.»
فرفع عبادة يديه إلى السماء، وقال: «لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم.»
فالتفت إذ ذاك المقوقس إلى أرباب مجلسه، فقال: قد فرغ القوم، فما تريدون؟ فقالوا: «أيرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا لا يكون ابدا أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل في دين غيره لا نعرفه، وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك، فلو رضوا أن نضاعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.»
فقال المقوقس لعبادة: «قد أبى القوم، فما ترى؟ فراجع أصحابك على أن نعطيكم في مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون.»
فقال عبادة وأصحابه: «لا.» فقال المقوقس لأصحابه: «أطعيوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث فوالله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم نجبهم إليها طائعين لنجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.»
فقالوا: «وأي خصلة نجيبهم إليها» قال: «إما دخولكم في غير دينكم فلا يسلم أحدكم به، وإما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة» قالوا: «فنكون لهم عبيدا أبدا؟» قال: «نعم تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، فأطيعوني قبل أن تندموا.» فرضوا بالجزية على صلح يكون بينهم يعرفونه.
فقال المقوقس لعبادة: «أعلم أميرك أني لا أزال حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسل إلي بها فليعطني أن أجتمع به أنا في نفر من أصحابي، وهو في نفر من أصحابه؛ فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.»
فرجع عبادة إلى عمرو وأخبره بما كان، فاستشار أصحابه، فقالوا: «لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير الأرض كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا الحصن وما فيه.» فقال عمرو: «قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم» فوافقوه. (د) عهد الأمان للمصريين
فاجتمع عمرو والمقوقس، واتفقا على الصلح بأن يعطي الأمان للمصريين وهم يدفعون الجزية، وهاك نص الشروط:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافتهم وصاعهم ومدهم وعددهم، لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليه ممن جنى نصرتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزية بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا، وعليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا فرسا، على أن لا يغزوا، ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر، هذا نص الكتاب.
ولما تم الصلح على هذه الصورة كتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كله، فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه، ويعجزه، ويرد عليه ما فعل، ويقول في كتابه: «إن ما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال، وأحبواء أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندكم بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف فارس معهم العدة والقوة، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط أذلاء، فقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظهر عليهم، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة. ناهضهم القتال، ولا يكن لكم رأي غير ذلك.» وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.
فأقبل المقوقس على عمرو فقال له: «إن الملك قد كره ما فعلت، وعجزني، وكتب إلي وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاهدتك عليه، وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط مما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأنا متم لك على نفسي، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقبتهم، وأما الروم فإنا منهم براء، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال؛ الأولى: ألا تنقض بالقبط وأدخلني معهم وألزمني ما لزمهم، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم متمون لك على ما تحب، وأما الثانية: فإن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا فإنهم أهل لذلك؛ لأني نصحتهم فاستغشوني، ونظرت إليهم فاتهموني، وأما الثالثة: فإني أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم يدفنوني بجسر الإسكندرية.» فأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق في طريقهم إلى الإسكندرية، ففعلوا وصارت القبط لهم أعوانا. (ه) وصف مصر
فأنفذ عند ذلك عمرو إلى الخليفة رسولا بكتاب يخبره بما تم بينه وبين المقوقس فأجابه منشطا، وسأله أن يصف له مصر فكتب إليه:
ورد إلي كتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - ويسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء ، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها النيل المبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان لمجاري الشمس والقمر. له أوان يدر حلابه، ويكثر عجاجه، وتعظم أمواجه فتفيض على الجانبين، فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن المخايل ورق الأصايل. فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطمى في درته. فعند ذلك تخرج ملة محقورة، وذمة مخفورة؛ يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب؛ يرجون بذلك النماء من الرب لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم. فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحت الثرى؛ فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة زرقاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد، وينيرها، ويقر قاطنها فيها أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وأن لا يستأدي خراج الثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وتراعها. فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل. (و) فتح الإسكندرية سنة 20ه
ولما تم التعاقد بين المسلمين والقبط على ما تقدم هاجر جميع من كان بين هؤلاء من الروم إلى الإسكندرية. أما عمرو فأقام في الحصن حامية، وقام برجاله نحو الإسكندرية على نية الفتح، وسار معه جماعة من رؤساء القبط يصلحون له الطريق، ويقيمون الجسور والأسواق، وكانت خيام العرب مضروبة بين النيل والجبل على ما تقدم، فأمر عمرو بتقويضها والاستعداد للمسير، فإذا بيمامة قد باضت في أعلاه، فقال: «لقد تحرمت بجوارنا أقروا الفسطاط حتى يطير فرخها» فأقروا الفسطاط في موضعه، وأوصى به صاحب القصر.
شكل 3-3: فسطاط عمرو بن العاص وقد عشش اليمام في أعلاه.
ولا يخفى ما كان لهذه الحادثة من التأثير الحسن في قلب من سمعها من الوطنيين فتركوها وساروا في سبيلهم قاصدين الإسكندرية، متخذين ضفة فرع النيل الغربي خطة مسيرهم، فلاقاهم في الطريق بعض من هاجر من منف من الروم، فقاتلوهم يسيرا، وكان من هؤلاء فئة تحصنت في كوم شريك، وأخرى في مريوط، فتغلب عليهما عمرو واحتلهما. أما القبط فكانوا أعوانا للمسلمين في كثير من احتياجاتهم حسب أمر المقوقس، فلما بلغ ذلك جماعة الروم في الإسكندرية اشتد غيظهم، فأصروا على الحرب، وأخذوا يعدون مهمات الدفاع.
أما عمرو فما زال يتقدم بجيشه إلى الإسكندرية، وكانت هي قاعدة القطر المصري إلى ذلك العهد، وفيها من عظمة الروم ورهبتهم ما يرهب الأبطال، وحاصرها برا، أما بحرا فكانت الطريق مفتوحة بينها وبين القسطنطينية؛ يأتيها منها ما تحتاج إليه من المؤن والزخائر، فطال الحصار رغم الوسائل التي اتخذها العرب، فضجر عمرو فجمع إليه رجاله وخطب فيهم؛ فهاجموا الأسوار، وهو في مقدمتهم فخرقوها، ودخل عمرو واثنان من قواده هما مسلمة بن مخلد ووردان، إلا أنهم لم يكادوا يطأونها حتى أقفلت الأسوار وراءهم، وألقي القبض عليهم، وأحضروا أمام البطريق (الحاكم) فخاطبهم قائلا: «هو ذا أنتم أسرى في أيدينا، فأخبرونا ما الذي جاء بكم إلينا، وما الذي حملكم على قتالنا ؟» فأجابه عمرو بقلب لا يهاب الموت: «قد أتيناكم ندعوكم إلى الإسلام، فيكون لكم ما لنا، أو أن تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإلا فإننا نقاتلكم إلى أن نفيء لأمر الله.» فبهت الحاكم، وداخله الريب، فقال لمن في مجلسه من الروم باللغة اليونانية: «يظهر أن هذا الرجل من وجوه العرب، ولعله أمير القوم، فينبغي أن نضرب عنقه.» وكان وردان عارفا باللغة اليونانية، ففهم ما قاله البطريق، ولكي يطلع عمرا على ذلك لكمه مستهزئا، وناداه منتهرا «ما لك ولهذا القول، وأنت أدنى من في الجماعة وأقل، فاترك غيرك يتكلم.»
فاختلف ظن البطريق، وقال: «لو كان هذا أمير القوم ما كان يفعل به هكذا.» فقال مسلمة: «إن أميرنا كان عازما على الانصراف عنكم، وأراد أن يسير من أكابر القوم من يتفق معكم على شيء تتراضون عليه، فإن أطلقتمونا مضينا وعرفناه ما صنعتم بنا من الجميل، ويتفق الأمر بينكم وننصرف عنكم.»
فتوهم البطريق أن الأمر كذلك فأطلقهم، فلما خرجوا قال مسلمة لعمرو: «قد خلصتك لكمة وردان» فوصلوا إلى المعسكر وهم على نية تشديد الحصار إلى أن يقضي الله بما يشاء.
وكان الإمام عمر قد استبطأ فتح الإسكندرية. فكتب إلى عمرو: «أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر. إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، فإن الله - تبارك وتعالى - لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا قد غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب في الناس، وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تنزل الرحمة، ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم.» فجمع عمرو رجاله، وتلا عليهم كتاب أمير المؤمنين، فأثر فيهم تأثيرا عظيما، وعزموا على القيام به.
وفي خلال ذلك توفي هرقل ملك القسطنطينية، وعقب موته حدثت انقسامات داخلية، وحروب أهلية، سفكت فيها الدماء بسبب ادعاء الملك من هم من غير الأسرة الملوكية، وانتهى الأمر بأن أفضى الملك لولده هرقل الثاني أو قسطنطين الثالث، وهذا لم يمض عليه مائة يوم من جلوسه حتى قضى مسموما بيد مارتين امرأة أبيه، ثم بمساعي بطريرك القسطنطينية عقد على الملك بعده لهرقلينة ابنة مارتين المذكورة، وبعد بضعة أشهر نصب قسطان بن هرقل الثاني. فيقال إجمالا: إنه كان على القسطنطينية ثلاثة ملوك في وقت واحد؛ فازداد الانشقاق، وتعاظم الخصام، فضعفت همم الإسكندريين، وتضاعف يأسهم، فهاجر بعضهم بحرا، ولبث البعض الآخر في المدينة يريدون دفاعا لم يقووا عليه، فدخلها عمرو يوم الجمعة غرة شهر محرم سنة 20 للهجرة (أو 22 ديسمبر سنة 640 للميلاد) وأقام فيها احتفالا عظيما؛ تذكارا لما أوتيه من الفتح المبين، ثم كتب إلى أمير المؤمنين كتابا ونصه:
إلى الخليفة عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص، عليك سلام الله تعالى وبركاته، أما بعد، فقد فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملعب للملوك، واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.
وبعد أن استلم عمرو زمام الأحكام أخذ في استجلاب قلوب الأهلين؛ فجعل يقرب منه سراة القوم ووجوههم، ويحكم في الناس بالقسط، ويجيب التماسهم في كل ما كانوا يسألونه منه حتى أجمع الكل على الميل إليه، والإذعان لأمره. (ز) مكتبة الإسكندرية
وذكر ابن القفطي وأبو الفرج الملطي وغيرهما أن عمرا لما فتح الإسكندرية كان في جملة علمائها رجل اسمه يحيى الغراماطيقي، فدخل على عمرو، وقد عرف موضعه من العلوم، فأكرمه عمرو، وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ما هاله ففتن به، وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه. ثم قال له يحيى يوما: «إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية، وختمت على كل الأصناف الموجودة بها، فما لك به انتفاع فلا نعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به.»
فقال له عمرو: «ما الذي تحتاج إليه؟» قال «كتب الحكمة التي في الخزائن الملوكية.» فقال له عمرو: «هذا ما لا يمكنني أن آمر فيه إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.» فكتب إلى عمر وعرفه قول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: «وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها» فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها فاستنفدت في مدة ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب. ا.ه.
على أن بعض الكتبة ينزهون الإمام عمر بن الخطاب عن تلك الفعلة، وكنا قد جاريناهم في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ثم تبين لنا بالبحث ترجيح صحتها، وقد فصلنا الأدلة على ذلك في الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي، ولا نزال عليه حتى يتبين لنا ما ينقضه، ونحن موالون البحث في هذا الشأن؛ إذ لا غرض لنا غير تقرير الحقيقة. (ح) بناء الفسطاط
ثم كتب عمر إلى الخليفة يستفتيه في السكنى بالإسكندرية، فسأل الخليفة الرسول: «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين، إذا جرى النيل.» فكتب إلى عمرو: «إني لا أحب أن تنزل المسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفا، فمتى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم إليكم قدمت.» وتلك كانت قاعدة عمر في جمع المسلمين في بقعة لا يحول بينهم وبينه ماء. كذلك فعل ببناء البصرة والكوفة. فاستخلف عمرو في الإسكندرية حامية، وأمر فشدت الرحال إلى حصن بابل، فلما بلغوا المكان حيث خيمة الأمير رأوها لا تزال منصوبة، وفيها اليمام، فنزلوا فيها، وجعلوا تلك الخيمة مركزا لمعسكرهم. ثم انضمت القبائل بعضها إلى بعض، وأخذوا في بناء البيوت لسكنى الجيوش، فاختط عمرو مدينة شمالي الحصن دعاها الفسطاط باسم الخيمة، فيها نحو عشرين حارة دعاها خططا، وأقام أربعة من كبار رجاله ينزلون الناس في الخطط المذكورة بحسب أحزابهم وقبائلهم. (ط) حصن بابل أو دير النصارى
وفي مكان حصن بابل اليوم كنائس قبطية قديمة العهد، يدعون مجملها قصر الشمع، أو دير النصارى، أو دير ماري جرجس. فإذا تجاوزت جامع عمرو مسافة بضع دقائق ومصر العتيقة إلى يمينك؛ رأيت إلى يسارك بناء كبيرا يظهر أنه مؤلف من عدة أبنية عليها ملامح الشيخوخة، وكأنها محاطة بسور كبير من القرميد الأحمر، عند أسفله باب قديم مفصح بالحديد الغليظ يتصل إليه بانحدار لا يقل عن ثلاثة أذرع، هو أحد أبواب الحصن، وتدخل من هذا الباب في زقاق ضيق تتصل منه إلى أزقة كثيرة كلها ضيق من النمط القديم تستطرق إلى عدة كنائس قبطية منها كنيسة السيدة العذراء، وكنيسة أبي سرجة، وكنيسة ماري جرجس، وكنيسة القديسة بربارة، وكنيس لليهود (كان في الأصل كنيسة على اسم القديس ميخائيل) وغير ذلك، وقد زرت جميع الكنائس؛ فرأيت أنها مع تقادم عهدها في البناء قد جدد فيها قسم عظيم، وجميعها داخلة في بناء الحصن.
ومما يستحق الانتباه أني شاهدت تحت كنيسة أبي سرجة مغارة ينزل إليها بعدة درجات، يقولون: إنها كانت مقاما للسيدة مريم العذراء عند قدومها إلى مصر، ويلوح لي أنها كنيسة من الكنائس التي كان يصلي فيها المسيحيون في أيام الاضطهاد الشديد؛ لأنها تظهر للمتأمل مبنية على مثال الكنائس الحاضرة، ففي صحنها إلى كل من الجانبين عدة أعمدة بينها نقر في جدار المغارة أشبه بالمذابح، وفي المغارة جرن للعمادة.
أما الحصن فإذا تأملت جدرانه الباقية من الخارج رأيتها على نمط البناء الروماني، وترى أحدها - وهو الجنوبي - لا يزال عبارة عن برجين كبيرين في أحدهما كنيسة العذراء المعروفة بالمعلقة، سميت كذلك لارتفاعها، وقد جدد بناؤها منذ بضع سنين، وبين البرجين باب مسدود، وقد طمرت الأتربة جزءه السفلي، ويشاهد في جدران أخرى آثار مثل هذين البرجين، وتشير هذه الأبراج إلى ما كان عليه هذا الحصن من المناعة (انظر شكل
3-2 ) فلا غرو إذا امتنع على العرب سبعة أشهر .
أما محلة نابليون التي قد أقيم فيها هذا الحصن فلا يمكن معرفة حدودها الآن، ولكن يشاهد إلى جنوبي الحصن ببضع مئات من الأمتار دير يقال له: دير بابليون يدخل إليه من باب ضيق مصفح بالحديد، وفيه إلى الآن كنيسة السيدة مريم يجتمع إليها بعض المسيحيين للصلاة، وبناء هذا الدير أشبه ببناء الحصون منه بالأديرة، وهو قائم في منخفض بين تلين يقال لهما تل غراب، ولم يبق الآن غير هذا الدير حاملا لاسم تلك المحلة.
أما الفسطاط: فقد خربت، ولم يبق منها إلى آكام من الأتربة فيما بين القاهرة ومصر العتيقة، يحدها شمالا أطراف القاهرة، وجنوبا السبع السواقي ومصر القديمة، وشرقا آكام من الأتربة متصلة بالقرافة، وغربا مدافن النصارى.
وجعل عمرو الفسطاط عاصمة الديار المصرية، ومركز الإمارة، وجعل على الوجه القبلي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وتولى بنفسه صلات مصر وخراجها، فكان يجبي منها 12 مليونا من الدنانير سنويا.
وكان في جملة القبائل التي شهدت فتح مصر وجاءت لاحتلالها قبيلة همذان، فهذه أحبت النزول في الجيزة مع من والاها من المسلمين، فاستأذنوا عمرو بن العاص، فقال: مهلا ريثما أستشير أمير المؤمنين، فكتب إليه يعلمه بما فتح الله عليهم، وبما أرادت همذان، فأجابه يحمد الله على ما كان من ذلك، ويقول له: «كيف رضيت أن تفرق أصحابك بأن يحول بينك وبينهم بحر، ولا تدري ما يفجؤهم، فلعلك لا تقدر على غياثهم حين ينزل بهم ما تكره، فاجمعهم إليك، فإن أبوا عليك، وأعجبهم موضعهم بالجيزة، وأحبوا ما هنالك فابن عليهم من فيء المسلمين حصنا.» فعرض عليهم عمرو ذلك فأبوا وأعجبهم موضعهم، فبنى لهم حصنا يقيهم إذا فاجأهم أمر.
ثم سار عبد الله بن سعد إلى الوجه القبلي لتدويخ البلاد فلم يلق معارضا، وما زال حتى أتى بلاد النوبة ففتحها كلها. (ي) إصلاح البلاد وتنظيمها
وأخذ عمرو من ذلك الحين في تنظيم البلاد؛ فقسم القطر المصري إلى كور أو أعمال، يرأس كلا منها حاكم قبطي تأتيه القضايا فينظر فيها، ويصدر أحكامه إلى من هم تحت حكمه رأسا، فحصل الأهلون على راحة لم يكونوا رأوها منذ أزمان، وساد الأمن في بلادهم.
فأمر عمرو بترميم مقاييس النيل التي كانت قد تعطلت؛ منها مقياس أسوان، ومقياس أرمنت، ومقياس منف ... وغيرها، وكان من عادة المصريين قبل الفتح الإسلامي أنه إذا مضى 12 يوما من شهر بئونة يعمدون إلى جارية بكر من أبويها فيرضونهما، ويجعلون عليها من الحلي أفضلها، ثم يلقونها في النيل ضحية له، فأبطل عمرو هذه العادة، وعوض عن الجارية بتمثال من طين.
وقد ذكر بعض المؤرخين هذه الحقيقة في سياق حكاية لا بأس من ذكرها، وهي أنه اتفق للنيل في السنة التالية للفتح أنه لم يرتفع الارتفاع اللازم للري، ولما دخل شهر بئونة القبطي، قال له أهل البلاد: «أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها.» فقال لهم: وما ذلك؟ فقالوا: «إذا كان اثنتا عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل.» فقال لهم عمرو: «إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله.» فمضى بئونة وأبيب ومسرى، وهو لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى أمير المؤمنين عما كان فأجابه: «إنك قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.»
فلما قدم الكتاب إلى عمرو فتح البطاقة، فإذا فيها: «من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري بأمرك فلا تجر، وإذا كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك بأمره فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.» فألقى عمرو البطاقة في النيل، وقيل: إن ذلك كان قبل عيد الصليب بيوم، وقد هم أهل مصر بالخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى 16 ذراعا، فلما رأى المصريون ذلك تعجبوا، ووقع في قلوبهم الرعب، وزاد احترامهم للخليفة وأوامره، وأبطلوا تلك العادة القبيحة، واستبقوا رمزا عنها تمثالا من طين يصنعونه كل سنة عند فتح الخليج يسمونه العروسة، فيلقونه في الخليج، وما زال ذلك جاريا إلى عهد غير بعيد أثرا لما كان يرتكبه المصريون القدماء من العسف كل سنة في شأن الفيضان.
شكل 3-4: ضحية النيل.
ثم أخذ عمرو في تنظيم القضاء، وكانت أمورها إلى ذلك العهد منوطة بنواب ماليين أو جهاديين من قبل حكومة الروم يستبدون بالرعية كيف شاءوا وليس من ينصف، فأوجد لهم عمرو المحاكم النظامية، وقسمها إلى مجالس دائمة وزمنية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة ومقام رفيع عند الأهلين، ولا بد لنا من ذكر فضل هذا الفاتح بأنه أول من أوجد هذه المحاكم بمصر تحت اسم دواوين. أما أعضاؤها فينتخبون من الأهالي، والأحكام تجري بمقتضى عدل القضاة، وتستأنف عند الاقتضاء لنقضها أو إبرامها، ولم تكن أحكام القضاة المسلمين تجري إلا على المسلمين باعتبار كونهم من جيش الاحتلال ، والقضايا التي فيها أحد الخصمين قبطي كان لنواب القبط حق الدخول فيها، والعمل بمقتضى قوانينهم الدينية والأهلية.
أما أعطيات الجيش فكانت تصرف مما يجبى من أموال الخراج، وتوزع في الديوان على الأمراء والعمال والأجناد على قدر مراتبهم، وبحسب مقاديرهم، ويحمل ما يفضل إلى بيت المال، وكان يقال لذلك في صدر الإسلام: العطاء، وما زال ذلك جاريا في الدول الإسلامية إلى آخر الدولة الفاطمية، ثم صارت منذ أيام صلاح الدين تعطى إقطاعات تفرق على السلطان، وأمرائه، وأجناده.
وما فتئ عمرو يتخذ الوسائل الممكنة لاكتساب ثقة المصريين، ولم يدع فرصة تفوته في اكتسابها. قيل: إن البطريرك بنيامين كان من الطائفة اليعقوبية، وقد اضطهده هرقل ملك الروم اضطهادا عظيما لمحافظته على خطته الدينية، وهو لا يبالي بما كان يهدده من المخاوف والأخطار، فشدد هرقل عليه النكير، ومنعه من السلطة الدينية، وهدده بالقتل، ففر يطلب ملجأ في بعض الأديرة، فأقام هرقل مقامه في زمن الحصار رجلا كان بيد المجلس آلة يديرونها كيف شاءوا، وكانت مصر حينئذ منقسمة - كما تقدم - إلى قسمين دينيين ملكيين ويعقوبيين، وكان على رئاسة الطائفة الأولى - وهي الأصغر - هذا البطريرك الجديد، وعلى الطائفة الثانية بطريرك وأساقفة أقامهم هرقل باختياره، غير أن الشعب كان يعاملهم بالاحتقار، ولم يكن يعتبر الرئاسة الحقيقية إلا لبنيامين المختار قديما منهم.
فعندما بادت سلطة الروم، ورأى القبط من الإسلام ميلا ورفقا عرضوا أمرهم إلى عمرو يلتمسون استرجاع بطريركهم القديم، فاستدعاه عمرو وطيب خاطره، وأقامه في منصبه، وخلع الذين كانوا بمكانه؛ فحسب القبط هذا الأمر منة وفضلا، وازدادوا ثقة وميلا للمسلمين، ولا سيما لما رأواهم يفتحون لهم الصدور، ويبيحون لهم إقامة الكنائس والمعابد في وسط الفسطاط، بل وفي وسط جيش الإسلام على حين أنه لم يكن للإسلام معبد؛ فكانوا يصلون، ويخطبون في الخلاء.
شكل 3-5: جامع عمرو.
ثم عمد عمرو إلى بناء جامع على مثال جامع مكة سعة وشكلا، فبناه في الفسطاط قرب حصن بابل، وكان في موضعه خان استولى عليه أحد رجال عمرو عند الفتح، فلما عادوا من الإسكندرية طلب إليه عمرو أن يجعل منزله هذا مسجدا فرضي، وكان النيل يجري بقربه، ثم انحسر عنه بعد ذلك غربا، وأتى عمرو بحجارة ذلك الجامع من بقايا منف العظيمة بينها أعمدة كبيرة من الجرانيت، وقطع هائلة من الرخام أقيمت بها جدرانه، وقد قيل إن القرآن كله كان منقوشا عليها بالذهب.
والجامع المذكور لا يزال إلى يومنا هذا في مصر القديمة يعرف باسم جامع عمرو يصلون فيه الجمعة الأخيرة من رمضان. مساحته 350 قدما مربعا، وقد رمم مرارا بحيث لم يبق من البناء الأصلي إلا شيء زهيد، ومن جملة من جدد في بنائه السلطان المؤيد سنة 814ه، وآخرهم مراد بك، وهذا لم يكن يحاول إلا طمعا بمخبأة أوعز إليه أنها مدفونة في بعض أجزائه كما ساترى، وإذا زرت هذا الجامع رأيته الآن كالخراب، وقد سقطت أعمدته الرخامية التي كانت على الجانبين، وفي صحنه حنفية، وشجرة، وفي أرض ليوانه صهريج.
وفي هذا الجامع كانت تعطى قبالات الأراضي، وهي أن متولي الخراج كان يجلس فية زمان تئين فيه قبالة الأرضين (التزامها) ويجتمع الناس من القرى والمدن؛ فيقوم رجل ينادي على البلاد: صفقات (وكانت صفقة البيع عند العرب: أن يضرب المشتري بيده على يد البائع إن رضي البيع، ثم سمي عقد البيع: الصفقة) وكتاب الخراج بين يدي متولي الخراج يكتبون ما ينتهي إليه مبالغ الكور والصفقات على من يتقبلها من الناس، وكانت البلاد يتقبلها متقبلوها بالأربع سنين؛ لأجل الظمأ، والاستبحار ... وغير ذلك، فإذا انقضى الأمر خرج كل من كان تقبل أرضا وضمنها إلى ناحيته، فيتولى زراعتها وإصلاح جسورها وسائر وجوه أعمالها بنفسه وأهله ومن ينتدبه لذلك، ويحمل ما عليه من الخراج في إبانه على أقساط، ويحسب له من مبلغ قبالته وضمانه لتلك الأراضي ما ينفقه على عمارة جسورها، وسد ترعها، وحفر خلجانها بضريبة مقدرة في ديوان الخراج، ويتأخر من مبلغ الخراج في كل سنة في جهات الضامن والمتقبلين، فكان إذا تأخر من مال الخراج البواقي تشدد الولاة في طلبه مرة وتسامح به مرة، فإذا مضى من الزمان ثلاثون سنة حولوا السنة وراكبوا البلاد كلها، وعدلوها تعديلا جديدا؛ فيزيدون فيما يحتمل الزيادة من غير ضمان البلاد، وينقصون فيما يحتاج التنقيص منها، ولم يزل ذلك يعمل في جامع ابن عاص إلى أن بنى أحمد بن طولون جامعه. (ك) مخابرات بين ابن الخطاب وابن العاص
والمفتتحون أجدر الناس باتباع الرفق بمن أصبحوا من رعاياهم، وقد ضربت عليهم المسكنة بعد أن كانوا أصحاب البلاد، وبيدهم الحل والعقد، والظاهر أن عمرا كان على بينة من ذلك، وقد جرى عليه؛ لأنه كان يتحمل من المصريين، ويمهلهم في دفع الخراج إلى حد أن يوقع فيه مظنة الخليفة، ويحكى أن الخليفة استبطأ الخراج من عمرو فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام الله عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني فكرت في أمرك، والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تفيق فترفع إلي ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذي في نفسي. لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك، فلئن كنت مجربا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مضيعا نطعا إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت إن ابتلي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إلي ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن عمالك عمال السوء، وما توالس عليك وتلفف؛ اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه، فلا تجزع أبا عبد الله، أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهر يخرج الدر والحق أبلج، ودعني وما عنه تلجج، فإنه قد برح الخفاء، والسلام.
فكتب إليه عمرو:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص، سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي، وإعجابه من خراجها على أيديهم، ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم أرغب في عمارة الأرض منها مذ كان الإسلام، وذكرت أن النهر يخرج الدر فحلبتها حلبا قطع درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وثربت، وعلمت أن ذلك شيء تخفيه على غير خبر، فجئت لعمري بالمقاطعات المقذعات، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق، ولقد عملنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولمن بعده، فكنا نحمد الله مؤدين لأمانتا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا؛ نرى غير ذلك قبيحا، والعمل شينا، فتعرف ذلك لنا، وتصدق فيه قبلنا. معاذ الله من تلك الطعم، وشر الشيم، والاجتراء على كل مأثم، فامض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية، والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا، ولم تكرم فيه أخا، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد غضبا لنفسي، ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقا، ولكنني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا، وسكت عن أشياء كنت بها عالما، وكان اللسان بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا تجهل.
فكتب إليه الخليفة:
من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج، وكتابك إلي ببنيات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج، وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء، وعندي - من قد تعلم - قوم محصورون، والسلام.
فكتب إليه عمرو:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني بالخراج، ويزعم أني أحيد عن الحق، وأنكث عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم، ولكن أهل الأرض استنظروني أن تدرك غلتهم، فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن تخرق بهم؛ فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه، والسلام.
فكف الخليفة، وقد كان محمولا على ما أنبه به ممن كان يناظر عمرا على ولاية مصر. (ل) فتح دمياط وتانيس
فهذه المعاملة وأمثالها جعلت للعرب منزلة رفيعة عند المصريين؛ فرضخوا لهم إلا الهاموك حاكم دمياط، وهو من أنسباء المقوقس، فإنه امتنع عن التسليم، واستعد للحرب، فأنفذ إليه عمرو المقداد بن الأسود في طائفة من المسلمين، فخرج إليهم الهاموك وحاربهم حتى قتل ابنه بالحرب، فعاد إلى دمياط وجمع إليه أصحابه فاستشارهم في أمره، وكان عنده حكيم قد حضر الشورى، فقال له: «أيها الملك، إن جوهر العقل لا قيمة له، وما استغنى به أحد إلا هداه إلى سبيل الفوز والنجاة من الهلاك، وهؤلاء العرب من بدء أمرهم لم ترد لهم راية، وقد فتحوا البلاد وأذلوا العباد، وما لأحد عليهم قدرة، ولسنا بأشد من جيوش الشام، ولا أعز وأمنع، وإن القوم قد أيدوا بالنصر والظفر، والرأي أن تعقد مع القوم صلحا تنال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم، فما أنت بأكثر رجالا من المقوقس.»
فلم يعبأ الهاموك بقوله، وغضب منه فقتله، وكان له ابن عاقل، وله دار ملاصقة للسور؛ فخرج إلى المسلمين في الليل، ودلهم على عورات البلد؛ فاستولى المسلمون عليها، وتمكنوا منها، فلما برز الهاموك للحرب لم يشعر بالمسلمين إلا وهم يكبرون على سور البلد؛ فاستأمن للمقداد، فتسلم المسلمون دمياط، وأخبروا عمرا بذلك.
ثم خرج شطا بن الهاموك بعد أن أسلم إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح؛ فحشد أهل تلك النواحي، وجعلهم مددا للمسلمين، وسار بهم مع المسلمين لفتح تانيس؛ فبرز لأهلها وقاتلهم حتى قتل في المعركة في ليلة الجمعة نصف شعبان بعد ما أنكل فيهم، فحمل من المعركة، ودفن في مكانه المعروف به خارج دمياط، يحيون فيه ليلة نصف شعبان من كل سنة، ولم يكف المسلمون عن تانيس حتى فتحوها. (م) الفتح الإسلامي احتلال عسكري
لما فتح المسلمون البلاد لم يتولوا حكومتها - كما رأيت - بل نزلوا خارجها في معسكراتهم كالمحتلين؛ يستولون على الخراج والجزية، ويراقبون الأحكام. فعمرو بن العاص وجنده لما فتحوا مصر نزلوا في الفسطاط والإسكندرية، وتركوا سائر قرى مصر بأيدي القبط، ولم يكن أحد من المسلمين بالقرى، وإنما كانت رابطة تخرج إلى الصعيد حتى إذا جاء أوان الربيع انتشر الأتباع في القرى لرعي الدواب، ومعهم طوائف من السادات.
وكان الخليفة عمر بن الخطاب مع ذلك ينهى الجند عن الزرع، ويبعث إلى أمراء الأجناد بإعطاء الرعية أعطياتهم، وأرزاق عيالهم، وينهاهم عن الزرع.
وكان عمرو يقول لرجاله إذا رجعوا من غزوهم: «إنه قد حضر الربيع فمن أحب منكم أن يخرج بفرسه بربعه فليفعل، ولا أعلمن ما ينفع من أسمن نفسه وأهزل فرسه. فإذا حمض اللبن، وكثر الذباب، ولوى العمود فارجعوا إلى قيرورتكم.» وذكر المقريزي خطبة لعمرو في هذا المعنى رواها عن بحير بن ذاخر المعافري، وفيها وصف عمرو بن العاص وأبهته قال المعافري: رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرا، وذلك بعد حميم النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع؛ إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس فذعرت، فقلت: يا أبت، من هؤلاء؟ فقال: يا بني، هؤلاء الشرط. فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلا ربعة قصير القامة، وافر الهامة، أدعج أبلج عليه ثياب موشاة كأن به العقبان تأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا، وصلى على النبي
صلى الله عليه وسلم
ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم؛ فسمعته يحض على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهي عن الفضول، وكثرة العيال، وإخفاض الحال على ذلك، فقال:
خطبة عمرو
يا معشر الناس، إياكم وخلالا أربعا؛ فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة: إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييق المال، والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال. ثم إنه لا بد من فراغ يئول إليه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه؛ فيجوز من الخير عاطلا، وعن حلال الله وحرامه غافلا.
يا معشر الناس، إنه قد تدلت الجوزاء، وذلت الشعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقل الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجة السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحي لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم، فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيولكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها؛ فإنها جنتكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمومسات المعسولات فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم.
حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر؛ فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم فيكم صهرا وذمة.» فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه، وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال؛ فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة؛ لكثرة الأعداء حولكم، وتشوف قلوبهم إليكم، وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر؛ فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض.» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ولم يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.» فاحمدوا الله يا معشر الشباب على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود، وسخن الماء، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر؛ فحي إلى فسطاطكم على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته. أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم. ا.ه. (ن) خليج أمير المؤمنين
ومن الأعمال العظيمة التي أجريت على يد عمرو بن العاص: احتفار الخليج الموصل بين النيل والبحر الأحمر سنة 23ه، ودعاه خليج أمير المؤمنين، وسبب ذلك: أن الناس بالمدينة أصابهم جهد شديد في سنة الرمادة؛ فكتب الخليفة إلى عمرو بن العاص ما نصه: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي سلام، أما بعد؛ فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي، فياغوثاه، ثم يا غوثاه.» فكتب إليه عمرو: «إلى أمير المؤمنين من عبد الله بن عمرو بن العاص، أما بعد، فيا لبيك، ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعير أولها عندك، وآخرها عندي، والسلام.»
أراد بذلك أنه أرسل له قافلة من الجمال عظيمة؛ الجمل الأول منها في المدينة، والآخر في مصر، يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على الخليفة وسع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بعيرا بما عليه من الطعام؛ ليأكلوا الطعام، ويأتدموا بلحمه، ويحتذوا بجلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف وغيره.
فلما رأى الخليفة ذلك حمد الله، وكتب إلى عمرو أن يقدم إليه هو وجماعته من أهل مصر فقدموا. فانفرد بعمرو، وقال له: «يا عمرو، إن الله قد فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقي في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين، والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين والعرب قد تشاءمت بي، وكادت أن تغلب على رحلي، وقد عرفت الذي أصابها، وليس جند من الأجناد أرجى عندي أن يغيث الله بهم أهل الحجاز من جندك، فإن استطعت أن تحتال لهم حيلة حتى يغيثهم الله تعالى.» فقال عمرو: «ما شئت يا أمير المؤمنين، قد عرفت أنه كانت تأتينا سفن فيها بحار من أهل مصر قبل الإسلام من خليج كان مفتوحا بين النيل المبارك وبحر القلزم، فلما فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج، واستد وتركه التجار، فإن شئت أن نحفره فننشئ فيه سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته.» فقال الخليفة: نعم، فافعل. ولما خرج عمرو من حضرة أمير المؤمنين لاقاه الذين أتوا معه من مصر، فذكر لهم ما كان من حديث الخليفة، فقالوا: «ماذا جئت به أصلح الله الأمير، أتريد أن تخرج طعام أرضك وخصبها إلى الحجاز، وتخرب هذه؟ فإن استطعت فاستقل من ذلك.» فاستصوب قولهم، ثم جعل يتردد بين الأمرين.
فلما حان أوان عوده إلى مصر ذهب لوداع أمير المؤمنين، فقال له: «يا عمرو، انظر إلى ذلك الخليج، ولا تنسين حفره.» فأجاب عمرو: «يا أمير المؤمنين، إنه قد انسد، وتدخل فيه نفقات عظيمة.» فقال له: «أما والذي نفسي بيده إني لأظنك حين خرجت من عندي حدثت بذلك أهل أرضك فعظموه عليك وكرهوا ذلك، أعزم عليك إلا ما حفرته وجعلت فيه سفنا.» فقال عمرو: «يا أمير المؤمنين، إنه متى ما يجد أهل الحجاز طعام مصر وخصبها مع صحة الحجاز لا يخفوا إلى الجهاد.» فقال الخليفة: «إني سأجعل من ذلك أمرا؛ ألا يحمل في هذا البحر إلا رزق أهل المدينة وأهل مكة.» فأفحم عمرو، وعاد إلى مصر، وباشر لساعته حفر الخليج ومعالجته، وجعل فيه السفن، ودعاه «خليج أمير المؤمنين» ولم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز، ثم ضيعه الولاة فأهمل، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على ترعة السويس في أيام الخديوي إسماعيل باشا.
وفي خلال ذلك تجند عمرو إلى الغرب ، ففتح برقة وصالحه أهلها على الجزية، ثم سار إلى طرابلس الغرب ففتحها أيضا، وكتب إلى الخليفة بذلك سنة 22 للهجرة. (2) خلافة عثمان بن عفان (من سنة 23-35ه/644-655م)
وبعد فتح طرابلس الغرب بقليل قتل الإمام عمر بن الخطاب، قتله فارس يقال له: فيروز، الملقب بأبي لؤلؤة، كان عبدا للمغيرة بن شعبة، في 26 ذي الحجة سنة 23ه، بعد أن تولى الخلافة عشر سنين وخمسة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
ونادى قبل وفاته بعبد الرحمن بن عوف فصلى في الناس، ثم قيل: لو استخلفت يا أمير المؤمنين، فقال: «دعوني أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض» ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا؛ فقال: «انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم؛ فقد قبض رسول الله وهو عنكم راض، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاوروا فيها ثلاثة أيام، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر (ابنه) مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم. أنشدك الله يا علي، إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس. أنشدك الله يا عثمان، إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني معيط على رقاب الناس. أنشد الله يا سعد، إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على الناس. فتشاوروا واقضوا أمركم، وليصل بالناس صهيب.» وترى في شكل
3-6
اسم الجلالة، واسم الرسول، وأسماء الصحابة المتقدم ذكرهم مع أسماء الخلفاء الراشدين مكتوبة بالحرف الكوفي في شكل جميل.
شكل 3-6: أسماء الجلالة والرسول والصحابة بالحرف الكوفي.
وبعد وفاة عمر تشاور الصحابة فيما أوصاهم به عمر؛ فبايعوا عثمان بن عفان في 3 محرم سنة 24ه، وفي سنة 25 عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة، وكان عاملا على الصعيد في إمارة عمرو. فلما تولى إمارة مصر جبى خراجها للسنة الأولى 14 مليونا من الدنانير، وكان عمرو لا يجبي أكثر من 12 مليونا؛ فقال عثمان لعمرو: «يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درها الأول.» فأجابه عمرو: «لقد أضررتم بولدها ذلك إن لم يمت الفصيل.»
وفي أثناء ذلك أنفذ الروم حملة من جنودهم لاسترجاع مصر من المسلمين، وسبب ذلك: أن الروم في القسطنطينية عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية، وظنوا أنهم لا يمكنهم المقام في بلادهم بعد خروج الإسكندرية من يدهم، فكاتبوا من كان فيها من الروم، ودعوهم إلى نقض الصلح فأجابوهم؛ لأنهم رأوا الجو خاليا لهم بعد موت الإمام عمر؛ لأنه كان يبعث كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية، وكان على الولاء لا يغفلها، ويكنف مرابطها، ولا يأمن الروم عليها.
فسارت الجيوش من القسطنطينية في المراكب تحت قيادة منويل الخصي. فلما بلغوا الإسكندرية كان عليها المقوقس فمنعهم من الدخول، فنزلوا في ساحلها وانضم إليهم من كان فيها من الروم، أما المقوقس ومن معه من جماعة القبط فلم ينقضوا عهدهم مع المسلمين، فسأل أهل مصر الخليفة أن يقر عمرو بن العاص حتى يفرغ من قتال الروم؛ فإن له معرفة بالحرب، وهيبة في العدو ففعل.
فنزل عمرو الفسطاط يتأهب لمناهضة الروم، وكان حول الإسكندرية سور؛ فحلف عمرو لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية تؤتى من كل مكان. فقال خارجة بن حذافة لعمرو: «ناهضهم قبل أن يكثر مددهم فلا آمن أن تنقض مصر كلها.» فقال عمرو: «لا، ولكن دعهم حتى يصيروا إلي؛ فإنهم يصيبون من مروا به، فيخزي الله بعضهم ببعض.»
فخرجوا من الإسكندرية، ومعهم من نقض من أهل القرى؛ فجعلوا ينزلون القرية، فيشربون خمورها، ويأكلون أطعمتها، وينهبون ما مروا به؛ فسار إليهم عمرو، ولم يتعرض لهم حتى بلغوا نفيوس، فلقوهم في البر والبحر، فبدأت الروم القبط بالنشاب، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا، وكانت الروم قد تأهبت صفوفا خلف صفوف، فبرز أحد كبار الفرسان من الروم عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز؛ فبرز إليه رجل من زبيد، يقال له: حومل، يكنى أبا مذحج؛ فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى الروم الرمح، وأخذ السيف؛ فألقى حومل رمحه وأخذ سيفه، وكان يعرف بالنجدة؛ فجعل عمرو يصيح أبا مذحج فيجيبه لبيك، والناس على الجانبين وقوف في صفوفهم كأن على رءوسهم الطير؛ فتجاولا ساعة بالسيف، ثم حمل الرومي؛ فاحتمله حومل، واخترط خنجرا كان في منطقته؛ فضربه به في نحره فسقط ميتا، فوثب إليه وأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك، ودفن في المقطم.
فاشتد المسلمون، وانهزم الروم، فطلبهم المسلمون حتى ألحوقهم بالإسكندرية، وقتلوا منويل الخصي، وأثخنوا في رجاله، فاستنجدوا بالمسلمين، فأمر عمرو برفع السيف عنهم، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجدا دعاه مسجد الرحمة؛ إشارة إلى رفع السيف هناك، وهدم سور المدينة. ثم جمع ما أصاب منهم فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض؛ فقالوا: «قد كنا على صلحنا، وقد مر علينا هؤلاء اللصوص، فأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم في يديك.» فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة، فقال بعضهم لعمرو: «ما حل لك ما صنعت بنا، فقد كان لنا أن تقاتل عنا؛ لأننا في ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله.» فندم عمرو، وقال: يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية!
ولما انهزم الروم، وسكنت القلوب أراد الخليفة أن يكون عمرو على جند مصر، وعبد الله بن سعد على خراجها؛ فقال عمرو: «أنا إذن كقابض على البقرة بقرنيها، وآخر يستدرها» فأبى عمرو وتنحى عن مصر، فعاد عليها عبد الله بن سعد.
وفي سنة 27ه غزا عبد الله بن سعد إفريقية؛ فقتل ملكها جرجير، وضم البلاد إلى حكمه.
وفي سنة 28ه غزا قبرص مع معاوية بن أبي سفيان؛ فصالحهم أهلها على جزية سبعة آلاف دينار، كل سنة يؤدون إلى الروم مثلها لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين أن يجعلوا طريقهم إلى العدو إليهم.
وفي سنة 31ه نقضت بلاد النوبة؛ فغزاها عبد الله بن سعد، وحصر رجالها في دنقلة حصارا شديدا، ورماهم بالمنجنيق، ولم تكن النوبة تعرفه، وخسف بهم كنيستهم بحجر؛ فبهرهم ذلك، فطلب ملكهم «قليدوروث» الصلح، وخرج إلى عبد الله، وأبدى ضعفا وتواضعا؛ فتلقاه عبد الله ورفعه وقربه، ثم قرر الصلح معه على ثلاثمائة وستين رأسا في كل سنة، وفي هذه السنة غزا ذا الصواري أيضا. (2-1) مقتل عثمان
وفي سنة 33ه كثرت الإشاعة بالأمصار بالطعن على عثمان وعماله، وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك، وتوالت الأخبار إلى أهل المدينة فجاءوا إلى عثمان وأخبروه، فلم يجدوا عنده علما منه؛ فقال: «أشيروا علي، وأنتم شهود المؤمنين.» قالوا: «تبعث من تثق به إلى الأمصار يأتوك بالخبر اليقين.» ففعل؛ فجاءته الأخبار، فكتب إلى أهل الأمصار: «إني قد رفع إلي أهل المدينة أن عمالي وقع منهم أضرار بالناس، وقد أخذتهم أن يوافوني في كل موسم، فمن كان له حق فليحضر يأخذ بحقه مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين.»
وفي سنة 35ه بعث إلى عمال الأمصار فقدموا إليه في الموسم، وفيهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر، فقال الخليفة: «ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة؟ وإني أخشى والله أن يكونوا صادقين، وإنما الأمر كائن، وبابه سيفتح، ولا أحب أن يكون لأحد علي حجة في فتحه، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا.» فسكنوا الناس، وبينوا لهم حقوقهم، ثم قدم المدينة ودعا عليا وطلحة والزبير ومعاوية حاضر؛ فكلمهم، فأظهروا له وجه إجحافه بالحقوق.
وكان عبد الله بن سعد قد استخلف على مصر عند قدومه إلى عثمان عقبة بن عامر، وكان فيها محمد بن أبي حذيفة ممن ثاروا على عثمان، فجمع إليه عصبة، وأخرج عقبة بن عامر من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان، وأسعر البلاد، وعرض على عثمان بكل شر يقدر عليه، فاعتزلته شيعة عثمان ونابذوه، وهم: معاوية بن حديج، وخارجة بن حذافة، وبسر بن قرطاط، ومسلمة بن مخلد في جمع كثير، وبعثوا إلى عثمان بأمرهم، وما صنعه ابن أبي حذيفة؛ فبعث سعد بن أبي وقاص يصلح أمرهم؛ فخرج إليه جماعة فقلبوا فسطاطه وشجوه وسبوه، فركب وعاد راجعا، ولما أقبل عبد الله بن سعد من مكة منعوه أن يدخل؛ فانصرف إلى عسقلان.
وازداد المسلمون تعصبا على عثمان، فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة خفية، فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في ألف، وخرج أهل الكوفة والبصرة، وكلهم في مثل عدد أهل مصر، وخرجوا جميعا في شوال مظهرين للحج، فلما أتوا المدينة واجه المصريون عليا، وهو عند أحجار الزيت، فعرضوا إليه أمرهم فصاح بهم وطردهم، وفعل مثل ذلك طلحة مع البصريين، وزبير مع الكوفيين؛ فانصرفوا إلى بعد.
فتفرق أهل المدينة ظنا منهم أن القوم قد رجعوا عن مرادهم فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها، وقد أحاط المصريون بعثمان، ونادوا بأمان من كف يده فغدا عليهم علي فقال: «ما ردكم بعد ذهابكم؟» قالوا: «أخذنا كتابا مع بريد بقتلنا، والكتاب موقع عليه من عثمان!» فدخل علي على عثمان، وأخبره برجوع المصريين ؛ فأشرف عثمان على الجمع وخطب فيهم يريد زجرهم، فنادوه من كل ناحية: اتق الله يا عثمان، وتب إليه. وكان أولهم عمرو بن العاص، فرفع الخليفة صوته، وقال: «أنا أول من اتعظ، وأستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فليأت أشرافكم يروني رأيهم، فوالله إن ردني الحق عبدا لاستن بسنة العبد، ولأذلن ذل العبد، وما عن الله مذهب إلا إليه، فوالله لأعطينكم الرضا ولا أحتجب عنكم.» ثم بكى وبكى الناس، ورجع إلى منزله، فدخل عليه علي ومحمد بن مسلمة، وسألوه عن اعتراضه على ما يقوله أهل مصر؛ فحلف ما كتب ولا علم، ثم دخل عليه المصريون، وقالوا له: «جئنا لقتلك فردنا علي ومحمد، وضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا، ولقينا رسولك ناقلا كتابا وفيه أمرك لابن أبي سرح (ولم يكونوا عالمين بأعمال ابن أبي حذيفة) بجلدنا والمثلة بنا، وهو بيد غلامك، وعليه خاتمك.» فحلف عثمان لا كتب ولا أمر ولا علم. فقالوا: «كيف يجترأ عليك بمثل هذا؟ فقد استحققت الخلع على التقديرين؛ إذ لا يحل أن يولى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف، فاخلع نفسك.» فقال: «لا أنزع ما ألبسني الله، ولكني أتوب وأرجع.» وقالوا: «رأيناك تتوب وتعود، فلا بد من قتلك.» وخرجوا.
وبقي محصورا أربعين يوما منع عنه الماء في أواخرها، وفي 18 ذي الحجة دخل عليه أربعة - فيهم محمد بن أبي بكر - فقتلوه والقرآن في يده؛ فتخضب بالدماء، وهجمت نائلة امرأته لتحميه بيدها؛ فأصيبت بضربة قطعت أصابعها، وبقي في بيته ثلاثا، ثم جاء حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم إلى علي فأذن لهما بدفنه، فخرجا به، ومعهما الزبير، والحسن، وأبو جهم بن حذيفة، ومروان؛ فدفنوه في حش كوكب، بعد أن تولى الخلافة 12 سنة إلا 12 يوما.
ولما علم أهل مصر بقتل عثمان ثار المتشيعون له فيها، وعقدوا لمعاوية بن حديج، وبايعوه على الطلب بدم عثمان؛ فساروا إلى الصعيد، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة خيلا فهزمت، ومضى ابن حديج إلى برقة، ثم رجع إلى الإسكندرية؛ فبعث إليه ابن أبي حذيفة جيشا آخر ، فالتقى به في خربتا في أول شهر رمضان سنة 36 فاقتتلوا، وكانت النصرة لشيعة عثمان، وانهزم الجيش، وأقامت شيعة عثمان في خربتا. (3) خلافة علي بن أبي طالب (من سنة 35-41ه/655-661م)
أما ما كان من أمر الخلافة؛ فإن طلحة والزبير والمهاجرين والأنصار اجتمعوا إلى علي يبايعونه فأبى، وقال: «أكون لكم وزيرا خير من أن أكون أميرا، ومن اخترتم رضيته.» فألحوا عليه قائلين: «لا نعلم أحق منك، ولا نختار غيرك.» فبايعوه في المسجد بالمدينة يوم الجمعة 24 ذي الحجة سنة 35، وأول من بايعه طلحة، ثم الزبير، ثم بايعه الناس، وبايعته الأنصار، وتأخر منهم قليلون، فخطب خطبته الأولى في الناس بعد حمد الله فقال: «إن الله أنزل كتابا هاديا يبين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير، ودعوا الشر. الفرائض الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل دم امرء مسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت؛ فإن الناس أمامكم، وإن ما خلفكم الساعة تحدوكم، فخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتقوا الله يا عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله فلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.»
ثم رجع إلى بيته، ودخل عليه طلحة والزبير وعدد من أصحابه، فقالوا: «يا علي، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل، وأحلوا بأنفسهم.» فقال: «يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم أخلاطكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟» قالوا: لا. فقال: «فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه أبدا إلا أن يشاء الله. إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض آخذا بها، إن الناس من هذا الأمر - إن حرك - على أمور؛ فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق، فاهدأوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم؟ ثم عودوا، واشتدوا على قريش.» فخرجوا من عنده، وقد أضمروا له شرا.
وكان معاوية لما توجه إلى ولايته في الشام أخذ قميص عثمان الملطخ بالدماء، وأصابع نائلة امرأته، وعلق القميص في المنبر، وجعل يخطب في الناس، ويغرس في أذهانهم أن قاتل عثمان هو علي، ويحثهم على معاملة القاتل بالقتل، وشدد النكير على علي؛ فالتفت حوله دعاته رغبة في الانتقام.
ومما زاد أعداء الإمام علي عددا أنه لم تدخل سنة 36ه حتى عزل جميع من كانوا على الأمصار في أيام عثمان، وولى مكانهم من رأى من المتقربين؛ فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبد الله بن عباس على اليمن، ولما علم بقتل محمد بن أبي حذيفة ولى مكانه قيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام عوضا من معاوية. أما سهل: فخرج حتى إذا كان في تبوك لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام، فقالوا: «إن كان بعثك عثمان فأهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع.» قال: أما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى، فرجع إلى علي. (3-1) قيس بن سعد على مصر
أما قيس بن سعد فكان صاحب راية الأنصار مع النبي، وكان من ذوي الرأي والبأس، وكان ضخما جسيما، صغير الرأس، طويلا جدا، مطاعا جوادا كريما، يعد من دهاة العرب، ولما ولاه علي على مصر قال له: «سر إلى مصر فقد وليتكها، واخرج إلى رجلك، واجمع إليك ثقاتك، ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند؛ فإن ذلك أرهب لعدوك، وأعز لوليك، وأحسن إلى المحسن، وأشد على المريب، وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن.»
فقال له قيس : «أما قولك اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا، فأنا أدع ذلك الجند لك تبعثهم في وجوهك.» فخرج قيس حتى دخل مصر في مستهل رجب سنة 37ه بسبعة من أصحابه، فصعد المنبر، وأمر بكتاب الخليفة فقرئ على أهل مصر بإمارته، ويأمرهم بمبايعته وإعانته على الحق، وقال: «الحمد لله الذي جاء بالحق، وأمات الباطل، وكبت الظالمين. أيها الناس، إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، فقوموا فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.» فقام الناس وبايعوا واستقامت مصر، وبعث عليها عماله إلا خربتا، وفيها من قد أعظموا قتل عثمان، وعليهم رجل من بني كنانة اسمه يزيد بن الحارث، فبعث إلى قيس يدعوه إلى الطلب بدم عثمان، وكان مسلمة بن مخلد قد أظهر الطلب أيضا بدم عثمان، فأرسل إليه قيس: «ويحك أعلي تثب؟ فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك.» فبعث إليه مسلمة: «إني كاف عنك ما دمت على مصر.»
وكان معاوية لا يزال ساعيا على علي، فلما رأى مصر قد استقام أمرها خاف أن يقبل علي في العراق، وقيس في مصر؛ فيقع هو بينهما، فكتب إلى قيس: «سلام عليكم، أما بعد، فإنكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط، أو شتيمة رجل، أو تسيير آخر، واستعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحل لكم، فقد ركبتم عظيما، وجئتم أمرا إدا، فتب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه هو الذي أغرى الناس، وحملهم حتى قتلوه، وإنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن شئت - يا قيس - أن تكون ممن يطالب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقيين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني ما شئت فإني أعطيك، واكتب إلي برأيك.»
فلما جاءه الكتاب أحب أن يرافعه، ولا يبدي له أمره، ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه: «أما بعد، فإني لم أقارف شيئا مما ذكرته، وما اطلعت لصاحبي على شيء منه، وما ذكرت أن عظم عشيرتي لم يسلم، فأول الناس كان فيه قياما عشيرتي، وأما متابعتك فهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هو مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك، وليس يأتيك من قبلي ما تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى.» فلما قرأ معاوية كتابه رآه متقاربا متباعدا فكتب إليه: «أما بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما، ولا تتباعد فأعدك حربا، وليس مثلي يصانع الخادع، وينخدع للمكايد، ومعه عدد الرجال، وأعنة الخيل، والسلام.»
فلما قرأ قيس الكتاب، ورأى أنه لا تفيد معه المرافعة والمماطلة؛ عمد إلى مكاشفته بما في نفسه، فكتب إليه: «أما بعد، فالعجب من اغترارك بي، وطمعك في، واستسقاطك إياي أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلهم سبيلا، وأبعدهم من رسول الله وسيلة، ولد الضالين مضلين طاغوت من طواغيت إبليس، وأما قولك: إني مالئ عليك مصر خيلا ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد، والسلام.»
فلما رأى معاوية كتابه قنط منه، وثقل عليه مكانه، ولم تنجح فيه حيله؛ فجعل يسعى في كيده إفسادا بينه وبين علي، فقال لأهل الشام: «لا تسبوا قيسا، ولا تدعوا إلى غزوه؛ فإنه لنا شيعة، تأتينا كتبه ونصيحته سرا، ألا ترون ما يقع بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا؟ يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم.» وإتقانا لمكيدته افتعل كتابا عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان، والدخول معه في ذلك، وقرأه على أهل الشام، فبلغ ذلك عليا فأعظمه وأكبره، فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر وأعلمهم بذلك.
فقال ابن جعفر: «يا أمير المؤمنين، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك لعزل قيس عن مصر.» قال علي: «إني والله ما أصدق بهذا عنه.» فقال عبد الله: اعزله فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك. فبينما هم كذلك؛ إذ جاءهم كتاب من قيس يخبر أمير المؤمنين بحال المعتزلين، وكفه عن قتالهم، فقال ابن جعفر: «ما أخوفني أن يكون ذلك ممالأة منه؛ فمره بقتالهم.» فكتب إليه يأمره بقتالهم، فلما قرأ قيس الكتاب كتب جوابه: «أما بعد، فقد عجبت لأمرك، تأمرني بقتال قوم كافين عنك، ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوك، فأطعني يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم فإن الرأي تركهم، والسلام.» (3-2) محمد بن أبي بكر على مصر
فقرأ علي الكتاب بحضور ابن جعفر، فقال له: «يا أمير المؤمنين، ابعث محمد بن أبي بكر على مصر، واعزل قيسا.» فبعث علي محمد بن أبي بكر إلى مصر، فلما وصلها قال له قيس: «ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيره؟ أدخل أحد بيني وبينه؟» قال: لا، وهذا السلطان سلطانك، فقال قيس: «والله لا أقيم» وخرج من مصر مقبلا إلى المدينة، وسار إلى علي، وأخبره الخبر، فعلم أنه كان يقاسي أمورا عظيمة من المكايدة.
أما محمد بن أبي بكر لما قدم مصر - على ما تقدم - جمع إليه سراة البلاد، ورجال الدولة، وتلا عليهم كتاب أمير المؤمنين، ثم قام خطيبا، فقال: «الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق، وبصرنا وإياكم كثيرا مما كان عمي عنه الجاهلون. ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم، وعهد إلي ما سمعتم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله فأحمد الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي له، وإن رأيتم عاملا لي عمل بغير الحق فارفعوا إلي وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد، وأنتم جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته.»
وفي سنة 38ه خرج معاوية بن حديج السكوني، وطلب بدم عثمان، فالتف عليه قوم كثيرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر. (3-3) فتح عمرو بن العاص مصر ثانية
أما معاوية فكان قد استفحل أمره، وكثر متشيعوه؛ فبايعوه على الشام، ولم يكن له هم إلا مصر، وكان يخشى منها لقربها منه، وكان يعتقد أنه إذا ظهر عليها مكنته من الظهور على علي؛ فتكون الخلافة كلها له. فاجتمع بعمرو بن العاص، وحبيب بن مسلمة، وغيرهما من سراة قومه، وقال لهم: «أتدرون لما جمعتكم؟ فإني جمعتكم لأمر لي مهم.»
فقال عمرو: «دعوتنا لتسألنا عن رأينا في مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك فاعزم واصبر، فنعم الرأي رأيت في افتتاحها، فإن فيه عزك وعز أصحابك، وكبت عدوك، وذل أهل الشقاق عليك.»
فقال معاوية: «أهمك يا ابن العاص ما أهمك.» وكان عمرو قد صالح معاوية على قتال علي على أنه له مصر طعمة ما بقي حيا. فنظر معاوية إلى من حضر من أصحابه، وقال لهم: «لقد أصاب أبو عبد الله فما ترون؟»
فقالوا: «ما نرى إلا ما رأى عمرو.» قال: «فكيف أصنع؟ فإن عمرا لم يفسر كيف أصنع؟»
فقال عمرو: «أرى أن تبعث جيشا كثيفا، عليهم رجل حازم صابر صارم تأمنه وتثق به، فيأتي مصر، فإنه سيأتيه من كان على مثل رأينا فيظاهره على عدونا، فإن اجتمع جندك ومن بها على رأينا رجوت أن ينصرك الله.»
قال معاوية: «أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا فنمنيهم ونأمرهم بالثبات، ونكاتب من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا، ونمنيهم شكرنا، ونخوفهم حربنا، فإن كان ما أردنا بغير قتال فذاك الذي أردنا، وإلا كان حربهم من بعد ذلك. إنك يا ابن العاص، بورك لك بالشدة والعجلة، وأنا بورك لي بالتؤدة.»
فقال عمرو: «افعل ما ترى، فما أرى أمرنا يصير إلا الحرب.»
فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد، ومعاوية بن حديج السكوني، وكانا قد خالفا عليا يشكرهما على ذلك، ويحثهما على الطلب بدم عثمان، ويعدهما المساواة في سلطانه، فأجاب مسلمة بن مخلد الأنصاري عن نفسه وعن ابن حديج بما نصه: «أما بعد، فإن الأمر الذي بذلنا له أنفسنا، واتبعنا به أمر الله أمر نرجو به ثواب ربنا، والنصر على من خالفنا، وتعجيل النقمة على من سعى على إماننا. أما ما ذكرت من المواساة في سلطانك فتالله إن ذلك أمر ما له نهضنا، ولا إياه أردنا، فعجل إلينا بخيلك ورجلك، فإن أعداءنا أصبحوا لنا هائبين فإن يأتني مدد يفتح الله عليك، والسلام.» فجاءه الكتاب وهو في فلسطين، فدعا أولئك النفر، وقال لهم: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تبعث جندا، فعهد إلى عمرو أن يسير في ستة آلاف رجل، وأوصاه بالتؤدة وترك العجلة. (3-4) مقتل محمد بن أبي بكر
فسار عمرو، فنزل أداني أرض مصر، فاجتمعت إليه دعاة العثمانية فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبي بكر كتابا، ونصه: «أما بعد، فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر. إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك، وهم مسلموك، فاخرج منها إني لك من الناصحين.» وبعث معه كتاب معاوية بالمعنى أيضا. فأرسل محمد الكتابين إلى علي، وأخبره بنزول عمرو بأرض مصر، وإنه رأى التثاقل ممن عنده، ويستمده، فكتب إليه علي يأمره أن يضم شيعته إليه، ويعده إنفاذ الجيوش إليه، ويأمره بالصبر لعدوه وقتاله .
فقام محمد بن أبي بكر في الناس، وندبهم إلى الخروج على عدوهم، فانضم إليه ثلاثة آلاف، فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن حديج يستمده فأمده، والتقى الجيشان، فظهرت رجال عمرو، وتفرقت أصحاب ابن أبي بكر. فما زال عمرو بجيشه حتى أقبل على محمد، وكان قد تخلى عنه رجاله، ففر من وجه عمرو يطلب ملجأ؛ فانتهى إلى خربة بناحية الطريق فأوى إليها، وسار عمرو حتى دخل الفسطاط، ثم أرسل معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر، فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق، فسألهم عنه، فقال أحدهم: «دخلت تلك الخرابة فرأيت فيها رجلا جالسا.» فقال ابن حديج: «هو هو فأمسكوه.» فدخلوا عليه فاستخرجوه، وقد كاد يموت عطشا، وأقبلوا به نحو الفسطاط، فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو - وكان في جنده - وقال: «أتقتل أخي صبرا؟ فابعث إلى ابن حديج فانهه عنه.» فعبث إليه يأمره أن يأتيه به، فجاءوا به وقد أعياه الظمأ، فقال لهم: «اسقوني ماء.»
فقال له معاوية بن حديج: «لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا، إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق.»
فقال له محمد: «يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه، ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك. أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا.» فقال له ابن حديج: «أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار.»
فقال محمد: «إن فعلت بي ذلك فطالما فعلتم مثله بأولياء الله، وإني لأرجو أن يجعلها عليك، وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارا تلظى، كلما خبت زادها الله سعيرا.» فغضب منه وقتله، وجعله في جيفة حمار، وألقاه في النار. فلما بلغ ذلك عائشة أخته جزعت عليه جزعا شديدا، وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، وأخذت عيال محمد إليها؛ فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالهم، ولم تعد تأكل من ذلك الوقت شواء. هكذا تم فتح مصر لمعاوية على يد عمرو بن العاص فاتحها الأول.
أما الإمام علي: فكان قد أجهد نفسه ليجمع مددا إلى محمد، فلم يأته من رجاله إلا نفر قليل، وبينما هو يحث الناس على ذلك؛ جاءه الخبر بقتل محمد بن أبي بكر، وفتح مصر؛ فاشتد غيظه، وخطب في الناس قائلا:
ألا إن مصر قد افتتحتها أهل الفجور أولو الجور والظلمة، الذين صدوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد فعند الله نحتسبه، أما والله إن كان كما علمت لممن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدى المؤمن، إني والله ما ألوم نفسي على تقصير، وإني لمقاساة الحروب لجدير خبير، وإني لأتقدم على الأمر، وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم بالرأي المصيب، واستعرضكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث؛ فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار، ولا تنقض بكم الأوتار. دعوتكم إلى غياث إخوانكم من بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو، ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون فأف لكم.
ثم نزل.
وفي 17 رمضان سنة 40ه قتل الإمام علي بن أبي طالب، وبويع ابنه الحسن مكانه، وبقي هذا على كرسي الخلافة ستة أشهر، فدخلت سنة 41ه وفيها تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان خليفة الشام ومصر، وهذا لم يحل عن مقصده حتى بلغه، فنودي به أميرا للمؤمنين، وبويع لخمس بقين من ربيع الأول سنة 41ه. (3-5) نقود الخلفاء الراشدين
أما النقود فقد كان العرب في الجاهلية يتعاملون بالنقود الرومية والفارسية حتى ظهر الإسلام، وافتتحوا البلاد، وأسسوا الدولة الإسلامية، فعمدوا إلى إنشاء تمدنهم. فكان في جملة عوامله السكة. فضربوا الدراهم والدنانير أولا مشتركة بينهم وبين الروم أو الفرس. منها قطعة ضربها خالد بن الوليد في طبرية في السنة الخامسة عشرة للهجرة، وهي رسم الدنانير الرومية تماما بالصليب والتاج والصولجان ونحو ذلك، وعلى أحد وجهيها اسم خالد بالأحرف اليونانية
XAΛEΔ
وهذه الأحرف
BON
ويظن الدكتور مولر - المؤرخ الألماني - أنها مقتطعة من «أبو سليمان» كنية خالد بن الوليد.
شكل 3-7: نقود الخلفاء الراشدين.
وهناك قطعة أخرى ضربت باسم معاوية، ولكنها على مثال دينار من دنانير الفرس برسمه وشكله إلا اسم معاوية عليه (راجع الجزء الأول من تاريخ التمدن الإسلامي).
وذكر الدميري ضربا من النقود يقال لها: البغلية، قال: إن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية عليها صورة الملك، وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي كل هنيئا.
وذكر المرحوم جودت باشا أنه رأى نقودا ضربها الأمراء والولاة في عهد الخلفاء الراشدين، أقدمها ضرب سنة 28ه في قصبة هرتك طبرستان، وعلى دائرها بالخط الكوفي: «بسم الله ربي» ورأى نقدا مضروبا سنة 38ه على دائرته هذه العبارة أيضا، ونقدا ضرب سنة 61ه في يزد على دائرته: «عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين» بخط بهلوي، وهناك نقود نحاسية ضربت على عهد الراشدين بغاية البساطة، وعلى بعضها رسوم قلدوا بها نقود الفرس كما تقدم (انظر شكل
3-7 ).
الفصل الرابع
الدولة الأموية
من سنة 41-132ه/661-750م (1) خلافة معاوية بن أبي سفيان (من سنة 41-60ه/661-681م)
هكذا كانت نهاية دولة الخلفاء الراشدين، وبداية دولة خلفاء بني أمية، وأولهم معاوية بن أبي سفيان، وكانت الخلافة على عهد الخلفاء الراشدين انتخابية، وقصبتها المدينة؛ فجعلها معاوية وراثية، وجعل قصبتها دمشق؛ فانحصرت أعقابه، وشرع في تولية العمال على الأمصار، وكانت مصر من أهم تلك الأمصار؛ فعهد بأمرها لعمرو بن العاص؛ لما عرف من علو همته، وحسن سياسته، وجعلها له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة في مصلحتها.
فعقد عمرو لشريك بن سمي لغزو البربر في شمالي أفريقيا فغزاهم وصالحهم، ثم انتقضوا؛ فبعث إليهم عقبة بن نافع فغزاهم حتى هزمهم، وعقد لعقبة أيضا على غزو هوارة، وعقد لشريك على غزو لبدة؛ فغزواهما في سنة 43ه، ولما قفلا كان عمرو شديد الدنف يتقلب على فراش الموت، فتوفي ليلة الفطر من السنة المذكورة، وكان قصير القامة يخضب بالسواد، وكان من أفراد الدهر دهاء وحزما وفصاحة إلا أنه كان يتلجلج بكلامه.
ولما علم معاوية بوفاة عمرو تكدر كدرا عظيما جدا؛ لأنه لم يعد يعلم لمن يعهد بولاية مصر بعده، وبعد التردد لم ير بدا من تلوية أحد أهله، فأرسل إليها عتبة بن أبي سفيان أخاه في ذي القعدة من سنة 43 فسار إليها، وبعد أن أقام أشهرا عرض له سفر إلى أخيه معاوية بدمشق، فاستخلف عبد الله بن قيس بن الحارث، وكان في شدة وعسف، فكره المصريون ولايته، وامتنعوا منها، فبلغ ذلك عتبة فاضطر إلى الرجوع إلى مصر، ولما جاءها صعد منبر الخطابة، فقال: «يا أهل مصر، قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إذا قال فعل، فإن أبيتم درأكم بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه، ثم رجى في الأخير ما أدرك في الأول. إن البيعة شائعة، لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل، وأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه.» فناداه المصريون من جنبات المسجد: «سمعا سمعا» فناداهم: «عدلا عدلا» ونزل وعقد عتبة لعلقمة بن يزيد على الإسكندرية في اثني عشر ألفا تكون لها رابطة.
وتوفي عتبة في الفسطاط في ذي الحجة سنة 44ه وكانت مدة ولايته سنة كاملة؛ فأقام معاوية عوضا عنه عقبة بن عامر بن عبس الجهيني، وجعل له صلاتها وخراجها، وكان عقبة قارئا فقيها مفرضا شاعرا، له الهجرة والصحبة والسابقة، إلا أنه لم يكن من السياسة وحسن التدبير على ما يرضي معاوية، فولى مكانه مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري، وكان من سراة المدينة، وأمره أن يكتم ذلك لبينما يخرج عقبة من مصر بحيلة.
ففي 19 ربيع الأول سنة 45ه أنفذ معاوية أمره إلى عقبة أن يسير إلى رودس بحرا، فقدم مسلمة ورافق عقبة إلى الإسكندرية وهو لا يعلم بإمارته، فلما توجه سائرا استوى مسلمة على سرير إمارته، فبلغ ذلك عقبة، فقال: «أخلعا وغربة» وكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر، وقيل سنتين وثلاثة أشهر.
وأخذ مسلمة في إجراء الأحكام وجمع الصلات والخراج، وانتظمت غزواته في البر والبحر، فأنفذ إلى الغرب جيوشا، وشاد مدينة القيروان ، وأقام حولها حصونا ومعاقل، وجعل فيها حامية، وفي سنة 53ه في إمارته نزلت الروم البرلس، وقتل يومئذ وردان مولى عمرو بن العاص في جمع من المسلمين، وأمر مسلمة بابتناء منارات المساجد، وهو أول من أحدث المنائر بالمساجد والجوامع، وفي سنة 60ه سافر مسلمة بن مخلد إلى الإسكندرية، واستخلف على مصر عابس بن سعيد، وفي هذه السنة توفي معاوية في دمشق في غرة رجب، وسنه ثمان وسبعون سنة، ومدة خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام. (2) خلافة يزيد بن معاوية (من سنة 60-64ه/681-684م)
وفي يوم وفاة معاوية بويع ابنه يزيد، فأقر مسلمة بن مخلد على مصر، فكتب إليه بأخذ البيعة؛ فبايعه الجند إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فهددوه بالحريق فبايع، ولم يكن يزيد أهلا للخلافة، ولولا قانون الوراثة الذي سنه أبوه ما بلغ عمره هذا المنصب؛ لأنه كان متبعا هوى نفسه متغاضيا عن واجباته. فحرك ذلك الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير على إقامة الحجة عليه، وكانا في المدينة، فبعث يزيد إلى حاكمها أن يقبض عليهما؛ ففرا منها، وسار الحسين إلى العراق؛ لأن أكثر شيعة أبيه هناك، وقد التف عليه حزب كبير من أهل الكوفة وغيرها، فأرسل يزيد إلى عبيد الله بن زياد عامله هناك بدفعه؛ فبعث إليه جندا قتلوه أفظع قتلة، وأتوا برأسه إلى يزيد.
لكنه لم يكد يبلغ مناه بقتل الحسين حتى قام عبد الله بن الزبير في مكة فشدد عليه النكير وهو يطلب الخلافة لنفسه.
وكانت مصر في أثناء ذلك ساكنة آمنة، وفي 25 رجب سنة 62ه توفي أميرها مسلمة بن مخلد بعد أن تولاها خمس عشرة سنة، وأربعة أشهر، فولي الخليفة مكانه سعيد بن يزيد الأزدي من أهل فلسطين، فدخل مصر في مستهل رمضان سنة 62ه فتلقاه عمر بن قحزم الخولاني، وقد شق عليه تولية من هو من غير بلاده عليه، فقال: «يغفر الله لأمير المؤمنين، أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك؛ يولي علينا أحدهم.» ثم جعل أهل مصر يعرضون عنه ويعارضونه في أحكامه، ولكنه كان حازما لم يثنه ذلك عن إقامة الحد، واتباع العدل؛ فسادت الراحة، واستتب النظام إلى آخر أيامه.
وما زالت الأحزاب في مكة والمدينة يشددون النكير على يزيد إلى أن جمعوا على خلعه رغم كثرة دعاة الأمويين، وأخرجوا من كان منهم في المدينة؛ فأنفذ يزيد 12 ألفا من رجاله عليهم مسلمة بن عقبة المرسي لمحاصرة المدينة، وأمرهم أن لا يكفوا عنها إلا إذا أذعنت، فإذا مضت ثلاثة أيام ولم تفعل فليحرقوها، وهكذا حصل؛ فإنها أصبحت غنيمة للنار بعد الإفاضة في النهب والقتل والأسر، وكان ذلك في سنة 63ه.
وفي سنة 63ه بويع عبد الله بن الزبير على الخلافة في مكة بإجماع من كان فيها من أهلها، والمهاجرين إليها من المدينة والحجاز؛ فأرسل يزيد الحصين بن النمير إلى مكة فحاصرها، وقاتل أهلها، ورماها بالمنجنيق؛ فأحرق الكعبة. كل ذلك وابن الزبير فيها يدافع بالشيء الممكن إلى أن جاءه الخبر بوفاة يزيد؛ فقطع قول كل خطيب، وكانت وفاته في حوارين من أعمال حمص، في 4 ربيع أول سنة 64ه بعد أن تولى الخلافة ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا بضعة أيام، وسنه 39 سنة. (3) خلافة معاوية بن يزيد ثم عبد الله بن الزبير ثم مروان بن الحكم (من سنة 64-65ه/684-684م)
وفي يوم وفاة يزيد بويع ابنه معاوية وسنه عشرون سنة، ويدعوه بعضهم: معاوية الثاني؛ تمييزا له من معاوية بن أبي سفيان جده، وبعد 45 يوما من مبايعته توفي ولا ولد له.
وفي 9 رجب من تلك السنة هتف أهل الحجاز بمبايعة عبد الله بن الزبير بالإجماع، ويقال إن معاوية بن يزيد تنازل له عن الخلافة من يوم بايعوه؛ لما رأى من كثرة أحزابه، وعجزه عن مناهضته، فزهد في الدنيا مع صغر سنه، وطلب أن يكتب على قبره: «الدنيا غرور.»
وكان عبد الله بن الزبير رجلا مؤدبا فطنا، جمع بين شرف النسب وعلو الهمة والإقدام، حضر عدة وقائع وهو شاب، ولما افتتح عمرو بن العاص مصر كان عبد الله وأبوه الزبير وأخوه محمد من جيشه، ولما كتبت معاهدة الصلح بين عمرو والأقباط وضع هؤلاء الثلاثة أختامهم عليها شهودا ، ولما أرسل الخليفة عثمان بن عفان عبد الله بن سعد أمير مصر في جيش عظيم لافتتاح سواحل الغرب كان عبد الله بن الزبير معه، ومن أخلاقه: أنه كان مثابرا في أعماله، ثابتا في مقاصده، فلم ينفك منذ اختلاس معاوية بن أبي سفيان الخلافة من الخلفاء الراشدين وهو في سعي دائم عليه، ثم على ابنه يزيد، ثم على ابن ابنه معاوية الثاني؛ حتى ظفر بمرامه، ولما جاء الخبر بوفاة يزيد كان في مكة محاطا بجيش من اليزيديين؛ فلما علموا بالخبر عادوا على أعقابهم إلى الشام، فاستولى عبد الله على المدينة والحجاز واليمن، وبايعه من فيها، ثم شرع في ترميم الكعبة فهدمها حتى ألحقها بالأرض، وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عندها، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، وضرب عليها السور ، وأدخل فيها الحجر.
أما مصر فكان عليها سعيد الأزدي - كما مر - وكان عبد الله بن الزبير على بينة من أمر مصر وأهميتها؛ فأنفذ إليها عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم، وأوصاه أن يدعو الناس إلى مبايعته، غير أن سعيدا الأزدي كان لا يزال متشيعا للأمويين، فلم يقبل على دعوة عبد الله من المصريين إلا بعضهم.
ولم ترسخ قدم عبد الله بن الزبير في الخلافة إلا بعد وفاة معاوية بن يزيد؛ إذ رأى الكوفة والبصرة والموصل والعراق وقسما من مصر يدعو باسمه، فلم يعد في خشية من شيء؛ فصرح بخلافته. ثم هم بإخضاع مصر فعقد على إمارتها لعبد الرحمن بن عتبة الذي كان أرسله إليها وكيلا؛ فوصلها في شعبان سنة 64ه، وأخرج من كان فيها من دعاة الأمويين، وفيهم سعد الأزدي؛ فبايعه الناس، وفي قلوب بعضهم غل.
أما أهل الشام: فلما علموا بوفاة معاوية بن يزيد بايعوا مروان بن الحكم من بني أمية، فعظم ذلك على عبد الله بن الزبير، وقام لنصرته الضحاك بن قيس في جيش من رجاله، فساروا إلى قرب دمشق، فاتصل خبرهم بمروان، فسار من الجابية لملاقاتهم؛ فالتقى الجيشان في مرج راهط، فحصلت بينهما وقائع كبيرة شفت عن انقلاب جيش عبد الله.
وكان مروان قد أنفذ ابنه عبد العزيز في جيش من أهل الشام لفتح مصر، أما بعد ظفره بجيش ابن الزبير في مرج راهط؛ فاشتدت عزيمته، وحمل بكل جيشه على مصر. فلما علم أميرها عبد الرحمن بن عتبة بذلك أخذ في الدفاع، فحفر حول الفسطاط خندقا عميقا لا يزال أثره باقيا في القرافة، فنزل مروان قرب المطرية، ومعه عمرو بن سعد؛ فخرج عبد الرحمن إليه، واقتتلا شديدا مدة يومين، ولم يظفر أحدهما بالآخر، وبينما كان الجيشان في شغل بين هجوم ودفاع سار عمرو بن سعد في نخبة من رجال مروان قاصدا الفسطاط فدخلها، فلما علم عبد الرحمن بذلك لم ير بدا من المصالحة فتصالحا، ودخل مروان مصر في 10 جمادى الأولى سنة 65ه، فكانت مدة إمارة ابن جحدم تسعة أشهر، وفي هذا اليوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص فاتح مصر، فلم يستطع القوم الخروج بجنازته إلى المدافن لشغب الجند على مروان، فدفنوه في بيته قرب جامع عمرو. أما مروان فلم يكن واثقا بالمصريين وإخلاصهم، وخاف أن يستغيبوه ويعقدوا لعبد الله بن الزبير؛ فولى عليهم ابنه عبد العزيز.
وفي الحال وضع مروان يده على جميع خزائن مصر وأبطل العطاوات، فبايعه جميع الناس إلا جماعة من قبيلة المغافر، قالوا: لا نخلع بيعة ابن الزبير؛ فقطع أعناقهم وعنق ابن همام رئيس قبيلة لخم، وكان من قتلة عثمان بن عفان؛ فخافت الناس، وأجمعوا على مبايعته.
فأقام مروان في مصر شهرين، ثم عهد بمهامها إلى ابنه عبد العزيز، وهم بالرحيل، فقال له ابنه: «يا أمير المؤمنين، كيف المقام في بلدة ليس بها أحد من بني أبي؟» قال له مروان: «يا بني، عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكن لك عينا على غيره وينقد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرا مؤنسا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرا ومشيرا، وما عليك - يا بني - أن تكون أميرا بأقصى الأرض. أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك، وخمولك في منزلك؟»
ثم أوصاه عند خروجه من مصر إلى الشام قائلا: «أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأوصيك أن لا تجعل لداعي الله عليك سبيلا، فإن المؤذن يدعو إلى فريضة افترضها الله؛ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وأوصيك أن لا تعد الناس موعدا إلا أنفذته لهم ولو حملته على الأسنة، وأوصيك أن لا تعجل في شيء من الحكم حتى تستشير؛ فإن الله لو أغنى أحدا عن ذلك لأغنى نبيه محمدا
صلى الله عليه وسلم
عن ذلك بالوحي الذي يأتيه. قال الله عز وجل:
وشاورهم في الأمر » وخرج مروان من مصر لهلال رجب سنة 55ه والحرب لا تزال سجالا بين دعاة مروان ودعاة عبد الله بن الزبير. (4) خلافة عبد الملك بن مروان (من سنة 65-86ه/684-705م)
وفي غرة رمضان من تلك السنة توفي مروان، وله من العمر 63 سنة؛ فبويع ابنه عبد الملك، فأقر أخاه عبد العزيز على مصر، وأخذ في متابعة مشروع أبيه؛ فأنفذ الأجناد إلى جهات العراق والبصرة والجزيرة سعيا في تعميم خلافته، وفي آخر الأمر أرسل إليه الحجاج بن يوسف؛ فحاصر عبد الله بن الزبير في مكة مدة سبعة أشهر، وفي نهاية سنة 71ه قتل عبد الله بن الزبير؛ فخلا الجو لعبد الملك، وكانت وفاته فصلا نهائيا لذلك الخصام بعد أن استمر عشر سنين متوالية، ومملكة الإسلام تتنازعها خلافتان؛ الواحدة في دمشق، والأخرى في مكة.
وفي سنة 69ه أمر عبد العزيز بن مروان ببناء قنطرة الخليج الكبير في طرف الفسطاط بالحمراء القصوى، وبنى مقياسا للنيل في حلوان، وهو أول مقياس بناه المسلمون في مصر، ويقول بعضهم: إن عمرو بن العاص بنى مقياسا قبل ذلك، ولا دليل على صحة هذا القول.
وفي سنة 70ه وقع الطاعون في مصر؛ فخرج عبد العزيز منها، ونزل حلوان؛ فاتخذها دارا، وجعل فيها الأعوان، وبنى فيها الدور والمساجد، وعمرها أحسن عمارة، وغرس نخلها وكرمها.
وفي سنة 77 هدم جامع الفسطاط كله وزاد فيه، وفي أيام عبد الملك ضربت الدنانير المنقوشة؛ الفضية، والذهبية.
وفي آخر أيام هذا الخليفة تم بناء القصر الجميل المدعو الدار المذهبة في شارع سوق الحمام.
وكانت طائفة الكهنة الأقباط معفاة من الضرائب والعوائد، فضرب على الشخص الواحد منهم دينارا، وعلى البطاركة ثلاثة آلاف دينار سنوية.
وسنة 86ه توفي عبد العزيز بن مروان في الفسطاط في 13 جمادى الأولى بعد أن حكم فيها عشرين سنة وعشرة أشهر و13 يوما، وكان جوادا حليما حازما بشوشا، فتولى بعده عبد الله بن عبد الملك بن مروان من قبل أبيه على صلاتها وسنه 29 سنة، وطلب إليه أبوه أن يقتفي آثار عمه عبد العزيز بالفطنة والدراية. (5) خلافة الوليد بن عبد الملك (من 86-96ه/705-714م)
وفي هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان، وبويع ابنه الوليد بن عبد الملك الملقب بأبي العباس، فأقر أخاه عبد الله على مصر، وفي أيام الأمير عبد الله جعلت الكتابة في دواوين مصر باللغة العربية، وكانت لا تزال إلى ذلك الحين بالقبطية، يتولى أمرها أنتناش، فعزله، وولى مكانه ابن يربوع الفزاري من أهل حمص، وغلت الأسعار في إمارته فتشاءم الناس به، وقالوا: إنه كان يقبل الرشوة، ثم وفد على أخيه في صفر سنة 88ه واستخلف عبد الرحمن بن عمر بن قحزم الخولاني، وأهل مصر في شدة عظيمة، وضيق عيش مخيف.
أما الوليد بن عبد الملك: فقد حكم في الإسلام حكما حقا، ووسع نطاق المملكة الإسلامية، وحارب حروبا كثيرة عاد منها ظافرا. منها الحروب الهائلة مع أمراء تركستان والفرس والهند وملك القسطنطينية، وقد فتح طوانة من بلاد الروم، والأندلس، وسمرقند كل هذه الفتوحات والغزوات وغيرها كانت على يد هذا الخليفة الباسل.
وفي 13 ربيع أول سنة 90ه أقيم على مصر قرة بن شريك من أهل قنسرين بدلا من عبد الله بن عبد الملك، وأحيا قرة بن شريك بركة الحبش وغرس فيها القصب، فقيل لها: إصطبل قرة وإصطبل القماش.
وقد تشكى القبط من جوره، فهم يقولون: إنه كان يحتقر اعتقاداتهم، ويدخل أحيانا إلى كنائسهم ومعه رجال من حاشيته ويوقفهم عن صلاتهم .
وفي سنة 93ه أعاد قرة بن شريك - بأمر الوليد بن عبد الملك - بناء جامع عمرو، وفي سنة 96ه توفي قرة في الفسطاط؛ فأقيم مقامه عبد الملك بن رفاعة بن خالد، وكان قرة سيئ التدبير خبيثا ظالما غشوما فاسقا، وبعد ثلاثة أشهر من إمارته توفي الخليفة الوليد في دمشق في 15 جمادى الثانية، بعد أن حكم 9 سنين ونصف، وسنه 48 سنة، وقد بنى مقياسا للنيل في جزيرة الروضة، يقال: إن النيل جرفه، وقال آخرون: إن المأمون أمر بهدمه، وهذه صورة النقود التي ضربت في أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 93ه.
شكل 4-1: نقود الوليد بن عبد الملك. (6) خلافة سليمان بن عبد الملك (من سنة 96-99ه/714-717م)
وبعد وفاة الوليد بويع أخوه سليمان بن عبد الملك الملقب بأبي أيوب، فسار على خطوات أخيه في توسيع نطاق مملكته؛ ففي أول سنة من خلافته فتح طبرستان وجورجيا، وأرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك فحاصر القسطنطينية حصارا شديدا.
وعند أول خلافته أقر عبد الملك بن رفاعة على مصر، وجعل على خراجها أسامة بن يزيد المشهور بالظلم، ولقبه بعامل الخراج، وقد اتفق جمهور المؤرخين من مسلمين وأقباط على استبداد هذا الرجل وعسفه، ومما جعلهم يزيدون تظلما منه: أنه لم يكتف بإعلان الرهبان باستمرار الضريبة عليهم على حين أنهم كانوا ينتظرون رفعها عنهم، لكنه أمر أن يلبس كل منهم في كل سنة خاتما من حديد في إصبعه عليه اسمه، يأخذه من جابي الخراج إشارة إلى خلو طرفه، ومن يخالف ذلك تقطع يده، فإذا أصر على المخالفة يقتل؛ فكانت العساكر تطوف الأديرة والمعابد في هذا السبيل، فكم قتلوا من نفس زكية، وربما كانوا يرون قتلها واجبا، وكان أسامة مع ذلك يظهر رغبة شديدة في إصلاح شئون البلاد، وزيادة محصولاتها؛ فكان من وقت إلى آخر يتفقد الأرض وريها، وينتبه خصوصا لمقاييس النيل التي يعرف منها مقدار المحصولات. فعلم سنة 96ه بسقوط مقياس حلوان، فأعلم الخليفة بذلك؛ فأمر بإغفاله، وإقامة مقياس آخر في جنوبي الجزيرة بين الفسطاط والجيزة، وهو المكان المعروف بالروضة.
ومن ضرائب أسامة ضريبة فادحة مقدارها عشرة دنانير، تطلب من المار في النيل صاعدا أو نازلا، ولا يمر إلا من كان في يده جواز مؤذن له بذلك بعد أداء المبلغ المفروض، ومما يحكى أن أرملة سافرت في النيل مع ابن لها بعد دفع المفرض، ونيل تذكرة المرور بكل مشقة؛ نظرا لضيق ذات يدها، فحدث وهي في أثناء المسير أن ابنها هذا تطاول إلى النيل مستقيا فاختطفه تمساح وابتلعه وثيابه، والناس ينظرون، وكانت تذكرة المرور في جيبه، ولما وصلت المكان المقصود اعترضها صاحب التذاكر، وأبى إلا أن تبرز تذكرتها، فأخبرته ما كان من أمر ضياع ابنها على مشهد من الناس؛ فأغلق أذنيه عن صراخها، ولم يفرج عنها حتى باعت ما في يديها، ودفعت الفلس الأخير.
شكل 4-2: صورة رسالة عربية على البابيروس في أيام بني أمية.
كل هذه الإجراءات وغيرها جعلت المصريين في قنوط فثاروا على أسامة يطلبون الانتقام، وبينما هم في ذلك جاءهم النبأ بوفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك؛ فسكن جأشهم على أمل أن ينالوا ما يريدون ممن يخلفه، وكانت وفاته في 21 صفر سنة 99ه وهو يبني مدينة الرملة في فلسطين بعد أن حكم سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام وسنه 45 سنة، فبويع ابن عمه عمر بن عبد العزيز الملقب بأبي حفص؛ لأنه لم يكن من إخوته وولده من يصلح للخلافة. (7) خلافة عمر بن عبد العزيز (من 99-101ه/717-720م)
وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز محبا للعدالة، فرفع إليه المصريون شكواهم على أسامة؛ فأمر بعزله، وتولية أيوب بن شرحبيل، وكان هذا ورعا منزها مستقيما عادلا؛ فزاد في الإعطائيات، وعطل الحانات؛ فأنسى المصريين ما كان من استبداد أسامة وغلاظته، ثم بعث إليه الخليفة بالقبض على أسامة، وتكبيله بالحديد، وتسمير يديه ورجليه بأطواق من الخشب، وإرساله إليه؛ ففعل، فمات أسامة في الطريق.
وكان على الجيش في مصر حيان بن شريح، فبلغ عمر بن عبد العزيز أنه يطالب المسلمين بالجزية؛ فعظم عليه ذلك، وكتب إليه: «أرى يا حيان، أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، فإن الله تعالى قال:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم
وقال:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .»
فأجابه حيان: «أما بعد، فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار تممت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل.» فكتب إليه عمر: «أما بعد، فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر، وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا؛ فضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك، فإن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
هاديا ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يده.»
وفي 25 رجب سنة 101ه توفي الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد أن حكم سنتين وخمسة أشهر و14 يوما، فرجعت الخلافة لأبناء عبد الملك حسب اشتراط سليمان قبل موته؛ فبويع يزيد بن عبد الملك. (8) خلافة يزيد بن عبد الملك (من 101-105ه/720-724م)
فأقر يزيد أيوب بن شرحبيل على مصر، ثم أنفذ إليه أن يسلم الحكم لبشر بن صفوان الكلبي، وبعد يسير أمره أن يتوجه إلى إفريقية، وأقام مكانه حنظلة بن صفوان، وفي أيامه أمر الخليفة بتكسير ما بقي من التماثيل والأصنام في مصر؛ فكسر معظمها، وفي سنة 104ه عزل حنظلة، وتولى الإمارة محمد بن عبد الملك أخو الخليفة.
وفي 25 شعبان سنة 105ه توفي الخليفة يزيد بن عبد الملك في حران؛ فبويع أخوه هشام، ولم ير المصريون في مدة خلافة يزيد يوم نعيم. (9) خلافة هشام بن عبد الملك (من 105-125ه/724-743م)
فلما بويع هشام أمر بصرف محمد بن عبد الملك عن مصر، وأقام عليها الحر بن يوسف، وفي إمارته كان أول انتفاض القبط سنة 107ه ثم وفد إلى الخليفة، واستعفى من الإمارة في سنة 108ه فولى مكانه حفص بن الوليد، وفي سنة 109ه استبدل حفص بعبد الملك بن رفاعة، وفي تلك السنة توفي ابن رفاعة؛ فتولى مكانه بأمر أمير المؤمنين أخوه الوليد بن رفاعة.
وفي ولايته نقلت قبيلة قيس إلى مصر، ولم يكن فيها أحد منهم؛ فأنزلوا في الحوف الشرقي (الشرقية) وفي أيامه خرج وهيب اليحصبي شاردا في سنة 117ه من أجل أن الوليد أذن للنصارى في ابتناء كنيسة يومنا بالحمراء.
وفي هذه السنة توفيت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وتوفي الوليد في الفسطاط وهو وال أول جمادى الآخرة سنة 117ه بعد أن حكم تسع سنين. فتولى مكانه عبد الرحمن بن خالد الفهمي، وبعد سنة توفي عبد الرحمن، وخلفه حنظلة بن صفوان؛ فحكم في مصر هذه المرة ست سنوات، وكان عاتيا غشوما رغم رغبة الخليفة إليه أن يعامل الناس بالرفق والمعروف، ولم يكتف بالضرائب المفروضة على الإنسان، ففرضها على الحيوانات، وكان يختم الوصايا المعطاة منه بختم عليه صورة أسد، وكان يقطع يد كل من لم يكن ناقلا هذا الرسم من المسيحيين.
فكاتب المصريون الخليفة بشأن ذلك؛ فأنفذ إليه في سنة 124ه يعزله عن مصر، ويأمره أن يتوجه إلى أفريقية؛ ففعل، فولى مكانه حفص بن الوليد الحضرمي، وهذه هي المرة الثانية لإمارته.
وفي 6 ربيع الآخر سنة 125ه توفي الخليفة هشام بن عبد الملك وسنه 56 سنة، ومدة حكمه 19 سنة و7 أشهر و11 يوما، ومن أعماله التي تستحق الذكر: أنه تغلب على الروم.
وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك سنة 107ه كما ترى في شكل
4-3 .
شكل 4-3: نقود الخليفة هشام. (10) خلافة الوليد بن يزيد (من 125-126ه/743-744م)
ولما توفي هشام بويع الوليد بن يزيد الملقب بأبي العباس وأمر بصرف حفص عن مصر مع ما عرف به من النزاهة والاستقامة وثقة الأهالي فيه، وأقام عوضا عنه عيسى بن أبي عطاء على الخراج فقط، ولم يكن عيسى من السياسة على شيء؛ فأثار بسوء تصرفه خواطر المصريين ثانية، والخليفة لم يكن أحسن سياسة منه؛ لأنه جمع جميع الصفات التي تحط من قدر الملوك، فأثار عليه رعاياه ولا سيما أهل الشام، فشقوا عصا الطاعة، وطلبوا أن يبدل بيزيد بن الوليد بن عبد الملك، وطلبوا من هذا إذا كان يقبل ذلك، فأجاب بالإيجاب، وجعل لمن يأتيه برأس الوليد بن يزيد مائة ألف دينار، ثم قتل الوليد وسنه 42 سنة، ولم يحكم إلا سنة واحدة وشهرين و20 يوما. (11) خلافة يزيد بن الوليد ثم إبراهيم بن الوليد (من 126-127ه أو من 744-745م)
فبويع يزيد بن الوليد الملقب بأبي خالد في 18 جمادى الآخرة من سنة 126ه إلا أن تلك المبايعة لم تكن كافية لتسكين خواطر الناس؛ لأن الثورة كانت قد امتدت إلى أطراف العالم الإسلامي حتى هددت المملكة بالسقوط. فإن أهل حمص لم يبايعوا يزيد، بل قاموا يطالبون بدم الوليد، وسليمان بن هشام نجا من سجنه في عمان، وجمع إليه أجنادا، وسار إلى دمشق يطالب بحقوق الخلافة، وأهل فلسطين ثاروا على أميرهم وقتلوه، ومروان بن محمد الحمار جرد من أرمينيا مطالبا بدم الوليد، وكان جيشه غفيرا؛ فلما بلغ حران خافه يزيد فكاتبه وعاهده على أن يخلي له ما بين النهرين وأرمينيا وأذربيجان حقنا لدماء العباد، وبعد ذلك بيسير توفي يزيد بالطاعون وسنه 40 سنة ولم يحكم إلا خمسة أشهر وعشرة أيام.
وفي يوم وفاة يزيد بويع إبراهيم بن الوليد أخوه من أبيه، ولم تكن تلك المبايعة مفرحة له؛ لأنه جاء الخلافة وهي في معظم الاضطراب. فلما علم مروان بن محمد بوفاة يزيد نكث المعاهدة، وجرد جيشا من 80 ألف مقاتل إلى قنسرين ينكر المبايعة على إبراهيم، فبعث إبراهيم مائة ألف مقاتل تحت قيادة سليمان بن هشام لملاقاته في حمص، وكان مروان ينتحل سببا يسوغ له الهجوم على دمشق؛ فادعى أنه جاء لإنقاذ الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد من سجن دمشق.
وقبل مباشرة الحرب كتب مروان إلى سليمان بن هشام في حمص يسأله إذا كان يوافقه على خلع الخليفة إبراهيم وتولية أحد أبناء الخليفة السابق؛ فأبى، فحاربه مدة ففر سليمان ورجاله إلى دمشق. فلما دخلها تعاقد مع الخليفة إبراهيم، وجعلا أيديهما على الخزائن، ثم أخرجا ابني الوليد من السجن وقطعا عنقيهما؛ لأنهما منشأ تلك المتاعب لعلهما يتخلصان من المقاومين، فجاء الأمر بالعكس؛ إذ عظمت دعوى مروان فادعى أن الخليفة الذي يقتل أبناء أخيه بغير الحق لا يصلح للخلافة، وطلب خلعه، وما زال حتى دخل دمشق في الشهر الثاني من سنة 127ه ووضع يده على الأحكام، ودعا إلى مبايعته؛ فبايعه الجميع، حتى الخليفة إبراهيم؛ لأنه اشترى حياته بهذه المبايعة، وكانت مدة خلافة إبراهيم 69 يوما، وعاش بعد الخلع ست سنوات. (12) خلافة مروان بن محمد (من 127-132ه/744-750م)
وكان لمروان بن محمد ثلاثة ألقاب؛ الأول: أبو عبد الملك، لقب به يوم ولادة ابنه البكر، والثاني: الجادي نسبة إلى عمه جاد بن درهم، والثالث: الحمار، وكان مشهورا به أكثر مما بغيره، وأصل تلقيبه به: أنه كان ثابتا في الحروب؛ فلقبوه بحمار الوحش، ثم أهملت الكلمة الثانية فتنوسيت، وبقيت الأولى وحدها.
فلما تمت له المبايعة سنة 127ه أبدل حفص بن الوليد أمير مصر بحسان بن عتاهية النجيبي، فشق ذلك على المصريين؛ فوثبوا عليه، وقالوا: لا نرضى إلا بحفض، وركب جماعة منهم إلى المسجد ودعوا إلى خلع مروان، وحبسوا حسان في داره، وقالوا: اخرج عنا فإنك لا تقيم معنا ببلد، فأخرجوه بعد 17 يوما من توليته، وأخرجوا معه عيسى بن أبي عطاء صاحب الخراج؛ فولى مروان على مصر الحفص بن الوليد، وهي المرة الثالثة لولايته عليها، وفي سنة 128ه صرفه مروان، وولى مكانه الحوثرة بن سهل بن عجلان، والمصريون غير راضين بذلك، فسار إليها في آلاف بأول المحرم، وقد اجتمع الجند على منعه، فأبى عليهم حفص، فخافوا حوثرة، وسألوه الأمان؛ فأمنهم، ونزل في ظاهر الفسطاط.
وبعد سنة ونصف (في 24 رجب سنة 131) عزل حوثرة، وولى مكانه المغيرة بن عبيد الله الفزاري، وبعد يسير توفي المغيرة، وولي مكانه عبد الملك بن موسى، وكان واليا على الخراج فلما تولى الإمارة أمر باتخاذ المنابر في الكور، ولم تكن قبله وكان ولاة الكور يخطبون على العصي إلى جانب القبلة.
والمغيرة آخر من تولى مصر من قبل الدولة الأموية؛ لأنها كانت على شفا السقوط، وقد انتشر الفساد في أنحاء المملكة الإسلامية؛ فثارت حمص على مروان، وكانت أول من جاهر بدعوته - كما علمت - فسامها الرضوخ فأبت ، ومثل ذلك فعلت دمشق وكانت أول من دعا إلى بيعته، وبويع سليمان بن هشام على البصرة، ثم تقدم بجيشه إلى قنسرين؛ فحاربه مروان، وقتل من رجاله ثلاثين ألفا؛ فانهزم سليمان إلى حمص، وحاصر فيها، فجهز إليهم مروان وحاصره هناك.
وكثر منازعو مروان على الخلافة، وفي مقدمتهم أبو العباس الهاشمي أول خلفاء الدولة العباسية، وكان قد بايعه الفرس في أقصى الشرق (خراسان) بمساعدة أبي مسلم الخراساني، وكان قد أرسله إليها داعيا وهو لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر، لكنه أظهر همة ودراية لا تتفقان إلا بالرجال العظام؛ فتملك قلوب الناس، وجمع كلمتهم إليه، وحارب جيوش مروان في خراسان فظفر بها، فتقدم إلى العراق حتى أتى الكوفة فافتتحها، وخطب فيها لأبي العباس. أما مروان فلم يظفر بحمص، وسار إلى الموصل فاضطهده أهلها فقنط من الفوز؛ فعاد على أعقابه إلى سوريا، فرآها مجمعة على عصيانه، فلم ير له ملجأ إلا مصر؛ لأنها كانت لا تزال إلى ذلك الحين على بيعته.
أما أبو العباس فلما استتب له الأمر في الكوفة جعل على البلاد التي صارت تحت حكمه ولاة اختارهم من ذويه، ثم بايعه أهل الشام ومن والاهم، وهكذا كانت نشأة الدولة العباسية التي أقيمت على أنقاض الدولة الأموية.
ثم رأى أبو العباس - تثبيتا لقدمه في الخلافة - أن يقتل كل من بقي من أبناء الدولة الأموية ودعاتها ولو بايعوه، فأمر بالقبض عليهم، وهم ثمانون نفسا بين نساء ورجال وأولاد، فأمر بذبحهم معا بغير شفقة؛ فلقب من ذلك الحين بالسفاح، ولم ينج من هذه المذبحة إلا شاب يقال له: عبد الرحمن حفيد الخليفة هشام فر إلى الأندلس (إسبانيا) وأسس فيها دولة أخرى أموية.
أما مروان فجاء مصر على أن يستبقيها له؛ فأرسل عبد الله عم أبي العباس أخاه صالح بن علي يقتفي أثره، وأمره أن يقبض عليه بأي وسيلة كانت، فسار صالح في جيش عظيم، ومعه أبو عون عبد الملك بن يزيد، ونزل على جبل يشكر حيث جامع ابن طولون اليوم، وكان قسما من الفسطاط في أول عهدها، ثم صار خرابا. فأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيه؛ فابتنوا وقاموا فيه معسكرهم، ودعوه بالعسكر، واتصل بناؤه ببناء الفسطاط، وبنيت فيه بعد ذلك دار الإمارة، وجامع عرف بجامع العسكر، ثم عرف بجامع ساحل الغلة، وصار هناك مدينة ذات أسواق ودور عظيمة، وصار أمراء مصر ينزلون فيه من بعد أبي عون إلى أن بنى أحمد بن طولون القطائع، وأقام فيها قصره.
ثم أخذ صالح بن علي في مطاردة مروان، فأدركه في قرية بوصير من الجيزة، وقتله في 27 جمادى الآخرة سنة 132ه وسنه سبعون سنة، وقال آخرون 59، ونقل رأسه إلى أبي العباس السفاح، وكانت مدة خلافة مروان خمس سنوات وشهرا واحدا، وهو آخر خليفة من الدولة الأموية بالشام.
الفصل الخامس
الدولة العباسية للمرة الأولى
من سنة 132-257ه/750-870م (1) خلافة أبي العباس بن محمد (من 132-136ه/750-754م)
بويع الخليفة أبو العباس عبد الله بن محمد الملقب بالسفاح في 13 ربيع أول سنة 132ه وهو من سلالة العباس بن عبد المطلب، وأول الخلفاء العباسيين؛ فأقال ولاة الأمصار الذين كانوا قبل خلافته، وأبدلهم بولاة من أقاربه وذويه. فجعل على مصر عمه صالح بن علي قاتل مروان. فسار صالح حتى دخلها في محرم سنة 133ه وبعد يسير بعث إلى الخليفة وفدا من أهل مصر بمبايعتها، ثم قبض على عبد الملك بن موسى وجماعته، وقتل كثيرا من دعاة بني أمية، وحمل طائفة منهم إلى العراق؛ فقتلوا بقلنسوة من أرض فلسطين، وفي غرة شعبان سنة 133ه ورد إليه كتاب أمير المؤمنين بإمارته على فلسطين، وأن يستخلف على مصر من أراد؛ فاستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد نائبا عنه، وسار ومعه عبد الملك بن نصير، وعدة من أهل مصر.
وفي 13 ذي الحجة سنة 136ه توفي أبو العباس في الهاشمية سرير خلافته بعد أن قضى على دست الخلافة 4 سنوات و8 أشهر و26 يوما، وسنه 33 سنة ونصف، وهو أول من اتخذ وزيرا؛ لأن خلفاء بني أمية لم يكونوا يستوزرون، ولكنهم استكتبوا. (2) خلافة المنصور بن محمد (من 136-158ه/754-775م)
وخلف أبا العباس أخوه المنصور بن محمد، الملقب بأبي جعفر، واتخذ الهاشمية سريرا لملكه كما فعل سلفه، وفي سنة 140ه عهد ولاية مصر إلى أبي عون الذي كان نائبا فيها، وفي سنة 141ه عزل أبا عون عن مصر وولي موسى بن كعب، وكان أحد نقباء العباسيين؛ فدخل مصر في 15 ربيع آخر من السنة المذكورة، ونزل العسكر.
وفي 5 ذي الحجة من تلك السنة عزل موسى وولى محمد بن الأشعث الخزاعي، وأراد توليته أمر الخراج فأبى، فتولاه نوفل بن الفرات، ثم رأى بعد حين أن أهل الدواوين مالوا بكليتهم نحو صاحب الخراج فندم، وآل الأمر إلى نفور بينه وبين نوفل، وفي 5 رمضان سنة 143ه صرف محمدا وولى حميد بن قحطبة بن شبيب الطائي فجاء مصر بجيش، وفي 22 ذي القعدة سنة 144ه صرفه وولى يزيد بن حاتم المهلبي.
فترى أنه تقلب على مصر في مدة لا تتجاوز سبع سنوات ستة أمراء؛ الأمر الدال على ما فطر عليه المنصور من التقلب، فإنه كان لا يثق بأحد، ولا يقر على أمر، وكان كثير الهواجس والظنون، سريع الحكم، ويدلك على ذلك ما كان من أمره مع أبي مسلم الذي له الفضل على جميع الخلفاء العباسيين؛ إذ لولا مساعيه ما وصلت الخلافة إلى يدهم. فإنه بمجرد ما قيل له: إن أبا مسلم متشيع لأهل البيت أمر بقتله، ولشدة هواجسه ترك الهاشمية التي كانت إلى ذلك العهد (سنة 145ه) سريرا للخلافة العباسية، وشرع في بناء مدينة دعاها مدينة السلام، ثم دعيت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين. ثم خلع عن ولاية العهد ابن أخيه عيسى بن موسى، وكان السفاح قد أوصى له بها بعده، وبايع لابنه محمد المهدي بن المنصور مكانه على أن يكون عيسى المذكور خليفة بعده.
أما يزيد بن حاتم فتولى مصر في أيام المنصور نحوا من ثماني سنين عمل فيها بأمانة، وفي إمارته ظهرت دعوة بني الحسن بن علي بمصر، وتكلم بها الناس، وبايع كثير منهم لعلي بن محمد بن عبد الله، وطرق المسجد في 10 شوال سنة 145ه ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي في ذي الحجة فنصب في المسجد، وفي تلك السنة منع يزيد أهل مصر من الحج، ولم يحج منهم أحد، ولا من أهل الشام؛ لما كان في الحجاز من الاضطرابات بأمر بني حسن، وفي سنة 146ه ورد كتاب أبي جعفر يأمر يزيد بن حاتم بالتحول من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر من أجل ليلة المسجد.
شكل 5-1: خريطة بغداد.
وفي هذه السنة كان الفراغ من بناء مدينة بغداد، فتحول إليها الخليفة أبو جعفر المنصور في صفر، فلما دخلها أمر أن تجتمع إليه العلماء والفلاسفة، وفي سنة 147ه حج يزيد واستخلف عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج صاحب شرطته، وبعث جيشا لغزو الحبشة من أجل خارجي ظهر هناك؛ فظفر به الجيش، وقدم رأسه في عدة رءوس؛ فحملت إلى بغداد.
وفي سنة 148ه ضم يزيد برقة إلى عمل مصر، وهو أول من فعل ذلك، وفي سنة 150ه خرج القبط في سخا؛ فبعث إليهم جيشا فرجع منهزما، وفي سنة 152ه توفي يزيد بن حاتم، وأقام المنصور عوضا عنه عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وهذا لم يحكم مصر إلا 3 سنين، وفي سنة 155ه أبدل بأخيه محمد بن عبد الرحمن، وفي سنة 156ه توفي محمد المذكور فولى مكانه موسى بن علي بن رباح.
ولداعي هذه التغييرات الكثيرة في إمارة مصر لم يرتح أهلها، فلم يكن لها فرصة للتقدم خطوة نحو الأمام؛ لاعتقاد كل حاكم أنه عن قليل معزول، فبدلا من أن يسعى في زرع ما ربما لا يستغله كان يسعى فيما فيه نفعه الشخصي، ولذلك كان كل واحد منهم يزيد في مقدار الضرائب المفروضة، أو يخترع ضرائب جديدة بحيث إنه لم يبق شيء معفي من الضرائب؛ حتى الفعلة، وبائعي البقول، وقادة الجمال، وكل الصناع، حتى المتسولين، كل هؤلاء كانوا يدفعون الضرائب، فعم البلاء، واشتد الجوع؛ فأكل الناس الكلاب، ولحم الآدميين!
وفي 6 ذي الحجة سنة 158ه توفي أبو جعفر المنصور، وهو في بير ميمون على بضعة أميال من مكة؛ حيث توجه لقضاء فروض الحج، وكان عمره 63 سنة، ومدة حكمه 22 سنة إلا 7 أيام، وهذه صورة من النقود التي ضربت في أيام الخليفة المنصور سنة 146ه (انظر شكل
5-2 ).
شكل 5-2: نقود المنصور. (3) خلافة محمد المهدي (من سنة 158-169ه/775-785م)
فخلفه محمد المهدي ابنه، وهو الخليفة الثالث من بني العباس، وكان كأبيه متقلبا مترددا، وفي سنة 159ه صرف موسى بن علي عن مصر، وولى محمد بن سليمان من أهالي سوريا، ثم عزله وأعاد موسى بن علي، وفي سنة 160ه صرف هذا وولى عيسى بن لقمان الجمحي، وفي سنة 160ه صرف عيسى وولى واضحا مولى أبي جعفر، وبعد يسير أبدله بمنصور بن يزيد الرعيني، وهو ابن خال الخليفة المهدي، وفي سنة 163ه أبدله بيحيى بن داود الملقب بأبي صالح من أهل خراسان، وكان أبوه تركيا، وهو من أشد الناس، وأعظمهم هيبة، وأقدمهم على الدم، وأكثرهم عقوبة؛ فمنع من إغلاق الدروب ليلا، ومن إغلاق الحوانيت حتى جعلوا عليها شرائح القصب لمنع الكلاب، ومنع حراس الحمامات أن يجلسوا فيها، وقال: «من ضاع له شيء فعلي أداؤه» فكان الرجل يدخل الحمام فيضع ثيابه، ويقول: «يا أبا صالح، احرسها» فكانت الأمور جارية على هذا النمط مدة ولايته، وأمر الأشراف والفقهاء وأهل النوبات بلبس القلانس الطوال، والدخول بها عليه يوم الاثنين والخميس بلا أردية، وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكره قال: هو رجل يخافني ولا يخاف الله.
وفي سنة 164ه عزل أبو صالح وولى سالم بن سوادة التميمي، وفي 15 محرم سنة 165 عزله المهدي وولى إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فابتنى دارا عظيمة بالموقف من العسكر، وخرج دحية بن المعصب من نسل عبد العزيز بن مروان نابذا، ودعا إلى نفسه بالخلافة؛ فتراخى عنه إبراهيم، ولم يحفل بأمره حتى ملك عامة الصعيد؛ فسخط المهدي على إبراهيم، وعزله عزلا قبيحا في 7 ذي الحجة سنة 167ه وولى موسى بن مصعب بن الربيع من أهل الموصل.
ولما جاء هذا مصر أخذ من إبراهيم وممن كان معه ثلثمائة ألف دينار، ثم سيره إلى بغداد، وشدد موسى في استخراج الخراج، وزاد على كل فدان ضعف ما يقبل، وجعل يقبل الرشوة، وضرب خراجا على الحوانيت وعلى الدواب؛ فتضايق الأهالي، وكره الجند ذلك ونابذوه، وثارت قيس واليمانية، وكاتبوا أهل الفسطاط فاتفقوا عليه؛ فبعث بجيش لقتال دحية بالصعيد، وخرج في جند مصر كلهم لقتال أهل الحوف، فلما التقوا انهزم عنه أهل مصر بأجمعهم، وأسلموه؛ فقتل في 9 شوال سنة 168ه من غير أن يتكلم أحد منهم، وكانت ولايته عشرة أشهر وكان ظالما غاشما.
فولى المهدي مكانه أسامة بن عمر وقتيا إلى أن أنفذ إليها الفضل بن صالح أخا إبراهيم - المتقدم ذكره - أميرا فأخذ يسعى في إخماد ثورة أهل الحوف، وخاف خروج دحية؛ لأن الناس كانوا قد كاتبوه ودعوه، فسير الفضل عساكره إليه، وكان قد أتى بها من الشام فانهزمت رجال دحية، وقبض عليه، وسيق إلى الفسطاط؛ فضربت عنقه في جمادى الآخرة سنة 169ه وكان يقول للفضل: أنا أولى الناس بولاية مصر؛ لأني قمت في أمر دحية، وقد عجز عنه غيري، ويقال: إنه ندم على قتل دحية، وفي تلك السنة بنى الفضل الجامع بالعسكر، وكان الناس يجتمعون فيه.
وبقيت مصر في راحة وهدوء تامين بعد إخماد ثورة أهل الحوف، وكذلك كانت سائر الإمارات الإسلامية؛ فسكن بال الخليفة المهدي من قبيل داخلية المملكة، فعكف على توسيع نطاقها؛ فغزا ملك اليونان بجند تحت قيادة ابنه الثاني هارون الرشيد، فتغلب هارون على بلدان عديدة ضمها إلى مملكة أبيه، ووضع على القسطنطينية جزية مقدارها سبعون ألف دينار، فأظهر هارون شجاعة وإقداما وقعا في عيني أبيه موقعا عظيما؛ فكافأه بأن جعل له حق الخلافة بعد أخيه موسى الهادي، وفي 23 محرم سنة 169ه توفي الخليفة المهدي، وله من العمر 42 سنة، ومدة حكمه عشر سنين وشهران ونصف، وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة المهدي سنة 163ه (انظر شكل
5-3 ).
شكل 5-3: نقود الخليفة المهدي. (4) خلافة موسى الهادي (من سنة 169-170ه/785-786م)
فبويع موسى الهادي، وهو الخليفة الرابع من بني العباس، وحالما استلم زمام الأحكام عزل الفضل بن صالح عن مصر وولى علي بن سليمان، وحاول إلغاء وصية أبيه القاضية بخلافة هارون من بعده على نية أن يجعل الخلافة لابنه ، لكنه لم يأت على إدراك مناه حتى أدركه الموت في يوم الجمعة الواقع في 14 ربيع الأول سنة 170ه وعمره 24 سنة، ولم يحكم إلا سنة وشهرا و22 يوما. (5) خلافة هارون الرشيد (من سنة 170-193ه/786-809م)
فبويع ابنه هارون الرشيد يوم وفاة أخيه، وهو الخليفة الخامس من بني العباس، وفي أيامه بلغت دولة العرب من العمران والمجد ما فاح أرجه في أقاصي الأرض المعمورة، ولم تعد ترى عصرا مثل ذلك العصر، وكأن شمس الدولة العربية في أيامه بلغت خط الهاجرة، ثم أخذت تنحدر بعده رويدا رويدا نحو الأفق، وفي يوم مبايعته ولد له غلام دعاه عبد الله، وهو بكر أولاده، وولي عهده، ولقب بعدئذ بالمأمون.
وأقر هارون الرشيد عليا على مصر، فأظهر هذا في ولايته حزما وسياسة، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ومنع الملاهي والخمور، لكنه عكف على هدم الكنائس المحدثة في مصر، فبذل له النصارى خمسين ألف دينار على أن يتخلى عن هدمها فأبى، وكان كثير الصدقة فعلق به الأهلون حتى قالوا: إنه أهل للخلافة فطمع فيها؛ فسخط عليه هارون الرشيد وعزله، وولى مكانه موسى بن عيسى العلوي في 6 ربيع أول سنة 171ه وحالما استلم زمام الإمارة أذن للمسيحيين بابتناء الكنائس التي هدمت بأمر علي بن سليمان، فابتنيت بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة.
وفي 14 رمضان سنة 172ه عزل بعد أن تولى الإمارة سنة وخمسة أشهر، وتولى مكانه مسلمة بن يحيى، وفصل بين إدارة الحكومة والمالية أو الخراج، وجعل على الخراج عمر بن غيلان، وفي 5 شعبان سنة 173ه عزل مسلمة بن يحيى عن الصلاة وتولى محمد بن زهير، وفي غاية ذي الحجة سنة 173ه عزل وتولى مكانه داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة، وفي 7 صفر سنة 175ه عزل داود بن يزيد وولى مكانه موسى بن عيسى ثانية، وفي هذه السنة أوصى هارون الرشيد بالخلافة لابنه الثاني محمد الملقب بالأمين وهو لم يبلغ الخامسة من عمره وأخوه المأمون في السادسة، وسبب ذلك: أن الأمين كان ابن زبيدة ابنة عم الخليفة، وأما المأمون فكان ابن جارية فارسية؛ فغضبت زبيدة لحرمان ابنها من الخلافة، وكان الرشيد يحبها فأوصى بالخلافة لابنها الأمين على أن يكون للمأمون حق الخلافة بعده.
وفي 26 صفر سنة 176ه عهدت إمارة مصر إلى إبراهيم بن صالح ثانية، وكان قد تولاها في خلافة أبي جعفر كما تقدم، وفي 18 رمضان سنة 176ه تولى إمارة مصر عبد الله بن المسيب بن زهير الضبي أخو محمد بن زهير، ثم صرف في رجب سنة 177، فخلفه إسحاق بن سليمان من بني العباس؛ فلما وصل مصر زاد في خراج المزارعين زيادة أجحفت بهم، فخرج عليه أهل الحوف فحاربهم؛ فقتل كثير من أصحابه، فكتب إلى الرشيد بذلك؛ فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم، وبعث به فنزل الحوف فتلقاه أهله بالطاعة وأذعنوا فقبل منهم، واستخرج الخراج كله؛ فسر الخليفة مما أتاه هرثمة من النصر، فصرف إسحاق بن سليمان وولى مكانه هرثمة في 2 شعبان سنة 178ه وبعد قليل أرسل الرشيد هرثمة إلى إفريقية وولى على مصر عبد الملك بن صالح أخا إبراهيم بن صالح على الصلاة، وأرسل معه عبد الله بن زهير على الخراج.
وفي 12 محرم سنة 179ه أبدل عبد الملك بن صالح بعبيد الله بن المهدي شقيق الخليفة، وبعد قليل تنحى هذا عن الإمارة لموسى بن عيسى وهي المرة الثالثة لإمارته، وفي سنة 180ه عادت إمارة مصر إلى عبيد الله بن المهدي ثانية، وفي 7 رمضان سنة 181ه سلمت إمارة مصر إلى إسماعيل بن صالح، وكان خطيبا بليغا؛ فقال فيه ابن عفير: «ما رأيت على هذه الأعواد أخطب من إسماعيل بن صالح.»
وفي 14 جمادى الآخرة سنة 182ه صرف الرشيد إسماعيل بن صالح وولى إسماعيل بن عيسى العباسي، ثم صرف هذا وولى الليث بن الفضل البيوردي من أهل بيورد، فقدم مصر في 5 شوال سنة 182ه وخرج منها في رمضان سنة 183 إلى الخليفة بالهدايا والمال، واستخلف أخاه الفضل بن علي في مصر، ثم عاد في آخر السنة، وخرج ثانية بالمال في 21 رمضان سنة 185ه واستخلف هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، ثم عاد في 14 محرم سنة 186ه فكان كلما أغلق خراج سنة وفرغ من حسابها خرج بالمال إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد مع الحساب.
ثم بعث بمساح يمحسون الأراضي، ومن جملتها أراضي أهل الحوف، فانتقض لهم من القصبة أصابع؛ فتظلموا إلى الليث، فلم يسمع منهم، فتجهزوا وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة 186ه فالتقى بهم في رمضان فانهزم عنه الجند في 12 منه، وبقي في نحو المائتين، فحمل بمن معه على أهل الحوف فهزمهم حتى بلغ بهم غيقة، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة، وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسا من رءوس القيسية، ولما عاد إلى الفسطاط عاد أهل الحوف إلى منازلهم، ومنعوا الخراج، فسار الليث إلى الخليفة هارون الرشيد في محرم سنة 187ه وطلب إليه الجيوش؛ لأنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث به معه، وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد فرفع محفوظ إلى الرشيد يضمن له خراج مصر عن آخره بلا سوط ولا عصا فولاه الخراج، وصرف الليث بن الفضل عن صلاة مصر وخراجها.
وفي 25 جمادى الآخرة سنة 187ه عزل، وأقيم مقامه أحمد بن إسماعيل بن صالح، وفي 18 شعبان سنة 189ه أبدل بعبد الله بن محمد العباسي الملقب بابن زنيبة، وفي هذه السنة أبدل عبد الله المذكور بحسين بن جميل التختاخ، وفي أيامه امتنع أهل الحوف من الخراج، فبعث إليه الخليفة هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم. فنزل بلبيس في شوال سنة 191ه وصرف الحسين بن جميل عن إمارة مصر في شهر ربيع الآخر سنة 193ه وولى مالك بن دلهم، وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف، وقدم الفسطاط في جمادى الثانية فورد عليه كتاب الرشيد يأمره بالخروج إليه، فكتب إلى أهل الحوف أن أقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم، وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم. فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية، وقد أعد لهم القيود، فأمر بالأبواب فأخذت، ثم دعا بالحديد فقيدهم، وتوجه بهم في منتصف رجب، وفي السنة التالية عهدت إلى الحسين قيادة الجيش والخراج فضلا عن الإمارة، وفي 12 ربيع آخر سنة 192ه أبدل بمالك بن دلهم، وكان على الخراج الخصيب بن عبد الحميد، وإليه تنسب مدينة منية خصيب.
وأخيرا في 4 صفر سنة 193ه عادت إمارة مصر إلى الحسن بن جميل إلى أن توفي الخليفة هارون الرشيد في 3 جمادى الآخرة من تلك السنة في طوس، وسنه 47 سنة، ومدة حكمه 23 سنة وشهر و19 يوما، ولا حاجة لتعداد خلال هذا الخليفة الذي رفع شأن الخلافة الإسلامية إلى حد من العظمة لم تدركه في سائر أطوارها؛ فقد كان حازما عادلا تقيا باسلا وديعا محبا للعلم والفضل وأهلهما، ولدينا من الأحاديث عن كرم أخلاقه ما يتحدث به العامة والخاصة؛ فنكتفي بأنه جعل الخلافة علما هو مسماها، فإذا قيل لنا: إن الأمر الفلاني حصل في أيام الخليفة، نفهم أنه حصل في خلافة هارون الرشيد.
ومما يحكى عنه أنه كان بينه وبين شرلمان ملك فرنسا في ذلك العهد صداقة وولاء، وأنه أهدى إليه أشياء كثيرة من أعمال الشرق منها الساعة الشهيرة المكتوب عليها بالحروف الكوفية، وهذه صورة النقود التي ضربت في أيام الخليفة هارون الرشيد سنة 191ه (انظر شكل
5-4 ).
شكل 5-4: نقود هارون الرشيد. (6) خلافة محمد الأمين (من سنة 193-198ه/809-813م)
وفي يوم وفاة الرشيد خلفه ابنه محمد الأمين. أما المأمون فكان أبوه قبل وفاته قد وهبه جميع حلله وأسلحته الخصوصية وولاه خراسان بما فيها من العدة والرجال، وأن يكون عليها حاكما مستقلا عن أخيه الأمين. فالأمين عند استلامه زمام الخلافة أنكر على أخيه وصية أبيهما، ولم يسلمه شيئا مما له ألحق به، ويقال: إن كل ذلك كان بدسيسة الفضل بن ربيع. فتنافر الأخوان، والأمين أشدهما ضغينة، فأرسل إلى الكعبة فأتى بالكتابين اللذين جعلهما الرشيد هناك ببيعة الأمين والمأمون؛ فأحرقهما الفضل، وجعل ولاية العهد لموسى بن الأمين، فلم يبق بعد ذلك باب للمصالحة بين الأخوين، وكان الأمين محبا للهو ومعاقرة الخمرة. أما المأمون فكان متيقظا يتحين الفرص، فدعا إلى مبايعته بخراسان، فالتف حوله حزب كبير يدعون إلى نصرته؛ لما رأوا فيه من العدل وكرم الأخلاق، ثم جعل المأمون يجمع قواته ، ويستنصر دعاته ، واتحد معه هرثمة بن أعين الذي كان أميرا على مصر قبل ذلك الحين، فعظم الأمر على الأمين فولى حاتم بن هرثمة على مصر سنة 194ه استعطافا لأبيه هرثمة، ولكن ذلك لم يجده نفعا؛ لأن هرثمة لم يتحول عن ولاء المأمون.
وفي سنة 159ه أنفذ الأمين جيشا فيه أربعون ألف مقاتل إلى خراسان لمقاتلة أخيه، فلاقاهم طاهر بن الحسين قائد جند المأمون، وأرجعهم على أعقابهم، فعظم المأمون في عيون المسلمين عموما؛ فبايعه أهل خراسان، وتابعهم كثيرون. فلما رأى الأمين ذلك، ورأى أن تولية حاتم بن هرثمة على مصر لم تجده نفعا عزله وولى جابر بن الأشعث في السنة عينها، وابتنى حاتم بن هرثمة في سفح جبل المقطم حيث القلعة الآن قبة عظيمة دعاها قبة الهواء بقيت إلى انقراض دولة بني طولون وخراب القطائع.
وبعد تولية جابر على مصر اشتد أزر الأمين، وطمع بالفوز على أخيه؛ فجند جندا آخر مؤلفا من 40 ألفا لمحاربته، وجندا آخر أنفذه من جهة أخرى تحت قيادة عبد الله بن حميد بن قحطبة الذي كان أبوه أميرا على مصر في عهد أبي العباس. أما طاهر بن الحسين فسار لملاقاتهم ولم يبال بتلك الجيوش، لكنه لم يلتق بهم فتقدم إلى الأهواز.
وكان على مصر جابر بن الأشعث - كما تقدم - فلما حدثت فتنة الأمين والمأمون قام السري بن الحكم غضبا للمأمون، ودعا الناس إلى خلع الأمين فأجابوه، وبايعوا المأمون في 22 جمادى الآخرة سنة 196ه، وقام في بغداد الحسين بن علي أحد سراتها، ودعا الناس إلى خلع الأمين وتولية المأمون فأجابوه، وبايعوا في 11 رجب من تلك السنة، ووثب العباس بن عيسى على الأمين ووالدته زبيدة، وأودعهما السجن موثقين. ثم تمكن الأمين ببعض الوسائط من تسلق كرسي الخلافة ثانية فبايعه من في بغداد فقط. أما خلافة المأمون فكانت على الحجاز واليمن والشام ومصر وغيرها، وعقد على مصر لحاتم بن هرثمة بن أعين، وأرسل إليها عباد بن محمد نائبا عنه مؤقتا.
وفي سنة 197ه حمل طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين على بغداد، وحاصراها نحوا من سنة ، فضجر الأهالي، وملوا من طول هذه المحاصرة، وصاروا ينظرون لها نهاية فلم يروا لها حلا إلا بخلع الأمين فخلعوه للمرة الثانية ففر، وبعد قليل قبض عليه، وقتل، وجيء برأسه والخاتم والقضيب والبردة إلى المأمون، ولم يكن عمر الأمين عند موته إلا 29 سنة و3 أشهر وبضعة أيام، ومدة حكمه أربع سنين وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما، وكفت بموته الحروب وحقنت الدماء. (7) خلافة عبد الله المأمون (من 198-218ه/813-833م)
فبويع المأمون مبايعة قطعية في 25 محرم سنة 198ه يوم قتل أخيه الأمين. فاستقدم عباد بن محمد الذي كان عينه نائبا في مصر، وعهد إمارتها إلى المطلب بن عبد الله الخزاعي، وبعد أشهر قليلة أبدل بالعباس بن موسى بن عيسى الذي تولى على مصر ثلاث مرات في أيام هارون الرشيد فتولى صلاتها وخراجها، وفي سنة 199ه تخلى العباس بن موسى عن إمارة مصر؛ فأرسل المأمون عوضا عنه المطلب بن عبد الله سلفه، وبعد قليل أبدل بالسري بن الحكم، وأخذت من ذلك الحين تنتشر المملكة الإسلامية إلا أن الأيام تلد العجائب فتأتيك كل يوم بنبأ جديد.
فإن العلويين سلالة الإمام علي بن أبي طالب لم يكفوا عن المطالبة بحقوقهم في الخلافة؛ فدعوا الناس إلى مبايعة علي بن موسى. فلما علم المأمون بذلك، وكان لا يزال في خراسان استشار وزيره الفضل بن سهل في الأمر، فنصح له أن يوصي بالخلافة بعد وفاته لعلي المذكور؛ لأن الفضل كان شيعيا. إلا أن تلك السياسة لم تفد إلا زيادة الخرق اتساعا، فتضاعف التمرد، ونمت الأحزاب، وقد شق ذلك خصوصا على بني العباس؛ لأنهم رأوا الخلافة قد خرجت من أيديهم إلى العلويين، فثاروا في بغداد سنة 202ه ثورة شفت عن خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي.
أما سطوته فلم تتجاوز سور بغداد؛ لأنه لم يكن أهلا للأحكام، فخارت قواه دون ذلك، فعجز الذين أقاموه عن استبقائه أكثر من سنة وبضعة أشهر، فتنازل عن الخلافة سنة 203ه وفر هاربا، فعاد المأمون إلى بغداد في سنة 204ه فدخلها في حلة خضراء علوية، وبعد أسبوع عادت الجنود إلى الملابس السوداء العباسية .
وفي هذه السنة توفي الإمام محمد بن إدريس الملقب بالشافعي صاحب المذهب الشافعي، وكانت وفاته في الفسطاط، ولم يبلغ من العمر أكثر من 54 سنة، وتوفي أيضا السري بن الحكم أمير مصر، وأقيم مقامه محمد بن السري بمبايعة الجند له بقطع النظر عن أوامر الخليفة بهذا الشأن، وفي سنة 207ه توفي طاهر بن الحسين رئيس قواد المأمون في مرو عاصمة خراسان، وكان قد أقامه المأمون هناك حاكما، فقدم ابنه عبد الله بن طاهر إلى مصر، وأقام في بلبيس.
ونظرا لما بين مصر ودار الخلافة من بعد المسافة أصبح الناس لا يعبأون بالأوامر التي كانت تأتيهم منها، وزد على ذلك أن الدولة أصبحت في ضعف شديد؛ لما كان يهددها من تمرد عمالها، واحتقار رعيتها لها - ولا سيما المصريين - فإنهم كانوا لا ينفكون عن خرق حرمتها، ومخالفة أوامرها حتى عقدوا لعبد الله بن السري عليهم بمبايعة الجند - كما تقدم - وما زالوا على ذلك نحوا من خمس سنوات، وفي سنة 211ه تحصن عبد الله بن طاهر في بلبيس، فالتفت عليه عصبة من أهلها وبايعوه، فاستفحل أمره، فسار إلى الفسطاط في ربيع الأول من تلك السنة، وأنزل عبد الله بن السري، وجعل على الفسطاط عباد بن إبراهيم، وفي سنة 212ه أبدل عباد بعيسى بن يزيد الجلودي.
وفي سنة 213ه أنفذ المأمون إلى عبد الله بن طاهر أن يقف عند حده، وينسحب من مصر، وعقد على مصر وسوريا لأخيه المعتصم، وأعطاه خمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل هذا المبلغ هبة لعبد الله بن طاهر للتعيش، ويقال: إنه أمر بمثل ذلك أيضا لابنه العباس؛ فيكون جملة ما أخرج من خزينته في يوم واحد مليونا وخمسمائة ألف دينار، وهذا منتهى السخاء.
واستخلف المعتصم عمير بن الوليد التميمي على الصلاة في 17 صفر، فخرج ومعه عيسى الجلودي لقتال أهل الحوف، وكانت بينهم معارك عظيمة قتل فيها عمير، فاستخلف مكانه عيسى الجلودي، فحارب أهل الحوف بمنية مطر، ثم انهزم في رجب، وأقبل المعتصم إلى مصر في أربعة آلاف من أتراكه، فقاتل أهل الحوف في شعبان، ودخل إلى مدينة الفسطاط في 22 منه، وقتل أكابر الحوف، ثم خرج إلى الشام في أول محرم سنة 215ه في أتراكه، ومعه جمع من الأسارى في حر وجهد شديد، وولى على مصر عبدويه بن جبلة على الصلات، فخرج أهل الحوف في شعبان، فبعث إليهم وحاربهم حتى ظفر بهم.
ثم قدم الأفشين حيدر بن كاوس إلى مصر في 3 ذي الحجة، ومعه علي بن عبد العزيز الجروي؛ لأخذ ماله فلم يدفع إليه شيئا فقتله وصرف عبدويه، وخرج إلى برقة وولى عيسى بن منصور الرافعي فولي من قبل المعتصم أول سنة 216ه على الصلاة، فانتقضت مصر السفلى عربها وقبطها في جمادى الأولى، وأخرجوا العمال لسوء سيرتهم، وخلعوا الطاعة، فقدم الأفشين من برقة في منتصف جمادى الآخرة، ثم خرج هو وعيسى في شوال؛ فأوقعا بالقوم، وأسرا منهم وقتلا. ثم رجع عيسى فسار الأفشين إلى الحوف، وقتل جماعتهم، وكانت حروب إلى أن قدم الخليفة عبد الله المأمون في 10 محرم سنة 217ه فسخط على عيسى، وحل لواءه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له، وقال له: «لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك؛ حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتم الخبر حتى تفاقم الأمر، واضطربت البلاد.» ثم ولى كيدر الصفدي بالنيابة عن المعتصم.
وسبب قدوم الخليفة إلى مصر: أنه كان عائدا من محاربة الروم، فرأى أن يمر بمصر لمراقبة شئونها، وكان قلقا عليها لما بلغه من تمرد أهلها، ونقض عمالها، فدخلها وجعل يمر بقراها يتفقد أحوالها، ويقال: إنه كان يبني له في كل قرية دكة يضرب عليها سرادقه، والعساكر حوله، وكان يقيم في القرية يوما وليلة، وبلغ الفسطاط في يوم الجمعة 9 محرم سنة 217ه وما زال يتحرى أصول الفساد ويقتلعها إلى أن برح مصر في آخر صفر من تلك السنة قاصدا دمشق.
ولم يفتر المأمون في أثناء تجواله بمصر عن تنظيم أحوالها، وإصلاح داخليتها، وتأييد مجالسها وأحكامها، وأمر بترميم مقياس النيل الذي بناه أسامة في الروضة، وبناء جامع فيه، ومقياس آخر في بنبنودا (الصعيد) وترميم مقياس إخميم.
وبعد أن برح المأمون مصر بلغه أن الدواوين في مصر سارت على خطة لا يرضاها من حيث قبول الزيادات، وفسخ عقود الضمانات، وانتزاعها ممن كابد المشقة والتعب في إصلاحها وإسمادها وتسليمها لمن يدفع الزيادة من غير كلفة ولا نصب. فلما علم بذلك أنكره، ومنع ارتكابه، وأصدر أوامره الصارمة بإعفاء الكافة أجمعين، والضمناء والعاملين من قبلوا الزيادة فيما يتصرفون فيه، ويستولون عليه ما داموا مغلقين، وبأقساطهم قائمين، وتضمن ذلك منشور قرئ على الناس ينبههم فيه إلى ما جاء في الكتاب العزيز:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود .
وفي 19 رجب سنة 218ه توفي الخليفة المأمون على إثر حمى حادة على نهر البذندون في سيلسيا، ودفن في طرسوس، وعمره 48 سنة وبضعة أشهر، ومدة خلافته عشرون سنة وخمسة أشهر و13 يوما.
أما آثار المأمون: فأجل آثار الخلفاء؛ لأنها تدل على ما بلغه العلم، وما بلغت إليه الصناعة من السعة والإتقان، وقد كان لشدة تعلقه بالعلم والصناعة يتعاطاهما بنفسه، ويأخذ بناصرهما، وكان يبذل النفس والنفيس في سبيل تقدمهما، ولولاه لفات العرب كثير من المؤلفات التي كتبت بالفارسية أو السريانية أو اليونانية أو الهندية أو اللاتينية؛ فهو الذي سعى في نقل أكثرها إلى اللغة العربية، ونشط رعيته لمطالعتها، والاستفادة منها، ولا يقتصر فضله من هذا القبيل على أبناء اللغة العربية؛ فإن أهالي أوروبا عموما مدينون له؛ لأنه حفظ لهم كتابات كثيرة يونانية ولاتينية؛ لولا نقلها إلى العربية وحفظها فيها لأزالتها يد الزمان كما أزالت غيرها مما نسمع به ولا نراه، وكان كلفا بمجالسة العلماء والحكماء لا يخلو مجلسه منهم، ولم يكن يقتصر على العلماء من شعبه وملته، لكنه استدعى إليه جماعة من علماء النصارى واليهود واليونان والفرس حتى المجوس والهنود، وقربهم منه، ولم يفرق بين أحد منهم بالإكرام والسخاء، وكان إذا صرفهم إنما يصرفهم متأسفا على مفارقتهم، وهم أشد أسفا منه على ذلك؛ لأنهم كانوا يرتاحون إلى مجالسته لما كانوا يتمتعون به من لطفه ودعته.
وقد نبغ في أيامه علماء كثيرون من المسلمين وغيرهم بعلوم كثيرة كالفلك والهندسة والفلسفة العقلية وغيرها. منهم أحمد بن كثير الملقب بالفرغاني، وعبد الله بن سهل، ومحمد بن موسى، وما شاء الله اليهودي، ويحيى بن أبي المنصور، وقد أقام بواسطتهم الأرصاد الكثيرة، وكان عالما بالفلك، فكان يعاونهم بالرصد أحيانا في مرصد الشماسية قرب بغداد، وأحيانا في المرصد على جبل قيسون قرب دمشق.
ومن الأطباء الذين كانوا يجالسونه: سهل بن سابور، وجبرائيل الذي بحث في الرمد على الخصوص، ويوحنا بن البطريق الملقب بالترجمان؛ لأنه ترجم الكتب الطبية من اليونانية إلى العربية.
1
ففي خلافة المأمون وأبيه بلغت دولة العباسيين مجدا عظيما، واتسع نطاق مملكتهم؛ فبلغت حدود الصين شرقا فاستولوا على الهند، ومنها شمالا إلى السواحل المتجمدة من البحر الشمالي إلى أقصى عشائر الأتراك، وساروا في بلاد اليونان إلى البوسفور، ومن الجنوب إلى جبال الحبش العليا الوعرة المسلك إلى القبائل البربرية في داخلية إفريقيا، ومن الغرب إلى الجزائر فطرابلس الغرب، ومنها شمالا في أوروبا إلى ما وراء الأندلس في أرض فرنسا. فكانت حدود تلك المملكة تلاطمها أمواج الأوقيانوس الأتلانتيكي غربا، والأوقيانوس الهندي والعربي جنوبا، ويكاد يمسها الأوقيانوس المتجمد شمالا.
إلا أنها قبل وفاة المأمون أخذت بالانقسام على نفسها؛ فانحطت شوكتها، وابتدأ ذلك في غربيها، فانفصلت عنها الأندلس، واستقلت بنفسها من زمن المنصور، وتولتها دولة أموية جديدة.
وتمرد طاهر بن الحسين في خراسان (قبل وفاته) فشق عصا الطاعة، واستقل بالحكم بنفسه، وجعله إرثا لنسله من بعده بالاستقلال التام عن بغداد، وتعرف دولتهم هذه بالدولة الطاهرية، ومثل ذلك فعلت أكثر الإمارات اقتداء بمن سار أمامها، فطلبت كل منها استقلالها.
أما مصر: فقد كانت مقطعة للمعتصم، وظلت تابعة لخلافة بغداد، وهي لم تبق إلا لطمع المعتصم بالخلافة بعد المأمون. (8) خلافة محمد المعتصم (من 218-227ه/733-842م)
فلما توفي الخليفة المأمون خلفه أخوه محمد المعتصم بن هارون الرشيد الثالث في 18 رجب سنة 218ه وهو أول من اتخذ لفظ الجلالة في لقبه؛ فلقب نفسه بالمعتصم بالله.
وكان قد أقر إمارة مصر لكيدر الذي كان نائبا عنه فيها، ثم كتب إليه يأمره بإسقاط من في ديوان مصر من العرب، وقطع العطاء عنهم. ففي شهر ربيع آخر سنة 219ه توفي كيدر، وتولى مكانه المظفر بن كيدر، وفي سنة 220ه توفي المظفر وتولى مكانه موسى بن أبي العباس الملقب بالشيباني ويلقبه آخرون بالشامي، وفي سنة 224ه استدعى موسى من مصر؛ فاستخلف مالكا الذي يلقبه بعضهم بالهندي، والبعض الآخر بالكندي، وهو ابن كيدر المتقدم الذكر، وفي سنة 235ه عزل مالك وعهدت ولاية مصر بأمر الخليفة إلى أبي جعفر أشناس، وهو آخر من ولي مصر بأمر المعتصم.
وفي سنة 227ه أصيب الخليفة المعتصم بحمى في سامرا، وفي 18 ربيع أول من تلك السنة توفي، ومن الغريب ما لهذا الخليفة من الحظ في الرقم 8 فإن بينه وبين أبي العباس أول الخلفاء العباسيين ثمانية أعقاب، وولد في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة القمرية، وهو الخليفة الثامن من بني العباس، وتولى الخلافة سنة 218 وسنه 38 سنة وثمانية أشهر، ومدة حكمه 8 سنين و8 أشهر و8 أيام، وتوفي في 18 ربيع في السنة الثامنة والأربعين من عمره، وترك ثمانية أولاد ذكور وثماني إناث، وحضر ثماني مواقع حربية، وأخيرا وجد في خزينته عند موته ثمانية ملايين من الدنانير وثمانون ألف درهم، وقد قيل: إنه بناء على هذا الاتفاق الغريب دعي «بالمثمن».
وقد كان هذا الخليفة نقطة ابتداء تقهقر دولة العرب، ولعله كان السبب في ذلك التقهقر؛ لأنه كان ضعيف السياسة، بعيدا من الفضائل والآداب، أميا لا يعرف الكتابة، لكنه كان قوي البدن يحمل ما وزنه ألف رطل (ليبرا) ويمشي به خطوات، وكان مع ذلك شجاعا ومحبا على نوع خصوصي للحرب، ولاقتناء الأسلحة والخيل الجياد والعساكر المنظمة، وهو أول من جند الأتراك، واستعان بهم في الحرب.
وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة المعتصم سنة 219 للهجرة، أو 834 للميلاد (انظر شكل
5-5 ).
شكل 5-5: نقود المعتصم بالله. (9) مبدأ الدولة الطولونية
إن الأمة العظيمة التي يدعوها بعض المؤرخين تركية، وبعضهم تترية، وفيها شعوب التركمان والمغول والتتر تشغل بقعة من الأرض في آسيا الشمالية تمتد من نهر جيحون إلى حدود الصين، ويحدها شمالا الأوقيانوس المتجمد، ونظرا لما بينهما وبين شبه جزيرة العرب من الأبعاد والجبال والأودية والأنهار؛ مما لا يسهل تخطيه، كانت في مأمن من غزوات العرب وفتوحهم، وفي غنى عن معاهداتهم أو غير ذلك مما يستدعي ارتباطهما الواحدة بالأخرى. إلا أن الشعوب التركية أخذت من عهد الخلفاء الراشدين في غزو بلاد التتر مما يلي بلادها، والعرب أيضا كانوا يفعلون مثل ذلك مما يلي ولاياتهم، وما زالوا يفتحون فيها حتى بلغوا حدود تركستان وما وراءها، فأفضى الأمر إلى تزاحم هاتين الأمتين، فتنازعتا؛ فقامت الحرب بينهما سجالا مدة طويلة في أماكن مختلفة، وكان الاستئسار بينهما متبادلا، فكان العرب يرسلون بأسراهم من الترك إلى بلاط الخلافة بمثابة الجزية؛ لاستعمالهم في منازل الخلفاء، وكبار الأمراء، ويدعونهم بالمماليك.
والمماليك الذين كانوا في دور الخلفاء كانوا يمتازون غالبا بالقوة البدنية والعقلية، وكانوا يتقربون من أسيادهم شيئا فشيئا حتى استخدموهم في بلاطهم.
وقد كان المماليك في بادئ أمرهم في ظلمات من الجهل والهمجية، وعلى أبعاد من الفضيلة وشعائر الدين، لا يعرفون القراءة، لكن بمخالطتهم للأمراء ورجال الدولة أصبحوا على جانب من التهذيب والاستنارة؛ لاعتناقهم الديانة الإسلامية، ثم تدربوا شيئا فشيئا في شئون الدولة فبرعوا في السياسة، وتدبير الأحكام، وإدارة الأعمال؛ فعظموا في عين الخلفاء، فلما كثر تمرد ولاة الأمصار صار الخلفاء يعهدون إليهم ولاية الأمصار، فكثر أنصارهم، فأقاموا لهم أحزابا من أبناء البلاد ينجدونهم عند الحاجة، ولم يكن ذلك كل ما فعله الخلفاء، لكنهم كانوا يبذلون المبالغ الوافرة في ابتياعهم؛ ينتقون منهم الممتازين جمالا، وقوة، وذكاء؛ ليدخلوهم في خدمتهم الخاصة، ومن ذلك ما فعله الخليفة المعتصم؛ إذ رغب في تعزيز حاشيته فابتاع من أولئك المماليك ألوفا فوق ما كان عنده منهم، وأمر بتدريبهم على استعمال السلاح، وإلحاقهم بالجيش؛ ليختار منهم - متى شاء - من يصلح لبطانته، فكبرت نفوسهم، وجعلوا يعيثون فيمن حولهم؛ فكثرت التشكيات في حقهم، وكثر الهرج في بغداد حتى اضطر المعتصم إلى بناء مدينة سامرا لإقامته معهم.
وكان للمعتصم بالله بطانة من المماليك عليهم رئيس يقال له: «طولون» من قبيلة الطغرغر إحدى الأربع والعشرين قبيلة التي تتألف منها تركستان، وكانت عائلته مقيمة في جوار بحيرة لوب في بخارى الصغرى فأسر في إحدى المواقع الحربية، وجيء به إلى ابن أسد الصمامي، وكان من عمال المأمون؛ يدفع له جزية سنوية من المماليك، والخيول التركية، وأشياء أخرى، ففي سنة 200ه كان طولون في جملة من أرسلهم ابن أسد من المماليك، وكان متناسب الأعضاء، قوي البنية؛ فأعجب المأمون به، فألحقه بحاشيته، وما زال يراقبه حتى جعله رئيس حرسه، ولقبه بأمير الستر، وهذا المنصب لم يكن يناله إلا من كان للخليفة ثقة خصوصية بأمانته وإخلاصه؛ ليكون محافظا على حياته الشخصية، وبعد أن صرف طولون نحوا من 20 سنة في هذا المنصب في أيام المأمون، والمعتصم أصبح ذا عائلة وأولاد منهم أحمد الذي لقب بعد ذلك بأبي العباس، وهو مؤسس الدولة الطولونية، ولد في بغداد، وقال آخرون: في سامرا سنة 220ه من والدة تركية تدعى قاسمة، ويدعوها بعضهم هاشمة كانت في عداد السراري، وقال آخرون: إنه ابن المهلبي خادم طولون، وأن طولون رباه صغيرا، والله أعلم. (10) خلافة الواثق بن المعتصم (من سنة 227-232ه/842-847م)
وقبل أن يترعرع أحمد بن طولون توفي المعتصم بالله، وبويع ابنه هارون أبو جعفر؛ فلقبوه بالواثق بالله، وفي السنة الأولى من خلافته عزل القسم الأعظم من ولاة الأمصار وأصحاب المناصب الذين كان قد ولاهم أبوه، وكان في نيته إقالة أشناس من إمارة مصر، لكنه لم يكد يفعل حتى توفي أشناس في الفسطاط سنة 228ه فأقام مقامه علي بن يحيى الأرمني، وبعد نحو سنة أبدل بعيسى بن منصور للمرة الثانية، وفي سنة 231ه توفي الخليفة الواثق بالله في 24 ذي الحجة وسنه 34 سنة، ومدة حكمه 5 سنوات و9 أشهر و13 يوما. (11) خلافة المتوكل بن المعتصم (من 232-247ه/847-861م)
وعند وفاة الخليفة تواطأ وزيراه أحمد بن أبي داود ومحمد بن عبد الملك الملقب بالزيات مع واصف التركي رئيس الحجاب على أن يبايعوا محمد بن الواثق ويلقبوه بالمهتدي بالله، إلا أنهم رأوا سنه لا يجيز له تعاطي الأحكام؛ فعدلوا عنه إلى جعفر بن المعتصم، فبايعوه ولقبوه بالمتوكل على الله، وقد كان الواثق والمتوكل أخوين من أب واحد ووالدتين ؛ والدة الأول جارية يونانية تدعى قراطيس، ووالدة الثاني جارية تركية تدعى سرجه.
وفي سنة 232ه عقد المتوكل على مصر لهرثمة بن نصر الجبلي، وفي السنة التالية أبدله بابنه المنتصر بن المتوكل وسنه 234ه تولاها حاتم بن هرثمة، وفي أيامه ثارت البجة في النوبة بعد أن كانوا عاهدوا المأمون على الصلح؛ فأنفذ المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله، فخرج إليهم من مصر في عدة قليلة، ورجال منتخبة على المراكب في النيل؛ فاجتمع البجة في عدد عظيم قد ركبوا الإبل، فهاب المسلمون ذلك، فبعث إليهم محمد بن عبد الله كتابا لفه بثوب، فاجتمعوا لقراءته، فحمل عليهم وفي أعناق الخيل الأجراس؛ فانزعرت جمال البجة، ولم تثبت أمام صلصلة الأجراس، فركب المسلمون أقفيتهم، وأثخنوا فيهم، وقتلوا كبيرهم؛ فقام من بعده ابن أخيه، وبعث يطلب الهدنة؛ فصالحوه على أن يطأ بساط أمير المؤمنين، فسار إلى بغداد، وقدم على المتوكل، وصولح على أداء الأدوات والبقط، واشترط عليه أن لا يمنع المسلمين من العمل بالمعدن.
وفي تلك السنة أبدل حاتم بن هرثمة بعلي بن يحيى الأرمني (ثانية) وفي سنة 235 أبدل هذا بإسحاق بن يحيى الجبلي، وفي هذه السنة أوصى المتوكل بالخلافة بعده لابنه المنتصر، وبعده لابنه الثاني المعتز بالله، وبعد هذا لابنه الثالث المؤيد بالله، وجعل مملكته حصصا؛ فولى المنتصر: إفريقية، وكل المغرب من العريش إلى آخر حدود المغرب بما فيه مصر، وأضاف إلى ذلك قنسرين، وسوريا، وبين النهرين، وديار بكر، والموصل، وكل البقاع التي يرويها دجلة، ومكة، والمدينة، وحضرموت، والبحرين، والسند، وسامرا، والكوفة وكل توابعها، وولى المعتز: خراسان، وطبرستان، وفارس، وأرمينيا، وأذربايجان، وولى المؤيد: دمشق، وحمص، والأردن، وفلسطين. أما المنتصر فلم يقنع بما قسم له، وطمع بتوليته الخلافة قبل وفاة أبيه؛ فأخذ يسعى في خلعه.
وفي سنة 236ه أقيم على مصر خوط عبد الواحد بن يحيى، وفي سنة 238ه أبدل بعنبسة بن إسحاق، وفي سنة 239ه أمر المتوكل ببناء حصن في مدينة الفرما وحصون أخرى في دمياط وتنيس، وتولى بناءها عنبسة، وأنفق عليها أموالا طائلة؛ وقاية من غزوات الروم، لكنهم لم يكادوا يتحصنون حتى هجم الروم على دمياط وملكوها ومن فيها، وقتلوا جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال وأهل الذمة، فلما علم بذلك عنبسة ركب إليهم يوم النحر في جيشه، ونفر كثير من الناس؛ فأخبروه أن الروم قد ساروا إلى تنيس، وتحصنوا في أشموم، فلم يتبعهم عنبسة؛ فكتب يحيى بن الفضل إلى الخليفة المتوكل على الله رسالة فيها هذه الأبيات:
أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة
وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى دمياط والروم وثب
بتانيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشموم يبغون مثلما
أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرا ولا درى
من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا أنا بدار مضيعة
بمصر وأن الدين قد كاد يذهب
وفي 20 رجب سنة 242ه سار المنتصر إلى أبيه في سامرا، وأخذ يسعى بالدسائس والتواطؤ مع المفسدين على أبيه، واستخلف على مصر يزيد بن عبد الله، وفي سنة 245ه خرج يزيد بن عبد الله إلى دمياط مرابطا، ثم رحل فبلغه نزول الروم في الفرما فرجع إليهم فلم يلقهم، وفي سنة 247ه بنى مقياس النيل في جزيرة الروضة، وكان قد سقط بزلزلة فأعاد بناءه، فعرف من ذلك الحين بالمقياس الجديد أو الكبير، وهو المقياس الباقي هناك إلى هذه الغاية، وجرت على العلويين في أيام يزيد شدة. هذا ما كان من أمر يزيد.
أما المتوكل: ففي سنة 243ه انتقل إلى دمشق على نية أن يتخذها مستقرا إلى حين؛ فتبعه المنتصر، وما زال ساعيا بالمفاسد توصلا إلى بغيته حتى سنة 244ه إذ قارب الفوز بغرضه الوخيم، فثارت عصبة من الأتراك المجندين في دمشق على الخليفة بدعوى تأخر دفع مرتباتهم، وكان ذلك بدسيسة المنتصر ؛ فتلافى الخليفة الشر بدفع المتأخر لهم، وبرح دمشق عائدا إلى سامرا، وفي سنة 247ه علم الخليفة بمقاصد ابنه فأمر به إليه فوبخه على مسمع من الناس، وفي يوم الأربعاء الرابع من شوال من السنة المذكورة ذبح المتوكل على فراشه في منتصف الليل بيد أحد ضباط الحرس التركي المدعو بغا الصغير بدسيسة المنتصر، وكان سن المتوكل عند موته 41 سنة، ومدة حكمه 14 سنة و10 أشهر و3 أيام.
وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد المتوكل على الله سنة 245ه (انظر شكل
5-6 ).
شكل 5-6: نقود المتوكل على الله. (12) خلافة المنتصر بن المتوكل (من سنة 247-248ه/861-862م)
فاستوى المنتصر على منصة الخلافة قبل أن تفارق أباه رجفة الموت، فلما استتب له الملك حدثته نفسه أن يحرم أخويه مما أوصى به أبوه لهما على ما مر بك. فحملهما سنة 248ه على أن يوقعا على صك بحرمانهما من الخلافة، ومما أوصى لهما به أبوهما من المدن، وساعد المنتصر على ذلك وصيف التركي وشركاؤه بقتل المتوكل مخافة أن يلقوا جزاء ما فعلته أيديهم إذا وصلت الخلافة إلى أحد الأخوين. على أن حياة المنتصر لم تكن لقصرها تستحق كل هذه الاحتياطات؛ لأنه أصيب بعد توليته بأيام بداء أعيا الأطباء، وما زال حتى ذهب بحياته، وهو يتقلب على مثل جمر الغضا من الألم. (13) خلافة المستعين بن محمد (من سنة 248-252ه/862-866م)
وبعد وفاة المنتصر تشاور وصيف التركي، وبغا الصغير، وبغا الكبير، والوزراء، والأعيان؛ فيمن يجب أن يكون الخليفة عليهم، فأجمعوا على حرمان أبناء المتوكل، ووقع اختيارهم على أحمد بن محمد بن المعتصم، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، فبايعوه يوم وفاة المنتصر، ولقبوه بالمستعين بالله، ولم يكد يتم ذلك حتى قامت عصبة يريدون استخلاف المعتز بالله إلا أنهم كانوا نفرا يسيرا؛ فتفرقوا، ولم تكن النتيجة إلا القبض على ولدي المتوكل وسجنهما. (13-1) أحمد بن طولون
ومن ذلك الحين أخذ نجم أحمد بن طولون بالظهور في أفق الأعمال السياسية، فتوفي والده سنة 239ه وهو لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر ، وكان ذلك في أيام الخليفة المتوكل في الثماني السنوات الأولى، فرأى في أحمد اللياقة؛ ليخلف أباه على إمارة الستر، وكان أحمد قد تعلم وتربى تربية حسنة، وكان تقيا رضي الخلق كريم النفس لين العريكة مع إقدام وبسالة وعلم بالسياسة، وكان مغرما بمطالعة الحديث؛ فاكتسب شهرة بالتقوى والعدالة، فأحبه جميع الضباط الأتراك الذين كانوا في بلاط الخليفة، وفيهم أحد كبرائهم برقوق فأزوج أحمد ابنته فجاءه منها غلام دعاه عباسا.
ومن الغريب أن أحمد بن طولون شب بين الدسائس والمفاسد، ولم يصب إليها، ولم تحدثه نفسه يوما باتباعها بل كان يمجها وينفر منها. أما آدابه ومعارفه: فكانت تتسع يوميا بالاختبار والمراقبة، فقد كان على كثرة شواغله لا يترك فرصة تفوته في توسيع دائرة علمه، فكان يسير من وقت إلى آخر إلى ترسوس في آسيا الصغرى؛ للتعلم في مدارسها، وكان لشدة كلفه بالعلم كلفا بالعلماء. فالتمس من عبيد الله بن يحيى رئيس وزراء الخليفة إذنا بالتوجه إلى ترسوس لملازمة دروسه، فأذن له مع استبقاء مركزه ولقبه ومرتباته كالعادة فسار إليها، ثم دعته والدته أن يأتي إليها، فجاء سامرا في خلافة المستعين بالله غير عالم بشيء مما حصل في غيابه من قتل المتوكل وتولية المنتصر.
وبينما كان عائدا من ترسوس هذه المرة وسنه 19 سنة هجم بعض أهل البادية على الركب الذي كان هو برفقته يريدون سلبه، وفيه ما يساوي مبالغ وافرة كلها محمولة إلى الخليفة المستعين بالله، فخافت حامية الركب، وكاد اللصوص يظفرون فدفعهم أحمد بعزم شديد، وأعادهم على أعقابهم القهقرى. فلما بلغ الركب سامرا أخبروا الخليفة بما كان من بسالة ابن طولون فنفحه بجائزة ألف دينار، وأنزله منزلة الأمراء، ووهبه إحدى جواريه واسمها مية، وهي التي ولدت له ابنه الثاني «خمارويه» سنة 250ه وهي أول سني ظهور نجمه.
وفي أثناء ذلك ثارت عصبة كبيرة تريد خلع المستعين، وذلك أن المماليك الأتراك الذين كانوا يخدمون في بلاط الخلفاء وجندهم - على ما تقدم - كانوا يزدادون عددا وقوة منذ أيام المعتصم؛ لتقلبهم في المناصب العالية فأمسوا وفي أيديهم أزمة الدولة يديرونها كيف شاءوا، وقد كان قبل وفاة المتوكل يقتنعون بعزل وتولية الأمراء والوزراء، وقتل من شاءوا ممن ليس على غرضهم، لكنهم بعد ذلك لم يعد يرضيهم إلا التداخل في عزل الخلفاء وتوليتهم. فكانوا إذا لم يعجبهم خليفة سعوا في استبداله فيستنجدون أحزابهم وينفذون مآربهم، وقد كانت تولية المستعين بالله بمساعي بعض كبراء الحرس الخاص؛ فاستاء البعض الآخر، وجعلوا يسعون في خلعه ، فخلعوه سنة 252ه بعد أن تولى أمرها ثلاث سنوات و8 أشهر. (14) خلافة المعتز بن المتوكل (من سنة 252-255ه/866-869م)
وبعد خلع المستعين بايعوا ابن عمه المعتز بالله، وهو ابن المتوكل على الله، وأخو المنتصر، وكان محروما من حقوق الخلافة منذ قتل أبيه، وعمره إذ ذاك 18 سنة وبضعة أشهر، وكان بعد أن فر من سجن سامرا مع أخيه المؤيد بالله قد أعادهما ابن عمهما المستعين إلى القيود. فالأحزاب التي قويت بعد ذلك، وخلعت المستعين، لم يكن لها دخل في قتل المتوكل، فحلوا قيود المعتز، وبايعوه يوم الجمعة في 14 محرم سنة 252ه وجاءوا إلى المستعين، وأجبروه على أن يتنازل ففعل فنقلوه إلى قلعة، وجعلوا عليه حراسا، ثم أرسلوه إلى واسط في سرب تحت قيادة أحمد بن طولون فقتل في الطريق، ويقال: إن الحاجب سعيدا هو الذي قتله بناء على أوامر سرية من المعتز بالله، وقال البعض: إن أحمد بن طولون هو الذي فعل ذلك بيده. غير أن الجمهور أجمع على تبرئته من هذه التهمة الفظيعة.
والأظهر أن الأحزاب التي دعت إلى خلع المستعين، وإجباره على الاستقالة أمروا بإبعاده إلى واسط، ولم يريدوا أن يصحبه إلا من لا يرتاب أحد في أمانته له وإخلاصه، فلم يجدوا أنسب من ابن طولون، وكان إلى ذلك العهد مكتسبا ثقة الطرفين، فعهدوا إليه تلك المهمة، فقام بها حق القيام. ثم إن الأحزاب في سامرا مع فوزهم بخلع المستعين وتولية المعتز أوجسوا شرا من بقاء الأول في قيد الحياة، فأوعزوا إلى الثاني أن خلافته لا ترسخ إلا بقتل المستعين. فكتبت فتيحة أم المعتز إلى أحمد بن طولون وهو في طريقه إلى واسط تحثه على قتل المستعين، وتعده بولاية واسط مكافأة له؛ فرفض ذلك أحمد بنفس أبية، فأرسلت حاجبا يدعى سعيدا وبيده أوامر إلى أحمد بن طولون مؤذنة بتسليم المستعين إلى سعيد، وعود أحمد إلى سامرا؛ فأذعن أحمد إلى الأوامر، فسلم المستعين إلى سعيد. فسار به في الصحراء تبعا للأوامر السرية التي كانت معه، وذبحه في فسطاطه، وعاد برأسه إلى المعتز، ورمى به الأرض بين أقدامه.
أما أحمد بن طولون فدخل إلى خيمة المستعين بعد ذهاب سعيد، فرأى الجثة بلا رأس، فعلم الدسيسة، وتكدر من هذا الفعل الوحشي الذي قضى بقتل البريء. ثم هم إلى الجثة فغسلها وكفنها، ونقلها إلى سامرا حيث صلي عليها ودفنت، وقد قال أحمد بن طولون عند استيلائه على مصر وسوريا ما مفاده: «وعدت بولاية واسط على أن أقتل المستعين؛ فأبيت محافظة على القسم الذي قسمته، وما زلت في تقوى الله، وقد كافأني من فضله بولاية مصر وسوريا، ولا يفلح الظالمون.»
وكانت مصر في أثناء جميع هذه الحوادث ينتابها ما ينتاب غيرها من الإمارات الإسلامية. فإن يزيد بن عبد الله الذي كان استخلفه المنتصر على مصر أصبح عليها أميرا عندما صار المنتصر خليفة، وبقي يزيد قائما بأعباء مصلحته طول مدة خلافة المستعين بالله. أما المعتز بالله فبعد ما جلس على دست الخلافة عزله في 3 ربيع أول سنة 253ه وولى مزاحم بن خاقان من أعيان الأتراك الذين ساعدوه في حصوله على الخلافة، ومن أعماله أنه أكثر من الإيقاع بسكان النواحي، وولى الشرطة أرجوز فمنع النساء من الحمامات والمقابر، وسجن المؤنثين والنوائح، وفي رجب منها منع من الجهر بالبسملة في الصلاة بالجامع، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجوز، وأخذ أهل الجامع بتمام الصفوف، ووكل بذلك رجلا من العجم يقوم بالسوط من مؤخر المسجد، وأمر أهل الحلق بالتحول عن القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع من المساند التي يستند إليها ومن الحصر التي كانت للمجالس في الجامع، وأمر أن تصلى التراويح في رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلونها ستا إلى رمضان سنة 253ه، ومنع من التثويب، وأمر بالآذان في يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأن تغلس بصلاة الصبح، ونهى أن يشق ثوب على ميت أو يسود وجه أو يحلق شعر أو تصيح امرأة، وعاقب في ذلك وشدد فيه.
وفي 5 محرم سنة 254 توفي مزاحم فتولى ابنه أحمد بن مزاحم، وفي تلك السنة استقال هذا؛ فعين المعتز مكانه باكباك أحد كبار الأتراك، وكان هؤلاء يتولون الإمارات اسما بلا رسم؛ لأنهم لم يكونوا يبرحون مجلس الخليفة. أما الأحكام في الإمارات فكانت موكولة إلى نواب يعهدون إليهم أمرها، وكان عدد مثل هؤلاء النواب في مصر يكثر أحيانا؛ فقد يكون منها نائب في الفسطاط، وآخر في الإسكندرية، وآخر في الصعيد ... إلخ، وكان يستبد أحدهم بالأعمال العسكرية، والآخر بالأعمال الإدارية، والآخر بالقضاء ... وهكذا، ونظرا لما كان لأحمد بن طولون من السمعة الحسنة انتخبه باكباك - المتقدم ذكره - وجعله قائدا للقوة العسكرية في الفسطاط. أما الإدارة المالية أو الخراج فعهد بها إلى أحمد بن المدبر ودعاه مفتش الخراج. (14-1) ابن المدبر
وابن المدبر هذا لم يكن من التدبير على شيء، بل كان عاتيا غشوما، فزاد الضرائب، وشدد الوطأة خصوصا على المسيحيين، وكان من دهاة الناس وشياطين الكتاب، فابتدع في مصر بدعا صارت مستمرة من بعده لا تنقض؛ فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعمه الله من البحر مالا سماه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي. أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من طرف الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سماهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدم.
فكره الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيد به، وقد كان عالما بذلك ؛ فجعل في حاشيته الخاصة نحوا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجه.
فلما قدم أحمد بن طولون إلى الفسطاط؛ ليستلم زمام القوة العسكرية فيها قدم أحمد بن المدبر بحاشيته للقائه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، وقدم معه شقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام قد تقدمت الإشارة إليهم، وكان لهم خلق حسن، وطول أجسام ، وبأس شديد، عليهم أقبية ومناطق ثقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس. فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس.
فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردها عليه، فقال ابن المدبر: إن هذه لهمة عظيمة، ومن كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول: «قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها، ولم يجز أن يغتنم مالك - كثره الله - فرددناها توفيرا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيناهم بين يديك؛ فإنا إليهم أحوج منك.» فقال ابن المدبر لما بلغته الرسالة: «هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل؛ إذ كان يرد الأعراض والأموال، ويستهدي الرجال، ويثابر عليهم.» ولم يجد بدا من أن يبعثهم إليه؛ فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، فكتب ابن المدبر فيه إلى الخليفة يغري به، ويحرض على عزله، فبلغ ذلك ابن طولون فكتم ما في نفسه ولم يبده.
وفي 25 رجب سنة 255ه كثرت دسائس الأتراك في بغداد بمساعدة الحاجب صالح بن واصف أحد قتلة المتوكل فأوعز إلى المعتز - وعمره إذ ذاك 24 سنة - أن يتنازل عن الخلافة، ولم يحكم فيها إلا 4 سنوات و6 أشهر؛ فتنازل في ذلك اليوم، فأودعوه السجن، وقطعوا عنه الغذاء، فمات جوعا بعد ستة أيام؛ فأقاموا عوضا عنه ابن عمه المهتدي بالله بن الواثق، وعمره 37 سنة. (15) خلافة المهتدي بن الواثق ثم المعتمد بن المتوكل (من 255-257ه/869-870م)
وفي أيام المهتدي بن الواثق ظهر لابن طولون عدو آخر في مصر هو إبراهيم الصوفي مأمور إقليم إسنا، وكان قد وضع يده على البلاد التي حوله، وقتل كل من كان يحاول مقاومته؛ فأنفذ إليه ابن طولون فرقة من جيشه، فحاربها، وغلبها؛ فرجعت متقهقرة إلى قرب إخميم، وهناك أتتها نجدة اتحدت معها؛ فتغلبت على جيوش ابن الصوفي ففر المذكور في البرية ملتجئا إلى الواحات في بطن الصحراء الكبيرة مع من بقي معه من الرجال.
وكان أحمد بن عيسى بن شيخ الشيباني يتقلد جندي فلسطين والأردن، فلما مات وثب ابنه على الأعمال واستبد بها، فبعث ابن المدبر بسبعمائة وخمسين ألف دينار حملت من مال مصر إلى بغداد، فقبض ابن شيخ عليها، وفرقها في أصحابه، وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد؛ فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات، وأشيع أنه يريد مصر.
وفي رجب سنة 256ه ذبح المهتدي في سامرا، وبويع المعتمد على الله وسنه 25 سنة، وهو ابن المتوكل الثالث؛ فبايعه الجميع إلا ابن شيخ فإنه لم يدع له ولم يبايعه لا هو ولا أصحابه، فبعث إليه بتقليد أرمينيا فوق ما معه من بلاد الشام، وفسح له في الاستخلاف عليها، والإقامة على عملها؛ فدعا حينئذ للمعتمد وبايعه، ثم كتب الخليفة سرا إلى ابن طولون أن يتأهب إلى حرب ابن شيخ، وأن يزيد في عدته، وكتب لابن المدبر أن يطلق له من المال ما يريد؛ فعرض ابن طولون الرجال، وأثبت من يصلح، واشترى العبيد من الروم والسودان، وجهز كل ما يحتاج إليه، وخرج في احتفال عظيم، وجيش كبير، وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة، ورد ما أخذ من المال، فأجاب بجواب قبيح؛ فسار أحمد في 6 جمادى الآخرة مستخلفا أخاه موسى بن طولون على مصر، وبينما هو في الطريق، ورد إليه كتاب الخليفة يدعوه إلى العود، فعاد إلى الفسطاط، ودخلها في شعبان، وأتى عوضا عنه لمحاربة ابن شيخ أماجور التركي، فلقيه أصحاب ابن شيخ وعليهم ابنه، فحاربهم أماجور؛ فانهزموا منه، وقتل قائدهم، واستولى أماجور على دمشق، ولحق ابن شيخ بأرمينيا، وتقلد أماجور أعمال الشام كلها، وهدأت الأحوال. (15-1) القطائع
أما ابن طولون فلما عاد إلى الفسطاط شرع في بناء الاستحكامات، وتحصين البلاد، وكان إلى ذلك الحين يسكن القصر الذي كان يسكنه أسلافه من ولاة الأحكام، ولم يكن هذا القصر داخل سور الفسطاط، بل كان في ضاحية العسكر، وكان العسكر أشبه بمدينة فيها الأسواق والشوارع والبناياب الجميلة، وكان كافيا لسكنى رؤساء الجيوش، وولاة الأمور.
أما في أيام ابن طولون فضاق ذرعا عن سعة مهماته وعبيده وتحفه، فأخذ يسعى في البحث عن محل آخر يفي بالمقصود مع قربه من الفسطاط، فصعد إلى المقطم، ونظر إلى ما حوله؛ فرأى بين العسكر والمقطم بقعة من الأرض مساحتها نحو ميل مربع لا شيء فيها من العمارة إلا بعض المدافن للنصارى واليهود، فاختارها للبناء، فأمر بحرث المدافن وهدمها، واختط في موضعها بناء عظيما دعاه القصر، ومحلا آخر بالقرب منه دعاه الميدان، وتقدم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله، فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط، ثم قطعت إلى قطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها، فكانت لغلمان النوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، ولغلمان الروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفراشين قطيعة مفردة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم، وبنى القواد مواضع متفرقة؛ فعمرت القطائع عمارة حسنة، وتفرقت فيها السكك والأزقة، وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران، وسميت أسواقها؛ فقيل: سوق العيارين، وسوق الفاميين، وهكذا البقالين، والشوايين ... إلخ، ولكل من الباعة سوق حسن عامر؛ فصارت القطائع المذكورة أبنية كبيرة أعمر وأحسن من الشام، وكان للقصر مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض، ويوم الصدقة؛ لينظر من أعلاه من يدخل ومن يخرج.
واتسعت أحوال ابن طولون، وكثرت إصطبلاته وكراعه، وعظم صيته، فبلغ ذلك أماجور والي الشام؛ فأخذته غائلة الحسد، وخشي من مد سلطة ابن طولون إليه؛ فأخذ يسعى في خلعه، فكتب إلى الخليفة المعتمد على الله ما نصه: «إن قوات ومهمات ابن طولون أصبحت أعظم مما كانت لابن شيخ الذي لما ثار في سوريا لم نخضعه إلا بعد شق الأنفس، وهذا ابن طولون قد كثرت حاشيته، وقويت سطوته بالرجال والمال، وصار يخشى منه، والأمر لأمير المؤمنين.» وكتب ابن المدير مفتش الخراج أيضا مثل ذلك، وفي قلبه من أحمد ما تعلم من الضغائن، وتواطأ على ذلك مع كاتب سره شقير الخادم.
فأرسل المعتمد إلى ابن طولون أن يتخلف عن مصر حالا إلى سامرا، ويستخلف مكانه من يشاء، فلما بلغ ابن طولون ذلك الأمر هم إلى القيام به، وهو لا يدري ما وراء الأكمة؛ فجاء من ذويه من أطلعه على معنى هذا الاستدعاء إلى سامرا، فلما علم بدخيلة الأمر جهز أحمد الواسطي كاتب سره وصديقه، وأرسله مكانه إلى سامرا بالهدايا الفاخرة إلى الوزير؛ فاستجلب خاطره، فسعى أمام الخليفة، فألغى الأمر السابق، وأصدر أمرا آخر يزيد مدة ولاية ابن طولون في مصر، ويصرح له بنقل عائلته جميعها إليها، وقد كانت إلى ذلك اليوم في سامرا. فسر ابن طولون بهذا الفوز، وفرق في الناس الزكاة.
وفي سنة 257ه حكم على باكباك أمير مصر الأصيل الذي كان قد عين ابن طولون قائدا للقوة العسكرية بقطع الرأس لجناية ارتكبها، وعين مكانه برقوق حمو أحمد بن طولون، وهذا حالما استلم الأمر بالإمارة عهد إلى صهره بالنيابة العامة ليس فقط على الفسطاط، بل على سائر القطر المصري، فأمر عيسى بن دينار متولي الإسكندرية أن يسلم زمامها إليه؛ فتوجه ابن طولون إلى الإسكندرية، وتسلم إدارتها، ثم سلمها لعيسى المذكور، وأقره عليها، فأصبحت سياسة مصر جميعها بيد أحمد بن طولون، وفي السنة التالية توفي برقوق؛ فولي أحمد مكانه واليا عاما على القطر المصري.
الفصل السادس
الدولة الطولونية
من سنة 257-292ه/870-905م (1) حكم أحمد بن طولون (من سنة 257-271ه/870-884م)
كان أحمد بن طولون قد عرف دسائس ابن المدبر وشقير الخادم، وكان الوزير قد أرسل إليه جميع الكتب الواردة منهما بحقه، وبعد يسير توفي شقير خوفا، وهم ابن طولون بعزل ابن المدبر لكنه عرف بعد ذلك أن أخاه على خزينة الخليفة فأغضى عنه، أما ابن المدبر فكان قد مل مناظرة ابن طولون، وهو لا يقوى على كيده، فطلب إلى أخيه أن ينقله إلى وكالة خراج سوريا ففعل، وقبل تركه مصر أعاد صلات المودة مع ابن طولون فأزوج ابنته لخمارويه بن أحمد بن طولون، ووهبه معها الأملاك التي كانت له في مصر.
ثم أرسل المعتمد يستحث ابن طولون في جمع الخراج، فأجابه: لست أطيق ذلك والخراج في يد غيري، فأحيل الخراج إليه، فأصبحت جميع أعمال مصر الإدارية والعسكرية والمالية بيده، فألغى الخراج الهلالي الذي وضعه ابن المدبر، وقبل إلغائه حسب مقداره فبلغ مائة ألف دينار سنويا، فأحب أن يستشير بشأنه، فتشاور مع عبد الله بن دسومة أمين متولي الخراج، وكان عاتيا طماعا، فقال: إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي، فقال له: قد أمنك الله - عز وجل - فقال: «أيها الأمير، إن الدنيا والآخرة ضرتان، والحازم من لم يخلط بينهما، والمفرط من خلط بينهما، فيتلف أعماله، ويبطل سعيه، وأفعال الأمير - أيده الله - الخير، وتوكله توكل الزهاد، وليس كمثله من ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر؛ لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع، ولعل الذي حماه من نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو، ويجتمع للأمير - أيده الله - بما قد عزم على إسقاطه من الهلالي في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار، وإن فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة؛ لأنها سنة ظمأ توجب الفسخ زاد مال البلد، وتوفر توفرا عظيما، فيضاف إلى مال الهلالي فيضبط له الأمير - أيده الله - دنياه، وهذه طريقة أمور الدنيا، وأحكام أمور الرئاسة والسياسة، وكل ما عدل الأمير - أيده الله - إليه من أمر غير هذا فهو مفسد لدنياه، وهذا رأيي، والأمير - أيده الله - على ما عساه يراه.»
فقال ابن طولون: ننظر في ذلك - إن شاء الله - وشغل قلبه كلامه، فبات تلك الليلة بعد أن قضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد في طرسوس، وهو يقول: «ليس ما أشار عليك من استشرته في أمر الارتفاق والفسخ برأي تحمد عاقبته فلا تقبله، ومن ترك شيئا لله - عز وجل - عوضه الله عنه، فامض ما كنت عزمت عليه.» فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر العمال بذلك؛ فأبطل الضرائب المتقدم ذكرها، ونشرت في سائر الدواوين بإمضائه، ثم دعا ابن دسومة، وأخبره بما كان، فقال له: «قد أشار عليك رجلان؛ الواحد حي في اليقظة، والآخر ميت في النوم، وأنت إلى الحي أقرب، وبضمانته أوثق.» فقال له: «دعنا من هذا فقد قضي الأمر، ولست قابلا منك ما تقول.»
وفي غد ذلك اليوم ركب أحمد نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس أحد غلمانه، فسقط الغلام في الرمل، فإذا بفتق فتح، فتقدم أحمد، وأمرهم أن يحفروا هنا ففعلوا، فأصاب فيه من المال ما كان مقداره مليون دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره، وكتب إلى العراق يخبر به المعتمد، ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البر وغيرها فأذن له؛ فبنى منه مستشفى، وحصنا، وسبيلا، وجوامع، وفرق قسما منه على الفقراء. (1-1) إصلاحاته
وأول جامع شاده ابن طولون: جامع التنور، ابتناه على قمة جبل المقطم في مكان كان يدعى تنور فرعون، يقال: إنه سمي كذلك لأنه على مرتفع، فكانوا يضرمون فيه النار ليلا، فظن بعض المشايخ أن في ذلك المكان كنزا، فأخذ يحتفر فيه فلم يظفر بشيء، فعلم ابن طولون فاحتفر فأصاب مالا أكثر كثيرا من ذي قبل، وعند ذلك أمر ببناء الجامع هناك، ودعاه جامع التنور، واحتفر ابن طولون بئرا عند بركة الحبش تعرف ببئر عفصة، وابتنى ساقية، وقناطر خارج المغافر عرفت بقناطر ابن طولون ناظر بناءها مهندس مسيحي ماهر، ولا تزال آثارها باقية.
وفي سنة 260ه أعاد أحمد بن طولون حفر ترعة الإسكندرية، وكانت قد سدت بالرمال المحمولة، وبنى في الإسكندرية آبارا مسقوفة بالبناء العقد، وأحواضا تحت الأرض؛ لكي يأتي منها بالماء العذب النقي ما يكفي المدينة، وفي تلك السنة ركب مع رئيس خزنته أبي أيوب والقاضي بقال في جزيرة الروضة فرأى المقياس محتاجا إلى إصلاح؛ فأمر بإصلاحه إصلاحا متقنا أنفق عليه عشرة آلاف دينار، وأقام أبو أيوب بعد يسير مقياسا آخر في دار الأسلحة في الجزيرة المذكورة؛ حيث بنيت السجون، ولكن لم يبق منها إلى أيام المقريزي إلا أثر طفيف.
وفي أواخر السنة المذكورة توجه أحمد بن طولون إلى الإسكندرية؛ لتفتيش الأشغال التي كان أمر بإجرائها، وأوصى بها لابنه البكر العباس، ثم أمر بترميم منارة الإسكندرية، وأقام فوقها القبة، ويقال: إن هذه المنارة كان ارتفاعها خمسمائة قدم.
وأمر ابن طولون ببناء المستشفى (المارستان) في العسكر، وقد كانت الفسطاط قبله مجردة من مثل ذلك، وخصص لأجل النفقات اليومية للمستشفى والبنايات الأخرى أطيانا واسعة تأخذ محصولاتها، وخصص لها أيضا دخل مبيع الرقيق، وكان يأتي بنفسه لزيارة المستشفى، وتفقد سير الأطباء فيه، وعيادة المريض والمجاذيب، واتفق ذات يوم أن أحد المجاذيب في المستشفى هم بقتله، ولولا القضاة لذهب بحياته، ولم يكن شيء من ذلك ليثني عزمه عن العيادة، وبنى في العسكر حمامين، وقد بلغ مقدار نفقات بناء المستشفى والحمامين والجامع عند جبل المقطم ستين ألف دينار، وبقيت هذه البنايات رغم التقلبات السياسية التي كان يخشى أن تذهب بها، ولا يزال كثير من آثارها إلى هذه الغاية. (1-2) محارباته
قلنا: إن إبراهيم بن الصوفي فر من وجه أحمد بن طولون، والتجأ إلى الواحات الكبرى في الصحراء، فهذا تمكن بعد ذلك من التجنيد، والتقدم نحو مدينة أشمونين، فبلغ ذلك ابن طولون فأنفذ إليه جيشا تحت قيادة ابن أبي الغيث، وهذا لم يلتق بجيش ابن الصوفي، فسار لمحاربة عبد الرحمن العمري وكان معتديا على حدود النوبة، وبعد حرب شديدة سار ابن الصوفي إلى أسوان فلاقاه ابن أبي الغيث مغضيا عن أبي عبد الرحمن، وحاربه ففر من وجهه، وسار من طريق عيذاب إلى مكة حيث قبض عليه، وأرسل إلى أحمد بن طولون، فألقاه في السجن مدة، ثم صرفه مؤذنا له بالسكنى في المدينة، وبقي فيها إلى أن توفاه الله.
أما أبو عبد الرحمن العمري فاستفحل أمره، وأقام الاستحكامات في النوبة فشق ذلك على أحمد، ولم يستطع صبرا؛ فأنفذ إليه جيشا آخر تحت قيادة شبه الببكي إلى أسوان، فلما بلغها رأى أبا عبد الرحمن مشتغلا بمقاومة جيوش زكريا ملك النوبة والحرب بينهما قائمة، فقال: هذه فرصة لا يصح ضياعها، فهجم على حصون أبي عبد الرحمن بدون أن يستأذن من ابن طولون، فلم يعبأ أبو عبد الرحمن بتكاثر الأعداء عليه فجعل رجاله فرقتين، وحارب الفئتين، وتغلب على شبه، وأعاده على أعقابه صفر اليدين إلى الفسطاط، فلم يصادف من ابن طولون إلا احتقارا وانتهارا.
وبعد ذلك بقليل قدم الفسطاط عبدان يحملان رأس أبي عبد الرحمن العمري فرمياه بين أقدام أحمد بن طولون، فسألهما عما أتى بهما إليه؟ وما حملهما على قتل سيدهما؟ فأجابا أن لا غرض لهما إلا الحصول على رضا أمير القطر المصري. فقال لهما أحمد: «إن ما ارتكبتماه تستوجبان عليه عقاب الله وعقابي» وأمر بقتلهما، وغسل رأس أبي عبد الرحمن ودفنه بما يلزم من الاحترام، وحقيقة الأمر أن العبدين لم يقتلا سيدهما بأيديهما، وإنما قتل بمكيدة محمد بن هارون شيخ قبيلة مضر، فسولت لهما النفس أن يقطعا رأسه، ويحملاه إلى ابن طولون، فينالا جائزة عظيمة، وما علما أن المروءة وكرم الأخلاق تأبيان مثل ذلك.
ثم ثار أبو نوعة صديق ابن الصوفي القديم، فانضم إليه عصبة من الأتباع، فجاهر بالعصيان ضد ابن طولون، فأرسل إليه حملة فغلبها فأنجدها ابن طولون فغلبته، وفر أبو نوعة إلى الواحات واضطر أخيرا إلى التسليم.
وبعد سنة من هذه الحادثة ثار محمد بن فاراب الفرغني وتابعه أهالي برقة جميعهم، فأرسل إليهم أحمد بن طولون لؤلؤا، وقال له: نج المدينة من العصاة فتكون عليها واليا، فحاربهم لؤلؤ، وفاز عليهم؛ فجعله ابن طولون واليا على برقة ومتعلقاتها. (1-3) الموفق والمعتمد
وفي السنة نفسها اضطر ابن طولون إلى محاربة شديدة كان يخشى عليه منها، وهي محاربة أبي أحمد طلحة الملقب بالموفق بالله أحد أبناء المتوكل على الله، وأخو المعتمد على الله الخليفة، وذلك أن صاحب الزنج (بجوار زنجبار) ادعى أنه من سلالة علي بن أبي طالب، فقدم البصرة سنة 254ه واستولى عليها وعلى الكوفة وغيرهما، واستفحل أمره، فأنفذ أمير المؤمنين المعتمد على الله يستدقم أخاه أبا أحمد الموفق بالله من مكة، وكان الخليفة المهتدي بالله قد بعثه إليها منفيا، فقدم سنة 257ه فأوصى المعتمد بالخلافة من بعده لابنه المفوض، وبعده للموفق، وجعل غربي المماليك الإسلامية للمفوض، وشرقيها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابا ارتهن فيه إيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط.
وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة، ولا يراه أهلا، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه، ثم الموفق بعده شق ذلك عليه، وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلا بملاذ نفسه من الصيد واللعب والتفرد بجواريه؛ فضاعت الأمور، وفسد تدبير الأحوال، وفاز كل من كان متقلدا عملا بما تقلده.
وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوض والموفق أنه ما يحدث في عمل كل واحد منهما من حدث تكون النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابن المفوض موسى بن بغا فاستكتب موسى بن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدم المعتمد إلى كل منهما أن لا ينظر في عمل الآخر، وجعل كتاب الشروط بالكعبة.
ولما كانت البصرة والكوفة واقعتين في حصة الموفق كان عليه محاربة الزنوج ودفعهم، فتأهب في جيش كبير وسار إليهم وناهضهم، فطال زمن المحاربة حتى انقطعت مواد خراج المشرق عن الموفق، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كل عام، واحتجوا بأشياء أخرى؛ فدعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في مصر في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوض؛ لأنها من الممالك الغربية، إلا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدة حاجته إلى المال بسبب ما هو في سبيله، وبعث الكتاب مع تحرير خادم المتوكل ليقبض منه المال.
فما هو إلا أن وصل تحرير إلى ابن طولون، وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كل سنة من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب إليه أيضا كتابا سريا يقول فيه: «إن الموفق إنما أنفذ تحريرا إليك عينا ومستقصيا على أخبارك، وأنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه، واحمل المال إلينا وعجل نفاذه.»
وكان تحرير الخادم لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، فمنعه من الركوب والخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول، وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وكان قد أرسل إلى أماجور متولي الشام فقدم عليه بالعريش فأسلمه خادم الموفق والمال، وأشهد عليه بتسليم ذلك، ورجع إلى مصر، ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير فإذا هي إلى جماعة من قواده باستمالتهم إلى الموفق؛ فقبض على أربابها، وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته.
فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال كتب إليه كتابا ثانيا يستقل فيه المال، ويقول: «إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت» وبسط لسانه بالقول، والتمس ممن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضا عن ابن طولون، فلم يجد أحدا عوضه؛ لما كان من دعة ابن طولون، وملاطفته وجوه الدولة. (1-4) كتاب ابن طولون إلى الموفق
فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: «وأي حساب بيني وبينه أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره؟» وكتب إليه بعد البسملة:
وصل كتاب الأمير - أيده الله تعالى - وفهمته، وكان - أسعده الله - حقيقا بحسن التخير لمثلي، وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحده؛ لأني دائب في ذلك، وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام، والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كل منعوت بغنى وكفاية بالتوسعة عليهم، وتواصل الصلاة والمعاون لهم صيانة لهذه الدولة، وذبا عنها، وحسما لأطماع المتشوفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة فهو حري أن يعرف له حقه، ويوفر من الإعظام قدره، ومن كل حال جليلة حظه ومنزلته.
فعوملت بضد ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به، والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا، وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من طاعته أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام لا أن يكلف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير - أيده الله تعالى - ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة؛ لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله. فإنه والأمير جعفر المفوض - أيده الله تعالى - قد اقتسما الأعمال، وصار لكل واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه؛ إنه من نقض عهده، أو أخفر ذمته، ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه فالأمة بريئة منه ومن بيعته، وفي حل وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرة، وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسدة لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة وإن لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحر من الجمر وأمر من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر، والأمير - أيده الله تعالى - أولى من أعانني على ما أؤثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف، وكف الأذى والمضرة، وأن لا يضطرني إلى ما يعلم الله - عز وجل - كرهي له أن أجعل ما أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة، والعساكر المتضاعفة التي قد ضرست رجالها من الحروب، وجرت عليهم محن الخطوب مصروفا إلى نقضها، وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم فضلا عن أن يعثروا مني على ميل أو قيام بنصرتهم؛ لاشتدت شوكتهم، ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كل جيش أنهضه إليه على أنه لا ناصر له إلا لفيف البصرة، وأوباش عامتها، فكيف من يجد ركنا منيعا، وناصرا مطيعا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدة له فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع إلى ما هو أشبه به وأولى، وإلا رجوت من الله - عز وجل - كفاية أمره، وحسم مادة شره، وإجرائنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا، والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى الموفق أغاظه غيظا شديدا، فأحضر موسى بن بغا، وكان عون الدولة وأشد أهلها بأسا وإقداما، فتقدم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر، وتقليدها أماجور، فامتثل وكتب إلى أماجور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته. ثم خرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدرا أنه يدور عمل المفوض؛ ليحمل الأموال منه، ولما علم بتوقف أماجور عن مناهضة أحمد بن طولون كتب إليهما يأمرهما بحمل الأموال، وعزم على قصد مصر، والإيقاع بابن طولون، واستخلاف أماجور عليها فسار إلى الرقة.
وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه، ليس لأنه يقصر عن مناهضة موسى بن بغا؛ لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي سبيل من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه إلا أنه لم يجد بدا من المحاربة؛ ليدفع عن نفسه ما يكره، فتأمل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلا من جهة النيل، فأراد - لكبر همته وتدبره - أن يبني حصنا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة (جزيرة الروضة) يكون معقلا لحرمه وذخائره وخاصته، ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر.
وقد زاد فكره من يقدم من النيل فأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب حربي سوى ما يضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك والزوارق وقوارب الخدمة، وعمد إلى سد وجه البحر الكبير، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر المالح إلى النيل بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير؛ خوفا مما سيجيء من مراكب طرسوس كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض لمنع من يحمل الغلال إلى البلاد؛ ليمنع من يأتي من البر الميرة.
وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وقد اضطربت عليه الأتراك، وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة حتى استتر منهم كاتبه عبد الله بن سليمان؛ لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فخاف موسى بن بغا عند ذلك، ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع فعاد إلى الحضرة، ولم يقم بها سوى شهرين، ومات من علة في صفر سنة 264ه.
هذا، وأحمد بن طولون يجد في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قواده وثقاته أمر الحصن، وفرقه عليهم قطعا قام كل واحد بما لزمه من ذلك، وكد نفسه فيه، وكان يتعهدهم بنفسه في كل يوم، وهو في غفلة عما صنعه الله له من الكفاية والغنى عما يعانيه، ومن كثرة ما بذل في العمل قدر أن كل طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل، وتصدق بمال كثير شكرا لله على ما من به عليه من صيانته عما يقبح فيه عند الأحدوثة، وما رأى الناس شيئا كان أعظم من عظيم الجد في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كانوا يخرجون إليه من منازلهم في كل بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث؛ لكثرة ما سخا به من بذل المال. فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صب عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالا جزيلا، وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم، وبلغت نفقات هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا، وقال سعيد بن القاضي من أبيات بشأن ذلك:
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملا
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرا لم يبق من يستطيعه
من الناس في بدو البلاد ولا حضر
مآثر لا تبلى وإن باد أهلها
ومجد يؤدي وارثيه إلى الفخر
أما الموفق فلما تفرق جيشه لم يعد يرى بدا من الإغضاء عن مقاومة أحمد بن طولون إغضاء وقتيا. (1-5) بناء الجامع
وكثر أتباع ابن طولون، ورجال حاشيته، وجنده حتى ضاق جامع العسكر ذرعا عن إحصائهم أيام الجمعة للصلاة، فرفعوا إليه أن يبتني لهم جامعا آخر أكثر اتساعا؛ فاستجاب التماسهم على أن يبتنيه على جبل يشكر، وكان لهذا الجبل شأن ديني عندهم، وكانوا يقولون: إن موسى الكليم ناجى ربه عليه مرارا، وأنه اقتبل في ذلك المكان بعض الشرائع المقدسة، وعزم أحمد أن يجعل ذلك الجامع أعظم ما بني من الجوامع إلى ذلك العهد، وأن يقيمه على ثلثمائة عمود من الرخام. فقيل له: إن مثل هذا العدد لا يتيسر الحصول عليه، وإنه إذا أصر على عزمه لا يترك للمسيحيين ما يقوم ببناء معابدهم، فتردد بين أن يتم مشروعه وأن لا يحرم الطوائف الأخرى من التمتع بحقوقها الدينية في بناء المعابد.
شكل 6-1: جامع ابن طولون.
وكان المهندس المسيحي - الذي تقدم ذكره، ويسمى ابن الكاتب الفرغاني - من ذوي الاطلاع والمعرفة بفن الهندسة وصنعة البناء، وقد أودع السجن لتهمة توجهت نحوه بغير الحق. فلما بلغه ما كان من عزم ابن طولون وتردده كتب إليه من السجن أنه قادر على إتمام مشروعه، وأنه لا يحتاج في ذلك إلى أكثر من عمودين يجعلهما عمودي القبلة. فاستحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، وطلب إليه أن يشرح له ذلك؛ فرسم الجامع على الكيفية التي كانت في ذهنه، فجاء كثير الشبه بجامع سامرا. فأعجب ابن طولون كثيرا، وأمر بإطلاقه، وخلع عليه، وجعل تحت أمره مائة ألف دينار، وقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، وأمر ابن طولون أن يكون بناء الجامع من القرميد والجير، ونهى عن إدخال أي مادة كانت مما يقبل الاشتعال قائلا: «ورغبتي من ذلك أنه إذا طرأ على الفسطاط دمار بالماء أم بالنار، فلا يكون على جامعي بأس فيبقى، ولو دمرت جميعها.»
ولما أتم بناء هيكل الجامع أخذ في زخرفته فبيضه، وعلق فيه القناديل الجميلة النحاسية بالسلاسل النحاسية الطوال، وجعل على أفاريزه آيات من القرآن الشريف لا يزال معظمها ظاهرا إلى هذا اليوم، وفرش الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القراء والفقهاء، ويقال إنه: هو الذي رسم القبلة والمنارة بنفسه، وجعلها منفصلة عنه برواق يحيط بالجامع ويفصل المنارة عن صحن ثان خارجي، وقد هدم بعض هذه المنارة إلا أن الناظر إليها لا يسعه إلا التعجب من عظمتها، ويقال: إن تجاه المنارة المذكورة الباب الكبير، وجعل للجامع 33 شباكا، وأقام بجوار الجامع بناء دعاه دار الإمارة يستطرق إلى الجامع من كوة في جداره القبلي قرب المحراب والمنبر مزين بالستائر، وفي الدار المساند الجميلة والطنافس الثمينة. فكان ابن طولون ينزل في تلك الدار إذا ذهب إلى الصلاة يوم الجمعة فإنها كانت تجاه القصر والميدان، فيجلس فيها، ويجدد وضوءه، ويغير ثيابه، وفي موضعها الآن سوق الجامع.
ومن يزر هذا الجامع اليوم يره خرابا مهجورا، وقد استعملته الحكومة مرارا منازل للحجاج والفقراء فبنوا في قناطره فسدوها، وقد هدم بعض تلك القناطر، وبعض المنارة، وفي صحن الجامع الميضأة، ولا يزال أثر المنبر الخشبي باقيا، وفي جوار المنارة غرف يقال : إنها كانت مصلى أحمد بن طولون وذريته.
وقد استغرق بناء هذا الجامع سنتين فانتهى في رمضان سنة 263ه فأذن ابن طولون بالصلاة فيه، ولكن الفقهاء لم يكونوا يدخلونه؛ لئلا يكون مبنيا بمال لم يكتسب بالحق والعدل، فأقسم لهم أنه لم ينفق عليه درهما من الدراهم التي وجدها اتفاقا فصدقوه، فاحتفل بتدشينه في يوم الجمعة التالي، وصار يرد إليه الجماهير من المسلمين، وتذكارا لذلك الاحتفال نقشوا على ألواح كبيرة من الرخام الأبيض بعض الآيات من القرآن الكريم، وقال المقريزي: إنهم كانوا يحرقون أقراص الند في أثناء الصلاة فيعبق الجامع بدخانه والمؤمنون في الصلاة.
وكان القاضي بكار بن قتيبة الإمام الأول، وربيع بن سليمان الخطيب الأول لهذا الجامع، وفي ذلك الحين أنشأ محمد بن ربيع مدرسة في إحدى غرف الجامع، وكان ابن طولون وأولاده وجميع حاشيته لا يتركون الجامع إلا بعد أن يتم محمد تدريسه، وكانت دروس هذه المدرسة محصورة في الحديث، وممن كان يحضر عليه أبناء أحمد بن طولون، وكانوا يواظبون على الحضور والانصراف كسائر التلاميذ كل ذلك بأمر والدهم، وفي مساء يوم التدشين عاد ابن طولون إلى دار الإمارة كسائر التلاميذ كل ذلك بأمر والدهم، وفي مساء يوم التدشين عاد ابن طولون إلى دار الإمارة؛ لإعادة الوضوء، وتغيير الثياب، فمكث مدة طويلة في الجامع يصلي لله ويشكره على ما أولاه من النعم بنجاح أعماله، ووهب الجامع عشرة آلاف دينار، وخصص له رواتب تدفع من ماله ما بقي حيا.
وبنى ابن طولون بجوار الجامع خارج صحنه حوضا، وفسقية للوضوء، ثم بنى صيدلية يحضر فيها بأمره كل يوم جمعة طبيب يعالج الفقراء مجانا، ولا سيما الذين يأتون للصلاة، وحسبت نفقات البناء فبلغت مائة وعشرين ألف دينار غير الأوقاف، ويقال: إن أحمد بن طولون وجد ما عدا الكنزين المتقدم ذكرهما كنزا ثالثا من الذهب النقي، ويقال: إن هذا الذي جعله يضرب الدينار الأحمدي الذي اشتهر بنقاوته، والمفضل على سائر أنواع الذهب القديم للتذهيب به.
وفي أثناء بناء الجامع توفي أماجور الذي كان حاكما في سورية فخلفه ابنه علي، فاغتنم أحمد بن طولون تلك الفرصة؛ ليضم سوريا إلى مصر والموفق مشغول عنه بمحاربة الزنج، فأظهر أنه عازم على محاربة الروم جهادا في سبيل الدين، وجمع جيشا جرارا فيه كثيرون من المتطوعين، فكتب إلى ابن أماجور يستنصره في تلك الحروب، وأن يبايعه على سوريا؛ لأن الخليفة أقطعه إياها فأطاعه. (1-6) عصيان العباس
وفي غرة سنة 265ه برح أحمد بن طولون مصر مستخلفا ابنه العباس وسنه إذ ذاك 23 سنة، وعهد بتدبير الأحكام إلى وزيره أحمد الواسطي، ولما احتشدت جيوش ابن طولون في فلسطين أتاه محمد حاكم الرملة خاضعا فأقره في منصبه، ولما بلغ دمشق رحب به علي بن أماجور وأمر بأن يخطب باسمه فأقره في منصبه أيضا، وهكذا فعل في حمص وعليها عيسى فأقره عليها، ثم استولى على حلب وحماه وكانتا من أعمال أنطاكية، وحاكمها يدعى سيما الطويل فكتب إليه أحمد بن طولون يطلب مبايعته فوعده ولكنه لم يف، فأعاد الطلب فوعد أيضا، ولما تكرر منه الوعد والإخلاف تقدم أحمد بجيشه إلى إسكندرونة، ثم هاجم أنطاكية من جهة باب البحر فلم يقدر عليه؛ لأنه كان منيعا فهاجمها ثانية وثالثة بلا فائدة، وما زال حتى كاد يتولاه اليأس، فأتاه بعض أهالي المدينة ينبئونه بباب آخر في الجهة المقابلة يدعى باب الفرس لجهة الجبال، وقالوا: إنه سهل المأخذ، فسار أحمد بجيشه، وهاجم المدينة من ذلك الباب، وما طلع الفجر إلا والمتاريس في يده، وأما سيما فدافع دفاعا حسنا حتى قتل، وجيء برأسه إلى أحمد بن طولون فشق عليه قتله؛ لأنه كان صديقا له، وأما المدينة فذهبت فريسة الفتك والنهب حتى نودي بالطاعة فسكنت الغوغاء، ووضع أحمد يده على باياس وأطنة وطرسوس، وبينما هو يهم بالتقدم في فتوحه إلى ما وراء ذلك جاءه من مصر أن ابنه العباس الذي استخلفه عليها قد شق عصا الطاعة، ومد يده إلى الخزائن والأحكام، واستبد فيهما فلم يرد أحمد الرجوع إلى مصر قبل إتمام عمله في سوريا؛ فسار إلى محاربة محمد بن أتامش صاحب الرقة، ثم أخيه موسى فأسره، ولم يرجع إلى مصر إلا في نهاية سنة 265ه بعد أن فتح الشام، وبعض آسيا الصغرى، واستخلف في الرقة غلامه لؤلؤا.
أما العباس فبعد أن نبذ طاعة والده انقيادا لذوي الأغراض شعر بخطئه، وخاف سوء العقبى؛ فجمع إليه الخزينة، وفيها مليونان من الدنانير، واستدان فوقها 300 ألف دينار، وفر بمن معه إلى الجيزة على ضفة النيل الغربية، وساق معه أحمد الوساطي وزير والده مغلولا، ولكنه خشي أن لا يكون مكانه هناك أمينا فعهد بحكومته فيه إلى أخيه ربيع مظهرا السفر إلى الإسكندرية، وسافر إلى برقة .
فلما وصل أحمد بن طولون إلى الفسطاط ونزل العسكر ورأى من أمر ابنه ما رأى أحب استقدامه بالحسنى، فكتب إليه كتبا كلها نصح واستعطاف، وأرسلها مع بكار بن قتيبة فعاد بلا نتيجة، وكان ذلك بدسيسة من التف حوله، وهم الذين أغروه على كل ما فعل، وقد أصبحوا يخافون غضب ذلك الأمير الخطير؛ فأوعزوا إلى العباس أن يمعن في إفريقية. ففي سنة 267ه جمع إليه رجال دعوته وسار في داخلية البلاد ساعيا جهده في اجتذاب مشايخ القبائل إليه فلم يفز إلا مع القليل منهم، فكتب إلى إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان أن يبايعه على إفريقية مدعيا أن الخليفة قلده إياها، وكان سعيه مع هذا باطلا أيضا. ثم هاجم حصن لبدة ففتحت له أبوابها فدخلها، وأمعن أتباعه في النهب والقتل فاستاء الأهالي فكتبوا إلى إلياس بن منصور النفوسي رئيس الإباضية فوعدهم بالمساعدة.
وفي أثناء ذلك سار إبراهيم صاحب القيروان بجيش إلى طرابلس الغرب؛ لقتال العباس فقاتله في الليل، وكان العباس مشهورا بالشجاعة والحماسة، وكان شاعرا ينشد الأشعار الحماسية في أثناء القتال، ومما أنشده قوله:
لله دري إذا أعدو على فرسي
إلى الهياج ونار الحرب تستعر
وفي يدي صارم أفري الرءوس به
في حده الموت لا يبقى ولا يذر
إن كنت سائلة عني وعن خبري
فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألت فما
فوق المفتخر بالجود مفتخر
لو كنت شاهدة كري بلبدة إذ
بالسيف أضرب والهامات تبتذر
إذن لعاينت مني ما تبادره
عني الأحاديث والأنباء والخبر
وفي الصباح التالي وصل إلياس ومعه 12 ألفا من الإباضية مددا لإبراهيم فضمها إلى جيشه واستأنف الحرب وخسر العباس في هذه الواقعة أكثر ضباط جيشه وأشجع جنوده وجميع المؤن والمهمات العسكرية التي أتى بها من مصر. أما هو فتمكن بعد الجهد من الفرار إلى برقة، فبلغ ذلك أباه فانفطر له قلبه رغم عصيانه ومناوأته.
وفي أواخر سنة 267ه أنفذ أحمد جيشا إلى برقة، وبعد بضعة أيام أتى بنفسه إلى الإسكندرية في جند كبير قيل: إنه كان مؤلفا من مائة ألف رجل فأتاه أحمد الواسطي وكان قد تخلص من العباس، فأنفذه ابن طولون بجيش إلى برقة؛ ليهاجم من فيها من العصاة فهاجمهم، وقتل العدد الأعظم منهم. أما العباس فقبض عليه حيا، وجاء به إلى أبيه في منتصف سنة 268ه وبعد بضعة أيام عاد ابن طولون إلى الفسطاط، ومعه ابنه العباس، ولما بلغ الفسطاط اعتقله في قصره.
وبعد ثلاثة أشهر وصلت الجيوش ومعهم الأسرى الباقون فأحضرهم والعباس معهم فأمره أبوه أن يقطع أيدي هؤلاء المفسدين وأرجلهم بيده ففعل. ثم التفت إليه وعنفه بكلام تتفتت له الحجارة، ثم أمر بأن يضرب مائة جلدة، أمر بذلك وقلبه يقطر دما. ثم أعاده إلى الاعتقال، وأمر بقتل من بقي من العصاة وإلقاء جثثهم في النيل. (1-7) اضطرابات خارجية
وما كادت مصر تتخلص من هذه الاضطرابات الداخلية حتى داهمتها اضطرابات خارجية أشد وطأة وأصعب مراسا. فإن الضغائن بين أحمد بن طولون والموفق كانت لا تزال كامنة إلى ذلك العهد، وما أصاب الأموال من السلب، وما تكبده ابن طولون على إثر ذلك من النفقات في الحروب حمله على الاقتصاد في النفقة والاعتدال بالسخاء؛ فساء ذلك بعض الذين كانوا يتقربون منه طمعا بالمال، وفيهم غلامه لؤلؤ الذي كان غارقا بإنعامه وقد ولاه بلادا واسعة، فأضمر له شرا بإيعاز كاتبه محمد بن سليمان الذي لم يكن ابن طولون يحبه. فأمسك لؤلؤ عن أداء الخراج إلى ابن طولون على أن يؤديه إلى الموفق ويبايعه على ما في يده فطار الموفق فرحا. أما القواد الذين كانوا مع لؤلؤ فلم يكن بينهم وبين أحمد بن طولون ما يوجب العداء فأعلموه بغدره فأدرك العواقب الناجمة عن هذه الخيانة، ولكنه اتخذ الحزم والتأني نبراسا؛ فكتب إلى لؤلؤ يدعوه إلى طاعته بعبارات لطيفة فأبى.
فنظر أحمد في الأمر نظرا بعيدا فرأى العاقبة محمودة، فكتب إلى المعتمد سرا يعلنه أنه يخاف خيانة ربما كان فيها خطر على حياة الخليفة، ويدعوه إلى مصر قائلا: «إن لدينا هنا مائة ألف مقاتل مستعدة للدفاع عن أمير المؤمنين، وقمع عدوه (يعني الموفق) وإعادة السلطان إليه» وبعث مع هذا الكتاب هدية تساوي مائة ألف دينار، وسار في جيش جرار سنة 269ه وتقدم إلى دمشق ومعه ابنه العباس، واستخلف على مصر ابنه الثاني خمارويه، وجاهر أنه قدم لأمرين: إنقاذ الخليفة المعتمد، ومعاقبة لؤلؤ فلم يظفر بلؤلؤ؛ لأنه كان قد انضم إلى الموفق في محاربة الزنج.
وثارت في أثناء ذلك فرقة من الجند كان قد أرسلها أحمد إلى سليسيا، وعصت قائدها خلفا فتمكن هذا من النجاة بحياته إلى دمشق، فاغتنم سكان طرسوس هذه الفرصة لخلع طاعة ابن طولون؛ فأبطلوا الصلاة باسمه، فحمل عليهم اقتصاصا منهم. ثم ورد إليه كتاب من المعتمد أوقفه عن عزمه، وذلك أن الخليفة المشار إليه أدرك أن ليس في يده من الخلافة إلا اسمها، وأن أخاه الموفق أضر بنفوذه ضررا بليغا. فلما جاء كتاب ابن طولون تقبله بسرور، وأجابه شاكرا له وشاكيا من تصرف أخيه، وألقى إليه أن يتصرف بالأمر بمقتضى حكمته، وأن يلاقيه في الرقة. فأنفذ إليها ابن طولون جيشا لملاقاته؛ لأن المعتمد أحب أن يغتنم اشتغال أخيه بالحرب مع الزنج للقدوم إلى أحمد؛ فتظاهر بالخروج في حاشيته للصيد، وسافر في جمادى الأولى حتى بلغ إلى إسحاق بن كنداج أمير الموصل وما بين النهرين، وكان قد كتب إليه وزير الموفق بما كان، وأمره أن يحتال في القبض على الخليفة. فاستقبل إسحاق الخليفة بإكرام واحترام وشيعه .
فلما قارب عمل ابن طولون، وارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد وقواده، ولم يترك ابن كنداج أصحابه يرحلون. ثم خلا بقواده عند المعتمد، وقال لهم: إنكم قرب عمل ابن طولون، والأمر أمره، وتصيرون من جنده وتحت يده أفترضون بذلك وقد علمتم أنه كواحد منكم؟ وجرت بينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرحل المعتمد ومن معه، فقال ابن كنداج: قوموا بنا نتناظر في غير حضرة أمير المؤمنين، فأخذ بأيديهم إلى خيمته؛ لأن مضاربهم قد سارت، فلما دخلوا خيمته قبض عليهم وقيدهم، وأخذ سائر من مع المعتمد من القواد فقيدهم، فلما فرغ من أمورهم مضى إلى المعتمد فعزله في مسيره من دار ملكه وملك آبائه وفراق أخيه الموفق على الحال التي هو بها من حرب كأنه يريد قتله وقتل أهل بيته، وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه حتى أدخلهم سامرا.
فعلم الموفق بذلك فسر لكنه خشي أن يعود أخوه مرة ثانية إلى قصده الأول، فأرسل إليه من يراقب حركاته ووهب إسحاق جميع البلاد التي كانت من أعمال ابن طولون؛ فأصبح حكمه ممتدا من بغداد إلى أطراف إفريقية، وأهداه سيفين، ولقبه بذي السيفين إشارة إلى تسلطه على الشرق والغرب.
فلما علم ابن طولون بذلك اشتد غيظه، فجمع إليه من كان في دمشق من فقهاء بلاده وعلمائها وأشرافها، وأعلمهم أن الموفق هتك حرمة الأخوة نحو أخيه، وحاول الاستقلال بالدولة الإسلامية، وأن الخليفة أمير المؤمنين قد أصبح في حالة يرثى لها يقضي نهاره بالأسف والكدر الشديدين، وما زال ينهض همتهم، ويحرك عواطفهم حتى أقروا على أن يذكر الخطيب بعد صلاة الجمعة حالة الخليفة، ويطلب إلى الله أن يحفظه ويكبت أعداءه، وزادوا على ذلك أن الموفق عاص على الخليفة فهو محروم من حقوق الخلافة، ثم زاد هو على هذا أن الموفق خلع الطاعة، وبرئ من الذمة فوجب جهاده على الأمة.
فاعترض بعض الحضور على ذلك، ومنهم بكار، وقال: إن كتب الخليفة تخالف ما قررتموه؛ لأنه أوصى أن يكون الموفق وارثا للخلافة قطعيا فأجابه ابن طولون أن الخليفة لم يكن حرا بما فعل، وألقى بكارا في السجن ريثما يرد من الخليفة الجواب على ذلك، وانتهى الأمر بإقرار الجميع على ما سبق ذكره، وأن يحافظوا على كل كلمة فاهوا بها، وأن ينادوا بذلك في الجماهير بالصلاة كما تقدم.
فلما بلغ الموفق ذلك أوعز إلى أخيه المعتمد أن يخلع ابن طولون، وما انفك حتى أجابه إلى طلبه فجاهر على المنابر بعبارة ونصها: «اللهم العنه لعنا يفل حده، ويتعس جده، واجعله مثلا للغابرين إنك لا تصلح عمل المفسدين» فصرح ابن طولون بلعن الموفق في جميع بلاده، وأرسل جيشا للاستيلاء على مكة فأنفذ حاكمها هارون إلى الموفق الخبر، فأرسل إليه مددا تحت قيادة جعفر، فحاربوا المصريين في مكة فغلبوهم بعد أن قتلوا مائتي رجل منهم وأسروا قائدهم، فنودي بلعن ابن طولون في مسجد مكة.
إلا أن هذا جميعه لم يكن ليثني ابن طولون عن عزمه في أعماله الأخرى؛ فإنه سار إلى سليسيا لإخماد الثورة ومقاصة المعتدين فمر في طريقه بدمشق، وبنى قبة فوق مدفن الخليفة معاوية كان قد هدمها العباسيون، وزينها بالقناديل، وأقام فيها من يتلو القرآن، ثم قدم أطنة لمقاصة بزمار حاكمها لامتناعه عن مبايعته، وكان بزمار قد قبض على رسل ابن طولون فشق ذلك على ابن طولون فأسرع إلى قتاله بفرقة من الجند، فحول بزمار نهر سدنس على جيش ابن طولون وكانوا في منتصف الشتاء ففاضت مياهه، وساعدها البرد القارس؛ فأهلكا معظم الجند، فاضطر أحمد إلى رفع الحصار، وتأجيل الانتقام. فانتقل لنجدة جهات أخرى كان يهددها الروم، فسار بفرقة من رجاله إلى باياس فأنطاكية حيث كان ينتظره القضاء المبرم، وذلك أنه شرب فيها مقدارا كبيرا من لبن الجاموس فأضر في صحته فأنذره الطبيب الذي كان معه، واسمه سعيد بن ثيوفيل فأهمل إنذاره، وتغافل عن الاحتماء الصارم، فاشتد مرضه كثيرا، فأسرع إلى مصر محمولا على الأذرع في محفة لكن الضعف لم يسمح له بالاستمرار على هذه الكيفية فنزل عند الفرما، ثم حمل إلى الفسطاط في النيل فبلغها في آخر السنة وهو في حالة خطرة. فنادى إليه الأطباء وهددهم بالقتل إذا لم يبذلوا الجهد في شفائه.
فحدث في مصر من القلاقل ما شغل ابن طولون عن الاهتمام بصحته، وذلك أن أحد العلويين - واسمه أحمد بن عبد الله - لما بلغه حال أحمد بن طولون من المرض شق عصا الطاعة، فانضمت إليه فرقة من رجال الصعيد فأنفذ إليها أحمد فرقة من رجاله ففرقتها، وعادت برأس قائدها، وعاد معها الأمن، واستتبت الراحة. (1-8) المصالحة
أما الموفق فبعد أن حارب الزنج طويلا فاز بهم، لكنه مل الحرب، ومال إلى السكينة، وكانت شعائره العدوانية نحو ابن طولون أخذت على طول الزمن في الخمود، فرغب في حقن الدماء وإقامة الحدود، ولم تكن رغبة ابن طولون في المصالحة أقل من رغبة الموفق، والظاهر أن المرض أضعف منه حاسة الانتقام فمال إلى صرف القلاقل، وكان الموفق أشد رغبة في صرفها، فعهد إلى سعيد بن مخلد وجماعة من ذويه أن يكتبوا إلى ابن طولون كتابة يوهمونه أنها منهم بغير علم الموفق يبينون له أن ما حصل إنما كان من عواقب التسرع في الحكم، وأن يتفقوا معه على المصالحة ففعلوا كما أمرهم. فلما اطلع ابن طولون على هذه الكتب علم أنها من تدبير الموفق. على أن ذلك لم يمنع قبوله بالمصالحة فوافقه على نسيان ما مضى من سوء التفاهم، ووعده بإعادة الصلات الودية على أن يصرح الموفق جهارا بتنازله عن شعائر الحقد أو الانتقام. فعلم الموفق من مطالعة الكتاب أن ابن طولون كشف ضميره فأجابه أنه آسف على ما فرط منه، وعامل على استئصال جراثيم الحقد، وأنه يرغب إلى صديقه الجديد أن يقبل تلك المصالحة فقبل.
أما المعتمد فسر جدا لما دار بينهما، وكتب بخط يده إلى ابن طولون يحمد سعيه، ويطلب إليه أن يبقى مسالما لأخيه الموفق، وأخبره أنه قد أبطل لعنه. فلم تبلغ مصر رسالته إلا بعد وفاة ابن طولون؛ لأن صحته كانت تتأخر يوما فيوما، والألم المعدي المتسبب عن إفراطه من أكل لبن الجاموس يشتد عليه مصحوبا بحمى شديدة وضعف عام، ثم رافق ذلك زرب ذهب بما بقي من قواه.
فلما أحس أحمد بدنو الأجل استغاث بصلوات شعبه على اختلاف معتقداتهم. فصعد المسلمون بقرآنهم والمسيحيون بأناجيلهم واليهود بتوراتهم إلى المقطم فأقاموا فروض الدعاء إلى الله أن يشفي ملكهم، وكان في جملة من حضر الاحتفال الفقهاء وطلاب العلم، وكانت جوامع المدينة غاصة بالجماهير يقرءون القرآن، والحسنات تفرق في الفقراء بسخاء، فانتفع الناس في موته كما انتفعوا في حياته، ولما تأكد قرب الساعة صلى قائلا: «اللهم ارحم عبدك، وعلمه قدر نفسه؛ لأنه لم يعرف لها قدرا، وأنصفه برحمتك.» وأخذ بعد ذلك يكرر الشهاة إلى أن قضى، وقبل وفاته بقليل أخرج بكارا من السجن لكنه لم يلبث بعد وفاة ابن طولون إلا أياما حتى توفي ودفن في الفسطاط، ولا يزال مقامه معروفا.
وكانت وفاة أحمد بن طولون يوم الأحد العاشر من شهر ذي القعدة سنة 270ه (الموافق 11 مايو سنة 884م) ودفن عند سفح المقطم على طريق المتوجه إلى القرافة الصغرى.
ولما بلغ المعتمد وفاة ابن طولون حزن حزنا شديدا، ورثاه بقصيدة تدل على أن المعتمد كان شاعرا أكثر من كونه حاكما، وحكم ابن طولون 18 سنة كلها حروب وظفر، ومن تأمل سيرة حياته يجد فخره إنما كان بكثرة المصاعب، وهي التي كانت تثير فيه الهمة، وتحمله على توسيع نطاق مملكته، وقد خلف ثروة قدرها عشرة ملايين دينار، وعددا كبيرا من الأسلحة والأمتعة، و7 آلاف مملوك تحت السلاح و24 ألف مملوك بغير سلاح، وكثيرا من الخيل والبغال والجمال وحيوانات أخرى، ويقال: إن غلة مصر بلغت في أيامه مائة مليون دينار سنويا، وقال آخرون: إنها لم تبلغ عشر هذا القدر وهو الأرجح، وكان شجاعا هماما حليما شفوقا. (1-9) مناقبه
ومن أمثال شفقته: أنه ركب في غداة باردة إلى المقس في ضواحي الفسطاط فأصاب بشاطئ النيل صيادا عليه ثوب خلق لا يواريه منه شيء، ومعه صبي في مثل حاله، وقد ألقى شبكته في البحر. فلما رآه رق لحاله وقال: «نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارا.» فدفعها إليه ولحق ابن طولون. فسار ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتا والصبي يبكي ويصيح، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبي عن أبيه فقال له هذا الغلام (وأشار إلى نسيم الخادم) دفع إلى أبي شيئا فلم يزل يقلبه حتى وقع ميتا. فقال: فتشه يا نسيم. فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها، فحرض الصبي أن يأخذها فأبى، وقال: هذه قتلت أبي وإن أخذتها قتلتني. فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه، وأمرهم أن يشتروا للصبي دارا بخمسمائة دينار تكون غلة، وأن تحبس عليه، وكتب اسمه في أصحاب الجرايات، وقال : أنا قتلت أباه؛ لأن الغنى يحتاج إلى تدريج وإلا قتل صاحبه. هذا كان يجب أن يدفع إليه دينار بعد دينار حتى تأتيه هذه الجملة على تفرقة فلا تكثر في عينه.
وأحمد بن طولون أول من جلس في مصر للنظر في المظالم فكان يجلس لذلك يومين في كل أسبوع في محل يقتبل فيه التظلمات، وينصف أصحابها، وكان تقيا يحترم الشعائر الدينية كثيرا، فكان له في قصره حجرة جعل فيها رجالا سماهم المكبرين يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتناوبون الليل نوبا؛ يكبرون، ويسبحون، ويحمدون، ويهللون، ويقرءون القرآن تجويدا بالألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان.
ومن مناقبه الحميدة: حبه لعمل الخير المجرد، والتصدق على كل من طلب الصدقة. فكان ينفق في سبيل ذلك ألفي دينار شهريا سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش، ويفرق للناس في القدور الفخار، والقصاع على كل قدر أو قصعة، لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران مما في القدر، وكانت تعمل في داره، وينادى من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب، ويدخل الناس الميدان، وابن طولون في المجلس - الذي تقدم ذكره - ينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته ، ولقد قال له مرة ابراهيم بن قراطقان وكان متوليا تفريق الصدقات: «أيد الله الأمير، إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقات فتخرج لنا الكف المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع فيه الحديد، والكف فيها الخاتم.»
فقال: «يا هذا، من مد يده إليك فأعطه فهذه هي اللطيفة المشهورة التي ذكرها الله في كتابه، فقال:
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
احذر أن ترد يدا امتدت إليك.»
وابن طولون أول من بنى قلعة في يافا، وترك عند وفاته 30 ولدا 17 ذكرا و13 أنثى، ولم يكن عمره عند وفاته أكثر من خمسين سنة، وأوصى أن تكون الأحكام لبنيه من بعده؛ ليكون له من نسله دولة تخلد ذكره. إلا أن هذه الدولة لم تمكث بعده إلا 22 سنة.
وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد ابن طولون سنة 257ه، وعليها اسمه، واسم الخليفة المعتمد (انظر شكل
6-2 ).
شكل 6-2: نقود المعتمد وعليها اسم ابن طولون. (2) خمارويه بن أحمد (من سنة 270-282ه/884-895م)
وبعد وفاة ابن طولون أقيم ابنه خمارويه حالا في مكانه في ذي القعدة سنة 270ه وسنه 20 سنة، ولقب بأبي الجيش فسر الناس من توليته، وأما العباس فكان لا يزال في السجن، وقد كرهته الأمة لما كان من عقوقه، وقال بعضهم: إن أباه ناداه قبل وفاته وعفا عما كان منه، وأوصى له بإمارة الشام تحت إمارة أخيه خمارويه، لكنه ما لبث أن أقيم أخوه على الأحكام حتى ذهبت حياته بأمره، ولم يشأ خمارويه أن يجعل مركز حكومته في الفسطاط كما فعل أبوه فجعلها في القطائع التي كان قد بناها أبوه مقرا لرجاله.
وأول شيء أتاه خمارويه أنه قرب قلوب الرعية إليه بنزاهته ونصرته للحق. ذلك أن كنيسة الإسكندرية كانت سنة 268ه تحت رعاية البطريرك ميخائيل، وكان هذا قد عزل الأسقف سكا لسوء سيرته وتعاليمه، فسار هذا الأسقف إلى الفسطاط مضمرا شرا، فسعى إلى أحمد بن طولون فسادا، وادعى أن البطريرك وافر الثروة، وهو لا يحتاج إلى المال، وكان أحمد إذ ذاك يتأهب للمسير إلى سوريا، وفي احتياج للنفقات فاستحضر البطريرك المذكور، وقال له: «إن من كان في مكانك - أيها البطريرك - لا يحتاج إلى أكثر من الطعام واللباس، وقد علمت أنك ذو ثروة، والبلاد في احتياج إلى نفقات كبيرة فادفع ما لديك إلى بيت المال.» فاجتهد البطريرك في رفع تلك التهمة عنه فذهب اجتهاده عبثا، وألقي في السجن ومعه أحد شمامسته المدعو ابن المنذر سنة كاملة، فأخذ يوحنا وإبراهيم ابنا موسى كاتب أحمد بن طولون على عاتقهما أن يطلق البطريرك بعد أن يدفع مبلغا يجمعه من رعاياه المسيحيين. فكتب على نفسه صكا بمبلغ 20 ألف دينار يدفعه على دفعتين لكنه لم يستطع الدفعة الأولى إلا بعد العناء الشديد، والاستقراض، وبيع أوقاف الكنيسة؛ لأن ما فرضه على أبناء الكنيسة لم يكن وافيا بالمطلوب. فأصبح البطريرك في حالة اليأس، وانزوى في دير القديسة مريم في قصر الشمع بجوار الفسطاط لا يعلم كيف يقوم بدفع المبلغ الباقي، فأكثر الضرائب على الأسقفيات إلى حد لم يكن في الإمكان القيام بدفعه فنسب إليه الاستبداد، وهو براء منه، ولما آن وقت الدفع لم يكن قادرا عليه فقيد ثانية إلى السجن، وبعد يسير توفي ابن طولون. فلما تولى خمارويه رأى من العدالة أن يخلي سبيله، ويبرئ ذمته مما كان باقيا عليه ففعل، وكان لذلك وقع عظيم عند الأقباط. (2-1) حدائق خمارويه وإصطبلاته
ثم أخذ في تدبير الأحكام فلم يغير شيئا مما كان في أيام أبيه؛ فأبقى أرباب المناصب كما كانوا، فبقيت قيادة جيش الشام في يد أبي عبد الله، وقيادة ما بقي من الجيوش في يد سعيد الأيسر، ولكي يتأكد مناعة الشام أرسل إليها مراكب حربية تطوف في مياهها، ولما اطمأن باله من قبيل ذلك عكف على الداخلية فأقبل على قصر أبيه، وزاد فيه، وأخذ الميدان فجعله كله بستانا وزرع فيه أنواع الرياحين والشجر الطعم العجيب، وأنواع الورد والزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا، وجعل بين النحاس وأجسام النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيها الماء المدبر، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة يتعهدها البستاني بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وطعموا له شجر المشمش باللوز وأشباه ذلك، وبنى في البستان برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ؛ ليقوم مقام الأقفاص، وسرح فيه من أصناف القماري والدباسي والنونيات، وكل طائر مستحسن حسن الصوت، وجعل فيه أوكارا تفرخ الطيور فيها، وسرح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحوها، وعمل في داره مجلسا في رواقه سماه: بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد على أحسن نقش، وجعل في حيطانه صورا بارزة من خشب معمول على صورته، وصور حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه بما عليهن من اللباس بألوانه، وجعل عليهن من الحلي مثل ما اعتدن لبسه.
وجعل أمام هذا البيت فسقية ملأها زئبقا، وسبب ذلك: أنه شكا إلى طبيبه الأرق فأشار عليه بالتغميز فأنف من ذلك، فقال: تأمر بعمل بركة من زئبق فعمل بركة، يقال: إنها 50 ذراعا طولا في 50 عرضا، وملأها من الزئبق، وجعل في أركان البركة سككا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير من حرير في حلق من الفضة، وعمل فراشا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفح فيحكم حينئذ شده، ويلقى على تلك البركة، وتشد زنانير الحرير التي بحلق الفضة في سكب الفضة، وينام على هذا الفراش، ولا يزال هذا الفراش يرج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه، ولم يعرف ملك قط تقدم خمارويه في عمل هذه البركة.
وبنى أيضا بالقصر قبة تضاهي قبة الهواء سماها الدكة، وكان كثيرا ما يجلس فيها؛ ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان وغيره، ويرى الصحراء والنيل والجبل وجميع المدينة، وبنى ميدانا آخر أكبر من ميدان أبيه، وبنى أيضا في داره دارا للسباع عمل فيها بيوتا بآزاج كل بيت يسع سبعا ولبوته، وبجانب كل بيت بيت حوض من رخام، وجعل لتلك السباع سياسا يقومون بما تحاج إليه من الطعام والشراب والتنظيف، وكان من جملة هذه السباع سبع أزرق العينين، يقال له: زريق قد أنس بخمارويه، وصار مطلقا في الدار لا يؤذي أحدا، ويقام له بوظيفته من الغذاء في كل يوم. فإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها وربض بين يديه يلتقط ما يرميه إليه من فضلاتها. فإذا نام جاء زريق ليحرسه فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير، وإذا كان على الأرض فبجانبه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة.
واتسعت أيضا إصطبلات خمارويه فعمل لكل صنف من الدواب اصطبلا مفردا، وعمل للنمور دارا مفردة، ومثل ذلك للفهود والفيلة والزرافات، كل ذلك سوى الإصطبلات التي في الجيزة، وكان له أيضا بمصر إصطبلات تنتج فيها الخيل لحلبة السباق، وللرباط في سبيل الله برسم الغزو، وبلغت مرتبات الجيش في أيامه تسعمائة ألف دينار في كل سنة، وكانت حلبة السباق في أيامهم تقوم مقام الأعياد؛ لكثرة الزينة، وركوب سائر العساكر، والغلمان على كثرتهم بالسلاح التام والعدة الكاملة، فيجلس الناس لمشاهدة ذلك كما يجلسون للأعيان، وكان له معرض للخيل فريد.
وقد تقدم أن خمارويه قتل أخاه، وكان ذلك بإيعاز أبي عبد الله قائد جنود الشام، ثم خاف أبو عبد الله أن يعود خمارويه إلى الانتقام منه؛ إذ يندم على قتل أخيه فعمد إلى المكيدة فكاتب الموفق يقول له: «إن هذا الغلام خمارويه لا يفهم من أمور الأحكام إلا أنها وسيلة للتمتع بالملاهي.» وكتب إليه غير ذلك مما شوق الموفق إلى الاستيلاء على مصر، وأخذت العداوة تنمو بينهما من ذلك الحين، وفي سنة 271ه حصلت واقعة عظيمة بين أحمد بن الموفق الملقب بالمعتضد بالله وخمارويه تدعى واقعة الطواحين. (2-2) واقعة الطواحين
وتفصيل واقعة الطواحين أن أحمد بن الموفق لولا ما كان في قلبه من البغض لخمارويه لم يستول على دمشق؛ لأن أبا عبد الله سلمه إياها بدون حرب. فلما علم خمارويه بذلك جرد جيشه قاصدا استرجاعها حتى بلغ الرملة، ومعه سعيد الأيسر قائد الجنود المصرية العام، فبلغ ذلك المعتضد بالله فسار من دمشق نحو الرملة إلى عساكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عساكره، وكثرة من معه من الجموع، فهم بالعودة فلم يمكنه أصحاب خمارويه الذين صاروا معه، وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداج وابن أبي السياج ونسبهما إلى الجبن حيث انتظراه ليصل إليهما ففسدت نياتهما معه.
ولما وصل خمارويه إلى الرملة نزل على الماء الذي عليه الطواحين فملكه. فنسبت الواقعة إليه. ثم وصل المعتضد وقد عبأ أصحابه، وكذلك أيضا فعل خمارويه، وجعل له كمينا عليهم سعيد الأيسر. فحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه فانهزمت. فلما رأى ذلك خمارويه ولم يكن رأى مثله من قبل ولى منهزما في نفر من الأحداث الذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر، فنزل المعتضد إلى خيام خمارويه، وهو لا يشك في تمام النصر. فخرج الذين عليهم سعيد الأيسر، وانضاف إليهم من بقي من جيش خمارويه، ونادوا بشعارهم ، وحملوا على عسكر المعتضد، وهم مشغولون بالنهب، ووضع المصريون السيف فيهم، فظن المعتضد أن خمارويه قد عاد فركب وانهزم ولم يلو على شيء. فوصل إلى دمشق ولم يفتح له أهلها بابها، فمضى منهزما حتى بلغ طرسوس، وبقي العسكران يتضاربان بالسيوف وليس لواحد منهما أمير. فطلب سعيد الأيسر خمارويه فلم يجده، فأقام أخاه أبا العشائر، وتمت الهزيمة على العراقيين، وقتل منهم خلق كثير، وقال سعيد للعساكر: «إن هذا أخو صاحبكم، وهذه الأموال تنفق فيكم.» ووضع العطاء فاشتغل الجند عن الشغب بالأموال.
وسير البشارة إلى مصر ففرح خمارويه بالظفر، وخجل للهزيمة، غير أنه أكثر الصدقة، وفعل مع الأسرى فعلة لم يسبق إلى مثلها قبله. فقال لأصحابه: إن هؤلاء أضيافكم فأكرموهم، ثم أحضرهم بعد ذلك، وقال لهم: من اختار منكم القيام عندنا فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرجوع جهزناه وسيرناه. فمنهم من أقام، ومنهم من سار مكرما، وعادت عساكر خمارويه إلى الشام ففتحتها أجمع، فاستقر ملك خمارويه له، وهذه الواقعة كانت الأخيرة بين خمارويه والموفق، ثم عادت الصلات الودية بين الاثنين، وضربا النقود وعليها اسماهما واسم المعتمد في وقت واحد كما ترى في شكل
6-3 .
شكل 6-3: نقود عليها أسماء المعتمد والموفق وخمارويه.
وفي سنة 278ه توفي الموفق، وبايع قواده بولاية العهد لابنه المعتضد بعد المفوض ابن أخيه، وفي أول سنة 279ه خلع المعتمد ولاية العهد عن ابنه المفوض، وجعلها للمعتضد، وفي تلك السنة توفي الخليفة المعتمد على الله بعد أن حكم 43 سنة، فبويع ابن أخيه المعتضد بالله، فاغتنم خمارويه الفرصة؛ لتوطيد العلائق بينه وبين الخليفة الجديد، فأنفذ الحسين بن عبد الله المعروف بابن القصار وفدا إلى بغداد ومعه الهدايا الثمينة يعلن الخليفة أن مصر ستؤدي الخراج، وقدره مائتا ألف دينار، وأنها ستدفع أيضا عن السنين الماضية 300 ألف دينار. فأجابه الخليفة بتثبيته في إمارته لمدة 30 سنة على ما كان تحت إمارة أبيه، وأرسل إليه أيضا الخلعة والسيف المختصين بهذا المنصب، فدفع خمارويه الدفعة الأولى تماما لكنه تأخر بعد ذلك رويدا رويدا على أنه لم يكن يغفل عن توطيد علائق المودة بينه وبين الخليفة، فأرسل إليه وفدا يعرض عليه زفاف ابنته قطر الندى لابن المعتضد، فقبل الخليفة بأن يكون الزفاف له، وحصل ذلك على أعجب سبيل؛ فحملت قطر الندى إلى المعتضد، وذهبت معها عمتها العباسة بنت أحمد بن طولون مشيعة لها إلى آخر أعمال مصر من جهة الشام، ونزلت هناك، وضربت فساطيطها، وبنيت هناك قرية فسميت باسمها، وقيل لها: العباسة.
ولما استقر له السلام على هذه الصورة مع الخليفة جعل يوسع سلطانه فأمر طغج بن جف أمير دمشق أن يتقدم بفرقة من عساكر طرسوس إلى بلاد الروم. ففعل وحارب الروم، واستولى على عدة مدن، وعاد بالغنائم.
وفي سنة 282ه التي كانت زاهية بزفاف قطر الندى سودت بموت خمارويه مقتولا في دمشق، وذلك أنه نمى إليه أن بين بعض نسائه وبعض كبراء خدامه علائق حبية سرية، فشق ذلك عليه فأخذ في تحقيق الأمر، وتأكيد الجرم على فاعله، ومقاصته بما يقتضيه العدل، فخشي هؤلاء من العقاب الشديد فاتفقوا مع نسائه على قتله؛ لينجوا كلهم من شره، فقتلوه على فراشه في ليلة من ليالي ذي الحجة من سنة 282ه وقال آخرون في كيفية قتله غير ذلك.
وبعد موته ألقي القبض على عشرين من الخدم الذين وقعت عليهم الشبهة، بعد التحقيق تأكدت الجريمة على العشرين، فحكم عليهم بالإعدام، فنقلت جثة خمارويه إلى مصر، ودفنت بسفح المقطم بقرب جثة أبيه أحمد، وكانت مدة حكمه 12 سنة و18 يوما، وكان من أحسن الناس حظا، وحال موته بويع ابنه جيش الملقب بأبي العساكر، وهو صغير لم يبلغ رشده. (2-3) جيش بن خمارويه (من سنة 282-283ه/895-896م)
وفي سنة 283ه أبى طغج بن جف حاكم الشام مبايعة جيش على بلاده، وبعد يسير ثارت الجيوش في مصر بدعوى أنهم لا يقبلون موضع أحمد بن طولون صبيا لم يبلغ رشده، ولا يعرف شيئا من أمور الأحكام، وكان إذا أبدل رجلا بآخر، قالوا: قد اختار من هو في سنه أو على شاكلته، وبعد تسعة أشهر من حكمه ثار عليه الجميع، وقتلوه، ونهبوا قصره، وأحرقوا المدينة. (3) هارون بن خمارويه (من سنة 283-292ه/896-904م)
وأقام زعماء الثورة أخاه هارون مكانه، وقيل: إن المعتضد ثبته على مصر؛ لأنه وعده بمال يحمله إليه مقداره مليون من الدنانير، وفي السنة المذكورة توفي لؤلؤ، وهو الذي كان يسعى بين أحمد بن طولون والموفق سعيا آل إلى حرب بين الفريقين، وكان لؤلؤ قد ضم جيشه إلى جيش الموفق في محاربة الزنج إلا أنه لم يأته ذلك الضم بفائدة تذكر، ولما وصل أحمد بن طولون إلى الشام لم يستطع القبض على لؤلؤ نفسه فقبض على ما كان له في دمشق من الأهل، وفيهن نساؤه وأولاده وسواريه، وباعهم في سوق الفسطاط. فلما بلغ ذلك لؤلؤا أخذ منه الغيظ كل مأخذ، فتوجه إلى الموفق وطلب إليه أن يعطيه جندا؛ ليغذو به مصر، ويمتلكها، وينتقم من ابن طولون، وكان الموفق قد عقد صلحا مع ابن طولون - كما تقدم - ولم يشأ أن يجيب لؤلؤا سلبا، فوعده بنيل مرغوبه، وكرر الوعد مرارا، وإنما فعل الموفق ذلك على نية أن يستبقيه عنده لعله يحتاج إلى مصالحة ابن طولون فيرسل إليه هدية، ولما توفي ابن طولون بقي لؤلؤ في خدمة الموفق 3 سنوات، وأخيرا جرده من أمواله، وطرده من خدمته فأتى مصر حيث بيعت نساؤه وأولاده، وبقي فيها إلى أن مات شر موتة.
وفي سنة 284ه أي بعد تنصيب هارون بسنة أخذ الأهلون ورجال الحكومة يقللون من الطاعة له، ويحتقرون أوامره شيئا فشيئا حتى صاروا في استعداد كلي لنبذ الطاعة، والمجاهرة بالعصيان، ورئيس هذه الثورة طغج بن جف صاحب الشام، وفي سنة 285ه علم المعتضد بما كان من تقسيم بلاد هارون، وكره الرعايا له فرأى أن يغتنم الفرصة لاسترجاع تلك البلاد لسلطانه كما كانت في عهد أسلافه. فتقدم نحو آمد فبايعه حاكمها محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ وكان مستقلا بها، ثم تقدم إلى قنسرين وتملكها.
فلما بلغ ذلك هارون أوجس خيفة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، وله من رعاياه أعداء ألداء؟ فكاتب المعتضد أنه مستعد لتسليمه البلاد التي هي قريبة من العصيان عليه، وكتب أيضا إلى حكام قنسرين والعواصم جميعها أن يذعنوا لسلطة الخليفة المعتضد، فقبل المعتضد تلك العطية بكل سرور فوضع يده على تلك الأماكن فبايعه أهلها. (4) القرامطة
وفي سنة 289ه زادت القلاقل التي كانت تهدد هارون بانتشار القرامطة في سوريا، ومنشأ هذه الطائفة بالبحرين سنة 281ه ويقال في كيفية ظهورها: أن رجلا يعرف بيحيى بن المهدي قصد قطيف فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلى بن حمدان مولى الزياديين، وكان يغالي في التشيع. فأظهر له يحيى أنه رسول المهدي، وأنه خرج إلى شيعته في البلاد يدعوهم إلى أمره، وأن ظهوره قد قرب. فوجه علي بن المعلى إلى الشيعة من أهل القطيف فجمعهم وأقرأهم الكتاب الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهدي. فأجابوه أنهم خارجون معه إذا ظهر أمره، ووجه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك فأجابوه، وكان فيمن أجابه سعيد الجنابي، وكان يبيع للناس الطعام ويحسب لهم بيعهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة، ثم رجع ومعه كتاب يزعم أنه من المهدي إلى شيعته، ونصه: «قد عرفني رسولي ابن المهدي مسارعتكم إلى أمري فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثين.» ففعلوا ذلك، ثم غاب عنهم، وعاد ومعه كتاب مفاده ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم فدفعوا إليه الخمس، وكان يحيى يتردد في قبائل قيس، ويورد لهم كتبا ويزعم أنها من المهدي، وأنه ظاهر فيكونون على أهبة، وصار أمر هؤلاء ينتشر، وعددهم يتعاظم حتى طمعوا بالغزو فبلغوا الشام، واستفحل أمرهم حتى حاربوا طغج صاحب دمشق، وحاصروها سنة 290ه فاجتمع إليها جميع قوات الشام، وهاجموا القرامطة وشتتوهم بعد أن قتلوا شيخهم يحيى.
وفي سنة 292ه كان على دست الخلافة العباسية الخليفة المستكفي بالله بن المعتضد، فأحب أن ينفذ ما كان نواه سلفه في سوريا ومصر فأنفذ جيشا إلى الشام تحت قيادة محمد بن سليمان فتملكها حالا، وكانت له مباء، ثم هجم على مصر فاخترقها حتى بلغ عاصمتها (الفسطاط) فاستعد هارون للمدافعة، ورجاله ينقصون يوما فيوما؛ لما كان يسير منهم إلى صفوف الأعداء بعد كل وقعة، ولم يكن ذلك منتهى الشقاء؛ فإن معسكر هارون نفسه كان مرسحا تتلاعب فيه الدسائس، وينمو فيه الخصام بين رجاله، واشتد القتال بينهم يوما فركب هارون جواده، وأخذ في ردهم بعضهم عن بعض؛ فأصيب بطعنة من أحد المغاربة فسقط ميتا في 18 صفر سنة 292ه وكانت مدة حكم هارون 9 سنوات كلها تعاسة وشقاء، ويقال: إن عمه شيبان هو الذي قتله. (5) شيبان بن أحمد (من سنة 292-292ه/904-904م) وانقضاء الدولة الطولونية
وفي يوم موته أقيم عمه شيبان مكانه إلا أنه لم يهنأ بالحكم؛ لأن الناس رفضوه بصوت واحد، وخابروا محمد بن سليمان أن يعطيهم الأمان فأمنهم، ثم حرضوه على المسير إلى مصر فسار حتى نزل الباسة فلقيه طغج في أناس من القواد كثيرين فساروا به إلى الفسطاط، وأقبل إليهم عامة أصحاب شيبان.
ولما رأى شيبان إصرارهم على ذلك، ولم يبق لديه أحد ممن يعتمد عليهم، وافقهم على التسليم، فاستلم محمد بن سليمان زمام الأمور فأعطاهم الأمان فبايعوه. أما شيبان فلم يكن يأمن من سكناه في مدينة أقام فيها مغتصبها منه ففر من المعسكر ليلا، فبعث محمد بن سليمان من يقبض عليه فلم يظفر به، وقال آخرون: إنه لم يفر، ولكنه قتل جزاء قتله هارون بعد عشرة أيام من قتله، وهكذا انتهت الدولة الطولونية بعد أن حكمت 37 سنة وبضعة أشهر.
ويوم الخميس أول ربيع أول من تلك السنة ألقى محمد بن سليمان النار في القطائع، ونهب أصحابه الفسطاط، وكسروا السجون وأخرجوا من فيها، وهجموا على الدور، واستباحوا وهتكوا وفعلوا كل قبيح من إخراج الناس من دورهم وغير ذلك، وأخرجوا ولد أحمد بن طولون وهم عشرون إنسانا، وأخرجوا قوادهم، ولم يبق في مصر منهم أحد يذكر، وخلت منهم الديار، وعفت منهم الآثار، وتعطلت منهم المنازل، وحل بهم الذل بعد العز، والتطريد والتشريد بعد اجتماع الشمل ونضرة الملك ومساعدة الأيام. ثم سيق أصحاب شيبان إلى محمد بن سليمان وهو راكب فذبحوا بين يديه كما تذبح الشياه، وقتل من السودان سكان القطائع خلق كثير، وهكذا بادت دولة بني طولون فرثتهم الشعراء والكتباء .
وقد وقفنا على قصائد لكثير من الشعراء المعاصرين للدولة المذكورة؛ يرثونها بها، ويبالغون في الأسف عليها منهم أحمد بن محمد الحبيشي، وأحمد بن يعقوب، وإسماعيل بن أبي هاشم، وسعيد بن القاضي، وأحمد بن إسحاق الجفر، ومحمد بن طسويه ... وغيرهم. فمما قاله سعيد بن القاضي من قصيدة طويلة قد مر بعضها قوله:
جرى دمعه ما بين سحر إلى نحر
ولم يجر حتى أسلمته يد الصبر
وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى
يبيت على جمر ويضحي على جمر
تتابع أحداث يضيعن صبره
وغدر من الأيام والدهر ذو غدر
أصاب على رغم الأنوف وجدعها
ذوي الدين والدنيا بقاصمة الظهر
وفقد بنى طولون في كل موطن
أمر على الإسلام فقدا من القطر
وكان أبو العباس أحمد ماجدا
جميل المحيا لا يبيت على وتر
كأن ليالي الدهر كانت لحسنها
وإشراقها في عصره ليلة القدر
يدل على فضل ابن طولون همة
محلقة بين السماكين والغفر
فإن كنت تبغي شاهدا ذا عدالة
يخبر عنه بالجلي من الأمر
فبالجبل الغربي خطة يشكر
له مسجد يغني عن المنطق الهذر
وتنور فرعون الذي فوق قلة
على جبل عال على شاهق وعر
بنى مسجدا فيه يروق بناؤه
ويهدي به في الليل إن ضل من يسري
وعين معين الشرب عين زكية
وعين أجاج للرواة وللطهر
بناء لو أن الجن جاءت بمثله
لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
ولا تنس مارستانه واتساعه
وتوسعة الأرزاق للحول والشهر
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملا
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرا لم يبق من يستطيعه
من الناس في بدو البلاد ولا حضر
وقام أبو الجيش ابنه بعد موته
كما قام ليث الغراب في الأسل السمر
أتته المنايا وهو في أمن داره
فأصبح مسلوبا من النهي والأمر
وورث هارون ابنه تاج ملكه
كذاك أبو الأشبال ذو الناب والهصر
وقد كان جيش قبله في محله
ولكن جيشا كان مستقصر العمر
فقام بأمر الملك هارون مدة
على كظظ من ضيق باع ومن حصر
وما زال حتى زال والدهر كاشح
عقاربه من كل ناحية تسري
فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله
لفقدهم فليبك حزنا على مصر
ليبك بني طولون إذ بان عصرهم
فبورك من دهر وبورك من عصر
أما القرامطة فاغتموا غياب الجيوش لمحاربة مصر، وعادوا إلى ما كان عليه في سوريا، فعلم محمد بن سليمان بذلك فسافر إلى بغداد مستخلفا في مصر حاميتها وجيش الخليفة. إلا أن الأمور لم تكن قد سكنت تماما فثار ابن قلندج وضم إليه عصبة سببت اضطراب الراحة فاستدركها ابن كيغلغ حاكم سوريا، فترك دمشق ومعه جيش الخليفة الذي كان تحت قيادته، وجاء لإخماد ثورة مصر، فاغتنم القرامطة فرصة أخرى، واستولوا على دمشق، وتقدموا إلى طبريا فنهبوها، ولكنهم لم يجاوزوها مخافة أن تلاقيهم الجيوش التي كانت في مصر فعادوا قاصدين الكوفة، وكان هناك من المواقع ما لا علاقة له بهذا التاريخ.
الفصل السابع
الدولة العباسية للمرة الثانية
من سنة 292-323ه/905-934م (1) خلافة المكتفي بن المعتضد (من 292-295ه/905-908م)
فعادت مصر إلى سلطة الدولة العباسية في خلافة المكتفي فأقام عليها عيسى النوشري، وبعد 3 سنوات توفي المكتفي يوم الاثنين في 13 ذي القعدة سنة 295ه وعمره 31 سنة و3 أشهر بعد أن حكم 6 سنوات و7 أشهر و22 يوما. (2) خلافة المقتدر بن المعتضد (من 295-320ه/908-932م)
وفي يوم وفاة المكتفي بويع أخوه جعفر المقتدر بالله وعمره 13 سنة. فلم يحدث في الإمارات تغييرا يذكر فأقر عيسى النوشري على مصر. على أن هذا اضطر بعد حين أن يتخلى عنها لمحمد بن الخليج، ولم يلبث بضعة أشهر حتى اقتضت الأحوال إعادة النوشري فعاد فتولاها نحو 3 سنوات.
وفي شعبان سنة 297ه توفي فأبدل بتكين الخزري أبي منصور، وبقي إلى سنة 302ه فأقيل، وأقيم مقامه زكا الرومي أبو حسن الأعور. فتولى مصر خمس سنوات، ومات في ربيع الأول سنة 307ه فأعيد تكين ثانية، وبعد أيام توفي تكين تاركا ولدا يدعى محمدا، وهذا وضع يده على حكومة مصر بدون إذن الخليفة. أما الخليفة المقتدر فقتل في 28 شوال سنة 320ه وعمره 38 سنة بعد أن حكم 24 سنة و11 شهر و16 يوما. (3) خلافة القاهر بن المعتضد (من 320-322ه/932-934م)
فبويع أخوه القاهر بالله الابن الثالث للمعتضد بالله. فأراد هذا أن يقاص محمد بن تكين على جسارته على مصر أبا بكر محمد بن طغج، ومن هذا نشأت دولة حكمت مصر وسوريا مدة من الزمن عرفت بالدولة الإخشيدية. (3-1) مبدأ الدولة الإخشيدية
وكان أبو بكر محمد بن طغج في ذلك الحين حاكما في دمشق، وأصله من أولاد ملوك فرغانة، وكان المعتصم بالله بن هارون الرشيد قد جلب إليه من فرغانة جماعة من أقوياء الرجال، ووصفوا له جف (جد أبي بكر محمد) وغيره بالشجاعة، والتقدم بالحروب فوجه المعتصم من أحضره. فلما وصلوا إليه بالغ في إكرامهم، وأقطعهم قطائع في سامرا، وفي جملتها قطائع جف فأقام جف في سامرا (أو سر من رأى) وجاءته الأولاد، وتوفي في بغداد في الليلة التي قتل فيها المتوكل الأربعاء في 3 شوال سنة 247ه وخرج أولاده إلى البلاد يتصرفون ويطلبون لهم معائش، واتصل طغج بن جف بلؤلؤ غلام ابن طولون، وهو إذ ذاك مقيم بديار مضر (في ما بين النهرين) فاستخدمه على ديار مضر، ثم انحاز طغج إلى جملة أصحاب إسحاق بن كنداج. فلم يزل معه إلى أن مات أحمد بن طولون، وجرى الصلح بين ابنه خمارويه وبين إسحاق بن كنداج.
ونظر أبو الجيش خمارويه إلى طغج بن جف في جملة أصحاب إسحاق فأعجب به، وأخذه من إسحاق، وقدمه على جميع من معه، وقلده دمشق أو طبرية، ولم يزل معه إلى أن قتل أبو الجيش فرجع طغج إلى الخليفة المكتفي بالله فخلع عليه، وعرف له ذلك، وكان وزير الخليفة يومئذ العباس بن الحسن، فسام طغج أن يجري بالتزلف مجرى غيره. فكبرت نفس طغج عن ذلك فأغرى به المكتفي فقبض عليه وحبسه وابنه أبا بكر محمد بن طغج المذكور، فمات في السجن، وبقي ولده أبو بكر معه محبوسا مدة، ثم أطلق وخلع عليه، ولم يراسل العباس بن الحسن الوزير المذكور حتى أخذ بثأر أبيه هو وأخوه عبيد الله في الوقت الذي قتله فيه حسين بن أحمد بن حمدان.
وخرج أبو بكر وأخوه عبيد الله في سنة 296ه وهرب عبيد الله إلى ابن أبي الساج، وهرب أبو بكر إلى الشام، وأقام متغربا بالبادية سنة، ثم اتصل بأبي منصور تكين الخزري فكان أكبر أركانه، ومما كبر به اسمه سريته في البعث إلى الجمع الذين تجمعوا على الحجاج؛ لقطع الطريق عليهم سنة 306ه وهو حينئذ يتقلد عمان وجبل الشراة من قبل تكين المذكور، وظفر بهم، ونجا الحجاج، وقد فرغ من أمرهم بقتل من قتله، وأسر من أسره، وشرد الباقين.
وكان قد حج في هذه السنة من دار الخليفة المتقدر بالله امرأة تعرف بعجوز، فحدثت المقتدر بالله بما شاهدت فأنفذ إليه خلعا وزاده في رزقه.
ولم يزل أبو بكر في صحبة تكين إلى سنة 316ه ثم فارقه بسبب اقتضى ذلك، وسار إلى الرملة فوردت كتب المقتدر إليه بولاية الرملة فأقام بها إلى سنة 318ه فوردت كتب المقتدر إليه بولاية دمشق، وسار إليها، ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهر بالله ولاية مصر في رمضان سنة 321ه لكنه لم يذهب إلى مصر لاستلام المنصب المشار إليه، ولم يلقب به إلا مدة شهر فقط. ثم عين الخليفة مكانه أحمد بن كيغلغ سنة 221ه وحصل في تلك الأيام اضطرابات في الخلافة بلغ صداها القطر المصري. (4) خلافة الراضي بن المقتدر (من سنة 322-323ه/934-934م)
وفي 5 جمادى الأولى سنة 322ه عزل القاهر بالله عن دست الخلافة بعد أن حكم سنة و6 أشهر وستة أيام، وفي اليوم الثاني بويع ابن أخيه الراضي بالله بن المقتدر، وحال توليته الخلافة عزل ابن كيغلغ عن مصر وولى مكانه محمد بن طغج فقدم لاستلام الإمارة فامتنع ابن كيغلغ من تسليمه، وتخاصما حتى عمدا إلى السلاح، وبعد محاربات شديدة كان الفوز لمحمد بن طغج، وفر أحمد بن كيغلغ بمن معه وذويه إلى برقة، ومنها إلى القيروان. (4-1) مبدأ الدولة الفاطمية
وكانت القيروان وسواحل الغرب تحت سلطة دولة مستقلة عن العباسيين تدعى الدولة الفاطمية نسبة إلى الفاطميين، وهم من كتامة بالقرب من فاس في الطرف الغربي من إفريقية، ويدعون أنهم من سلالة إسماعيل الإمام السادس من سبط علي، وبعبارة أخرى من سلالة فاطمة ابنة النبي ومنها لقبهم، ويلقبون أيضا بالإسماعيليين والعبيديين والعلويين، وكانوا قد أخذوا في نشر سلطتهم منذ سنة 269ه في شمالي إفريقيا وغربيها في أحزاب من الأغالبة والإدريسيين كانوا قد خلعوا طاعة الخلفاء العباسيين في بغداد وخلفاء بني أمية في الأندلس.
وفي سنة 280ه استولى زعيم الفاطميين أبو محمد عبيد الله على القيروان، وفي سنة 296ه رأى من نفسه القوة فادعى الخلافة فبويع، ولقب بالخليفة عبيد الله المهدي، وأنه آخر الأئمة العلويين الذي يدعي أنه منهم، وأنه أحق من سواه بالخلافة. فأصبحت الدولة الإسلامية بذلك منقسمة إلى ثلاث دول على كل منها خليفة يدعي الأحقية بالخلافة، وهم: بنو أمية في الأندلس، وبنو العباس في بغداد، والفاطميون في القيروان. فلما سمع عبيد الله المهدي زعيم الفاطميين عن حالة مصر مع ما هي عليه من الثروة والخصب تاقت نفسها إليها، وأخذ يسعى في الاستيلاء عليها.
وبعد خلافته بخمس سنوات أي في سنة 301ه بعث إلى مصر أربعين ألف مقاتل في 3 فرق مع الرجاء الوطيد بفوزها. فعلم الخليفة المقتدر بالله بما نواه المهدي فجهز جيشا لدفع هذه الرزيئة عن مصر؛ فجرت بين الفريقين وقائع عديدة شفت عن فوز الجيوش المصرية. فعاد الفاطميون على أعقابهم، وطاردهم المصريون حتى أخرجوهم من حدود مصر. فرأى عبيد الله بعد هذا الفرار أن يؤجل افتتاح مصر لوقت آخر، ولكنه رأى أيضا حصونه غير كافية؛ فأسس مدينة دعاها المهدية نسبة إليه على أن تكون عاصمة وقتية ريثما يفتح مصر فيجعل عاصمتها عاصمته؛ لأنه كان مصمما على افتتاحها إلا أن ذلك الافتتاح لم يتيسر لعبيد الله ولا لخلفه الأول والثاني، وفي سنة 322ه توفي عبيد الله المهدي وسنه 63 سنة بعد أن تولى الخلافة الفاطمية 26 سنة، فتولى ابنه أبو القاسم محمد الملقب بالقائم بأمر الله، وكان أكثر تشوقا للافتتاح من أبيه.
وفي أيام القائم هذا جاء أحمد بن كيغلغ مطرودا من مصر يطلب ملجأ عنده، وجعل يحثه على المسير إلى مصر وافتتاحها فرأى القائم أن في افتتاحها عظمة وفخرا؛ فجهز إليها، فعلم محمد بن طغج ذلك فحصن الحدود الغربية لمصر، وجعل فيها حامية قوية. لكن ذلك لم يمنع من نزول القضاء؛ لأن الفاطميين فتحوا الإسكندرية، وبعد أن مكنوا قدمهم فيها تقدموا بجيوشهم حتى دخلوا الفسطاط، واحتلوا قسما كبيرا من الصعيد. ثم رأى القائم بأمر الله أن جنده لا يقوون على افتتاح العاصمة فأجل ذلك ريثما تضعف شوكة الدولة العباسية أكثر من ضعفها إذ ذاك فيسهل عليه افتتاحها.
أما الدولة العباسية فكانت في غاية الضعف؛ لأن إماراتها أخذت تستقل عنها شيئا فشيئا. فاستولى القرامطة على سوريا وقسم من جزيرة العرب، والسامانيون على خراسان، والأمويون على الأندلس، والفاطميون على إفريقيا، والحمدانيون على ما بين النهرين وديار بكر، وبنو بويه على بلاد فارس، ولم يبق للعباسيين إلا بغداد وبعض ضواحيها ومصر.
الفصل الثامن
الدولة الإخشيدية
من سنة 323-358ه/934-968م (1) محمد الإخشيد (من سنة 323-334ه/934-946م)
فلما رأى أبو بكر محمد بن طغج أمير مصر ما كان من انحلال الدولة العباسية، وانقسام الدولة الإسلامية على ما تقدم طلب نصيبه من تلك القسمة؛ فصرح باستقلاله في مصر سنة 324ه فاضطر الخليفة إلى تثبيته، وملكه فوق ذلك سوريا مع أنها لم تكن بيده، وفي 327ه لقبه بالإخشيد، وكان ذلك لقب ملوك فرغانة، وهو من أولادهم، ومفاد هذه اللفظة في لغتهم: ملك الملوك، وكان كل من ملك فرغانة لقبوه بالإخشيد، كما يلقب الفرس ملكهم كسرى، والروم قيصر، والترك خاقان، واليمن تبع، والحبشة النجاشي ... إلخ، ومن سلالة أبي بكر هذا جاءت الدولة الإخشيدية، وفي تلك السنة أمر الإخشيد بنقل دار الصناعة من الجيزة إلى ساحل النيل فنقلت.
وفي سنة 328ه أعطى الخليفة الراضي بالله لقب أمير الأمراء لمحمد بن رائق صاحب فلسطين، وكان مستقلا عنه. فلاح له أن يغزو الشام وعليها الأمير بدر بن عبد الله الإخشيدي من قبل الإخشيد فحاربه فهرب بدر، فنهض محمد الإخشيد لإنجاده مستخلفا في مصر أخاه الحسن، وعسكر في الفرما، وكانت جيوش محمد بن رائق قد بلغت إلى هناك فتوسط بعض الأمراء في الأمر فانصرفت النازلة بالتي هي أحسن وتصالحا.
فعاد محمد الإخشيد إلى الفسطاط وما بلغها حتى أنبئ أن محمد بن رائق برح دمشق، وفي نيته أن يهاجم مصر. فأسرع الإخشيد حالا إلى ما كان عليه، فعاد بجيشه إلى الشام فالتقى بمقدمة جيش ابن رائق في العريش فحصلت واقعة شفت عن انهزام جيش محمد بن رائق إلى دمشق. فوضع محمد الإخشيد يده على الرملة، وأسر خمسمائة رجل من جيش ابن رائق، وفي هذه الواقعة قتل حسين أخو الإخشيد. فما كان من ابن رائق مع ما كان بينه وبين الإخشيد من العدوان إلا أنه أنفذ إليه ابنه مزاحما ومعه كتاب يعزي الإخشيد فيه على فقد أخيه، ويعتذر مما جرى، ويحلف أنه ما أراد قتله، وأنه قد أنفذ ابنه ليفديه به إن أحب ذلك. فلما بلغ مزاحم محمدا الإخشيد أكرم مثواه، وخلع عليه، واصطلحا على أن تكون البلاد من الرملة إلى حدود مصر للإخشيد، وباقي الشام لمحمد بن رائق، ويحمل إليه الإخشيد عن الرملة 140000 دينار كل سنة، وبعد أن أتم محمد الإخشيد هذه المعاهدة عاد بجيشه إلى مصر سنة 329ه.
وفي 6 ربيع أول من هذه السنة توفي الخليفة الراضي بالله، وعمره 32 سنة وشهور، ومدة حكمه ست سنوات وعشرة أشهر وعشرة أيام فبويع أخوه أبو إسحاق إبراهيم الملقب بالمتقي لله.
وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة الراضي بالله سنة 328ه كما ترى في شكل
8-1 .
شكل 8-1: نقود الراضي بالله.
وفي سنة 330 أقر المتقي لله محمد الإخشيد على مصر. ثم اتصل بمحمد الإخشيد أن محمد بن رائق قتله الحمدانيون فنهض لاسترجاع البلاد التي كان أقام بينه وبين ابن رائق المعاهدة عليها فدخل الشام مسرعا، ولم يعد إلى مصر حتى استولى على دمشق وما جاورها، وسنة 331ه تأكد محمد الإخشيد ثبوت قوته فأوصى بالحكم من بعده لابنه أبي القاسم محمود الملقب بأنوجور.
وفي سنة 332ه حصل شغب في بغداد، وسببه أن لقب أمير الأمراء الذي كان يهبه الخليفة لكبار الأتراك أصبح في نظرهم أشرف من الخلافة فناله توزون، وجعل يقاوم الخليفة في أحكامه حتى اضطر الخليفة إلى ترك بغداد، وهاجر إلى الموصل. فاستجار هناك بناصر الدولة وسيف الدولة من بني حمدان، واستنصرهما فنصراه، وجردا جيشا قويا وسارا ومعهمها الخليفة إلى بغداد فهاجموا توزون فغلبهم، وعادوا على أعقابهم إلى الموصل فخلع الخليفة على كل من الأميرين الحمدانيين خلعة الشرف، وهي غاية ما كان للخلفاء أن يهبوه في ذلك العهد.
ثم سار الخليفة من الموصل إلى الرقة فلاقاه كتاب توزون يدعوه للعود إلى بغداد. فلما رأى الخليفة أن نصراءه من بني حمدان عجزوا عن نجدته لاح له قبول ما دعاه إليه توزون، وقبل أن يهم بذلك جاءه محمد الإخشيد من مصر يدعوه إليها مباء له فرفض، فألح عليه الإخشيد، وعاهده أن يقوم بكل ما يحتاج الخليفة إليه من النفقات والأرزاق بشرط أن لا يعود إلى بغداد ويلقي نفسه بين أيدي توزون. فتردد الخليفة بين الأمرين. فلما رأى توزون المذكور تمنع الخليفة عن القدوم إلى بغداد خشي أن يكون على ثقة ممن ينصره عليه فجاءه بنفسه، وترامى على قدميه، وألح عليه أن يتوجه معه إلى بغداد زاعما أنه لا يعرف أحدا غيره خليفة على المسلمين. فسار معه ولم يكد يبلغ تلك العاصمة حتى خلعه في 20 صفر سنة 333ه بعد أن حكم 4 سنوات و11 شهرا، وولى مكانه أبا القاسم عبد الله بن المكتفي، ولقب بالمستكفي بالله.
وفي 22 جمادى الثانية سنة 334ه عزل المستكفي بعد أن حكم سنة و4 أشهر ويومين. فبويع مكانه الفضل بن المقتدر، ولقب المطيع لله، وبقي هذا على دست الخلافة 30 سنة، وهو آخر من كانت له السيادة على مصر من الخلفاء العباسيين.
وهذه صورة النقود التي ضربت على عهد الخليفة المطيع لله سنة 353ه كما ترى في شكل
8-2 .
شكل 8-2: نقود الخليفة المطيع لله.
أما محمد الإخشيد فلما رأى الخليفة المتقي ميالا إلى مطاوعة توزون في المسير إلى بغداد مكث في دمشق بضعة أيام، ثم عاد إلى مصر. فسار سيف الدولة إلى حلب، وكان حاكمها يانس المونسي من قبل الإخشيد فحاربه، واستولى عليها. ثم سار متعقبا إبراهيم الأوكيلي قائد الجيوش المصرية، وغلبه بين سرمين والمعرة، واستولى على دمشق، وكانت إلى ذلك العهد في حكم محمد الإخشيد. فأرسل محمد الإخشيد في الحال كافورا إلى الشام، وكان من مواليه وله في الثقة التامة، وأرسل معه جيشا كبيرا.
وكان كافور عبدا أسود خصيا مثقوب الشفة السفلى بطينا قبيح القدمين معتل البدن جلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها في سنة 310ه فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم أحد المتقبلين للضياع. فباعه لابن عباس الكاتب، واتفق أن ابن عباس الكاتب أرسله يوما إلى الأمير أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد، وهو يومئذ أحد قواد تكين أمير مصر فأخذ كافورا ورد الهدية فترقى عنده بالخدمة حتى صار من أخص خدمه. فلم يكن بأسرع من ورود الخبر من دمشق بأن سيف الدولة علي بن حمدان أخذها وسار إلى الرملة حتى خرج لملاقاته، فالتقى الجيشان يوم الجمعة، فاعتذر بنو حمدان أنهم لا يحاربون في هذا اليوم المبارك فتركوا معسكرهم وساروا يطوفون في الخلاء المجاور، فهجم كافور على معسكرهم، وسلب مؤنهم، ففر سيف الدولة إلى حمص فتبعه كافور، فسار إلى حماه ومنها إلى رستو فتبعه كافور، وكان سيف الدولة في انتظاره هناك بقدم ثابتة؛ فلما قدم جيش كافور، وجد بينه وبين العدو نهر العاصي فاضطر إلى عبوره بجيشه، فاغتنم سيف الدولة فرصة في غاية المناسبة والعساكر المصرية سباحة في الماء، وهجم عليهم فأخذ منهم خمسة آلاف أسير، وجميع أمتعتهم، وفر كافور إلى حمص، ومنها إلى دمشق.
فلما بلغ ذلك محمد الإخشيد سار من مصر بجيش كبير حتى أتى المعرة. فعلم سيف الدولة بمجيء الجيوش المصرية بقيادة الإخشيد، فهاله الأمر، ولكنه لم يشأ الفرار فعزم على أن يهاجم العدو مهاجمة اليأس. فأسل خزائنه وعبيده وحرمه إلى ما بين النهرين، وتقدم بجيشه لمقابلة الإخشيد فالتقيا في قنسرين، فقسم محمد الإخشيد جيشه إلى فرقتين؛ جعل الرماحة إلى الأمام، وسار هو في عشرة آلاف رجل من نخبة الرجال إلى الوراء. فهاجم سيف الدولة الفرقة الأمامية وشتتها، أما فرقة الإخشيد فكانت راسخة القدم فلم يقدر سيف الدولة على تشتيتها تماما، لكنه استولى على بعض متاعها. فافترق الجيشان ولم تنته الغلبة لأحدهما، وسار سيف الدولة إلى منبج فعبر بحيرتها قاصدا ما بين النهرين. فمرض في الرقة، وكانت جيوش محمد الإخشيد هناك، ويفصل الجيشين نهر الفرات، وبقيا عدة أيام بدون حرب. ثم اصطلحا على أن تكون حمص وحلب وما بين النهرين لسيف الدولة، ومن حدود حمص إلى حدود بلاد العرب تبقى لمحمد الإخشيد، وحفروا خندقا بين جوشنا ولبوه حدا فاصلا بين المقاطعتين حيث لا يوجد لها حدود طبيعية، وتأييدا لهذا الصلح تزوج سيف الدولة ابنة محمد الإخشيد، وعاد كل منهما إلى بلاده. إلا أن المصالحة المذكورة لم تلبث حتى نقضت، وحصل بين الإخشيد وبني حمدان مواقع آلت إلى استرجاع حلب للإخشيد.
وفي سنة 334ه توفي محمد الإخشيد في دمشق في ذي الحجة، وعمره ستون سنة، ومدة حكمه 11 سنة و3 أشهر ويومان ، ودفن في القدس الشريف، وكان ممتازا بصفات حميدة أخصها البسالة والتدبير في الحرب، فكان ملكا حازما شجاعا كثير التيقظ في حروبه ومصالح دولته حسن التدبير مكرما للجند شديد العضل لا يكاد يجر غيره قوسه، وكان له ثمانية آلاف مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان منهم، ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر، ثم لا يثق حتى يمضي إلى خيم الفراشين، وكان لا ينام ليلتين متواليتين في مكان واحد فلم يكن أحد يعلم بمكان نومه.
على أن المؤرخين لم يطلعونا على شيء صريح عن حدود ممكلته باختلاف الأزمان، وإن قالوا: إنها نحو المملكة الطولونية في زمانها، أي إنها تشمل مصر وفلسطين وسوريا إلى الفرات، وقسما كبيرا من بلاد العرب، وقد شكا المسيحيون من جوره. فكان إذا جرد حملة، واحتاج لإعانة أخذها منهم، ولو باعوا أثاث بيوتهم أو كنائسهم في سبيل ذلك، وقال أحد المؤرخين المعاصرين: إن محمد الإخشيد كان يرد لهم ما يأخذه في سبيل الإعانة، ومما يبرئ ساحة الإخشيد أنه ظفر بمخبأة في بعض الآثار القديمة أصاب فيها أشياء تساوي مبالغ وافرة لم يكن - والحالة هذه - في حاجة إلى سلب مال الأهلين.
وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد محمد الإخشيد سنة 332ه كما ترى في شكل
8-3 .
شكل 8-3: نقود محمد الإخشيد. (2) أنوجور بن الإخشيد (من 334-349ه أو 946-961م)
وتولى بعد محمد الإخشيد ابنه أبو القسم محمد الملقب بأنوجور، وكان صغير السن ضعيف الرأي فعهد بتدبير الأحكام إلى كافور وزير أبيه، وكان كافور يعمل لأبي القسم بأمانة ونشاط يستوجب عليهما المدح. فعزل أبا بكر محمدا جابي الخراج لتعدد التشكيات وثبوتها عليه، وأقام مقامه رجلا من ماردين يقال له محمد كان عفيفا مستقيما. فعلم سيف الدولة بوفاة محمد الإخشيد وسفر ابنه إلى مصر، فشخص هو إلى دمشق واستولى عليها، وأسرع كافور بجيش عظيم فلاقى سيف الدولة في الرملة قادما من دمشق، والتحم الفريقان فانهزم سيف الدولة إلى الرقة، واستولى كافور على دمشق قبل أن يستقر سيف الدولة فيها.
وفي سنة 354ه أغار ملك النوبة على مصر حتى أتى أسوان فأرسل كافور جيشا تحت قيادة محمد بن عبد الله الخازن عن طريق البر، وأنفذ عمارة بحرية في النيل، وفرقة سارت في البحر الحمر فنزلت على سواحله، ومنها إلى ما وراء النوبة؛ لتسد على النوبيين السبيل. فتضايق النوبيون وفروا يطلبون النجاة تاركين حصنهم في إبريم (على 150 ميلا وراء أسوان) في أيدي المصريين.
وفي ذي القعدة سنة 349ه توفي أنوجور بن محمد الإخشيد بعد أن حكم 14 سنة وعشرة أيام، وولى مكانه أخوه علي الملقب بأبي الحسن. (3) أبو الحسن علي بن الإخشيد (من 349-355ه/961-966م)
وحكم أبو الحسن علي مصر سنتين وشهرين ويومين كان كافور مع علي كما كان مع أخيه أنوجور، وفي سنة 351ه لم يرتفع ماء النيل الارتفاع اللازم للري، وكان في السنة التالية أقل ارتفاعا، ثم هبط بغتة، والأرض لم ترتو؛ فحصل في مصر جوع شديد، تعاقب القحط بعده 9 سنوات رافقه اضطراب آل إلى الانشقاق بين أبي الحسن وكافور.
وفي أثناء هذه الاضطرابات الداخلية في سنة 354ه قدم روم القسطنطينية تحت قيادة الإمبراطور نيسوفورس فوكاس إلى سوريا، ودخلوها بجيش جرار فاستولوا على حلب وكانت لا تزال إلى ذلك الحين في حوزة بني حمدان، والتقوا بسيف الدولة فحاربوه فتجند صاحب دمشق تحت رعاية الإخشيديين، وأسرع لمساعدة بني حمدان بعشرة آلاف رجل، وعلم نيسوفوروس بمجيء هذا المدد فاختار الرجوع. (4) كافور الإخشيدي (من 355-357ه/966-968م)
وفي محرم سنة 355ه توفي أبو الحسن علي فخلفه كافور، وتلقب بالإخشيدي، وطلب من الخليفة المطيع لله أن يثبته في مصر ففعل، وهكذا عادت سلطة العباسيين إلى مصر، وكان يدعى لكافور على المنابر بمكة، والحجاز جميعه، والديار المصرية، وبلاد الشام من دمشق وحلب وأنطاكية وطرسوس ... وغيرها.
وبقي كافور في منصبه هذا سنتين و4 أشهر، وكان الفاطميون قد استولوا على الفيوم والإسكندرية - كما تقدم - فأخذوا في مد سلطتهم رويدا رويدا إلى سائر الصعيد، وتوفي كافور في 10 جمادى الأولى سنة 357ه ودفن في القرافة الصغرى، وقبته معروفة هناك. (5) أحمد أبو الفوارس بن علي (من 357-358ه/968-969م)
فخلف كافورا أحمد أبو الفوارس بن أبي الحسن علي بن محمد الإخشيد، ولم يكن لأبي الفوارس من العمر أكثر من إحدى عشرة سنة فلم يثبته الخليفة في الحكم. أما سوريا وغيرها من البلاد الخاضعة للإخشيديين فبايعت حسينا الإخشيدي إلا أنه ما لبث أن استتب له المقام حتى جاءه القرامطة، وأخذوا البلاد من يده ففر إلى مصر قاصدا اغتيالها من أحمد أبي الفوارس.
ولما انقسمت العائلة الإخشيدية على نفسها قرب حين انقراضها شأن الممالك والدول. فلما رأى رجال الدولة ما حصل من الانقسام بين أعضاء الأسرة الحاكمة ملوا الانتظار، فساروا يستنجدون بالفاطميين، وكانوا قد تملكوا قسما عظيما من مصر فلبوا الدعوة ففر حسين إلى سوريا، واستولى على دمشق، وأما أحمد أبو الفوارس فعزل من مركزه، وهو آخر من تولى مصر من الدولة الإخشيدية، وبعزله انتهت أيام هذه الدولة، ولم يدم حكمها أكثر من 34 سنة و24 يوما.
الفصل التاسع
الدولة الفاطمية
من سنة 358-567ه/969-1171م (1) خلافة المعز لدين الله (من سنة 358-365ه/969-975م)
وكانت الدولة الفاطمية إذ ذاك في خلافة معد أبي تميم الملقب بالمعز لدين الله بن القائم بأمر الله، وقاعدتها المهدية، وسلطتها منتشرة على إفريقية (يراد بها شمالي إفريقية من برقة إلى مراكش) ومالطة وسردينيا وصقلية، وأكثر جزائر البحر المتوسط، وما فتئ هذا الخليفة منذ جلوسه على دست الخلافة يمد سطوته في القطر المصري، وقد حاول افتتاحه غير مرة ولم يفز. حتى إذا كان الخلاف بين أبي الحسن علي وكافور تقدم. فلما تولى كافور على هذه الديار بنفسه توقف المعز قليلا، وعند نهاية حكم كافور جرد جيشا تحت قيادة جوهر.
وجوهر هذا مملوك رومي رباه المعز لدين الله، وكناه بأبي الحسن، وعظم محله عنده، وفي سنة 347ه صار في رتبة الوزارة فصيره قائدا للجيوش، وبعثه في صفر منها في جيش إلى تاهرت فأوقع في عدة أقوام، وافتتح مدنا، وسار إلى فاس فنازلها مدة ولم يأخذ منها شيئا فرحل إلى سجلماسة، ومنها إلى أن بلغ البحر المحيط (الأتلانتيكي) واصطاد منه سمكا، وجعله في قلة ماء، وبعث به إلى مولاه المعز، وأعلمه أنه قد استولى على كل ما مر به من البلدان والأمم حتى انتهى إلى البحر المحيط. ثم عاد إلى فاس وألح عليها بالقتال حتى افتتحها عنوة. ثم عاد في أخريات هذه السنة وقد عظم شأنه وبعد صيته.
ولما قوي المعز عزم على تسيير الجيوش لأخذ مصر، وقد تهيأ أمرها. فقدم القائد جوهر فبرز إلى رمادة، ومعه ما ينيف على مائة ألف فارس، وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال، وكان المعز يخرج إليه كل يوم ويخلو به ويتداول معه سرا، وأطلق يده في بيوت أمواله فأخذ منها ما يريد زيادة على ما حمله معه، ويحكى أن المعز خرج يوما فقام جوهر بين يديه وقد اجتمع الجيش فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم مع جوهر، وقال: «والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، ولتدخلن مصر بالأردية من غير حرب، ولتنزلن في خرابات ابن طولون، وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا.» وأمر المعز بإفراغ الذهب في هيئة الأرحية، وحملها مع جوهر على الجمال ظاهرة للعيان، وأمر أولاده وإخوته الأمراء وولي العهد وسائر أهل الدولة أن يمشوا في خدمة جوهر وهو راكب، وكتب إلى سائر عماله يأمرهم إذا قدم عليهم جوهر أن يترجلوا مشاة في خدمته. فلما قدم برقة افتدى صاحبها ترجله ومشيه في ركابه بخمسين ألف دينار ذهبا، فأبى جوهر إلا أن يمشي في ركابه، ورد المال فمشى.
ولما رحل من القيروان إلى مصر في 14 ربيع أول سنة 358ه ودعه أهلها، ومما قاله محمد بن هانئ بهذا الشأن قوله:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع
وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله
فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع
ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
ومنها قوله:
إذا حل في أرض بناها مدائنا
وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع
تحل بيوت العز حيث محله
وجم العطايا والرواق المرفع
رحلت إلى الفسطاط أول رحلة
بأيمن فأل بالذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد
فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع
فما زال جوهر في طريقه إلى مصر برا حتى دخلها، وسار نحو الصعيد، وأسرع جنوبا؛ ليرد هجمات ملك النوبة الذي كان نازلا نحو مصر، ولم يدركه جيش جوهر حتى بلغ أسوان، وقد نهبها وذبح أهلها، واستعبد من بقي حيا، وعاد إلى بلاده. أما جوهر فكان قد تملك الصعيد كله.
ولما توفي كافور ووقع الخلاف بين أبي الفوارس وحسين كان جوهر على حدود الفسطاط، فأتاه الأهلون والأمراء، ومعهم الوزير جعفر وجماعة من الأعيان إلى الجيزة في يوم الثلاثاء 12 شعبان سنة 358ه والتقوا بالقائد، ونادى مناد فنزل الناس كلهم إلا الشريف والوزير فترجلوا وسلموا عليه واحدا فواحدا، والوزير عن شماله والشريف عن يمينه، ولما فرغوا من السلام ابتدأوا في دخول البلد من زوال الشمس وعليهم السلاح والعدد، ودخل جوهر بعد العصر وطبوله وبنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر، ونزل في ما هو موضع القاهرة اليوم. ثم نزل إلى الفسطاط بمن معه، وخطب في جامع عمرو باسم المعز لدين الله، وأزال الشعار الأسود العباسي، وألبس الخطباء الثياب البيض فبايعه الناس، وبعد يسير أصبحت جميع البلاد المصرية خاضعة للدولة الفاطمية بدون مقاومة، فكتب لمولاه المعز بما أتاه الله من الفتح.
وفي يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة أمر جوهر أن يزاد عقيب الخطبة: «اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضي، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. اللهم وصل على الأئمة الطاهرين آباء المؤمنين.» وفي أيامه صار يذكر بالأذان: حي على خير العمل. (1-1) فساد الأحكام في الدولة العباسية
وكانت الدولة العباسية لا تزال في قبضة المطيع لله، وقد فسدت الأمور، وذهب نفوذ الخليفة، وأصبح النفوذ ضائعا بين الوزراء والقواد، وكلاهما لا يرجون من وراء عنايتهم وجهدهم منفعة لأنفسهم غير ما يكتسبونه من المال في أثناء نفوذ كلمتهم فأصبح الغرض الأول من تمشية الأحكام إنما هو حشد المال. فالوزير الذي يتولى أمور الدولة ولا يدري ما يكون مصيره بعد عام أو عامين من عزل أو قتل أو حبس لا يهمه غير الكسب من أي طريق كان، ولا يبالي بما قد يترتب على ذلك فيما بعد، عملا بالقاعدة التي وضعها ابن الفرات كبير وزراء ذلك العصر، وهي قوله: «إن تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها على الصواب.»
وانتبه الخلفاء إلى مطامعهم فأصبحوا إذا عزلوا وزيرا صادروه وأخذوا أمواله. ثم عمت المصادرة سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال. فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم حتى أنشئوا للمصادرة ديوانا خاصا مثل سائر دواوين الحكومة، فكان المال يتداول بالمصادرة كما يتداول بالمتاجرة.
فلما فسدت الأحكام على هذه الصورة، واستبد الوزراء والقواد أراد العمال في الولايات أن يجتزئوا من ذلك في ولاياتهم فأخذوا يستقلون، فتشعبت المملكة العباسية إلى ممالك يحكمها الأمراء من الفرس والأتراك والأكراد والعرب وغيرهم، ومنها ما جاءها للتغلب من الخارج ففتحها كما أصاب مصر لما فتحها الفاطميون، وقد فصلنا ذلك في الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي.
فلم يأل القائد جوهر جهدا في تثبيت قدم هذه الدولة في الديار المصرية، وقد أخذ على عاتقه صلاتها وخراجها ، وكان قد هجرهما النظام منذ داخل بهما الفساد، وساد فيهما الخصام الناتج عن زيادة الضرائب وسوء الأحكام. فأخذ في تخفيض الضرائب، وحفر الترع فارتوت الأرض فزادت غلتها فشبع الزراع، وربح التاجر فاستتب النظام وساد الأمن، وبلغ خراج مصر في السنة التي دخلها فيها جوهر 3400000.
فلما رأى جوهر مناعة الديار المصرية ووفرة عزها لم يقنع لها بالفسطاط عاصمة فشرع ببناء مدينة جديدة جعلها قاعدة القطر المصري دعاها بالقاهرة، وكان تشييد المدن سنة عمومية في ملوك الإسلام إذ ذاك، فكانوا يبتنون المدن وينقلون إليها عظمتهم، والغالب أن يكون سبب بنائها أن يجعلوها حصنا لهم تقيم فيه رجالهم وجندهم، ثم يبني حولها الناس . فقد كانت قاعدة المملكة المصرية في عهد الفراعنة منف، ثم أبدلت بطيبة، ثم بغيرها فغيرها إلى عهد اليونان فاستبدلت بالإسكندرية، ولما جاء المسلمون ابتنوا الفسطاط. حتى إذا كانت الدولة الطولونية استبدلت الفسطاط على نوع ما بالعسكر والقطائع، إلى أن جاء جوهر القائد فرغب في تخليد ذكره وذكر مولاه فعمد إلى بناء عاصمة الفاطميين؛ ليفاخر بها بغداد عاصمة العباسيين. (1-2) بناء القاهرة المعزية
ففي سنة 359ه شرع جوهر ببناء القاهرة فاختط بقعة من الأرض حيث أناخ جماله يوم جاء لفتح الفسطاط، فإنه نزل إلى شماليها بين الجبل والخليج، وكانت هذه البقعة رمالا، ولما نزل فيها جوهر لم يكن فيها إلا بساتين قليلة منها بستان كافور الإخشيدي شرقي الخليج، وميدان الإخشيد، ودير للنصارى كان يدعى دير العظام فيه بئر تعرف ببئر الجامع الأقمر وتسميها العامة بئر العظمة، وكان في تلك البقعة موضع يعرف بقصير الشوك، ثم عرف بعد بناء القاهرة بقصر الشوك. فأمر جوهر ببناء القاهرة في ذلك المكان، وابتنى فيها قصرين أحدهما أكبر من الآخر عرفا بالقصر الكبير والقصر الصغير جعلهما لإقامة المعز عند قدومه إلى مصر. مكانهما الآن محل المحكمة الشرعية المعروف ببيت القاضي يتصل إليه من شارع النحاسين.
شكل 9-1
ففي نحو ثلاثة سنوات تم بناء القاهرة (في أواخر سنة 361ه) وقد بني حولها السور وفيه الأبواب، ولم يزل بعض آثارها باقيا إلى هذا العهد. فبعث جوهر إلى مولاه المعز بذلك فترك المنصورية التي بناها أبوه، وسار قادما إلى عاصمته الجديدة مستخلفا على إفريقية وزيره يوسف بن زيري، فركب في عمارة بحرية إلى جزيرة سردينيا ومنها إلى صقلية قضى فيها بضعة أشهر يتفقد أحوالها، ثم سار منها إلى طرابلس الغرب فالإسكندرية فالقاهرة، فوصلها في شعبان سنة 362ه وكان دخوله إليها باحتفال عظيم من باب زويلة يصحبة يعقوب بن يوسف بن كلس، وكان لزويلة بابان متلاصقان بجوار زاوية سام بن نوح المجاورة لسبيل العقادين بجوار الخرنفش. فدخل المعز من الباب الملاصق، ولم يبق له أثر الآن فتيامن الناس به، وهجروا الباب الآخر حتى جرى على الألسنة أن من مر به لا تقضى له حاجة. (1-3) تاريخ القاهرة المعزية
كانت عاصمة الديار المصرية يومئذ مدينة الفسطاط (بين القاهرة ومصر القديمة الآن) فلما جاء جوهر بجنده سنة 357ه نزل شماليها في البقعة التي تقدم ذكرها، وفيها اليوم الجامع الأزهر، وبيت القاضي، وشارع النحاسين، وخان الخليلي وما جاورها من المنازل والأسواق بين المقطم والخليج الذي ردموه اليوم، وأجروا فوقه قطر التراموي بين جنوبي القاهرة وشماليها.
وكانت تلك البقعة لما عسكر فيها جوهر رمالا يمر بها المسافر من الفسطاط إلى المطرية. فلما فتح جوهر الفسطاط بنى القاهرة في تلك البقعة، وسماها القاهرة المعزية نسبة إلى مولاه، وكانت مربعة الشكل تقريبا؛ يحدها من الشرق الجبال، ومن الغرب الخليج، وطول هذا الحد 1200 متر يسير فيه السور بموازاة الخليج، وعلى بعد 30 مترا منه نحو الشرق، ومن الشمال خط يمتد من الخليج قرب باب الشعرية الآن على موازاة سكة مرجوش إلى الجبل، وطوله 1100 متر، ومن الجنوب خط نحو هذا الطول يبدأ بباب الخلق عند التقاء الخليج بشارع محمد علي الآن قرب محافظة مصر، ويسير شرقا إلى الجبل، ومساحة هذه المدينة بين هذه الحدود 340 فدانا أو 1428000 متر مربع، بنى فيها قصرا سماه القصر الكبير الشرقي شغل خمس هذه المساحة، وشغل ما بقي بالجامع الأزهر والقصر الغربي ومساكن الجند والإصطبلات ونحوها، وقد دللنا على مكانها في الخارطة ببقعة بيضاء، وظلت الأسواق وأماكن البيع والشراء ومساكن الأهالي في مدينة الفسطاط. أما الأرض خارج المدينة حيث الآن الفجالة والظاهر والمهمشة والعباسية والأزبكية والتوفيقية والإسماعيلية وبولاق فكان أكثرها بساتين ومزارع وبركا.
ولم تتسع القاهرة في أثناء مدة الفاطميين إلا قليلا فصارت مساحتها على عهد أمير الجيوش في أواخر القرن الخامس للهجرة 1680000 متر. حتى إذا دالت هذه الدولة، ودخلت مصر في حوزة الأيوبيين، وتملكها السلطان صلاح الدين سنة 567ه أباح للناس سكنى القاهرة، وبنى القلعة في سفح المقطم له ولجنده يعتصم بها من أعدائه؛ لأنه كان يخاف الشيعة الفاطمية على ملكه. فأقدم الناس على بناء المنازل جنوبا خارج القاهرة بينها وبين الفسطاط، وغربا بينها وبين النيل، وأمر ببناء سور كبير يحيط بها وبالقلعة وبالفسطاط جميعا أكمله من جاء بعده فبلغ طوله نحو 24000 متر في شكل كثير الأضلاع، وبلغت مساحة القاهرة ضمنه 1948 فدانا أو 8161600 متر مربع.
وتولى بعد الأيوبيين السلاطين المماليك، وتغير شكل القاهرة في أيامهم، ثم نقصت مساحتها، واستنزف عمرانها في أيام الأمراء والمماليك، ولكنها عادت في زمن الأسرة المحمدية العلوية إلى النهوض فبلغت مساحتها في أواخر أيام محمد علي باشا 9000000 متر مربع، وحدودها من الشرق: الجبل المقطم، ومن الغرب: شارع باب الحديد، وشارع عابدين بخط منحرف نحو باب اللوق، ثم يعود الخط شرقا إلى قرب عابدين، ويسير جنوبا حتى يقطع الخليج قرب باب غيط العدة، ومن هناك إلى باب السيدة زينب، وكان يحدها من الشمال: شارع الفجالة، وما بعده شرقا إلى باب الشعرية فباب النصر وباب الفتوح إلى الجبل، ويحدها من الجنوب: خط ممتد من باب السيدة زينب فباب طولون إلى باب القرافة، وقد دللنا على مكانها في الخارطة بخطوط متقاطعة والقاهرة المعزية في داخلها.
واتسعت مساحتها في عهد الخديويين بعد محمد علي حتى صارت سنة 1880 قبيل الحوادث العرابية 12180000 متر، وأسرعت في الاتساع بعد الاحتلال الإنكليزي حتى صارت مساحتها الآن أكثر من ستة أضعافها قبله وأكثر من خمسين ضعفها لما بناها القائد جوهر بما دخل في حدودها من الضواحي العامرة عاما بعد عام. (1-4) دخول المعز قصره
وفي يوم الثلاثاء 5 رمضان سنة 362ه دخل المعز لدين الله قصره بالقاهرة، وعند دخوله خر ساجدا، ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه، واستقر في قصره بأولاده وحشمه وخواص عبيده، والقصر يومئذ بهجة وكله تحف ومثمنات، وبعد ذلك بأسبوع أذن بدخول من يريد مقابلته للتهنئة، وجلس في الإيوان فدخل أولا الأشراف، ثم أذن بعدهم للأولياء وسائر وجوه الناس، وكان القائد جوهر قائما بين يديه يقدم الناس قوما بعد قوم، وبعد وصوله بيسير أمر ببناء تربة في القصر الكبير دفن فيها أجداده الذين استحضرهم معه بتوابيت من بلاد المغرب ، وصارت بعد ذلك مدفنا يدفن فيه الخلفاء وأولادهم ونساؤهم، وكانت تعرف بتربة الزعفران، وكان موقعها حيث خان الخليلي الآن. فلما أنشأ الأمير جهاركس الخليلي خانه أخرج ما شاء من عظامهم فألقيت على المزابل.
وفي سنة وصوله عهد ليعقوب بن يوسف بن كلس بخراج مصر، وجميع وجوه الأموال والحسبة والأعشار، وجميع ما يضاف إلى ذلك في سائر الأعمال، ويعقوب هذا كان يهوديا جاء مصر وتقلد بعض مصالحها في أيام كافور الإخشيدي، وأسلم طمعا بالدنيا فأحبه كافور ورقاه، واشترك مع يعقوب في أمر الخراج عسلوج بن الحسن، وكتب المعز لهما سجلا بذلك فجلسا في دار الإمارة في جامع ابن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال، وحضر الناس للقبالات (الالتزام) وطالبا بالبقايا من الأموال على المتقبلين والمالكين والعمال، واستقصيا بالطلب، ونظرا في المظالم فتوفرت الأموال، وزيد في الضياع، وتزايد الناس وتكاثفوا، وحسنت الأحوال، وكثر ضرب النقود إلى حد يفوق التصديق.
شكل 9-2: الجامع الأزهر من داخله.
ثم ابتنى جوهر جامعا دعاه: الجامع الأزهر، وهو أقدم جوامع القاهرة - إلا جامع ابن طولون - وأكثرها اتساعا، ولذلك لقب بالجامع الكبير، وأقام جوهر في الجامع المذكور بأمر الملك العزيز - الآتي ذكره - مكتبة نفيسة ومدرسة ذاع صيتها في الآفاق، وكان القصد الرئيسي من بناء هذا الجامع: إقامة الشعائر الدينية، وتأييد مذهب الشيعة العلوية؛ لاختلاط السياسة بالدين في الدولة الإسلامية من ذلك العهد، وكانت هذه الشيعة قد قاست الأمرين تحت سلطة العباسيين من قتل ونفي. فلما تأتى لها تغلبها على مصر جعلتها عاصمة دولتها، وأنشأت القاهرة معقلا لجندها، والجامع الأزهر لتأييد مذهبها؛ لأن العامة لا تحكم بمثل الدين، وكان المصريون يومئذ على مذهب الإمام الشافعي؛ لأن هذا الإمام قضى أخريات أيامه بمصر، ومات فيها، وقبره معروف في ضواحي القاهرة، وكان الفاطميون يعترفون بهذا المذهب أيضا، وأما العباسيون فكانوا على مذهب أبي حنيفة. فتوافق الفاطميون والمصريون في المذهب فهان على الفاتحين تأييد سلطانهم، وتوسيع دائرة نفوذهم فقربوا الفقهاء والعلماء، واستقدموهم من سائر أقطار العالم الإسلامي، وأجروا عليهم الأرزاق، وفرقوا فيهم الأموال.
وكانت مجالسهم تعقد في الأزهر على عادة الفقهاء في ذلك العهد فتزاحمت فيه الأقدام، وكانوا كلما ضاق بهم وسعوه بأبنية ينشئونها بجانبه، ويوسعون دوره حتى أصبحت سعته الآن نحو 12000 متر مربع، وكانت أقل من نصف ذلك، وتضاعفت أساطينه مرارا وكان عددها يوم بني 76 أسطوانة متفرقة في أجزائه، وصارت أبوابه تسعة.
وكانت أعطية الخليفة للفقهاء في أول الأمر على غير قياس أو ميقات. فلما أفضت الخلافة إلى العزيز بالله ثاني الخلفاء الفاطميين سنة 365ه أمر وزيره يعقوب بن كلس أن يرتب للفقهاء أرزاقا معينة، وأن يبني لهم منازل يقيمون فيها بجانب الجامع، وكانوا يأتون المسجد - في بادئ الرأي - لصلاة الجمعة، وقراءة الفقه على مذهب الشيعة، والوعظ، والمباحثة، فتدرجوا من القراءة إلى التعليم حتى أصبح الجامع مدرسة كبرى أكثر دخلها مما وقفه لها الخلفاء والأمراء، ويقدر دخله السنوي اليوم بعشرين ألف جنيه. (1-5) علوم الأزهر وبناؤه
ظل الأزهر مدرسة شيعية طول خلافة الفاطميين (نحو مائتي سنة) حتى غلبهم صلاح الدين الأيوبي على مصر سنة 567ه وكان سني المذهب، وليس له بد من مبايعة خليفة يثبته في منصبه فبايع الخليفة العباسي في بغداد، وخطب له في الجامع الأزهر، وكان صلاح الدين على مذهب الإمام الشافعي فلم يضطر لتبديل كثير من طرق التعليم، وقبل الناس سلطته على أهون سبيل. على أنه لم ير مندوحة عن مراعاة مذهب الخلفاء العباسيين - وهو مذهب أبي حنيفة - ورأى بحكمته وسداد رأيه أن يكتسب ولاء سائر المسلمين فأجاز تعليم المذاهب الأربعة كل مذهب يحضره أهله. فآل ذلك إلى اتساع شهرة هذه المدرسة، وتقاطر إليها الطلاب من أربعة أقطار المسكونة، ولم يبق التعليم قاصرا فيها على الفقه وعلوم الدين واللغة، ولكنه تناول شيئا من الرياضيات والنجوم، وبعض العلوم الطبيعية.
وما زال ذلك شأنها في أيام السلاطين الأيوبيين ومماليكهم حتى جاء السلطان سليم العثماني، وفتح مصر في أوائل القرن العاشر للهجرة. ثم استبد الأمراء المماليك في الحكومة، واشتغل الناس عن العلم، وكان العنصر العربي قد ضعف شأنه في سائر المملكة الإسلامية إلا في مصر؛ لأن مدرسة الأزهر كانت أكبر وسيلة لاستبقاء اللغة العربية لتعليم العلوم الدينية واللسانية، لكنها اقتصرت يومئذ على هذه العلوم، وأهملت سواها من الطبيعيات والرياضيات.
على أن فضل الأزهر في إحياء اللغة العربية لم يكن قاصرا على نشرها في الديار المصرية أو ما جاورها من البلاد العربية لكنه شمل سائر البلاد الإسلامية. فقد كانوا يفدون على مدرسته من بلاد الترك والمغرب والشركس واليمن وزنجبار والهند وأفغانستان ... وغيرها، وقد رغب الناس فيه؛ لأنه كان يعلم الطلبة مجانا يقوم بنفقاتهم من الطعام واللباس والمأوى، فضلا عن امتيازه بمهارة الأساتذة. فكان أعظم العلماء المسلمين في الأجيال الإسلامية الوسطى ينبغون من مدرسة الأزهر، وكان للمتخرج في هذه المدرسة مزية وفضل على المتخرجين في سائر المدارس الإسلامية، وطلابه الآن يتجاوزون عشرة آلاف طالب.
وقد زاد في بناء الجامع الأزهر وغير فيه كثير من الملوك والأمراء الذين تولوا مصر بعد المعز، وعلى الخصوص: الملك الظاهر بيبرس، وقايت باي، والغوري من سلاطين المماليك، والسيد محمد باشا من ولاة الدولة العثماينة، وإسماعيل بك وعبد الرحمن كخيا من أمراء المماليك، وعبد الرحمن كخيا المذكور جدد فيه أشياء كثيرة وجعل فيه مدفنا له دفن فيه، وأخيرا سعيد باشا بن محمد علي باشا سنة 1272ه، ولذلك يكاد لا يوجد فيه شيء من الجدران والأعمدة التي وضعها جوهر القائد. (1-6) نسب الفاطميين
فلما رسخت قدم الفاطميين بمصر أصبحت المملكة الإسلامية في الشرق يتنازعها خليفتان: المعز لدين الله الفاطمي في مصر، والمطيع لله العباسي في بغداد، وكل منهما يجتهد في إثبات الخلافة العامة له وحرمان الآخر منها، ودعوى المعز بالأسبقية مبنية على انتسابه لفاطمة بنت النبي، وقد اختلف النسابون في حقيقة دعواه على أنه قلما كان يعتمد على شرف الحسب والنسب، ومما يحكى عنه أنه لما كان قادما إلى القاهرة، وخرج الناس للقائه اجتمع به أناس من الأشراف وفيهم عبد الله بن طباطبا المشهور فتقدم إلى الخليفة المعز، وقال له: «إلى من ينتسب مولانا؟» فقال له: «سنعقد مجلسا نجمعكم فيه، ونسرد عليكم نسبنا.»
ولما استقر المعز في القصر جمع الناس في مجلس عام وجلس بهم، وقال: «هل بقي من رؤسائكم أحد؟» قالوا: «لم يبق معتبر.» فسل نصف سيفه، وقال: «هذا نسبي» ونثر عليهم ذهبا كثيرا، وقال: «هذا حسبي.» فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا.
ولم يسكن المعز لدين الله قصره طويلا فتوفي بعد ثلاث سنوات من حكمه بمصر (الجمعة في 11 ربيع آخر سنة 365ه) وسنه 45 سنة، ومدة حكمه جميعها 24 سنة معظمها في المغرب، وكان عاقلا حازما أديبا حسن النظر محبا للنجامة شاعرا، وينسب إليه من الشعر قوله:
لله ما صنعت بنا
تلك المحاجر بالمعاجر
أمضى وأقضى في النفوس
من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم
تعب المهاجر في الهواجر
وينسب إليه أيضا:
أطلع الحسن من جبينك شمسا
فوق ورد في وجنتيك أطلا
وكأن الجمال خاف على الور
د جفافا فمد بالشعر ظلا
وترى في شكل
9-3
صورة نفوذ المعز مضروبة بعد دخوله القاهرة بسنة واحدة.
شكل 9-3: نقود المعز لدين الله. (2) خلافة العزيز بن المعز (من 365-386ه/975-996م)
فلما توفي المعز بويع ابنه نزار بن معد أبو منصور الملقب بالعزيز بالله، ويدعوه بعضهم العزيز بدين الله، ومولده المهدية في إفريقية، واتسعت المملكة في أيامه حتى اتصلت بمكة، ولم يكن سن العزيز عند مبايعته إلا 21 سنة فترك أزمة الجند لجوهر، وفوض ليعقوب بن كاس النظر في سائر الأمور، وجعله وزيرا له في رمضان سنة 368ه، وفي محرم سنة 373ه أمر العزيز أن تكون جميع المكاتبات الرسمية باسم يعقوب، وأن تمضي الأوامر باسمه، وأهداه كثيرا من الغلمان والأموال. فرتب يعقوب الدواوين؛ فجعل ديوانا للجيش، وآخر للأموال، وآخر للخراج، وآخر للسجلات والإنشاء، وآخر للمستغلات، وجمع في كل منها كتابا ورؤساء كتاب، وكان يجلس في مجلسه الأدباء والشعراء والفقهاء وأرباب الصنائع، وخصص لكل منهم الأرزاق، وألف كتبا في الفقه والقراءات، وكان يجلس في كل جمعة يقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، وكان له مجلس في داره للنظر في رقاع المرافعين والمتظلمين، ويوقع بيده في الرقاع، ويخاطب الخصوم بنفسه، وتوفي الوزير يعقوب في 5 ذي الحجة سنة 380ه وهو أول وزراء الدولة الفاطمية بمصر.
وتزوج العزيز بالله امرأة مسيحية من الطائفة الملكية، وكان يحبها كثيرا فاكتسبت نفوذا عليه فكان يراعي أبناء طائفتها، ويرفق بهم إكراما لها حتى اتخذ طبيبه الخاص منهم، واسمه منصور بن مقشر، وكان يحترمه فاعتل الطبيب يوما عن الركوب فلما تماثل كتب إليه الخليفة العزيز بخط يده: «بسم الله الرحمن الرحيم. على طبيبنا - سلمه الله - سلام الله الطيب وأتم النعمة عليه، وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه، والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة، وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم، وطيبة النفس، وخفض العيش بحوله وقوته.» (2-1) هفتكين الشرابي
وقدم إلى الشام في أيام العزيز هفتكين الشرابي من بغداد لغزو دمشق، وهفتكين هذا يقال له: الفتكين أبو منصور التركي الشرابي غلام معز الدولة أحمد بن بويه رقي الخدم حتى غلب في بغداد على عز الدولة مختار بن معز الدولة، وكان فيه شجاعة وثبات في الحرب. فلما سارت الأتراك من بغداد لحرب الديلم جرى بينهم قتال عظيم اشتهر فيه هفتكين. إلا أن أصحابه انهزموا عنه، وصار في طائفة قليلة فسار بمن معه من الأتراك وهم نحو الأربعمائة إلى أن قرب من حوشبة إحدى قرى الشام، وقد وقع في قلوب العربان منه مهابة، وما زال ينتقل من محل إلى آخر، ويجمع إليه الأحزاب ومنهم القرامطة حتى غزا القسم الأعظم من سوريا إلى دمشق، ونزل على السواحل.
فعلم بذلك العزيز بالله فأرسل إليه جيشا تحت قيادة جوهر فبلغ هفتكين ذلك وهو في عكا. أما القرامطة فكانوا في الرملة، ولما بلغهم قدوم جوهر وجيوش العزيز فروا عنها فنزلها جوهر، وسار من القرامطة إلى الإحساء التي هي بلادهم جماعة وتأخر عدة. أما هفتكين فسار من عكا إلى طبرية، وقد علم بمسير القرامطة وتأخر بعضهم فاجتمع في طبرية، واستعد للقاء جوهر، وجمع الأقوات من بلاد حوران والثنية وأدخلها إلى دمشق. ثم سار إليها وتحصن فيها فعلم جوهر بذلك فسار إلى دمشق، ونزل على ظاهرها في 22 ذي القعدة وبنى على معسكره سورا، وحفر خندقا عظيما، وجعل له أبوابا.
فتجمع هفتكين برجاله لقتال جوهر، وطال الأخذ والرد إلى 11 ربيع أول سنة 366ه، وعند ذلك اختل أمر هفتكين وهم بالفرار. ثم إنه استظهر ووردت الأخبار بقدوم أحمد القرمطي إلى دمشق، فطلب جوهر الصلح على أن يرحل عن دمشق من غير أن يتبعه أحد، وذلك أنه رأى أمواله قد قلت، وهلك كثير ممن كان في عسكره حتى صار أكثر جنده رجالة، وأعوزهم العلف، وخشي فوق ذلك قدوم القرامطة. فأجابه هفتكين وقد عظم فرحه، فرحل جوهر في 3 جمادى الأولى وجد في المسير إلى أن بلغ طبرية، وكان قد قرب القرامطة فتعقبوه إليها فسار منها إلى الرملة فبعث القرامطة بسرية كان لها مع جوهر وقعة قتل فيها جماعة من العرب. ثم طال الكفاح 17 شهرا ففر جوهر إلى عسقلان فغنم هفتكين شيئا كثيرا. ثم سار فحاصر عسقلان فبلغ ذلك العزيز فاستعد للمسير ليمد جوهرا.
أما جوهر فلما طال حصاره راسل هفتكين يطلب إليه تقرير الصلح على مال يحمله إليه، وأن يخرج من تحت سيفه، فعلق هفتكين سيفه على باب عسقلان وخرج جوهر ومن معه من تحته، وسار إلى القاهرة فوجدوا العزيز قد برز يريد المسير. فساروا معه وما زالوا حتى نزلوا الرملة، وكان هفتكين في طبرية فسار للقاء العزيز ومعه عدة من رجاله فالتقى الجيشان. فلم يكن غير ساعة حتى انهزم جيش هفتكين، وفاز العزيز، فطلبوا هفتكين فإذا هو قد فر على فرس بمفرده فقبض عليه أحد العرب، وجاء به إلى العزيز وعمامته في عنقه فأمر به فطيف به على العسكر على جمل فأخذ العسكر يلطمونه ويهزون لحيته.
ثم سار العزيز بهفتكين والأسرى إلى القاهرة، فاستخدمه ومن معه، وأحسن إليه غاية الإحسان، وأنزله في دار وواصله بالعطاء والخلع حتى قال: لقد احتشمت من ركوبي مع مولانا العزيز بالله، وتطوفي إليه بما غمرني من فضله وإحسانه، فلما بلغ ذلك العزيز قال لعمه حيدرة: «يا عم والله إني أحب أن أرى النعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهر، ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار، وأن يكون ذلك كله من عندي.» وما زال هفتكين يرتقي في ظل العزيز إلى أن توفي سنة 372ه فظن العزيز أن يعقوب بن كلس سمه (وكان لا يزال حيا) لأنه كان يلاحظ بينهما منافسة في التقرب من الخليفة فاعتقله مدة ثم أطلقه. (2-2) مناقب العزيز بالله
وفي 18 رمضان سنة 386ه توفي العزيز بالله في بلبيس على إثر مرض طويل بالقولنج والحصاة، وعمره 42 سنة وبضعة أشهر، ومدة خلافته 21 سنة وخمسة أشهر ونصف فنقل إلى القاهرة، ودفن في تربة القصر مع آبائه، وكان العزيز كريما شجاعا حسن العفو عند المقدرة، وكان أسمر اللون أصهب الشعر أشهل العين عريض المنكبين حسن الخلق قريبا من الناس لا يؤثر سفك الدماء محبا للصيد ولا سيما صيد السباع، وكان أديبا فاضلا.
ويحكى أن أحد الشعراء نظم قصيدة هجا بها وزيره وكاتب سره فرفعا الشكوى إليه، وطلبا عقاب الشاعر. فاطلع على القصيدة فرأى فيها هجوا به أيضا فقال لهما: «بما أني شاركتكما باحتمال هذه الإهانة فشاركاني بالعفو على هذا الشاعر.»
والعزيز أول من اتخذ وزيرا أثبت اسمه على الطرز، وقرن اسمه باسمه، وأول من لبس الخفين، وأول من اتخذ منهم الأتراك واستخدمهم وجعل منهم القواد، وأول من رمى منهم بالنشاب، وأول من ركب منهم بالذؤابة الطويلة وضرب بالصوالجة ولعب بالرمح، وأول من أقام طعاما في جامع القاهرة لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان، وأول من اتخذ الحمير لركوبه إياها.
وكان للعزيز رغبة في اقتناء الكتب مجاراة لمناظريهم من العباسيين؛ فجمع منها جانبا كبيرا خصص لها قاعات في قصره سماها: «خزانة الكتب» وبذل الأموال في الاستكثار من المؤلفات المهمة في التاريخ والأدب والفقه، ولو اجتمع من الكتاب الواحد عشر نسخ أو مائة نسخة أو أكثر؛ ذكروا أنه كان فيها من كتاب العين للخليل نيف وثلاثون نسخة بخط الخليل نفسه، وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، واشتروا النسخة بمائة دينار، ومائة نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد، وكان عدد النسخ المكررة يزداد بتوالي الأعوام حتى بلغ عددها من تاريخ الطبري عند استيلاء صلاح الدين الأيوبي على مصر 1200 نسخة، وكان فيها 3400 ختمة قرآن بخطوط منسوبة محلاة للذهب. فلا عجب إذا قالوا: إنها كانت تحوي 1600000 كتاب في الفقه والنحو والحديث والتاريخ والنجامة والروحانيات والكيمياء منها 18000 كتاب في العلوم القديمة فيها 6500 جزء من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة غير أدوات الهندسة والفلك.
على أننا نرى في تقدير تلك الكتب مبالغة، وقد قدرها آخرون بنحو 200000 كتاب، وغيرهم 120000 ونظن في تقديرهم التباسا من حيث المراد بخزانة الكتب أو خزائن الكتب؛ لأن العزيز بعد أن أنشأ خزانته بقصره اقتدى به جماعة من أهله فأنشئوا مثلها في قصورهم. فالظاهر أن المراد بالتقدير القليل عدد الكتب في خزانة العزيز خاصة، وبالكثير عدد ما في خزائن القصور كلها، وبهذا الاعتبار لا يقل عدد الكتب في خزائن القصور عن 1000000 مجلد أو كتاب.
وكان للعزيز عناية كبيرة في خزانته يتعهدها بنفسه حينا بعد حين، وقد رتب لها قيما يتولى شئونها ويجالسه ويقرأ له الكتب وينادمه، وممن تولى ذلك أبو الحسن الشابشتي الكاتب المتوفي سنة 390ه.
ومن آثاره: أنه أسس جامع الحاكم فلما جاء الخليفة الحاكم أتمه. (3) خلافة الحاكم بأمر الله بن العزيز (من سنة 386-411ه/996-1021م)
ولما توفي العزيز خلفه ابنه المنصور أبو علي فبويع ولقب بالحاكم بأمر الله، ولكننا سنرى أنه لم يحكم إلا خلافا لأمر الله، وكان عمره عند مبايعته إحدى عشرة سنة فكان الوصي عليه الوزير أرجوان فاستأثر بالنفوذ حتى تجاوز الحد.
وكانت مدة حكمه 25 سنة ثارت في أوائلها عصبة ادعى زعيمها أنه من سلالة الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وجرى بسبب ذلك خصام وحروب كان النصر فيها متبادلا، وفي المرة الأخيرة قبض على زعيم العصاة وألقي في السجن، وهرب أتباعه. ثم أراد الحاكم أن يبرهن على اختلال شعور هذا الرجل فأركبه جملا، وأركب وراءه قردا وطوفه في المدينة، والقرد لا ينفك عن قرع ذلك الرجل على رأسه إلى أن مات شر موتة.
وفي سنة 391ه أمر الحاكم الناس بأن يوقدوا القناديل على الحوانيت وأبواب الدور والمحال والسكك الشارعة وغير الشارعة، ولازم الركوب في الليل، وكان ينزل في كل ليلة إلى موضع موضع، وإلى شارع شارع، وإلى زقاق زقاق، وصار الناس من الزينة والوقود الكثيرة يوصلون ليلهم بنهارهم، فيقضون طول الليل في البيع والشراء، وكان إذا مشى في موكبه أمر حاشيته أن لا تمشي بقربه وزجرهم، وقال: أبعدوا، ولا تمنعوا أحدا مني فكانت تقترب الناس منه، وتحدق به، وتكثر من الدعاء له. (3-1) أطوار الحاكم
وبعد يسير أصيب الحاكم بتغيير في عقله لم يفارقه حتى فارقته الحياة، وظهر في أثناء ذلك متمذهب يدعى ضرار وتبعه جماعة عرفوا بالضرارية. ثم توفي الزعيم وخلفه أحد تلاميذه المدعو حمزة بن أحمد الملقب بالهادي، وسن هؤلاء شرائع كثيرة، وعلموا تعاليم مختلفة، منها: تعظيم يوم الجمعة، والاحتفال بالأعياد، والتعويض عن الحج لمكة بزيارة مقام طالب في اليمن، ومن شرائعهم: أنهم أباحوا الزيجة بين الأخ وأخته، وأب وبناته، والأم وأبنائها، وجاءوا بأمور كثيرة تخالف أو تناقض ما جاء في القرآن.
فارتاح الحاكم لهذه الديانة الجديدة وافتتن بها فتبعها، ونسي ديانة أبيه وجده، وكان يصعد كل صباح منفردا إلى الجبل المقطم حيث ادعى أنه يناجي الله كما كان يفعل موسى، وبعد أن كان أشد نصير للديانة الإسلامية نادى جهارا بمقاومتها، وادعى بالسوء على الصحابة، وسعى في إبطال الديانة الإسلامية، وإقامة ديانة جديدة فحبطت مساعيه فاحتقرته الرعية، ولم تعد تعبأ بمدعياته فعاد إلى نصرة الإسلام فاضطهد النصارى واليهود.
وكان السبب الرئيسي في ذلك الاضطهاد: تقدم النصارى في أيامه حتى صاروا كالوزراء، وتعاظموا لاتساع أحوالهم، وكثرة أموالهم فتزايدت مكايدتهم للمسلمين على عهد عيسى بن نسطوروس وفهد بن إبراهيم النصرانيين فغضب الحاكم بأمر الله - وكان إذا غضب لا يملك نفسه فيبلغ غضبه إلى حد الجنون - فأمر بقتل هذين الرجلين، وشدد على النصارى فأمرهم بلبس ثياب الغيار وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين والتظاهر بما كانت عادتهم فيه، وقبض على ما في الكنائس وأدخله الديوان، ومنع النصارى من شراء العبيد، وهدم كنائسهم، وأجبرهم على الإسلام ... وغير ذلك من التشديد والعنف بما لم يقاس النصارى مثله من قبل، ولعله أعظم ما أصابهم من الاضطهاد في إبان التمدن الإسلامي، ولا جناح على التمدن به؛ لأن مرتكبه أتاه عن حمق أو جنون.
وقد سوغ للحاكم المبالغة في اضطهاد النصارى حرب كانت بين الروم والمسلمين يومئذ فأخرب الروم بعض جوامع المسلمين، ومنها جامع كان لهم في القسطنطينية؛ فانتقم الحاكم منهم بالتضييق على أهل مذهبهم في بلاده، وكان في جملة ما هدمه من الكنائس: كنيسة القيامة بالقدس. فلما تولى الخليفة الظاهر لإعزاز الدين بعد الحاكم عقدت الهدنة بينه وبين ملك الروم سنة 418ه واتفقا على إعادة بناء جامع القسطنطينية، وأن يعاد بناء كنيسة القيامة، وأن يؤذن لمن أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية إذا شاء فرجع إليها كثيرون.
وربما كان السبب الذي حمل الحاكم على ذلك التضييق طفيفا فعظمه تعصبه وحمقه فأمر بالهدم والقتل. على أنه كثيرا ما كلف رعاياه من المسلمين وغيرهم أمورا مضحكة تشبه الجنون الصريح كإصداره المنشورات بمنعهم من أكل الملوخيا أو من البقلة المسماة بالجرجير، أو منعهم من عمل الفقاع، ومنع النساء من التبرج أو المسير في الطرق، والأمر بسب السلف ولعنهم، ونقش ذلك على المساجد وأبواب الحوانيت وعلى المقابر ونحو ذلك من الأوامر التي تدل على اختلال في عقله.
على أننا قلما نراه أتى أمرا إلا لسبب - وإن كان ضعيفا - فالسبب في منعه الناس من أكل الملوخيا مثلا: أن معاوية بن أبي سفيان عدو الشيعة كان يحبها والدول الفاطمية شيعية، ومنعهم من أكل بقلة الجرجير؛ لأنها منسوبة إلى عائشة أم المؤمنين، ومنعهم من أكل المتوكلية؛ لأنها تنسب إلى المتوكل وهو من أعداء الشيعة، ومنع الناس من شرب الفقاع؛ لأن علي بن أبي طالب يكرهه ... وقس على ذلك سائر ضروب الحماقة والغرابة، ومن هذا القبيل اضطهاد النصارى وتخريب كنائسهم. على أنه عاد لسبب طفيف أو بلا سبب وأمر ببناء تلك الكنائس، وخير النصارى في الرجوع إلى دينهم فارتد كثيرون منهم - وقد تقدم أن ذلك كان في أيام ابنه الظاهر - ومن أعماله الغريبة أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارا وفتحها ليلا فظل الناس على ذلك دهرا طويلا. فمن كانت هذه أعماله لا يستغرب منه اضطهاد، ولا يعد اضطهاده عارا على الدولة أو الأمة.
فكان هذا الحاكم حملا ثقيلا على عاتق المصريين والسوريين، ولم يستطع أحد مقاومته فكان كل منهم يكظم غيظه، وهو يسمع بإذنه رنة السهم في قلبه.
ولكن الأمور تجري على سنن محدودة، ولا بد لكل منها من نهاية فعلمت أخت الحاكم وقائد جيشه أن الحاكم ينوي قتلهما فعمدا إلى اغتياله قبل أن يغتالهما فأخذا الاحتياطات الممكنة، وفي سنة 411ه قتلاه على جبل المقطم، وبعد موته صار النفوذ إلى أخته ونادت بابنه علي أبي الحسن الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله وريثا له فاستلم زمام الأحكام فبايعوه، وبقيت الأحكام في يده 17 سنة. (3-2) جامع الحاكم
ومن آثار الحاكم بأمر الله الجامع المعروف بجامع الحاكم، وقد تقدم أن العزيز وضع أساسه على يد وزيره يعقوب بن كلس فأتم الحاكم بناءه، وأنفق في سبيل ذلك أربعين ألف دينار، ودعاه جامع باب الفتوح لمجاورته له، وجعل فيه المفروشات الثمينة، والأواني الفضية والذهبية، وكان هذا الجامع عند بنائه خارج سور القاهرة. ثم لما جاء أمير الجيوش وجدد الأسوار - كما سيأتي - وابتنى باب الفتوح حيث هو اليوم أصبح الجامع داخل السور. ثم تهدم بعضه بزلزلة حصلت في 13 ذي الحجة سنة 702ه فانتدب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير لترميمه، وجعل فيه دروسا أربعة لتعليم الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة، ودرسا لإقراء الحديث، وجعل فيه مكتبة نفيسة وصهاريج للماء وأماكن أخرى. ثم جدد هذا الجامع وبلط جميعه في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون سنة 760ه على يد الشيخ قطب الدين محمد الهرماس، ويقال: إن الشيخ المشار إليه وجد في الجامع حجرا مكتوبا عليه هذه الأبيات لغزا في الحجر المكرم:
إن الذي أسررت مكنون اسمه
وكتمته كيما أفوز بوصله
مال له جذر تساوى في الهجا
طرفاه يضرب بعضه في مثله
فيصير ذاك المال إلا أنه
في النصف منه تصاب أحرف كله
وإذا نطقت بربعه متكلما
من بعد أوله نطقت بكله
لا نقط فيه إذا تكامل عده
فيصير منقوطا بجملة شكله (3-3) دار الحكمة
ومن آثار الحاكم في خدمة العلم أنه أنشأ مكتبة سماها دار العلم أو دار الحكمة، وهي غير خزانة العزيز أو خزائن القصور كما توهم الأكثرون. أنشأها الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله سنة 395ه بجوار القصر الغربي بالقاهرة، وحمل إليها الكتب من خزائن القصور، ووقف لها أماكن ينفق عليها من ريعها. ففرشوها وزخرفوها، وعلقوا الستور على أبوابها وممراتها، وأقاموا عليها القوام والمشرفين، والغرض من دار الحكمة مثل الغرض من بيت الحكمة الذي أنشأه العباسيون أي لخدمة الناس في المطالعة والدرس والتأليف، وهي طريقة القدماء في تعليم الناس؛ إذ يتعذر على غير الأغنياء اقتناء الكتب الكثيرة نظرا لغلائها، فمن أحب تعليم رعيته أنشأ مكتبة جمع فيها الكتب، وفتح أبوابها للناس كما فعل البطالسة في مكتبة الإسكندرية، والعباسيون في بيت الحكمة ببغداد.
وقد عد بعضهم دار الحكمة مدرسة؛ لأن الحاكم أقام بها القراء والمنجمين وأصحاب النحو واللغة والأطباء، وأجرى لهم الأرزاق، وأباح الدخول إليها إلى سائر الناس على اختلاف طبقاتهم من محبي المطالعة؛ ليقرءوا أو ينسخوا ما شاءوا، وجعل فيها ما يحتاجون إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر، وكان الحاكم يستحضر بعض علماء الدار المذكورة إلى ما بين يديه، ويأمرهم بالمناظرة كما كان يفعل المأمون ويخلع عليهم الخلع، وقد أباح المناظرة بين المترددين إلى دار الحكمة فكانوا يعقدون المجتمعات هناك، وتقوم المناظرات، وقد يفضي الجدال إلى الخصام، واتخذ بعض أصحاب البدع تلك الاجتماعات وسيلة لبث آرائه، فاضطر الأفضل بن أمير الجيوش في أوائل القرن السادس للهجرة إلى إبطالها دفعا للأسباب.
فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله وزيره المأمون بن البطائحي فأعادها سنة 517ه ولكنه اشترط فيها المسير على الأوضاع الشرعية، وأن يكون متوليها رجلا دينا، وأن يقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن، ولا نظن عدد كتبها يقل عن 100000 كتاب، ولما أفضت الدولة إلى صلاح الدين الأيوبي هدم دار الحكمة وبناها مدرسة للشافعية.
وهذه صورة النقود الذهبية التي ضربت في أيام الحاكم بأمر الله (انظر شكل
9-4 ).
شكل 9-4: نقود الحاكم بأمر الله. (4) خلافة الظاهر بن الحاكم (من سنة 411-427ه/1021-1036م)
وفي أيام الظاهر (سنة 422ه) توفي الخليفة القادر بالله العباسي الذي كان قد أقيم سنة 381ه خلفا للطائع، وأقيم مقامه في بغداد القائم بأمر الله، وكان سن الظاهر لما تولى الخلافة 16 سنة فخرج إلى صلاة العيد، وعلى رأسه المظلة، وحوله العساكر، وصلى بالناس في المصلى، وعاد فكتب بخلافته إلى الأعمال، وشرب الخمر ورخص فيه للناس وفي سماع الغناء، وشرب الفقاع، وأكل الملوخية، وجميع الأسماك فأقبل الناس على اللهو. (4-1) المجاعة
وكان الظاهر ضعيف الرأي منصرفا إلى اللهو فأفضى النفوذ إلى بضعة من رجال دولته، وقرروا أن لا يدخل على الظاهر غيرهم. فأصبحوا يتصرفون بأمور الدولة، ويمنعون أهل النصح من الوصول إلى الخليفة، وأخذوا في الاستئثار بالأموال فضاقت أبواب الرزق، ومنع الناس من ذبح الأبقار لقلتها، وعزت الأقوات بمصر، وقلت البهائم كلها حتى بيع الرأس البقر بخمسين دينارا، وكثر الخوف في ظواهر البلد، وكثر اضطراب الناس، وتحدث زعماء الدولة بمصادرة التجارة فاختلف بعضهم على بعض، وكثر ضجيج العسكر من الفقر والحاجة فلم يجابوا، وتحاسد زعماء الدولة فقبض على العميد محسن وضرب عنقه، واشتد الغلاء وفشت الأمراض، وكثر الموت في الناس، وفقد الحيوان فلم يقدر على دجاجة ولا فروج.
وعز الماء فعم البلاء من كل جهة، وعرض الناس أمتعتهم للبيع فلم يوجد من يشتريها، وخرج الحاج فقطع عليهم الطريق بعد رحيلهم من بركه الجب، وأخذت أموالهم، وقتل منهم كثير، وعاد من بقي فلم يحج أحد من أهل مصر، وتفاقم الأمر من شدة الغلاء فصاح الناس بالظاهر: «الجوع الجوع يا أمير المؤمنين، لم يصنع بنا هذا أبوك ولا جدك فالله الله في أمرنا.»
وطرقت عساكر ابن جراح الفرما ففر أهلها إلى القاهرة، وأصبح الناس بمصر على أقبح حال من الأمراض والموتان وشدة الغلاء وعدم الأقوات، وكثر الخوف من الذعار التي تكبس حتى إنه لما عمل سماط عيد النحر بالقصر كبس العبيد على السماط وهم يصيحون الجوع، ونهبوا سائر ما كان عليه، ونهبت الأرياف، وكثر طمع العبيد ونهبهم، وجرت أمور من العامة قبيحة، واحتاج الظاهر إلى القرض فحمل بعض أهل الدولة إليه مالا وامتنع آخرون، واجتمع نحو الألف عبد؛ لتنهب البلد من الجوع فنودي بأن من تعرض له أحد من العبيد فليقتله.
وندب جماعة لحفظ البلد، واستعد الناس فكانت نهبات بالساحل ووقائع مع العبيد احتاج الناس فيها إلى أن خندقوا عليهم خنادق، وعملوا الدروب على الأزقة والشوارع، وخرج معضاد في عسكر فطردهم، وقبض على جماعة منهم ضرب أعناقهم، وأخذ العبيد في طلب وجوه الدولة فحرسوا أنفسهم، وامتنعوا في دورهم، وانقضت السنة والناس في أنواع من البلاء.
وفي سنة 427ه توفي الظاهر لإعزاز دين الله في ليلة الأحد منتصف شعبان بعد أن تضعضعت الدولة، فبويع ابنه معد أبي تميم خليفة مكانه، ولقب بالمستنصر بالله.
وهذه صورة نقود الظاهر لإعزاز دين الله ضربت في القاهرة سنة 425 انظر شكل
9-5 .
شكل 9-5: نقود الظاهر لإعزاز دين الله. (5) خلافة المستنصر بن الظاهر (من سنة 427-487ه/1036-1094م)
ولم يكن سن المستنصر عند مبايعته أكثر من سبع سنوات، وأمه جارية سوداء ابتاعها الظاهر من تاجر يهودي اسمه أبو سعيد سهل بن هارون التستري. فلما رأت أنها في هذا المنصب أتت بسيدها الأصلي وولته الاستشارة، وكانت مدة خلافة المستنصر أطول من مدة كل خليفة فاطمي، وأكثر حوادث من الجميع.
ففي سنة 429ه عقد المستنصر هدنة مع إمبراطور الروم، وكان لا ينفك عن مهاجمة التخوم الإسلامية حتى أخضع حلب، وتبعها سائر الشام، فساد الأمن بعد الهدنة إلى أن كانت سنة 434ه بويلاتها فثارت داخلية مصر بفتنة جديدة؛ لظهور رجل اسمه سكين كان يشبه الحاكم بأمر الله فادعى أنه الحاكم، وقد رجع بعد موته. فاتبعه جمع ممن يعتقد رجعة الحاكم فاغتنموا خلو دار الخليفة بمصر من الجند وقصدوها مع سكين نصف النهار فدخلوا الدهليز فوثب من هناك من الجند، فقال لهم أصحابه: إنه الحاكم فارتاعوا لذلك، ثم ارتابوا به فقبضوا على سكين، ووقع الصوت، واقتتلوا فتراجع الجند إلى القصر والحرب قائمة فقتل من أصحابه جماعة وأسر الباقون، وسلبوا أحياء، ورماهم الجند بالنشاب حتى ماتوا.
ثم سعت أم الخليفة فسادا في الأحكام فغيرت في الوزارة، ونقلت زمام الأمور من يد أحمد بن علي ليد حسن بن العنبري، ومنه إلى صدقة العلاجي، وهذا قتل سلفه سنة 440ه فحكم عليه بالقتل فأبدل بحسين الجرجراي، وفي شوال سنة 441ه قبض عليه ونفي إلى سوريا، وأقيم مقامه أبو الفضل بن مسعود والقاضي اليازوري، وقد حاز هذا الأخير على رضا المستنصر فقربه منه بحيث إنه كان يعطيه الألقاب الخاصة بالخليفة، ويضرب النقود باسمهما.
وفي أثناء ذلك اضطربت الخارجية بسبب معز الدولة، وكان قد ولاه الخليفة على حلب سنة 436ه فحاول الاستقلال بها؛ فأنفذ الخليفة إليه جيشا بقيادة ناصر الدولة بن أبي الهيجاء فكسره. فاسترجعه، وأرسل عوضا عنه الأميرين طرفا ورفيقا، وتحتهما جيوش مصرية فلم ينالا أكثر مما نال، ولحسن الطالع اعتاض معز الدولة عن الهجوم على مصر بعد ما رأى من انتصاره على جيشها بعقد الصلح. فأنفذ ابنه وزوجته ليعقدا صلحا مع المستنصر، وكانت زوجته بديعة الجمال فأخذت بمجامع قلب المستنصر فوافقها في التنازل عن حلب لزوجها. (5-1) المعز بن باديس
وما انتهت هذه المعضلة في الشرق حتى نشأت معضلة أخرى في الغرب ، وذلك أن المعز بن باديس تمرد في إفريقية لمكاتبات عدوانية حصلت بينه وبين الوزير اليازوري؛ فأبطل الخطبة للمستنصر، واستعاض عنه باسم الخليفة العباسي القائم بأمر الله، ووردت الخلع والتقليد من القائم بأمر الله إلى المعز مع كتاب قال فيه: «من عبد الله ووليه أبي جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد ثقة الإسلام وشرف الإمام وعمدة الأنام ناصر دين الله قاهر أعداء الله ومؤيد سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبي تميم المعز بن باديس بن المنصور ولي أمير المؤمنين بولاية جميع المغرب وما افتتحه بسيف أمير المؤمنين وهو طويل» وأرسل إليه سيفا وفرسا وأعلاما على طريق القسطنطينية فوصل ذلك يوم الجمعة فدخل به إلى الجامع، والخطيب ابن الفاكاة على المنبر يخطب الخطبة الثانية. فدخلت الأعلام فقال: «هذا لواء الحمد يجمعكم، وهذا معز الدين يسمعكم، وأستغفر الله لي ولكم» وقطعت الخطبة للعلويين من ذلك الوقت، وأحرقت الأعلام.
وكان المستنصر مشتغلا في أثناء ذلك بالاضطرابات الداخلية بين قبيلتين من العرب: بني زابح، وبني رياح؛ فرأى الوزير أن يستدرك الخطب الداخلي قبل الخطب الخارجي، وأن يستخدم العدو الواحد لإبادة الآخر، فأصلح بين القبيلتين وحرضهما على المعز بن باديس على أن يجعل لهما في مقابل ذلك برقة وطرابلس الغرب.
فاستعد ابن باديس لملاقاة أعدائه بجيش مؤلف من 30 ألف فارس، ولم يكن الأعراب أكثر من 3 آلاف مقاتل. فلما التقوا بجيش المعز هابوه فطلبوا الفرار، فناداهم قائدهم مونس أن يجالدوا في القتال فأجابوه: «أين نطعن هؤلاء المكسوين بالخوذ والدروع؟» فقال: «في عيونهم» ومن ذلك الحين لقب مونس بأبي العيون، وعادت رجاله وقد ثارت فيهم الحمية العربية، وما زالوا حتى انتصروا على المعز في تلك الوقعة. ثم بقيت الحرب سجالا بين الفريقين ست سنوات، وكانت الغلبة طورا لهؤلاء وطورا لهؤلاء.
أما المستنصر فعمد إلى تزيين القاهرة، وبناء البنايات الجميلة فيها فأعاد تذهيب جامع عمرو سنة 441ه وبنى فيه منبرا من الخشب الثمين قائما على عمد من خشب الصندل، وأقام فيه منارة جديدة، وخصص لهذه الترميمات مالا من خزينته الخاصة.
وفي سنة 442ه توفي في مصر أميرتان من أغنى أمراء مصر، وهما: راشدة، وعبدة، وكلاهما ابنتا الخليفة المعز لدين الله؛ فتركت الأولى ثروة مقدارها مليونان وسبعمائة ألف دينار، والثانية مثل ذلك، وكان الخلفاء الفاطميون ينتظرون موتهما ولم يروه فكانت ثروتهن غنيمة بارة للخليفة المستنصر. (5-2) الفتنة بين الخلافتين
وفي سنة 444ه وصل القاهرة نبآن مختلفان ؛ الأول: أن الخليفة العباسي في بغداد أصدر منشورا إلى العالم الإسلامي يقدح فيه بانتساب الخلفاء الفاطميين إلى علي بن أبي طالب، والثاني: أن أمير اليمن علي بن محمد الصالحي أمر أن يخطب باسم المستنصر في الصلاة وأرسل إليه هدايا. فسر الخليفة المستنصر لهذين الخبرين اللذين يوازن أحدهما الآخر، ولم يبد حراكا؛ لاشتغاله بقحط عظيم نتج عن تقصير النيل تلك السنة فاشتد الجوع، وكان قد احتكر الحنطة، وكان يخزن منها كل سنة بمائة ألف دينار يحفظها في خزائنه؛ ليبيعها عند الحاجة بالأثمان الغالية، فإذا كانت سنة رخاء كان الوزير اليازوري يستبدل تلك الحنطة بقيمتها من الخشب أو الحديد أو ما شاكل.
ففي سنة 446ه لم يف النيل، ولم يكن في خزائن الحنطة ما يكفي لغير الخليفة وأهله وحاشيته قوتا ضروريا فغلا ثمن الكيس الصغير من القمح ثمانية دنانير، وأخذ الجوع يتزايد، وتبعه الطاعون، وامتد الاثنان إلى سوريا حتى بلغا بغداد، وتبع هاتين الضربتين ضربة ثالثة نعني الحرب، وسببها: أن الخليفة المستنصر لما اشتد الجوع في بلاده أرسل إلى القسطنطينية يستنجد إمبراطورها بالحنطة فرضي الإمبراطور أن يرسل له أربعمائة ألف أردب، ولكنه مات قبل إرسالها. فلما تولت الإمبراطورة ولية العهد أوقفت الإرسال على أن يعقد لها المستنصر معاهدة (هجومية ودفاعية) فلم يرض فلم ترسل الحنطة فاستشاط غضبا، وأمر بالجهاد فأنفذ ناصر الدولة لفتح اللاذقية وأنطاكية فقبض عليه وتفرق جيشه. فتعاظم غيظ المستعمر، واشتد انتقامه فأمر بالحجز على كل ما في كنيسة القيامة في القدس الشريف من الأموال والأدوات الثمينة فاضطربت العلاقات الودية بين الروم ومصر.
وزاد المصريين رعبا مذنب طويل ظهر في سماء مصر في 12 جمادى الثانية سنة 455ه ولم يغب إلى 15 رجب منها. غير أن الوزير لم يأل جهدا في تدبير الأمور بحكمة ورزانة فخفف المصائب، واستجلب القوت إلى البلاد رويدا رويدا. على أن سلطة المستنصر كانت تزداد في الخارج يوما فيوما حتى إن البساسيري قائد جند الخليفة العباسي القائم بأمر الله لما كبر شأنه خلع خليفته، وبايع للمستنصر الفاطمي، ورفع العلم الأبيض على منابر بغداد سنة 450ه واقتدى به أهل واسط والكوفة وسائر المدن الشرقية الكبرى.
فامتدت سلطة المستنصر الدينية إلى خراسان وفارس. فرأى السلطان طغرلبك هناك أن تسلط العلويين يضر بغرضه فسار بجيشه إلى بغداد، وأعاد القائم بأمر الله إلى منصبه، ونصب العلم العباسي، وأعاد الخطبة للخليفة القائم في 26 ذي القعدة سنة 451ه.
وكان المستنصر قد أرسل إلى البساسيري مددا من الرجال، وخمسمائة ألف دينار، ومؤنا وذخائر وثيابا وخيلا، ولكن لما علم بإعادة بيعة الخليفة العباسي خاف ولم يعد يمده، واكتفى باتخاذ الاحتياط لمنع تقدمه، ولولا ذلك لانتشرت سلطة الدولة الفاطمية إلى أقصى ما بلغت إليه الدولة العباسية في عزها. (5-3) حروب واضطرابات
وجرت في خلال ذلك في سوريا حروب آلت إلى ضعف سطوة المستنصر، وذلك أن حلب كانت إلى ذلك الحين لمعز الدولة، والعرب من بني كلاب يهاجمونها فأقلقوا راحته، وطمعوا به فلم ير طريقة للتخلص منهم إلا الالتجاء إلى المستنصر، فكتب إليه أنه لم يعد قادرا على البقاء في حلب على هذه الحال، وطلب إليه أن يرد هذه المدينة إلى العباسيين، وأن يوليه بدلا منها مدينة لا يكون للعربان يد إليها. فأعطاه مدن بيروت وعكا وجبيل، وجعل على حلب مكين الدولة أحد قواده فحصنها في شهر ذي القعدة سنة 448ه.
ثم سافر معز الدولة إلى مصر، وعقد فيها معاهدة مع المستنصر على المدن التي أعطيت له، وكان مكين الدولة لطيف المعاملة حليما فسعد الشعب أيامه فرخصت الأسعار، واستتبت الراحة، إلا أن بني كلاب لم ينفكوا عن مناوأته بقيادة الأمير محمود الكلابي ابن أخي أميرهم الأول، وكان قد عنف عمه على تسليم أرضهم للخليفة، فجاء مدينة حلب وغزاها، وقتل حاميتها، ودخلها فسلمت له في 2 جماى الثانية سنة 452ه.
أما مكين فكان محاصرا في قلعتها ولم يسلم، فأرسل إلى مصر يستنجد المستنصر فأنجده بناصر الدولة أبي محمد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق، وأوعز إليه أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود. فسار إلى حلب فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب، ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها. ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب، واشتد القتال بينهم فانهزم ناصر الدولة، وعاد مقهورا إلى مصر، وملك محمود حلب، وقتل عمه معز الدولة، واستقام أمره بها، وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق.
فلما وصل ناصر الدولة إلى مصر رأى الخليفة أن يكافئه على فشله فولاه دمشق، وفي سنة 455ه أبدله ببدر الجمالي، وهو أرمني المولد كان مملوكا لجمال الدولة، ومنه لقبه، وتقلب في مناصب عديدة أظهر بها ما يدل على ثباته وحزمه، ولم تمض على سوريا مدة تحت ولايته حتى ساد فيها الأمن؛ لأن الخليفة أذن للأمير محمود أن يتولى حلب، ولقبه بأمير الأمراء، وعضد الدولة، وسيف الخلافة.
أما مصر فكانت أقل طمأنينة من غيرها؛ لأن الوزير اليازوري كان يضطهد المسيحيين اضطهادا شديدا، ويسومهم أشد العذاب، وكان يثير ضدهم الأحزاب في المديريات، وألقى القبض على البطريرك كريستودول، وبعض الأساقفة، وساقهم إلى القاهرة. أما الخليفة فلم يكن راضيا بذلك فأمر بإخلاء سبيلهم بكل احترام، فشق ذلك على الوزير فأمر بإقفال جميع الكنائس المسيحية في مصر من يعقوبية وملكية، فثار مسيحيو القطر، فتدارك الخليفة الأمر بالقبض على الوزير ونفيه إلى تنيس، ثم قتله.
فتشاءم المسيحيون من تلك الحوادث، ورافقها ظهور الشفق الشمالي، وكسوف تام للشمس فكان منظر السماء مهيبا استمر 4 ساعات اشتد فيها الظلام حتى شوهدت النجوم، وأوت الطيور إلى أعشاشها رهبة، وولى الخليفة مكان اليازوري أبا الفرج البابلي، وبعد شهرين أبدله بعبد الله بن يحيى، ثم بغيره حتى تقلب على وزارة مصر 35 وزيرا في 12 سنة، ولم تكن تزيدها هذه التقلبات إلا تعقيدا.
كل ذلك والتشكيات ترد إلى الخليفة تترى من رجال الدولة والرعايا فتحير في أمره، ولم يكن يعلم مصدر هذه القلاقل فجمع رجالا من جميع الطبقات وكلمهم مليا، واستطلعهم حقيقة الأمر فلم يظهر له شيء مما كان يسمعه، ثم ازداد نفوذ السوقة على رجال الدولة فكانوا إذا أجمعوا على أمر أنفذوه، ولو كان مناقضا لأوامر الخليفة؛ فازداد الخليفة اضطرابا، والأخبار ترد عليه متناقضة فلا يعلم أيها يتبع، ورجال القضاء بدلا من أن ينظروا في التقارير كانوا يقضون أوقاتهم وقواتهم في المدافعة عما كان يتقدم في حقهم من التشكيات؛ فاشتد خوف الناس في الأقاليم حتى هاجروا منازلهم فازدادت الفوضى وكثر اللغط.
وكان المستنصر يحتال في أمر الحج فيذهب في زمرة من الحجاج على الجمال مظهرا للحج فإذا بلغ بهم محطة بركة عميرة حيث اعتادوا المبيت في ذهابهم إلى الحج وإيابهم منه، ثم دعيت بركة الحج، ينزل بهم هناك فتدار عليهم الخمور بدل الماء، ثم يعودون إلى القاهرة. (5-4) تاريخ الجند في الدولة الفاطمية
مرت الدولة الفاطمية في ثلاثة أدوار تشبه الأدوار التي مرت بها الدولة العباسية، فقد كان نفوذ الكلمة في الدولة العباسية بأوائلها مشتركا بين العرب والفرس، ثم صار إلى الفرس، ثم إلى الأتراك، والفاطميون عرب قامت دولتهم بالعرب والبربر فكان النفوذ في أولها مشتركا بين هذين العنصرين، ثم صار إلى البربر، ثم إلى الأتراك.
والبربر قوم أشداء مساكنهم في شمالي إفريقيا، وقد نصروا الشيعة العلوية في المغرب كما نصرها الفرس في المشرق، وهم قبائل شتى مثل قبائل العرب الرحل، وقد قاسى المسلمون في إخضاعهم عذابا شديدا؛ لأنهم ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة، وثبوا فيها كلها على المسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير في أواخر القرن الأول، ولما نقم الناس على بني أمية؛ لتعصبهم على غير العرب كان البربر في جملة الذين خرجوا عليهم وتطاولوا للفتك بهم، وقد سرهم ذهاب دولة الأمويين، ولكن ساءهم انتقالها إلى الأندلس على مقربة منهم؛ لأنهم كانوا يكرهونهم للعصبية فنصروا العلويين نكاية فيهم - إلا من اصطنعهم الأندلسيون بالمال - وللبربر فضل كبير في نشر الإسلام بأواسط إفريقية مثل فضل الأتراك في نشره بأواسط آسيا إلى الهند والصين؛ لأن البربر لما ثبت الإسلام فيهم نهضوا لفتح ما وراء بلادهم في إفريقيا الغربية فنشروا الإسلام هناك.
فلما قامت الدولة الفاطمية في المغرب كان البربر من أنصارها، ولا سيما قبائل كتامة وصنهاجة وهوارة، فأخذوا بساعد الفاطميين منذ قيامهم على أيام عبيد الله المهدي أول خلفائهم في أواخر القرن الثالث للهجرة. فلما تأيدت دولته سنة 297ه اتخذ بطانته منهم، وجعلهم من أهل الدولة، وظلوا كذلك في خلافة ابنه القائم بأمر الله (سنة 322ه) ثم المنصور بنصر الله (سنة 333ه) ثم المعز لدين الله (سنة 341ه) وساعدوهم في تملك المغرب كله، وإخراجه من البيعة العباسية، وفي أيام المعز لدين الله فتح الفاطميون مصر، وبنوا القاهرة، ونقلوا دولتهم إليها.
فلما أفضت الخلافة إلى العزيز بالله بن المعز سنة 365ه أراد التشبه بالعباسيين؛ فاصطنع الأتراك والديلم، واستكثر منهم، وقدمهم وجعلهم خاصته كأنه خاف على حياته من البربر. فقامت المنافسة بين البربر والأتراك، وعظم التحاسد حتى توفي العزيز بالله، وخلفه الحاكم بأمر الله سنة 386ه وكان يعتقد فضل البربر فقدمهم وقربهم؛ فاشترطوا أن يتولى أمورهم ابن عمار الكتامي (من البربر) فولاه الوساطة، وهي كالوزارة عندهم؛ فاستبد في أمور الدولة، وقدم البربر، وأعطاهم، وولاهم، وحط من قدر الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز. فاجتمعوا إلى كبير منهم اسمه برجوان وكان صقلبيا، وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغراهم بابن عمار حتى وضعوا منه فاعتزل الوساطة، وتولاها برجوان فقدم الأتراك والديلم، واستخدمهم في القصر. ثم بدا للحاكم أن يقتل ابن عمار فقتله، وقتل كثيرا من رجال دولة أبيه وجده؛ فتضعضع البربر، وقوي الأتراك.
ولما مات الحاكم وخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله سنة 411ه أكثر من اللهو والقصف، ومال إلى الأتراك والمشارقة فانحط جانب البربر، وما زال قدرهم يتناقص حتى كاد يتلاشى. فلما ملك المستنصر سنة 427ه بعد الظاهر، وكانت أمه أمة سوداء استكثرت في جنود ابنها من العبيد أبناء جلدتها حتى بلغوا ألف عبد أسود، وكان هو يستكثر من الأتراك فأصبح الجند طائفتين كبيرتين تتنافسان وتتسابقان إلى الاستئثار بالنفوذ. فآل التنافس إلى حرب تعبت بها مصر، واضطر الخليفة إلى استنصار الشام فأتاه أمير الجيوش بدر الجمالي من سوريا - المتقدم ذكره، كما سيجيء - فقتل أهل الدولة، وأقام بمصر جندا من الأرمن، وصار من حينئذ معظم الجيش منهم، وذهب نفوذ البربر، وصاروا من جملة الرعية، ولم يبق لهم شأن في الدولة بعد أن كانوا وجوهها وأكابر أهلها. (5-5) الفتنة بين العبيد والأتراك
ففي سنة 454ه بينما كان الخليفة ومعه الحجاج في المكان المتقدم ذكره أفرط أحد الأتراك بالشرب حتى سكر فجرد سيفه على أحد العساكر العبيد من حرس الخليفة، فهجم رفاقه على التركي وقتلوه، فاغتاظ الأتراك وتجمهروا بكثرة، وأتوا إلى المستنصر، وقالوا: «إذا كان قتل هذا برضاك فالسمع والطاعة، وإلا فلا نرضى به.» فأجاب الخليفة أنه حصل بغير رضاه؛ فانقض الأتراك على السودانيين وكانوا كثارا. فتخاصم الفريقان طويلا، وبعد واقعة هائلة انتهى الأمر بعقد صلح على أن يكون القاتل تحت أمر الأتراك، ثم عادوا إلى القاهرة.
على أن الضغينة كانت تتزايد يوما فيوما، ولم ينفكوا عن الخصام، وكان السودانيون يطيعون الوزير فيأوون إلى ثكناتهم. أما الأتراك فما فتئوا يضمون إليهم جماعات من العرب يتفقون معهم على المشاركة في السراء والضراء، وأخيرا أقاموا عليهم ناصر الدولة الذي فشل في حملته على الشام، وكان قد عزل من منصبه في دمشق، وأضمر للخليفة ووزرائه شرا، وأقام في القاهرة يترقب الفرصة للانتقام. فقبل تلك القيادة آلة لتنفيذ مآربه.
ثم علم السودانيون أنهم يعجزون عن مناوأة الأتراك فهاجروا إلى الصعيد فانضم إليهم كثيرون من أهله فاشتد أزرهم، وكثر عددهم حتى بلغ خمسين ألف مقاتل، فنزلوا إلى القاهرة والإسكندرية، وهاجموا الأتراك في كوم شريك على الشاطئ الغربي لفرع رشيد من النيل (وقد اشتهر هذا البلد بعدئذ في الحملة الفرنساوية حيث غلبت المماليك)، وكان الأتراك عشرة آلاف، وقد كمنوا لأعدائهم حتى إذا جاءت الساعة هجموا على السودانيين، وهم على الشاطئ فألقوا بعضهم في الماء، وذبحوا البعض الآخر، وفر الباقون، وقدر بعض المؤرخين جملة من قتل وغرق منهم بثلاثين ألفا.
وكانت والدة الخليفة قد تظاهرت جهارا بنصرة السودانيين مواطنيها فشق عليها انكسارهم فغضبت على الأتراك، وحقدت عليهم؛ لأنهم قتلوا أحد أصدقائها المخلصين فأنفذت إلى السودانيين مددا ساعدهم على الدفاع فجرت وقائع شديدة في أماكن مختلفة في جوار القاهرة وفي مصر العليا والسفلى، والتشكيات ترد إلى الخليفة في أمور مختلفة، وجوابه الوحيد عليها قوله: «إن ما حصل إنما حصل بدون علمي فما أنا مطالب به.»
وبعد طول الخصام ضعف الفريقان فضعفت فيهم ساحة الانتقام فعادوا إلى السكينة، والقلوب لا تزال على غل، وعدد الأتراك يزداد كل يوم، وقد صارت إليهم أعمال الحكومة فأقلقوا الخليفة بطلب زيادة مرتباتهم، وكانت قد نفدت ثروته، ولم يعد قادرا على إشباع مطامعهم، وقد أصبح عبدا لأولئك العبيد الذين ربوا في كنفه، ولم يجتمعوا إلا لحماية شخصه.
وكانت والدة المستنصر تزيد في الطين بلة فتأتيه كل يوم بنبأ جديد تطلب إليه أمورا ما أنزل الله بها من سلطان، وتصر عليها فضاق المستنصر ذرعا حتى اضطر سنة 457ه إلى الفرار على قدميه إلى جامع عمرو يظهر الرغبة عن الملك إلى العبادة، فلما علم أرباب دولته بمكانه حملوه على العدول عن قصده فعاد قانطا من الحيل.
وفي سنة 459ه قويت شوكة الأتراك وزاد طمعهم في المستنصر، وأصروا على طلب الزيادة في مرتباتهم، وضاقت أحوال العبيد، واشتدت ضرورتهم، وكثرت حاجتهم، وقل مال الخليفة، واستضعف جانبه فبعثت أم المستنصر إلى قواد العبيد تغريهم بالأتراك فاجتمعوا بالجيزة، وخرج إليهم الأتراك بقيادة ناصر الدولة فاقتتلا مرارا ظهر في آخرها الأتراك على العبيد، وهزموهم إلى بلاد الصعيد فعاد ناصر الدولة إلى القاهرة، وقد عظم أمره، وكبرت نفسه، واستخف بالخليفة.
أما السودانيون فاجتمعوا بعد هذا الانهزام، وتكاثروا حتى صاروا نحوا من 15 ألف مقاتل فاستولوا على الصعيد، وأرادوا النزول إلى القاهرة، ونزل بعضهم الإسكندرية، والبعض الآخر في الفسطاط. فهاج الذين في الفسطاط بدسيسة والدة المستنصر؛ فاستشاط ناصر الدولة غضبا، وعزم على قطع دابر السودانيين من القطر المصري، أو أن ينفصل الأمر؛ إما له، وإما عليه. فجمع رجاله وحارب السودانيين في الفسطاط فظهر عليهم، وأثخن في قتلهم وأسرهم.
ثم سار إلى الصعيد فحاربهم وشتتهم، ثم تحول إلى مصر السفلى فأخرجهم منها ومن الإسكندرية، وأقام فيها من يثق به. ثم عاد إلى القاهرة فنظفها من آثارهم، وقتل من وصلت إليه أخباره، ودخلت سنة 460ه والمستنصر يحاول إعادة نفوذه عبثا، فاستشار ذوي شوراه فلم يجده أحدهم نفعا؛ لأنهم هم أنفسهم لم يكونوا يرون فيه اللياقة لهذا المنصب، وكانت الصعيد لا تزال في حوزة السودانيين، ومصر السفلى لا تخضع إلا لناصر الدولة ولا سيما بعد استيلائه على الإسكندرية، وكانت الفسطاط والقاهرة أيضا تحت سيطرته، وأما أوامر المستنصر فكانت لا تكاد تجري على حاشيته، وقد استفحل الأتراك، واستهانوا بالخليفة، واستخفوا بقدره، وصار مقررهم في كل شهر أربعمائة ألف دينار بعد ما كان 28 ألفا. (5-6) حال المستنصر
تلك حال المستنصر في مصر، أما في الخارج فلم تكن أصلح؛ لأن بدر الجمالي - المتقدم ذكره - اغتنم الفرصة واستقل بالشام، والصالحي أمير اليمن كان قد بايع الفاطميين فقتله أحد قواده، ودخلت مكة واليمن في حوزة الخلفاء العباسيين، والفتن قائمة على الحدود بين أمراء الأقسام ومن يعتدي عليهم فيخرجونهم من أماكنهم ويحتلونها فيلجأ أولئك الأمراء إلى القاهرة.
وفي ختام الاضطرابات جاهر الروم بالحرب، وزاد الطين بلة أن المستنصر لسوء تصرفه أفسد العلائق بينه وبين الأمير محمود صاحب حلب، وقد تقدم أنه حصل على رضاه حتى لقبه بأشرف الألقاب. فلما طلب الروم الحرب كتب إليه المستنصر يستنجده بالنقود؛ لحرب الروم، وإخراج الأتراك من بلاده، فأجابه محمود: «أما النقود فلا وجود لها عندي؛ لأني اقترضت المال لاسترجاع حلب لسلطاني، وأصحاب المال يطالبونني. أما الروم فقد عقدت معهم صلحا فأقرضوني مالا لسد حاجتي، وأخذوا ابني رهنا عليها فلا أرى معاداتهم. أما الأتراك فإنهم أقوى مني فإذا أردت طردهم طردوني.» فاستشاط المستنصر غضبا لهذا الجواب، وكتب إلى بدر الجمالي صاحب الشام يعهد إليه الاقتصاص من أمير حلب العاصي فلم يصدق بدر الجمالي أن جاءه هذا الأمير فجند إلى حلب.
وخرج ناصر الدولة في أثناء ذلك من القاهرة لمحاربة السودانيين في الصعيد فلاقى منهم مقاومة لم يلاق مثلها فحاربهم مرارا، وقد غلبوه في كل مرة، فكتب إلى الخليفة يشتكي أمر السودانيين، ويلقي التبعة على والدته بأنها تهيجهم وتمدهم بالعدة والمال سرا على يده. فأجاب الخليفة أنه لا يعلم شيئا عن أمه، وإنما يتكلم عن نفسه، ويقسم أنه لم يدخل في هذا الأمر أولا ولا آخرا. فاشتد ناصر الدولة ورجاله، وضموا إليهم مددا، وعادوا فهاجموا مهاجمة اليأس ففازوا بهم، وأثخنوا فيهم، فمن نجا من القتل لم ير سبيلا للنجاة إلا في الفرار؛ فتبعثروا وتلاشت قوتهم من ذلك الحين.
فأصبح ناصر الدولة حملا ثقيلا على عاتق الخليفة، وأتم ذلك النصر أسباب ضعفه فغدا وقد ذهبت هيبته ونفوذه من عيون رجاله الأتراك فلم يعودوا يكترثون بأوامره ولا بشخصه، وأصبح صعلوكهم يقول عليهم بكل سوء، وتجمهروا يطلبون زياد مرتباتهم، فانزعج الخليفة لذلك، ولم يكن يأمن على حياته، ولا يرتاح في أكله ولا شربه ولا نومه، حتى ولا في صلاته، وأصاب الوزراء نحو ذلك فتنازلوا عن الوزارة. (5-7) منهوبات قصر الخليفة وخزانة الكتب
وكانت مطاليب الأتراك تحكما منهم؛ لأنهم نالوا الزيادة اللازمة فبلغت مرتباتهم الشهرية أربعمائة ألف دينار كما تقدم. فضلا عن قلة المال فبعثوا يطالبونه فاعتذر بعجزه فلم يعذروه، وقالوا: «بع ذخائرك.» فأخرج كل ما كان في القصر من الذخائر الثمينة التي اشتغل الفاطميون بجمعها منذ تأسيس دولتهم، وصاروا يقومون ما يخرج إليهم بأقل الأثمان، ويأخذون ذلك مما لهم، واقتسموها بينهم كما تراءى لهم لا فرق في كونه حقا أو تعديا، وكان الخليفة ووزير ماليته ينظرون إلى المزاد قائما على أمتعتهما بلا قياس، ولا يبديان حراكا.
وقد بالغ المؤرخون في تقدير تلك الأمتعة الثمينة، وقد ذكرها المقريزي، وهي: قبة العشاري، وقاربه، وكسوة رحله، وهو مما استعمله الوزير أحمد بن علي الجرجراي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان فيه مائة ألف وسبعة وستون ألفا وسبعمائة درهم فضة نقرة، وإن المطلق لصناع الصاغة عن أجرة ذلك، وفي ثمن ذهب لطلائه خاصة ألفان وسبعمائة دينار، وعمل أبو سهل التستري لوالدة المستنصر عشاريا يعرف بالفضي، وحلى رواقه بفضة تقديرها مائة ألف وثلاثون ألف درهم، ولزم ذلك أجرة الصناعة ، ولطلاء بعضه ألفان وأربعمائة دينار، واستعمل كسوة برسمه بمال جليل، وأنفق على العشاريات التي برسم النزهة البحرية التي عدتها ستة وثلاثون عشاريا بالتقدير بجميع آلاتها، وكساها وحلاها من مناطق ورءوس منجوقات وأهلة وصفريات ... وغير ذلك أربعمائة ألف دينار.
ولما نهبوا القصر على ما تقدم كفوا عن مطالبته بزيادة المعاش بعد أن علموا أنه لا يملك شيئا، لكنهم دخلوا مدفن أجداده، وأخرجوا منها كل ما وجدوه بها من التحف، ثم عمدوا إلى خزانة الكتب فأخرجوا منها آلافا من الكتب، في جملتها 2400 ختمة قرآن في ربعاته بخطوط منسوبة محلاة بذهب، وذكر بعض الذين شاهدوا النهب سنة 461ه قال: فرأيت فيها خمسة وعشرين حملا موقرة كتبا محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي فسألت عنها فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر، هو والخطير ابن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لهما عما يستقحانه وغلمانهما من ديوان الجبليين، وإن حصة الوزير أبي الفرج منها قومت عليه من جاري مماليكه وغلمانه بخمسة آلاف دينار، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهب جميعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر من السنة المذكورة مع غيرها مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج وابن أبي كدينة وغيرهما، هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم مع ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية، ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إليه بالابتياع والغصب في بحر النيل إلى الإسكندرية في سنة إحدى وستين وأربعمائة وما بعدها من الكتب الجليلة المقدار المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد وغرابة التي أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم، وأحرق ورقها تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان، وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم. سوى ما غرق، وتلف، وحمل إلى سائر الأقطار، وبقي منها ما لم يحرق ، وسفت عليه الرياح فصار تلالا عرفت بتلال الكتب.
وفي سنة 461ه لم يكتف ناصر الدولة بما حط من نفوذ الخليفة السياسي فعمد إلى أن يحيط من نفوذه الديني، ويقيم من يخلفه، ولم يكن ذلك ممكنا إن لم يأت بحجة تجنح المستنصر فلبث يترقب الفرص فاتفق وهو خارج من بيت الوزير أن رجلا طعنه بخنجر فهم به ناصر الدولة وخنقه حالا لأن جرحه لم يكن بليغا، ورأى تلك فرصة لا يحسن ضياعها فادعى أن الخليفة المستنصر أغرى هذا الرجل على قتله وإن مثل هذا الخليفة الغارق في الملاهي والمسكرات لا يستحق الخلافة، وكان ناصر الدولة قد اتفق مع الشريف أبي طاهر، وكان بدر الجمالي قد طرده فأتى إلى القاهرة، وجمع إليه عصابة يشد بها أزره، وكان معروفا بالتقوى والتدين. فوعده ناصر الدولة أن يوليه الخلافة بعد المستنصر بشرط أن يقتل بدر الجمالي صاحب الشام قبلا، وكان هذا مستقلا هناك، وناصر الدولة يخاف قدومه إلى مصر. فانضم إلى الشريف أبي طاهر أميران من عرب سوريا، فأخذ من ناصر الدولة أربعين ألف دينار للنفقات، وسافر الثلاثة إلى الشام، والتف حولهم عدد وافر من الأحزاب، وكان بدر الجمالي ساهرا على حكومته فلم يلبث المؤامرون أن قابلوا حصون بدر الجمالي حتى قبض عليهم، وأخذت أمتعتهم، وقتل الشريف أبو طاهر سلخا. (5-8) ناصر الدولة
أما ناصر الدولة فلم ينفك ساعيا في مراده، وأصبحت القوة العسكرية شطرين: الواحد على غرض ناصر الدولة وهم الأتراك، والآخر على غرض الخليفة. فلم ير الخليفة بدا من خطة الدفاع بإظهار القوة. فكتب إلى ناصر الدولة ينذره وينصح إليه بما نصه: «تقربت منا وطلبت حمايتنا فحميناك، وبذلنا لك العطاء فكافأتنا بالعقوق، وما زادك حلمنا إلا قحة فأفسدت بين جيوشنا، وتواطأت مع ذويك على مناوأتنا، فالآن اخرج من بلدنا، ونحن نضمن لك الأمان، ونؤذن لك بأن تحمل معك ما شئت إلى حيث شئت، وإن لم تذعن أوقعنا بك عقابا صارما.» فأجابه ناصر الدولة ساخرا، فبعث المستنصر إلى قواد الأتراك الذين كانوا من حزبه وبينهم دكز، وهو من ألد أعداء ناصر الدولة (مع أنه حموه) وجاء معهم قواد المغاربة، وأمراء كتامة، وطلب إليهم مبايعته ثانية فبايعوه.
فرأى ناصر الدولة عدد رجاله قليلا فبرح القاهرة إلى الجيزة، ونهبوا داره، ودور حواشيه، وقتلوا كثيرين منهم. ثم ركب المستنصر جواده، ولبس درعه، وأحاطت به الأعلام فمر من تحتها جميع من في القاهرة من الأتراك، وفيهم عدد عظيم من رجال ناصر الدولة، وسار الموكب حتى أتى بين القاهرة والفسطاط فنودي بالنصر للخليفة المستنصر. أما ناصر الدولة فلما رأى ما كان من قلة رجاله ونفاد ماله فر إلى الإسكندرية، وتحصن فيها، وبعث إلى أهله أن يقدموا، ثم عمل على بث أغراضه في مصر السفلى بمساعدة بعض القبائل الأعراب فحمل الناس على خلع المستنصر ومبايعة القائم بأمر الله العباسي. (5-9) المجاعة والغلاء
أما الفسطاط والقاهرة فلم تكونا في معزل عن تلك القلاقل؛ لأن الجوع تمكن منهما لتقصير النيل مدة خمس سنوات متواليات، وامتد الجوع إلى سنة 464ه وكان معظمه سنة 462ه، ومنذ سنة 457ه لم يكن وفاء النيل كافيا للري. ثم توالت القلاقل التي اقتضت الإسراف بالحبوب، ورافق كل ذلك اشتغال الحكومة بسياستها الداخلية عن الزراعة. فكل هذه الأسباب جعلت الحنطة نادرة جدا فبلغ ثمن الأردب الواحد مائة دينار، والقطة 3 دنانير، والكلب 5 دنانير إن وجدت.
ورافق هذا الغلاء وباء مكث سبع سنين فلم يبق من يزرع، وشمل الخوف من في العسكر ووافق ذلك ثورة العبيد، فانقطعت الطرقات برا وبحرا إلا بالخفارة الكثيرة، ولما استفحل أمر الجوع جاء المستنصر إلى والي القاهرة، وأنذره مقسما برأسه أنه إذا كان لا يتخذ طريقة لتخفيف هذه النازلة قطع عنقه، وكان الوالي عالما بمخابئ كثيرة من الحنطة، ولكنه لم يكن يعلم مقرها فأخرج بعض المسجونين المحكوم عليهم بالإعدام، وألبسهم ملابس الأغنياء، وأوقفهم في رحبة عمومية، وأمر بقطع رءوسهم بدعوى أنه لم ير سبيلا لتخفيف وطأة الجوع إلا بقتل الأغنياء، وقال: إنه لن ينفك عن القتل حتى يشبع الناس، فخاف الأغنياء الذين كانوا قد أخفوا الحنطة، وفتحوا مخازنهم ، وفرقوا الزاد على العباد.
وكان ناصر الدولة قد حصر حبوب مصر السفلى، ومنع شحنها إلى القاهرة وجهاتها، وجاء القاهرة وحاصرها بعد أن أحرق كل ما مر به من القرى والمدن، فاضطر الخليفة بعد طول المقاومة أن يفتح أبواب المدينة لناصر الدولة وأتباعه، ولما دخل ناصر الدولة القاهرة زاد قحة وطمعا فعاد إلى مطامعه، وادعى أن له على الخليفة مرتبات متأخرة، وبالغ في احتقاره.
ويحكى أن ناصر الدولة بعث مرة إلى الخليفة فرآه الرسول في قصره جالسا على حصير بال ليس عنده من الفرش غيره، وقد أصبح لا حاشية عنده إلا ثلاثة خدم نصف عراة فطلب الرسول دفع المتأخر فالتفت إليه الخليفة قائلا: «أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟ فليأخذ إذن هذا الحصير، وهؤلاء العبيد، وهذه الأثواب التي لا تكاد تستر عورتي، ولينصرف عني.» فبكى الرسول، ورجع إلى ناصر الدولة وأخبره فتأثر من هذا القول، واحمر خجلا، وتنازل عن طلبه، وخصص للمستنصر مرتبا يوميا ينفقه على حاجات بيته.
وفي سنة 465ه تصالح ناصر الدولة مع حميه دكز، ولكن هذا لم يزل في ريب من مقاصد صهره فعمد إلى الإيقاع به فاصطحب بعض خاصته، وجاءوا إلى دار ناصر الدولة التي تعرف بمنازل الغز، وهي على النيل. فدخلوا من غير استئذان إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء؛ لأنه كان آمنا منهم. فلما دنا منهم ضربوه بالسيوف فسبهم، وهرب منهم يريد الحرم فلحقوه، وضربوه حتى قتلوه، وأخذوا رأسه.
ومضى رجل منهم يعرف بكوكب الدولة إلى فخر العرب أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه فقال الحاجب: «استأذن لي على فخر العرب، وقل صنيعتك فلان بالباب.» فاستأذن له فأذن له، وقال: لعله قد دهمه أمر. فلما دخل عليه أسرع نحوه كأنه يريد السلام عليه، وضربه بالسيف على كتفه فسقط إلى الأرض فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمة وافرة، وأخذ جارية له أردفها خلفه، وتوجه إلى القاهرة، وقتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانية بمصر. (5-10) بدر الجمالي أمير الجيوش
على أن ذلك لم يكن ليسكن بال المستنصر؛ إذ قد تخلص من شر، ووقع في آخر؛ لأن دكز لم يكن أقل معاكسة له من صهره فالتجأ المستنصر إلى بدر الجمالي حاكم سوريا - المتقدم ذكره - فكتب إليه سرا أن يأتي بجيشه إلى مصر؛ ليوليه عليها، فقبل بدر مشترطا أن يستبدل جنود مصر بمن يختارهم من أهل الشام.
سافر بدر الجمالي من سوريا في عصبة من رجال قد اختبر شجاعتهم، وأمانتهم طويلا، وسار إلى عكا، ومنها بحرا إلى مصر، وكانت الريح جيدة على غير المعتاد في مثل ذلك الفصل؛ لأنه برح عكا في أول ديسمبر (كانون الأول) وبلغ مصر ولم يشعر أحد به، ونزل بين تنيس ودمياط. فاستقبله سليمان كبير أهل البحيرة، وتوجهوا نحو القاهرة فنزلوا في قليوب، وبعثوا إلى الخليفة أن يقبض على دكز قبل دخولهم فقبض عليه، واعتقله في خزانة البنود. فدخل بدر الجمالي القاهرة يوم الأربعاء 29 جمادى الأولى سنة 467ه، ولم يكن للأمراء علم باستدعائه فما منهم إلا من أضافه. فلما انقضت نوبهم في ضيافته استدعاهم إلى وليمة أعدها لهم في منزله، وبيت مع أصحابه: «إن القوم إذا أجنهم الليل فإنهم لا بد يحتاجون إلى الخلاء فمن قام منهم إلى الخلاء يقتل هناك.» ووكل بكل واحد واحدا من أصحابه، وأنعم عليه بجميع ما يتركه ذلك الأمير من دار ومال، وإقطاع وغيره. فصار الأمراء إليه، وظلوا نهارهم عنده وباتوا مطمئنين فما طلع ضوء النهار حتى استولى أصحابه على جميع دور الأمراء، وصارت رءوسهم بين يديه. فقويت شوكته، وعظم أمره، وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقور، وقلده وزارة السيف والقلم. فصارت القضاة والدعاة وسائر أرباب الدولة من تحت يده، وزيد في ألقابه لقب: «أمير الجيوش كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين»، وتتبع المفسدين فلم يبق منهم أحد حتى قتله، وقتل من أماثل المصريين وقضاتهم ووزرائهم جماعة.
ثم خرج إلى الوجه البحري فأسرف في قتل من هناك من لواته، واستصفى أموالهم، وأزاح المفسدين، وأفناهم بأنواع القتل ، وصار إلى البر الشرقي فقتل منهم كثيرا، ونزل إلى الإسكندرية، وقد ثار بها جماعة مع ابنه الأوحد فحاصرها أياما من محرم سنة 477ه إلى أن أخذها عنوة، وقتل جماعة ممن كان بها، وعمر جامع العطارين من مال المصادرات، وفرغ من بنائه في ربيع الأول سنة 479ه ثم سار إلى الصعيد فحارب جهينة والثعالبة، وأفنى أكثرهم بالقتل، وغنم من الأموال ما لا يعرف قدره كثرة، فصلح حال الإقليم بعد فساده.
وكان يسعى جهده في إسعاد المصريين؛ لينسيهم ما قاسوه طويلا فنشط الزراعة، وأباح الأراضي للمزارعين ثلاث سنين حتى ترفهت حال الفلاحين واغتنوا، وسهل سبل التجارة، فتقاطر التجار إلى مصر؛ لكثرة عدله بعد نزوحهم منها في أيام الشدة، وأمر بإنشاء البنايات العظيمة في القاهرة وغيرها من المدن الكبيرة، وشاد الجوامع في الإسكندرية والقاهرة وجزيرة الروضة قرب المقياس، وكان المقياس قد اختل فأصلحه إصلاحا يصح أن يقال فيه: إنه بناه ثانية، وبنى دار الوزارة الكبرى، ودعيت بالدار الأفضلية، وسكنها ولم يزل يسكنها بعده من يلي إمرة الجيوش إلى أن انتقل الأمر إلى بني أيوب فاستقر سكن الملك الكامل في قلعة الجبل خارج القاهرة، وأسكنها السلطان الملك الصالح ولده، ثم أرصدت دار الوزارة لمن يرد من الملوك ورسل الخليفة.
وعادت سطوة الخليفة السياسية والدينية إلى الديار المصرية وغيرها، وعادت مكة إلى مبايعة المستنصر بعد أن قضت خمس سنوات تخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي في بغداد، ورفعوا الغطاء الأسود عن الكعبة، ووضعوا مكانه الغطاء الأبيض
1
وعليه اسم المستنصر بالله ولقبه، وبقيت مصر بعد ذلك 20 سنة لم يحدث فيها ما يهم التاريخ ذكره، وأقل الأمم ذكرا في التاريخ أسعدها.
أما سوريا فإن الأمير أتسز أحد الأمراء التركمانيين اغتنم غياب بدر الجمالي فقدم إليها غازيا فاستولى على بيت المقدس وطبرية وما بعدها حتى دمشق. ثم تحول إلى مصر في 20 ألف مقاتل، وعسكر في سهل بجوار القاهرة، وكانت الجيوش المصرية مشتغلة في إخماد ما بقي من نيران الثورة في الصعيد فاضطرب أهل القاهرة، ولم ير بدر الجمالي بدا من مصالحة أتسز التركماني على 150 ألف دينار يدفعها له بعد خروجه من مصر. فقبل أتسز بتلك الشروط لكنها لم تدم أكثر من 50 يوما تمكن أمير الجيوش في أثنائها من حشد جيوشه من الصعيد، واجتذاب قلوب بعض كبار العربان الذين تتألف منهم معظم خيالة أتسز، وبعض رجال التركمان الذين أتوا معه. فلما صارت الجيوش المصرية بقرب القاهرة كتب أمير الجيوش إلى قافلة كانت تهيأت إلى الحج كتابا، ونصه: «إن الجهاد أعظم ثوابا عند الله من الحج فانضموا إلى جيوشنا.» فأطاعوه ففرق فيهم المال والسلاح. فلما تكامل عدد رجاله جمعهم وهجم على أتسز ذات صباح بغتة، وأحكم في رجاله السيف فانهزموا، وقد قتل جانب كبير منهم فتبعهم الأعراب والمصريون إلى مسافة بعيدة. ثم عادوا إلى معسكرهم فوجدوا فيه نحوا من عشرة آلاف ولد بين إناث وذكور قد أسرهم التركمان من مصر، وخسر التركمان على إثر تلك المعركة جيمع البلاد التي افتتحوها في سوريا، فدخلت في حوزة الخليفة المستنصر، ومات أتسز في دمشق أشقى موتة. (5-11) إصلاحات أمير الجيوش ومناقبه
فلم يعد أمام بدر الجمالي من يخالف أمره، ويقف في سبيل إرادته في إصلاح البلاد، وكان سور القاهرة قد تهدم بعضه فشرع في ترميمه وتقويته؛ فزاد فيه الزيادات التي بين بابي زويلة وباب زويلة الكبير وبين باب الفتوح الذي عند حارة بهاء الدين وباب الفتوح الآن، وزاد عند باب النصر أيضا جميع الرحبة التي تجاه جامع الحاكم إلى باب النصر، وجعل السور من لبن، وأقام الأبواب من حجارة، وبنى باب زويلة وعلى أبراجه، ولم يعمل له باشورة كما هي عادة أبواب الحصون من أن يكون في كل باب عطف حتى لا تهجم عليه العساكر في وقت الحصار، ويتعذر سوق الخيل من دخولها جملة. لكنه جعل في بابه زلاقة من حجارة صوانية عظيمة حتى إذا هجم عسكر على القاهرة لا تثبت قوائم الخيل على الصوان. فلم تزل هذه الزلاقة باقية إلى أيام السلطان الملك الكامل بن العادل الأيوبي، فاتفق مروره من هناك فاختل فرسه وزلق به، وأحسبه سقط عنه فأمر بنقضها فنقضت، وبقي منها شيء يسير، وكان أحدها في أيام المقريزي لا يزال موجودا قرب قبو الخرنفش، وبعد بضع سنين اضطرب القطر من عصبة ثارت تحت قيادة ابن بدر الجمالي لكنها لم تكد تأتي بضرر حتى انكسرت شوكتها.
وفي سنة 483ه أحصى أمير الجيوش الأراضي المصرية ومقدار خراجها، وقابله بما كان يحصله الحكام قبله؛ فرأى أن الخراج الذي كان يستخرج منها قبله لم يتجاوز مليونين وثمانمائة دينارا، أما في أيامه فتجاوز ثلاثة ملايين ومائة ألف دينار؛ لاعتنائه الخصوصي بالزراعة، وتنشيط التجارة، وكانتا رائجتين في أيامه، وما زال عاملا بنشاط إلى أوائل ذي الحجة سنة 487ه فتوفي في القاهرة وسنه ثمانون سنة بعد أن حكم في مصر عشرين سنة حكما مطلقا، وكان الجميع يحترمونه، وفي يده أزمة الأحكام يديرها بحكمة ودراية وثبات، فتكاثرت ثروة البلاد وخصبها إلى حد لم تبلغه قبلا، وكان ينشط الزراعة والتجارة والعلم والأدب على السواء، وكان شديد الهيبة وافر الحرمة مخوف السطوة، قيل: إنه قتل من مصر خلائق لا يحصيها إلا خالقها. منها نحو عشرين ألفا من البحيرة، ومثل ذلك من أهل دمياط والإسكندرية والغربية والشرقية وبلاد الصعيد وأسوان والقاهرة، إلا أنه عمر البلاد، وأصلحها بعد فسادها بإتلاف المفسدين من أهلها، ولا يزال أمير الجيوش معدودا لدى المصريين بمنزلة عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون.
وكان محبا للأدباء يقرب الشعراء، ويطرب لسماع الشعر، ومن الشعراء الذين مدحوه: علقمة بن عبد الرزاق الفليمي، وقد حدث بعضهم عنه قال: «قصدت بدر الجمالي بمصر فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه - قال - فبينا أنا كذلك؛ إذ خرج بدر يريد الصيد فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده فلما قاربه، وقف على نشز من الأرض، وأومأ برقعة في يده ، وأنشأ يقول:
نحن التجار وهذه أعلاقنا
در وجود يمينك المبتاع
قلب وفتشها بسمعك إنما
هي جوهر تختاره الأسماع
كسدت علينا بالشام وكلما
قل النفاق وتعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها
ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك والرجا
من دونك السمسار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره
هرم ولا كعب ولا القعقاع
وسبقت هذا الناس في طلب العلا
فالناس بعدك كلهم أتباع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى
ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا
وكان على يد بدر بازي فألقاه، وانفرد عن الجيش، وجعل يسترد الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مكانه. ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: «من أحبني فليخلع على هذا الشاعر.» فخرج من عنده ومعه سبعون بغلا تحمل الخلع والتحف، وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج من عنده، وفرق كثيرا من ذلك على الشعراء، ولما مات بدر قام بما كان إليه ابنه الأفضل.» (5-12) صقلية
وبعد وفاة أمير الجيوش ببضعة أيام توفي الخليفة المستنصر في 18 من الشهر نفسه، وسنه 67 سنة وخمسة أشهر، قضى منها ستين سنة في منصب الخلافة، ولم يكن أهلا لإدارة الأحكام؛ لضعفه، وقصر حجته، وتصديقه لما يقال له مهما كانت حقيقته. فكان لقب الخلافة له اسما لغير مسمى، ومع طول مدة خلافته لم يحدث فيها غير تلك الضيقات العظيمة، ولم تكن مصر وحدها في ذلك العذاب، فإن صقلية كانت من أغنى بلاد الفاطميين تربة، وكانت قبلا في حكم الأغالبة، ونظرا لبعدها عن كرسي الخلافة لم تكن فيها فائدة، وكان الولاة الذين يرسلون إليها يحاولون الاستقلال.
ففي أيام الخليفة المعز لدين الله كان على هذه الجزيرة وال يقال له أحمد رأى الخليفة منه ميلا عن الطاعة فنفاه إلى إفريقية، وأقام مقامه غيره، وغيره، وساروا كلهم على خطة واحدة. فتعددت القلاقل، وانقسم أهل الجزيرة على أنفسهم فلم يعد في إمكانهم دفع من يغزوهم من الإفرنج، وزد على ذلك أن جيرانهم الإفرنج سكان الجزيرة - نظرا لما كانوا يعاملون به من الاستبداد - كانوا يودون الخروج من سلطة المسلمين فجعلوا يكاتبون أبناء ملتهم من الدول الأخرى، وكل هذا جرى في أيام المستنصر، وانتهى بخروج تلك الجزيرة من سلطة المسلمين.
وذلك أن مسلمي هذه الجزيرة كانوا حزبين متضادين يرأس أحدهما ابن تمامة، فتحاربا فانهزم ابن تمامة، والتجأ إلى مدينة كاتان، وكانت في حوزة الفرنساويين من سنة 372ه فاستبشر الفرنسايون بقدومه فأكرموا وفادته، وأمدوه بالعدة والرجال. أما الحزب الآخر فكان قد استمد المعز بن باديس فأمده بفرقة من إفريقية فجرت بين الحزبين واقعة احتدمت نارها على الخصوص بين الأحزاب المساعدة، وهم رجال المعز بن باديس من الجهة الواحدة، والجيوش الفرنساوية تحت قيادة روجر الأول من الجهة الأخرى، وانتهت بانتصار ابن تمامة ورجال روجر، وانهزام من كان في الجزيرة من المسلمين فدخلها روجر وقد نفذ سهمه. فأخذ يسعى في تمكين قدمه فبايعه أهلها سنة 453ه.
وهكذا خرجت هذه الجزيرة من سلطة الفاطميين، وما زالت صقلية في حوزة روجر حتى مات فخلفه ابنه، ولقب روجر الثاني سنة 495ه فتتبع خطوات أبيه في إصلاح شأن الجزيرة، فتقدمت في أيامه تقدما عظيما لم تبلغه في سائر أزمانها فنسيت الأزمان التي مضت عليها، وهي غارقة في التقلبات والتحزبات، وسفك الدماء. أما المسلمون الذين اختاروا المكوث في الجزيرة فظلوا متمتعين بجميع حقوقهم المدنية والسياسية والدينية.
وترى في شكل
9-6
صور النقود التي ضربت على عهد ملوك صقلية الأقدمين في باليرم عاصمة إيطاليا إذ ذاك.
شكل 9-6: نقود ملوك صقلية القدماء مضروبة في باليرم.
وفي الشهر الأول من سنة 487ه توفي المقتدي بالله الخليفة السابع والعشرون من بني العباس، وفي الشهر الأخير توفي المستنصر ووزيره الباسل أمير الجيوش كما تقدم، وكانت وفاتهما خسارة جسيمة على العالم الإسلامي، وصدمة قوية على الخلافة، وترى في الأشكال
9-7
و
9-8
صور النقود الذهبية التي ضربت في أيام الخليفة المستنصر بالله، فالأولى ضربت في القاهرة سنة 428ه والثانية ضربت سنة 465ه.
شكل 9-7: نقود المستنصر ضربت سنة 428ه.
شكل 9-8: نقود المستنصر ضربت سنة 465ه.
ولم يغفل بدر الجمالي قبل موته عن النظر في مستقبل المملكة، فأوصى بتدبيرها لولده الثاني شاهين شاه؛ لأن الأول كان عاصيا كما تقدم. أما هذا فكان فاضلا حكيما، وكان قبل وفاة أبيه لا ينفك عن ملاصقته، والاقتداء بمناقبه، فتدرب على يده ، وكان يساعده في آرائه، فرأى فيه أبوه رجلا يليق بإدارة الأحكام، واستلام زمام الأمور، ولما تولى شاهين شاه الوزارة لقب بالأفضل، وبجميع الألقاب، والامتيازات التي كانت لأبيه أمير الجيوش. (6) خلافة المستعلي بن المستنصر (من سنة 487-495ه/1094-1101م)
أما المستنصر فأوصى بالخلافة لابنه الثاني أحمد الملقب بأبي القاسم، فبادر الأفضل إلى القصر وأجلس أبا القاسم أحمد بن المستنصر في منصب الخلافة، ولقبه بالمستعلي بالله، وسير إلى الأمير نزار والأمير إسماعيل ولدي المستنصر فجاءا إليه فإذا أخوهما قد جلس على سرير الخلافة فامتعضا لذلك، وشق عليهما. فأمرهما الأفضل بتقبيل الأرض، وقال لهما: «قبلا الأرض لمولانا المستعلي بالله، وبايعاه فهو الذي نص عليه الإمام المستنصر قبل وفاته بالخلافة من بعده.» فامتنعا من ذلك، وقال كل منهما: إن أباه قد أوصى له بالخلافة، وقال نزار: «لو قطعت يدي ما بايعت من هو أصغر مني، وخط والدي عندي بأني ولي عهده، وأنا أحضره.» وخرج مسرعا ليحضر الخط فمضى لا يدري به أحد، وتوجه إلى الإسكندرية. فلما أبطأ مجيئه بعث الأفضل إليه؛ ليحضر بالخط فلم يعلم له خبرا فانزعج لذلك انزعاجا عظيما. (6-1) نزار وأفتكين
وكان الأفضل حاقدا على نزار؛ لأسباب منها: أنه دخل يوما من باب وهو راكب فصاح به نزار «انزل يا أرمني.» فحقدها عليه، وصار كل منهما يكره الآخر. فلما مات المستنصر خاف الأفضل من مبايعة نزار؛ لأنه كان رجلا كبيرا هماما، وله حاشية وأعوان فعمد إلى مبايعة أخيه أحمد بعد أن اجتمع بالأمراء وخوفهم من نزار، وما زال بهم حتى وافقوه على الإعراض عنه، وكان من جملتهم محمود بن مصال، فبعث إلى نزار، وأعلمه بما كان من اتفاق الأفضل مع الأمراء على إقامة أخيه أحمد، وإدارته لهم عنه، ثم كان استدعاء الأفضل له ولأخيه لمبايعة أخيهما. فلما خرج نزار ليأتي بوصية أبيه له بالخلافة سار من القصر متنكرا، ومعه ابن مصال إلى الإسكندرية، وفيها الأمير نصر الدولة أفتكين أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالي، ودخلا عليه ليلا، وأعلماه بما كان من الأفضل، وتراميا عليه، ووعده نزار بأن يجعله وزيرا مكان الأفضل فقبلهما أتم قبول، وبايع نزارا، وأحضر أهل الثغر لمبايعته فبايعوه، ونعته بالمصطفى لدين الله.
فبلغ ذلك الأفضل فأخذ يتجهز لمحاربتهم، وخرج في آخر محرم سنة 488ه بعساكره إلى الإسكندرية فبرز إليه نزار وأفتكين، وكانت بين الفريقين وقائع شديدة انكسر فيها الأفضل، ورجع بمن معه منهزما إلى القاهرة. فقوي نزار وأفتكين، وصار إليهما كثير من العرب، واشتد نزار وعظم، واستولى على الوجه البحري، وأخذ الأفضل يتجهز ثانية لمحاربته، ودس إلى أكابر العربان ووجوه أصحاب نزار وأفتكين ووعدهم، وسار قاصدا الإسكندرية فنزل إليها وحاصرها حصارا شديدا، وألح في مقاتلتها.
فلما كان في ذي القعدة، وقد اشتد البلاء من الحصار جمع ابن مصال ماله، وفر في البحر إلى جهة بلاد الغرب فانكسرت شوكة نزار، واشتد الأفضل، وتكاثرت جموعه فبعث نزار وأفتكين إليه يطلبان الأمان فأمنهما، ودخل الإسكندرية، وقبض على نزار وأفتكين، وبعث بهما إلى القاهرة. فأما نزار فإنه قتل في القصر بأن أقيم بين حائطين بنيا عليه فمات بينهما، وأما أفتكين فقتله الأفضل بعد قدومه.
فعاد السلام إلى المملكة فعكف الأفضل على استرجاع البلاد التي كانت قد خرجت من الدولة الفاطمية، ودخلت في حوزة دولة الأرتقيين. (6-2) دولة الأرتقيين
وكيفية نشوء هذه الدولة: أن السلجوقيين خرجوا من بلاد التتر قبل ذلك الحين بنصف قرن فافتتحوا بلاد فارس، وكانت تابعة للدولة العباسية، ثم التقوا في غربيها بقبائل من التركمان عائشين على تربية المواشي لا معرفة لهم بالحروب، فأخرجوهم من ضواحي بحر قزوين، وساقوهم إلى حدود سوريا. فلما بلغوا ذلك المكان اضطروا لتنازع البقاء أن يقاوموا من يمنعهم من نيل رزقهم، فاستخدموا قوتي الهجوم والدفاع حتى أصبحوا كغيرهم من المحاربين، ولكنهم ما لبثوا أن أصبحوا كذلك حتى كانت الدولة السلجوقية قد امتدت إلى حيث هم فدفعتهم أمامها، فتقهقروا إلى غربي سوريا، وانتشروا فيها وفي فلسطين.
فأمير التركمانيين المتقدم ذكرهم كان يدعى أرتق بن أكسك استولى على أورشليم فأسس دولة عرفت بدولة الأرتقيين، وفي سنة 484ه توفي أرتق عن ولدين: الغازي، وسقمان فحكما معا في بيت المقدس وسائر فلسطين وقسم من غربي سوريا، وكانت جميع هذه البلاد في قبضة الخلفاء الفاطميين. ففي أيام شاهين شاه الأفضل كان الأرتقيون على ما تقدم، والسلجوقيون في بلاد فارس والقسم الشرقي من سوريا.
وفي سنة 491ه سار أمير الجيوش الأفضل؛ لإنقاذ بيت المقدس من الأرتقيين فطلب إليهم التسليم فأبوا فضربها بالمنجنيق فهدم بعضها فسلمت، وفر الأرتقيون إلى شرقي سوريا. فسار سقمان إلى الرها، وأقام لنفسه حكومة فيها، وضم إليها ديار بكر، واستولى الغازي على العراق العربي، وأنشأ مملكة في ماردين. (6-3) الحروب الصليبية
ثم كانت الحروب الصليبية إذ ذاك في أول نشأتها، نعني أيام التعصبات الدينية العمياء التي يخجل التاريخ من ذكرها. فكم أهرقت من الدماء، وكم أحرمت الناس من الراحة. إن ذلك التعصب ساق أهل أوروبا من بلادهم بالعدة والرجال لمحاربة سوريا وفلسطين ومصر، ولم تكن النتيجة إلا إهلاك العباد المقصود إنقاذهم. فمن نجا من السيف لم ينج من الاستعباد، وإننا لنمسك القلم عن الخوض في هذا الموضوع الذي يسود القلوب، ويشوه وجه الإنسانية.
فتأمل الحالة التي كانت البلاد الإسلامية فيها من الارتباك، وما كان في طريقها من العقبات كيف كانت منقسمة بينها. فقام أهل أوروبا جميعا، وجاهروا بمحاربتها، واحتشدوا في القسطنطينية بأمر الإمبراطور إلكس كمون الأول، والسلجوقيون يزحفون في آسيا يفتتحون البلد بعد الآخر حتى بلغوا الأناضول فأصبحوا يهددون المسلمين في مصر كما يهددون النصارى في القسطنطينية، وما زالوا سائرين نحو القسطنطينية حتى أدركوا شاطئ البوسفور الشرقي فلم يبق بينهم وبين القسطنطينية إلا ذلك البوغاز، وكان إذا ذكر اسم الله في معسكر المسلمين وقت الصلاة يسمعه المسيحيون في كنيسة أيا صوفيا على الجانب الآخر.
ثم قطعت جيوش النصارى البوسفور وعددهم عظيم. فقابلهم السلطان قليج أرسلان السلجوقي بن سليمان شاه مؤسس الدولة السلجوقية فحاربوه، وأرجعوه وجيشه إلى الوراء، واستولوا على نيقية ثم أنطاكية. فجاء المسلمين مدد من كتبوغا أمير الموصل، ودقاق أمير دمشق، وجناح الدولة أمير حمص، ومع كل منهم فرقة من الرجال فأحاطوا بالصليبيين، وضيقوا عليهم فتجمع هؤلاء، ودافعوا دفاع اليأس، ودفعوا قوات المسلمين وفرقوها فلم يبق ما يوقفهم عن التقدم. فاستولوا على المعرة بعد حرب، ودخلوا حمص بدون حرب، وانتشر جنودهم في جميع أنحاء سوريا الغربية وفلسطين كالأمواج المتلاطمة فلاقتها جيوش مصر هناك، وكانت بيت المقدس في حكم الخليفة المستعلي الفاطمي منذ استخلاصها من الأرتقيين فحاصرها الصليبيون أربعين يوما، ثم افتتحوها عنوة، ودخلوها يوم الأربعاء في 22 شعبان سنة 492ه/يوليو «تموز» سنة 1099 بعد مذبحة استمرت أسبوعا فأصبحت الجثث متراكمة في الأسواق، فجعلوا يجمعونها في الجامع الأقصى، وقيل: إنه قتل في تلك المعركة نحو من 70 ألف نفس، واغتنم الصليبيون غنائم كثيرة، وساروا لفتح مصر.
شكل 9-9: قتال بين الصليبيين والمسلمين في القرن الحادي عشر للميلاد. نقلا عن صورة مرسومة على زجاج نافذة بكنيسة القديس دنيس.
فاضطربت مصر لتلك الأخبار، وأصبحت تخشى أن يصيبها مثل ذلك، فحشد أمير الجيوش لمحاربة الصليبيين جندا وافرا تحت قيادة سعد الدولة. فساروا وما زالوا حتى التقوا بالجيوش الصليبية عند أسوار عسقلان فحاربوها فأرجوعها على أعقابها. فلما رأى الصليبيون أنفسهم خارج حدود مصر لم يعودوا يطمعون فيها، فوجهوا مطامعهم شرقا إلى ما بين النهرين. فالتقت فرقة منهم بكمشتكين أمير ملاطية وسيواس فكسرها، ولم يوقفهم عن مرادهم. فساروا من الجهة الواحدة نحو ديار بكر إلى سروج ومن الجهة الأخرى حتى استولوا على أرصوف وقيصرية.
ومرت سنتا 493 و494ه في مثل هذه المناوشات، وفي يوم الثلاثاء 17 صفر سنة 495ه توفي الخليفة المستعلي بالله في القاهرة بعد أن حكم 7 سنوات وشهرين، وله ولد اسمه المنصور لم يبلغ السادس من عمره فكان شاهين شاه وصيا عليه كما كان وصيا على أبيه قبله، وكان قد عهد إليه أن يلقبه عند مبايعته بالآمر بأحكام الله ففعل. (7) خلافة الآمر بن المستعلي (من 495-524ه/1101-1130م)
وكان الصليبيون في أثناء ذلك لا يزالون في فتوحهم بسوريا، وقد فازوا لانقسام الدول الإسلامية، وكان الواجب في مثل هذه الحال أن يتحدوا يدا واحدة؛ لمقاومة أعدائهم لكنهم جاءوا بالعكس؛ فانقسمت الآراء، وتشتت القوات فكانت تلك فرصة لجماعة الصليبيين لم يضيعوها؛ لأن الكونت سنجيل بعد أن استولى على طرسوس وحمص وجبيل وطرابلس الشام، تقدم نحو عكا سنة 497ه وحاصرها برا وبحرا، وكانت عكا في ذلك الحين تابعة لمصر، وحاكمها يدعى زاهر الدولة، ويلقب بالجيوشي؛ لأنه من أتباع أمير الجيوش، وطال أمد الحصار حتى مل الصليبيون الانتظار فهاجموا المدينة، ودخلوها عنوة، وفتكوا بمن فيها، وفر زاهر الدولة إلى الشام، ومنها إلى مصر.
ووصل إلى مصر في ذلك الحين أيضا الأمير خلف بن ملاعب الكلابي، وكان واليا على حمص، أخرجه منها تناش صاحب دمشق زورا سنة 485ه فأتى مصر، وعرض نفسه لخدمة الخلفاء الفاطميين، وكان قد طاف أنحاء المملكة الإسلامية؛ لاستطلاع أحوالها شأن المحب لمعرفة حقائق الأشياء. فوصل مصر والخليفة في احتياج إلى خدمته، وذلك أن أبامة في غربي سوريا كان قد تملكها السلطان رضوان فخر الدولة السلجوقي، وأقام عليها واليا من قبله. فكتب هذا الوالي لأمير الجيوش سرا أنه مستعد لتسليم المدينة لمن يرسله خليفة مصر. فتقدم الأمير خلف لهذه المهمة فقبل فسار إلى أبامة وتملكها، ولم ترسخ قدمه فيها حتى نبذ الطاعة، وأوقف دفع الجزية، فأراد الخليفة معاقبته فلم يستطع؛ لما كانت عليه سوريا من القلاقل والفتن. فأنف قاضي تلك المدينة وأعيانها من البقاء على تلك الحال. فبعثوا إلى والي حلب يطلبون حمايته فحماهم فسلموا له المدينة، وقتلوا خلفا، وبعض أهله. لكن الدهر لم يدم لهم؛ لأنهم ذهبوا غنيمة للصليبيين في سنة 499ه وأول من قتل منهم القاضي المتقدم ذكره.
وفي أثناء ذلك كان الكونت سنجيل محاصرا لطرابلس الشام، وقد شخص أميرها إلى بغداد يستمد الخليفة المقتدر العباسي، والسلطان ملك شاه السلجوقي فلم يمداه بشيء، فاستجار أهلها بخليفة مصر فأجارهم، وبعث الأفضل أحد أوليائه إلى طرابلس فتملكها باسم الخليفة الآمر، وأرسل إليها بعد ذلك عمارة بحرية تدفع الصليبيين عنها فتأخر وصولها؛ لمعاكسة الريح لها، وفي 11 ذي الحجة سنة 503ه/يوليو سنة 1110م فتح الصليبيون طرابلس الشام عنوة، وقتلوا بعض أهلها، واستعبدوا البعض فسببوا بدخولهم إليها من الخسائر ما لا يمكن أن تسببه الحروب.
ففي سبع سنين كلها حروب دموية استولى الصليبيون على سوريا وفلسطين، وجعلوا بيت المقدس قصبة ملكهم. أما مصر فكانت في جميع هذه الحوادث على الحياد إلا المدافعة عند الحاجة، وكانت تعد ذاتها سعيدة؛ لنجاتها من هجمات أولئك الصليبيين، وكل ذلك بتدبير الأفضل أمير الجيوش.
وفي سنة 506ه أمر الأفضل ببناء خليج سماه بحر أبي المنجا؛ لأن الذي ناظر على حفره هو أبو المنجا أبو شعيا اليهودي، وأنشأ الأفضل أيضا مرصدا عظيما كلفه مشقات جسيمة، وجعل مركز ذلك المرصد على مرتفع في جوار المقطم كان يعرف قديما بالجرف، ثم لما أقيم فيه المرصد صار يعرف بالرصد. (7-1) البدوية وابن عمها
على أن الهمة التي كان يبذلها الأفضل أمير الجيوش في سبيل مصالح البلاد لم تكن تحرك من الخليفة الآمر بأحكام الله ساكنا، وكان منغمسا بالملاهي لا يسمع بغانية جميلة إلا استقدمها، وكان له شغف خصوصي بالجواري البدويات، ومن أقاصيصه أنه بلغه أن في الصعيد جارية من أكمل العرب، وأظرف نسائهم، شاعرة جميلة، فيقال: إنه تزيا بزي بداة الأعراب، وصار يجول في الأحياء حتى انتهى إلى حيها، وبات هناك في ضائفة، وتحايل حتى عاينها فما ملك صبره أن رجع إلى مقر ملكه، وسرير خلافته، فأرسل إلى أهلها يخطبها فأجابوه إلى ذلك، وزوجوه بها. فلما صارت إلى القصور شق عليها مفارقة ما اعتادته، وأحبت أن تسرح طرفها في الفضاء، ولا تقبض نفسها داخل أسوار المدينة فبنى لها البناء الذي اشتهر في الجزيرة بالهودج، وكان على شاطئ النيل بشكل غريب. إلا أن البدوية بقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن مياح فكتبت إليه، وهي في قصر الخليفة الآمر تقول:
يا ابن مياح إليك المشتكى
مالك من بعدكم قد ملكا
كنت في حيي مرءا مطلقا
نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر موصد
لا أرى إلا حبيسا ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوا
حيث لا نخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمى
حيثما شاء طليق سلكا
فأجابها:
بنت عمي والتي غزيتها
بالهوى حتى علا واحتنكا
بحت بالشكوى وعندي ضعفها
لو غدا ينفع منا المشتكى
ما لك الآمر إليه يشتكى
هالك وهو الذي قد هلكا
شأن داود غدا في عصرنا
مبديا بالتيه ما قد ملكا
فبلغت الآمر فقال: «لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه، وزوجتها به.»
وفي أواخر سنة 511ه خرج بردويل ملك الصليبيين من بيت المقدس؛ لافتتاح مصر بجيش غفير فوصل الفرما فاستولى عليها، وذبح أهلها، وأحرق جوامعها، وهم بمصر فداهمه مرض حمله على العود حالا، فعاد إلى بيت المقدس فمات قبل أن يدرك العريش فنزعوا أحشاءه، ودفنوها في مكان لا يبعد كثيرا من العريش في أرض رملية، وأقاموا على قبره حجرا كبيرا، ولايزال ذلك المكان معروفا إلى أيامنا باسم رمال بردويل. أما جثته فحملوها إلى بيت المقدس.
وبموت بردويل نجت مصر من فتح عظيم، وبقي الصليبيون سبع سنوات أخرى لا يستطيعون مناهضة مصر؛ لاشتغالهم بهجمات المسلمين من شرقي سوريا. ففي سنة 518ه أتى الصليبيون صور وأخذوها صلحا، وأذنوا للمسلمين أن يخرجوا منها بكل ما يستطيعون حمله، وكانت صور إذ ذاك تابعة لمصر فخاف خليفتها من تقدم الصليبيين إلى مصر نفسها، وكانوا قد كفوا عن الفتوح فنبههم إليه الأرتقيون، وعماد الدين زنكي في شرقي سوريا والعراق.
وفي أثناء ذلك نشأت طائفة الباطنيين، ويدعوهم بعض المؤرخين بالحشاشين؛ لأنهم كانوا يكثرون من تدخين الحشيش، وهم فئة جمع بينهم التعصب والطمع، وكان رئيسهم يترصد فرصة للغزو والنهب، فلما رأى الدول القوية مشغولة بالحرب في أنحاء المشرق، وضع يده على بعض القرى الجبلية بجوار دمشق، ثم جعل يناهض الصليبيين فيحاربهم تارة، ويصالحهم أخرى، إلى أن انتهى الأمر فأقام حكومته بين ظهرانيهم، وابتنى حصونا منيعة أرهبت الولاة المسيحيين وخلفاء الإسلام، فأجبرهم على دفع الجزية وقاية من فتكه بحياتهم، فإنه كان متفننا في القتل بطرق سرية على يد بعض رجاله الدهاة.
وفي سنة 524ه سعى أمير الباطنين في قتل الآمر بأحكام الله فأنفذ إليه بعض دهاته فقتلوه في 2 ذي القعدة من السنة المذكورة، وهو في طريقه إلى زيارة معشوقته البدوية، وسنه 35 سنة، وحكمه 30 سنة تقريبا.
وترى في شكل
9-10
صورة نقود الآمر بأحكام الله ضربت بالإسكندرية سنة 512ه (انظر شكل
9-10 ).
شكل 9-10: نقود الآمر بأحكام الله ضربت في الإسكندرية. (8) خلافة الحافظ بن محمد (من 524-544ه/1130-1149م)
ولم يكن للآمر أولاد ذكور فكان الحق بالخلافة لابن عمه عبد المجيد بن القاسم بن محمد، ولكن أرملة الخليفة كانت حاملا فلقب عبد المجيد بنائب الملك ريثما تلد، ويرون ماذا يكون المولود؟ فوضعت ابنة، فبويع عبد المجيد، ولقب بالحافظ لدين الله. فاستوزر أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش فقام بالوزارة حق القيام فعظم في عيني الخليفة فكثر حساده فقتلوه. فاستوزر وزيرا آخر اختبر فيه الدراية والحكمة، واسمه بهرام لكنه لم يلبث أن قتل في أواخر سنة 543ه فعزم الخليفة بعد ذلك أن يتولى أعباء الوزارة بنفسه.
وفي خلال ذلك لم يكن في مصر اضطراب إلا من حيث مشاركتها سوريا بالحروب الصليبية، على أنها ما فتئت ساهرة تخشى غائلة تلك التعصبات، لكنها لم تكد ترتاح من حروبها في الشرق حتى ظهر لها عدو هائل في الغرب فأصبحت الدولة الفاطمية حجرا بين مطرقتين: فعدوها في الشرق الصليبيون، وأما في الغرب فملك صقلية روجر الثاني، وقد تقدم أنه تولى هذه الجزيرة بالإرث، وكان الفاطميون قد علموا بذهابها من أيديهم فلم يأسفوا عليها؛ لبعدها عن مركز حكومتهم.
فلم يقنع روجر بما ناله فحملته مطامعه أن يطلب الفتح فجرد عمارة من مائتين وخمسين شراعا، وتقدم نحو إفريقيا سنة 539ه واستولى على برصة، وقتل كل من كان فيها من الرجال، واستعبد النساء، وفي سنة 541ه وضع يده على طرابلس الغرب، واستولى في سنة 543ه على المهدية مهد الخلافة الفاطمية، وكان قد هجرها أهلها؛ لجوع مدقع حل بهم. ثم تقدم روجر من هناك قاصدا الإسكندرية. فوقعت مصر في حيرة، وقد أصبح هذا العدو في عينيها أشد وطأة من الصليبيين؛ لاشتغال هؤلاء عن مصر بما كان يهددهم به زنكي، وأتابك محمود الملقب بالملك العادل نور الدين.
شكل 9-11: نقود الحافظ لدين الله.
وفي أثناء ذلك توفي الخليفة الحافظ في جمادى الثانية سنة 544ه بعلة القولنج، وكان كثير الإصابة بها. فعمل له موسى الطبيب النصراني طبل القولنج، وهو عبارة عن طبل مركب من سبعة معادن عليه الكواكب السبعة، وكان من خاصته أن الإنسان إذا ضربه خرج الريح من مخرجه، ولهذه الخاصية كان ينفع في القولنج، وكان سن الحافظ عند موته ثمانين سنة، ومدة حكمه 19 سنة و7 أشهر ولم يكن من التدبير والحكمة على شيء؛ فكان يعهد إدارة الأحكام لوزرائه مكتفيا بالسلطة الدينية المحصورة في كل خليفة، ولم يكن لديه من السلطة السياسية إلا التوقيع على الأوامر في تثبيت الأمراء على إماراتهم شأن الدول عند وشك انحلال ملكها، إلا أن تغيير الوزراء جعل فيه بعض الاهتمام في الأحكام.
وترى في شكل
9-11
صورة نقود الحافظ لدين الله ضربت في الإسكندرية سنة 544ه وهي السنة التي توفي فيها. (9) خلافة الظافر بن الحافظ (من 544-549ه/1149-1154م)
واستخلف الحافظ ابنه إسماعيل أبا المنصور فبويع، ولقب بالظافر بأمر الله لكنه لم يكن مطابقا لذلك الاسم، وكان عمره 17 سنة، وهو أصغر أولاد أبيه سنا، وكان كثير اللهو واللعب، والتفرد بالجواري، واستماع الأغاني، فكان ينظر إلى الدسائس الجارية في قصره الآيلة إلى خراب مملكته بعين المتردد المتهامل، وبمثل ذلك كان ينظر إلى تهديد جنود صقلية من جهة الغرب والصليبيين من الشرق، وكل منهما يقترب رويدا رويدا من قاعدة المملكة الفاطمية، والظافر يشعر بقرب سقوط خلافته، ولا يبدي حراكا.
وفي السنة الرابعة من خلافته، وهي سنة 548ه حاصر الصليبيون عسقلان، وكانت من أعمال الفاطميين، ونظرا لوقوعها على حدود مملكتهم كانت عرضة لهجمات الصليبيين، وكان الوزراء في أيام الخلفاء السالفين يعززونها بمهمات الدفاع، وفي أوائل خلافة الظافر توفي وزيره، ووقع الخلاف بين ذوي شوراه فشغلوا بذلك عن صيانة البلاد، فأهملوا أمر عسقلان، فاغتنم الصليبيون تلك الفرصة، وحاصروا المدينة، وضيقوا عليها حتى سلمت. فجاء خبر سقوطها إلى القاهرة مع خبر آخر أشد وطأة منه وهو أن العمارة الصقلية نزلت على سواحل مصر، وأحرقت مدينة تنيس في بحيرة المنزلة، ونهبت الفرما لكنها لم تتقدم أكثر من ذلك، فأخذت ما أمكنها حمله من الغنائم، وعادت من حيث أتت.
ومن سنة 549ه انتهت حياة الخليفة الظافر وحكمه معا، وسبب موته أنه كان منهمكا بالشهوات الوحشية مشتغلا عن مهام الدولة فشق ذلك على وزيره العباس؛ فأوعز إلى ابنه نصر أن يقتله، وينجي البلاد من شره، ويتخلص مما كان يتقول الناس في عرضهما من معاشرته إياه، فاستدعاه إلى دار أبيه سرا، ولم يعلم به أحد، وتلك الدار هي المدرسة الحنفية التي عرفت بالسيوفية فقتله بها وأخفى قتله في منتصف محرم سنة 549ه، فأتى نصر إلى أبيه العباس وأخبره بذلك من ليلته، ولما كان الصباح أقبل العباس إلى القصر على جاري عادته في الخدمة، وأظهر عدم الاطلاع على قضيته، وطلب الاجتماع به، ولم يكن أهل القصر قد علموا بقتله بعد؛ لأنه خرج من عندهم خفية، وما علم أحد بخروجه، فدخل الخدم إلى موضعه ليستأذنوا للعباس فلم يجدوه فدخلوا إلى قاعة الحرم فقيل له: إنه لم يبت هنا، فتطلبوه في جميع مظانه في القصر فلم يقعوا له على خبر فتحققوا قتله. فأخرج العباس أخوي الظافر - وهما جبريل ويوسف - وقال لهما: «أنتما قتلتما إمامنا، وما نعرف حاله إلا منكما.» فأصرا على الإنكار، وكانا صادقين في ذلك، فقتلهما حالا لينفي التهمة عن نفسه وعن ابنه.
وترى في شكل
9-12
صورة نقود الظافر بأمر الله ضربت في الإسكندرية سنة 545ه.
شكل 9-12: نقود الظافر بأمر الله ضربت في الإسكندرية. (10) خلافة الفائز بن الظافر (من 549-556ه/1154-1160م)
فاستدعى عباس الفائز بن الظافر، وتقدير عمره خمس سنوات، وقيل سنتان فحمله على كتفه ووقف في صحن الدار، وأمر أن يدخل الأمراء فدخلوا، فقال لهم: «هذا ولد مولاكم، وقتل عماه أباه، وقد قتلتهما به كما ترون، والواجب إخلاص الطاعة لهذا الطفل.» فقالوا بأجمعهم: «سمعنا وأطعنا!» وصاحوا صيحة واحدة اضطرب منها الطفل، وبال على كتف عباس، وسموه الفائز، وسيروه إلى أمه، وقد اختل من تلك الصيحة فصار يصرع في كل وقت ويختلج. (10-1) الملك الصالح
فأخذ عباس من ذلك الحين يدير الأمور، وانفرد بالتصرف، ولم يبق على يده يد، وأما أهل القصر فإنهم اطلعوا على باطن الأمر، وأخذوا في إعمال الحيلة في قتل عباس وابنه فكاتبوا بذلك الصالح طلائع بن رزيك الأرمني، وهو أبو الغارات الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين؛ كان قد سار إلى زيارة مشهد الإمام علي بن أبي طالب بأرض النجف من العراق في جماعة من الفقراء، وكان من الشيعة الإمامية فتنبأ له الإمام أنه سيتولى مصر بناء على رؤيا رآها في منامه، فسار من ساعته إلى مصر، وصار يترقى في الخدم حتى ولي منية خصيب (المنيا).
فلما صار أهل القصر إلى ما صاروا إليه كتبوا إلى الطلائع، وسألوه الانتصار لهم ولمولاهم، والخروج على عباس، وقطعوا شعورهم، وسيروها في طي الكتاب، وسودوا الكتاب، فلما وقف الصالح عليه أطلع من حوله من الأجناد، وتحدث معهم في المعنى فأجابوه إلى الخروج، واستمال جمعا من العرب، وساروا إلى القاهرة، وقد لبسوا السواد، فلما قاربوها خرج إليهم من بها من الأمراء والأجناد والسودان، وتركوا عباسا وحده، فخرج عباس في ساعته من القاهرة، وخرج معه ولده نصر، ومعهما شيء من المال، وجماعة يسيرة من أتباعهم، وقصدوا طريق الشام على أيلة في 14 ربيع أول سنة 549ه.
أما الصالح بن رزيك فإنه دخل القاهرة بدون قتال، وما قدم شيئا على النزول بدار عباس المتقدم ذكره، واستحضر الخادم الصغير الذي كان مع الظافر ساعة قتله، وسأله عن الموضع الذي دفن فيه فعرفه به، وقلع البلاطة التي كانت عليه، وأخرج الظافر ومن معه من المقتولين فحملوا وقطعت لهم الشعور، وانتشر البكاء والنواح في البلد، ومشى الصالح والخلق قدام الجنازة إلى موضع المدفن في تربة الفاطميين.
وتكفل الصالح بالخليفة الصغير، ودبر أحواله، وأما عباس فإن أخت الظافر كاتبت صليبي عسقلان بشأنه، وشرطت لهم مالا جزيلا إذا أمسكوه فخرجوا عليه، والتقوا به فتواقعوا، وقتلوا عباسا، وأخذوا ماله وولده، وانهزم بعض أصحابه إلى الشام، وفيهم ابن منقذ فسلموا، وسير الصليبيون نصر بن عباس إلى القاهرة تحت الحوطة في قفص من حديد. فلما وصل تسلم رسولهم ما شرطه من المال فأخذوا نصرا، وضربوه بالسياط، ومثلوا به وصلبوه بعد ذلك على باب زويلة، ثم أنزلوه يوم عاشوراء سنة 551ه وأحرقوه.
ولم يحكم الخليفة الفائز بنصر الله إلا ست سنوات، وفي سنة 555ه توفي، وكانت مصر قد انحطت في أيامه إلى مهاوي الضعف حتى إنه كان يؤدي الأموال الطائلة ترضية للصليبيين في بيت المقدس؛ ليتوقفوا عن الغزو من جهة عسقلان وغزة. (11) خلافة العاضد بن يوسف (من سنة 556-567ه/1160-1171م)
وبعد وفاة الخليفة الفائز أخذ الملك الصالح يهتم في إقامة من يخلفه فقدم السراي، فقدموا له شيخا من الأسرة الفاطمية لم يكن ثم أحق منه للخلافة فهم بمبايعته، فجاء أحد أصدقائه وهمس في أذنه: «إن سلفك في الوزارة كان أحسن تدبيرا منك؛ لأنه لم يسلم نفسه لخليفة عمره أكثر من خمس سنوات.» فرنت هذه العبارة في أذن الوزير فعدل عن تنصيب هذا الشيخ، وعمد إلى عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله، ولم يكن بالغا رشده. فبايعه ولقبه بالعاضد لدين الله، وهو الخليفة الرابع عشر للدولة الفاطمية، ثم زوجه ابنته، ومعها ثروة عظيمة.
ولما كانت إدارة الأحكام منوطة بالوزير كان النفوذ الأكبر له، ولم يكن الخليفة العاضد لدين الله أقل استعبادا من سلفه، فلقب وزيره الصالح بلقب الملك. ففتحت أعين الأعداء عليه، وفي جملتهم عمة الخليفة. فعزمت على قتله فأرسلت أولاد الراعي فكمنوا له في دهاليز القصر، وضربوه حتى سقط إلى الأرض على وجهه، وحمل جريحا لا يعي إلى داره فمات يوم الاثنين 19 رمضان سنة 556ه وكان شجاعا كريما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جيد الشعر، وفيه عقل وسياسة وتدبير، وكان ذا هيبة في شكله عظيما في سطوته وغناه، وكان محافظا على الصلاة وفرائضها ونوافلها شديد المغالاة في التشيع صنف كتابا سماه: «الاعتماد في الرد على أهل العناد» جمع له الفقهاء، وناظرهم عليه ، وهو يتضمن إمامة علي بن أبي طالب، والكلام على الأحاديث الوارة في ذلك، وله شعر كثير يشتمل على مجلدين في كل فن، فمنه في اعتقاده:
يا أمة سلكت ضلالا بينا
حتى استوى إقرارها وجحودها
ملتم إلى أن المعاصي لم يكن
إلا بتقدير الإله وجودها
لو صح ذا كان الإله بزعمكم
منع الشريعة أن تقام حدودها
حاشا وكلا أن يكون إلهنا
ينهى عن الفحشاء ثم يريدها
ولم يمت الصالح إلا بعد أن انتقم من عمة الخليفة بأمر الخليفة نفسه؛ لأنه لم يكن يحبها. ثم استوزر ابنه محيي الدين رزيك، ولقبه بالملك العادل، وكنيته أبو شجاع، وهذا استخلف شاور. (11-1) مشهد الحسين
ومن أعمال الملك الصالح طلائع بن رزيك أنه علم بوجود مشهد الحسين في عسقلان، وكان أمير الجيوش أثناء حروبه في سوريا قد ظفر بمدفن رأس الإمام الحسين في تلك المدينة، فابتنى فوقه مشهدا، فلما علم طلائع بوجود ذلك المشهد في تلك الجهة خاف عليه من الصليبيين، فعزم على نقله إلى مصر فابتنى له جامعا مخصوصا خارج باب زويلة دعاه جامع الصالح نسبة إليه على أن يجعل فيه المشهد.
فلما فرغ من بنائه لم يمكنه الخليفة من ذلك بدعوى أنه لا يليق أن يكون ذلك الأثر الشريف خارج سور المدينة، وأبى إلا أن يجعله في بعض أجزاء قصره المدعو قصر الزمرد فأقام له مشهدا هناك، وفي سنة 740ه احترق المشهد فأعيد بناؤه مرارا، وأخيرا أقيم في جواره جامع حتى إذا كان أيام الأمير عبد الرحمن كخيا أحد أمراء المماليك فأعيد بناء المشهد الحسيني في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، وبعد ذلك أعيد بناؤه برمته في أيام الخديوي إسماعيل، ولم يبق من البناء القديم إلا القبة المغطية لمقام الإمام فأصبح على ما نشاهده الآن، وهو الجامع المعروف بجامع سيدنا الحسين في السكة الجديدة بالقاهرة. (11-2) ضرغام
وكان الملك الصالح طلائع بن زريك قد أنشأ في وزارته أمراء يقال لهم: البرقية، وجعل في مقدمتهم ضرغام أبا الأشبال. فترقى هذا الرجل حتى صار صاحب الباب. فلما تولى شاور الوزارة طمع ضرغام في سلبه إياها فجمع رفقته، وتخوف شاور وجمع إليه رجاله. فأصبح الجيش فرقتين: فرقة مع ضرغام، وأخرى مع شاور.
وبعد تسعة أشهر من وزراة شاور، أي في رمضان سنة 558ه ثار ضرغام، وصاح على شاور فأخرجه من القاهرة، وقتل ولده الأكبر المسمى بطي، وبقي شجاع المنعوت بالكامل، وخرج شاور من القاهرة يريد الشام، واستقر ضرغام في وزارة الخليفة العاضد لدين الله بعد شاور، وتلقب بالملك المنصور. فشكر الناس سيرته؛ لأنه كان فارس عصره، وكان كاتبا جميل الصورة، فكه المحاضرة عاقلا كريما لا يضع كرمه إلا في سمعه ترفعه أو مواراة تنفعه، إلا إنه كان إذنا مستحيلا على صاحبه فإذا ظن في أحد شرا جعل الشك يقينا، وعجل بالعقوبة. فبلغه بعد حين أن رفاقه البرقية يسعون في خلعه، وإعادة الوزارة إلى شاور فعلى عادته من التعجل أرسل إليهم، وكانوا نحوا من سبعين أميرا سوى أتباعهم، وأحضرهم إلى دار الوزارة ليلا وقتلهم بالسيف صبرا فذهبت لذلك رجالة الدولة، واختلت أحوالها، وضعفت أكابرها، وفقد أصحاب الرأي والتدبير منها. (11-3) أسد الدين شيركوه وصلاح الدين
وفي أثناء ذلك قصد الصليبيون بلاد مصر فخرج إليهم همام أخو ضرغام، وحاربهم فغلبوه، ونزلوا على حصن بلبيس، وملكوا بعض السور، ثم عادوا إلى بلادهم، وعاد همام عودا رديئا، فما هو إلا أن قدم رسل الصليبيين على ضرغام في طلب مال الهدنة المقررة في كل سنة، وهو 33 ألف دينار.
ثم جاء الخبر بقدوم شاور، ومعه أسد الدين شيركوه بن شادي، وهو كردي الأصل من قبيلة الروادية من أشهر قبائل الأكراد من مدينة دوبن من أعمال أذربايجان.
وكان شيركوه هذا، وأخوه نجم الدين أيوب في خدمة الأتابك نور الدين صاحب دمشق منذ مدة طويلة، وأظهرا من اللياقة ما مكن ثقته فيهما. فلما سار شاور إلى دمشق استنجد أتابك نور الدين؛ ليرجع الوزارة إلى يده. فنور الدين لم يغفل عن هذه الفرصة التي تجعل له يدا بأمور مصر فأرسل معه أسد الدين شيركوه في كثير من المماليك (الغز) وسار معهما يوسف بن أخيه نجم الدين بن أيوب، وكان صغير السن، ولم يكن أبوه راضيا بسفره في هذه الأخطار لصغر سنه، ولعل التقادير ساقته إلى مصر؛ ليكون سلطانا عليها، فإن هذا الغلام صار بعد ذلك البطل الذي يلهج التاريخ بذكره؛ السلطان صلاح الدين الأيوبي. أما مولده فقلعة تكريت سنة 532ه، وسار الأتابك نور الدين بنفسه مشيعا جيوشه إلى حدود مصر، وقصده من ذلك إيهام الصليبيين الذين في طريقه أنه آت لمحاربتهم، فانحصروا في مدنهم، ومر جيشه بأمان ولا معارض حتى أتى مصر. (11-4) قتل ضرغام وعود شاور إلى الوزارة
فلما علم ضرغام بقدوم شاور ومن معه ومطاليب الصليبيين اضطرب، وأصبح الناس في 29 جمادى الأولى سنة 559ه خائفين على أنفسهم وأموالهم، فجمعوا الأقوات والماء، وتحولوا من مساكنهم، وخرج همام بالعسكر في أول جمادى الآخرة فسار إلى بلبيس، وكانت له وقعة مع شاور انهزم ضرغام فيها، وصار إلى شاور وأصحابه جميع ما كان مع عساكر همام، وأسروا عدة، ونزل شاور بمن معه إلى التاج (قليوب) بظاهر القاهرة يوم الخميس 6 جمادى الآخرة.
فجمع ضرغام الناس، وضم إليه الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية من الجند بداخل القاهرة، وشاور مقيم في التاج أياما، ثم سار شاور ونزل في المقس (الأزبكية) فخرج إليه عساكر ضرغام، وحاربه فانهزم هزيمة قبيحة، وسار إلى بركة الحبش، ونزل بالشرف الذي عرف بعد ذلك بالرصد، وملك مدينة مصر (الفسطاط) وأقام بها أياما.
فأخذ ضرغام مال الأيتام الذي كان بمودع الحكم فكرهه الناس واستعجزوه، ومالوا مع شاور، فتنكر منهم ضرغام، وتحدث بإيقاع العقوبة بهم فزاد بغضهم له، ونزل شاور في أرض اللوق خارج باب زويلة، وطارد رجال ضرغام، وزحف إلى باب سعادة، وباب القنطرة، وطرح النار في منظرة اللؤلؤة وما حولها من الدور، وعظمت الحروب بينه وبين أصحاب ضرغام، وفني كثير من الطائفة الريحانية، فبعثوا إلى شاور ووعدوه أنهم عون له فانحل أمر ضرغام، فأرسل العاضد إلى الرماة يأمرهم بالكف عن الرمي فخرج الرجال إلى شاور، وصاروا من جملته، وفترت همة أهل القاهرة، وأخذ كل منهم يعمل الحيلة في الخروج إلى شاور، فأمر ضرغام بضرب الأبواق والطبول ما شاء الله من فوق الأسوار فلم يخرج إليه أحد، وتفرق عنه الناس فسار إلى باب الذهب من أبواب القصر ومعه 500 فارس، فوقف وطلب من الخليفة أن يشرف عليه من الطاق، وتضرع إليه، وأقسم عليه بآبائه فلم يجبه أحد، وظل واقفا إلى العصر والناس تنحل عنه حتى بقي في نحو 30 فارسا فوردت عليه رقعة مكتوب فيها: «خذ نفسك وانج بها.» وإذا بالأبواق والطبول قد دخلت من باب القنطرة ومعها عساكر شاور فمر ضرغام إلى باب زويلة فصاح الناس عليه ولعنوه، وتخطفوا من معه، وأدركه القوم فأردوه عن فرسه قريبا من الجسر الأعظم فيما بين القاهرة ومصر القديمة قرب جامع السيدة نفيسة، واحتزوا رأسه في غاية جمادى الآخرة، وفر منهم أخوه إلى جهة المطرية فأدركه الطلب، وقتل عند مسجد تبر خارج القاهرة، وقتل أخوه الآخر عند بركة الفيل، وبقي ضرغام ملقى على الأرض يومين، ثم حمل إلى القرافة ودفن بها، وكانت وزارته 9 أشهر، وكان من أجل أعيان الأمراء، وأشجع فرسانهم، وأجودهم لعبا بالكرة، وأشدهم رميا بالسهام، وكان له مع ذلك خط ابن مقلة، وكان ينظم الموشحات الجيدة، ولما جيء برأسه إلى شاور رفع على قفاه، وطيف به فقال الفقيه عمارة:
أرى جنك الوزارة صار سيفا
يحز بحده جيد الرقاب
كأنك رائد البلوى وإلا
بشير بالمنية والمصاب
وهكذا أعيدت وزارة مصر إلى شاور فاستلم زمامها، وصار يدفع للأتابك نور الدين ثلث محصولاتها مقابلة لما بذله في إعادتها إليه. إلا أن الأتابك لم يكن هذا حد مطامعه في مصر فقد كان له بتلك الحملة غرضان؛ الأول: أن يقضي حق شاور؛ لأنه قصده مستنصرا، والثاني: أن يستعلم عن أحوال مصر؛ لأنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند، وأحوالها في غاية الاختلال فقصد الكشف عن حقيقة ذلك. (11-5) شاور وشيركوه
ولما أقيم شاور على مصر عقد بينه وبين أسد الدين شركوه اتفاقا سريا بشأن تسليم مصر، إلا أن الشيطان وسوس لشاور أنه قادر على دفع جيوش نور الدين فينال السلطة لنفسه فكتب إلى شيركوه أن يسير إلى سوريا. فأعاد الجواب بالامتناع، وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل إلى نوابه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية، فأرسل شاور إلى الصليبيين يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر، وكانوا قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها.
فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته، وطمعوا في تملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه، وتجهزوا وساروا. فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم؛ ليمتنعوا عن المسير فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد. فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر، وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الصليبيين في البحر؛ لزيارة بيت المقدس فاستعانوا بهم فأعانوهم فسار بعضهم معهم، وأقام بعضهم في البلاد لحفظها. فلما قارب الصليبيون مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهرا يتحصن به، فاجتمعت العساكر المصرية والصليبية، ونازلوا أسد الدين شيركويه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثة أشهر، وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدا، وليس لها خندق ولا ما يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا، ولا نالوا منه شيئا. فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الصليبيين على حارم، وتملك نور الدين حارم، ومسيره إلى بانياس. فحينئذ سقط في أيديهم، وأرادوا العودة إلى بلادهم؛ ليحفظوها، فراسلوا أسد الدين في الصلح، والعودة إلى الشام، ومفارقة مصر، وتسليم ما بيده منها إلى المصريين فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج، ولأن الأقوات والذخائر قلت عنده، وخرج من بلبيس في ذي الحجة.
فلما وصل إلى الشام أقام على حاله في خدمة نور الدين إلى سنة 562، وكان بعد عوده منها لا يزال يتحدث بها وبقصدها، وكان عنده من الحرص على ذلك كثير. فلما كان هذه السنة تجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي، وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء فبلغت عدتهم ألفي فارس، وكان كارها لذلك، ولكن لما رأى جد أسد الدين في المسير لم يمكنه إلا أن يسير معه جمعا؛ خوفا من حادث يتجدد عليهم فيضعف الإسلام. فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر، وترك بلاد الصليبيين إلى يمينه. فوصل الديار المصرية فقصد أطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابل الفسطاط، وتصرف في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفا وخمسين يوما.
وكان شاور لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الصليبيين يستنجدهم فأتوه على الصعب والذلول طمعا في ملكها، وخوفا من أن يملكها أسد الدين فلا يبقى لهم في بلادهم مقام معه ومع نور الدين. فالرجاء كان يقودهم، والخوف يسوقهم. فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والإفرنج وراءه بها فأدركوه في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، وكان أرسل إلى المصريين والصليبيين جواسيس فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عددهم وعددهم، وجدهم في طلبه فعزم على قتالهم. إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن القتال في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من سلامتهم؛ لقلة عددهم، وبعدهم عن أوطانهم وبلادهم، وخطر الطريق. فاستشارهم فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي، والعود إلى الشام، وقالوا له: «إن نحن انهزمنا - وهو الذي يغلب على الظن - فإلى أين نلتجئ؟ وبمن نحتمي؟ وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا.»
فقام أمير من مماليك نور الدين يقال له: شرف الدين برغش صاحب الشقيف، وكان شجاعا، وقال: «من يخاف القتل والأسر فلا يخدم الملوك، بل يكون في بيته مع امرأته، والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة ولا بلاء نعذر فيه؛ ليأخذن مالنا من إقطاع وجامكية، وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منذ خدمناه إلى يومنا هذا، ويقول: تأخذون أموال المسلمين، وتفرون من عدوهم، وتسلمون مصر إلى الكفار، والحق بيده.» فقال أسد الدين: «هذا الرأي، وبه أعمل.» وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله، وكثر الموافقون لهم، واجتمعت الكلمة على القتال.
فأقام أسد الدين بمكانه حتى أدركه المصريون والصليبيون، وهو على تعبئة، وجعل الأثقال في القلب يتكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد، وجعل صلاح الدين في القلب، وقال له ولمن معه: «إن المصريين والصليبيين يجعلون حملتهم على القلب ظنا منهم أني فيه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال، ولا تهلكوا نفوسكم، واندفعوا قدامهم بين أيديهم، فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم.» واختار هو من شجعان عسكره جمعا يثق بهم، ويعرف صبرهم في الحرب، ووقف بهم في الميمنة.
فلما تقاتل الطائفتان فعل الصليبيون ما ذكره، وحملوا على القلب فقاتلهم من به قتالا يسيرا، وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين. فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف من الذين حملوا على المسلمين من الصليبيين الفارس والراجل فهزمهم، ووضع السيف فيهم فأثخن وأكثر القتل والأسر. فلما عاد الفرنج من أثر المسلمين رأوا عسكرهم مهزوما، والأرض منهم قفرا فانهزموا أيضا، وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.
ولما انهزم المصريون والصليبيون من أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية، وجبى ما في القرى على طريقه من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية فتسلمها بمساعدة من أهلها سلموها إليه فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه، وعاد إلى الصعيد فملكه، وجبى أمواله، وأقام به حتى صام رمضان.
وأما المصريون والصليبيون فإنهم عادوا، واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حال عساكرهم وجمعوهم، وساروا إلى الإسكندرية فحصروا صلاح الدين بها، واشتد الحصار، وقل الطعام على من بها فصبر أهلها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان فوصل رسل الصليبيين والمصريون يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد فأجاب إلى ذلك، وشرط على الصليبيين أن لا يقيموا بالبلاد، ولا يتملكوا منها قرية واحدة فأجابوا إلى ذلك واطصلحوا، وعادوا إلى الشام، وتسلم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة. (11-6) الصليبيون في القاهرة
وأما الصليبيون فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم؛ ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقر مع شاور؛ لأن العاضد لم يكن له معه حكم، وقد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الصليبيون إلى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شارو قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهى محبته وولاءه، ويعرض الدخول في طاعته، وضمن على نفسه أنه يفعل هذا، وبذل مالا يحمله كل سنة فأجابه إلى ذلك، وحمل إليه مالا جزيلا فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الصليبيون مصر سنة أربع وستين وخمسمائة.
مضت على ذلك سنتان والإفرنج (الصليبيون) لهم شحنة (ضابطة) في القاهرة، وقد تسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم، وأعيان فرسانهم، وحكموا على المسلمين حكما جائرا، وركبوهم بالأذى العظيم. فلما رأوا ذلك، وأن البلاد ليس فيها من يردهم أرسلوا إلى ملكهم بالشام وهو مرى، ولم يكن للصليبيين منذ ظهر بالشام مثله شجاعة ومكرا ودهاء يستدعونه ليملكها، وأعلموه خلوها من موانع، وهونوا أمرها عليه بقصدها وتملكها فقال لهم: «الرأي عندي أننا لا نقصدها، ولا طمعة لنا بها، وأموالها تساق إلينا نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدنا لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده وفلاحيها لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين، ولئن صار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الصليبيين، وإجلاؤهم من أرض الشام.» فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: «إنها لا مانع فيها ولا حامي، وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين، ويسير إليها نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة.» فسار معهم على كره ، وشرعوا يتجهزون، ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص فلما سمع نور الدين شرع أيضا يجمع عساكره.
وجد الصليبيون في السير إلى مصر فقدموها، ونزلوا مدينة بلبيس، وملكوها قهرا مستهل صفر سنة 565ه ونهبوها، وقتلوا فيها وأسروا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الصليبيين، ووعدوهم النصرة عداوة لشاور. منهم ابن الخياط وابن فرجلة فقوي جنان الصليبيين، وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة في 10 صفر، وحصروها فخاف أهلها أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس. فحملهم الخوف منهم على الامتناع فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه، وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الصليبيين أحسنوا السيرة في بلبيس؛ لملكوا الفسطاط والقاهرة، ولكن فشلهم في فتحها عاد على الفسطاط بالدمار؛ لأن شاور أمر بإحراقها تاسع صفر المذكور، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد. فانتقلوا وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة، وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الصليبيين عليهم بيوم خوفا من أن يملكها الصليبيون، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما. (11-7) شاور والصليبيون
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الصليبيين، وأرسل في الكتب شعور النساء، وقال: «هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك؛ لتنقذهن من الصليبيين.» فشرع نور الدين في تسيير الجيوش، وأما الصليبييون فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة، وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم. فأخلد إلى إعمال الحيلة فأرسل إلى ملك الصليبيين يذكر له مودته ومحبته له قديما، وأن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال؛ لئلا يتسلم البلاد نور الدين. فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه 1000000 دينار مصري يعجل البعض، ويمهل بالبعض. فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورأى الصليبيون أن البلاد قد امتنعت عليهم، وربما سلمت إلى نور الدين. فأجابوا كاريهن، وقالوا: «نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين.» فعجل لهم شاور مائة ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه؛ ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر (الفسطاط) فلم يتحصل له أكثر من خمسة آلاف دينار؛ لأن أهل الفسطاط كانوا قد احترقت دورهم وما فيها، وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط، وأما أهل القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم؛ فلهذا تعذرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر، وإقطاعهم من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثلث الذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتاب العاضد بحلب فأرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه، فخرج الرسول في طلبه فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكانت إقطاعه، وكان سبب وصوله أن كتب المصرييين وصلته أيضا في المعنى. فسار إلى نور الدين، واجتمع به، وعجب نور الدين من حضوره في الحال، وسره ذلك وتفاءل به، وأمر بالتجهيز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغيرها، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى باب دمشق فوصلها آخر صفر، ورحل إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة آخرين من الأمراء؛ منهم مملوكه عز الدين جرديك، وغرس الدين قلج، وشرف الدين برغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب أخي شيركوه على كره منه،
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه وسيرد خبر ذلك . (11-8) مقتل شاور
وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الصليبيون إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رساله في الآفاق مبشرين بذلك؛ فإنه كان فتحا جديدا لمصر، وحفظا لبلاد الشام وغيرها، وأما أسد الدين فإنه وصل القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد لدين الله فخلع عليه، وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور المنع عن ذلك؛ لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه، وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال، وإقطاع الجند، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين، ويسير معه ويعده ويمنيه.
ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه، ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الصليبيين فنهاه ابنه الكامل، وقال له: «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن شيركوه.» فقال له أبوه: «والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا.» فقال: «صدقت ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الصليبيون فإنه ليس بيني وبين عود الصليبيين إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارسا واحدا ويملكون البلاد.» فترك ما كان عزم عليه.
ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره فاتفق صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جرديك وغيرهم على قتل شاور. فنهاهم أسد الدين فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله.
فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى ليزور قبر الشافعي فلقيه صلاح الدين يوسف وجرديك في جمع من العسكر وخدموه، وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي. فقال: نمضي إليه. فساروا إليه جميعا فسايره صلاح الدين وجرديك، وألقوه إلى الأرض عن فرسه فهرب أصحابه عنه فأخذ أسيرا فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين فتوكلوا بحفظه، وسيروا أعلموا أسد الدين فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه.
وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور، وتابع الرسل بذلك فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر، ودخل أسد الدين القاهرة فرأى من اجتماع الخلق ما خافهم على نفسه، فقال لهم: «أمير المؤمنين (يعني العاضد) يأمركم بنهب دار شاور.» فتفرق الناس عنه فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد فخلع عليه خلع الوزارة، ولقب الملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة - وهي التي كان فيها شاور - فلم ير فيها ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلب عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق إليه من أصحابه، وأقطع البلاد لعساكره.
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وإخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم. فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم؛ لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء لصنيعه. (11-9) حضارة الفسطاط
قد علمت ما كان من إحراق الفسطاط بأمر شاور، فيجدر بنا أن نذكر ما كانت عليه من الحضارة والثروة، وقد تقدم سبب بنائها على يد عمرو بن العاص، وهي أول مدينة إسلامية بناها المسلمون بمصر، وأخذت تتسع وتزداد عمارة كلما رسخت قدم المسلمين في البلاد وتوطد سلطانهم حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه، وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال، وذكر مؤرخو العرب من مقدار عمارتها أنه كان فيها 36000 مسجد، و8000 شارع مسلوك، و1170 حماما، وقد يستبعد ذلك، ولكن إيراده يدل في كل حال على العظمة والعمران.
ومما نظمه الشعراء في مدحها قول الشريف العقيلي:
أحن إلى الفسطاط شوقا وإنني
لأدعو لها أن لا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لجنابها
وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدت عروسا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
وبلغ من تزاحم الناس في الفسطاط حتى جعلوا المنازل طبقات عديدة بلغ بعضها خمس طبقات إلى سبع، وربما سكن في البيت الواحد 200 نفس، وبلغت نفقة البناء على بعضها 700000 دينار وهي دار الحرم لخمارويه.
واشتهر من تلك الأبنية دار ضرب المثل بعظمها، وغنى أهلها تسمى: «دار عبد العزيز» كانت مطلة على النيل بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم، ونقل بعضهم أن الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل بلغ عددها 16000 سطل مؤيد ببكر وأطناب لها ترخى وتملأ، وذكر رجل دخلها في أواخر القرن الثالث للهجرة في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون قال: «طلبت بها صانعا يخدمني فلم أجد فيها صانعا متفرغا لخدمتي، وقيل لي: إن كل صانع معه اثنان يخدمهم وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع؟ فأخبرت أن بها 70 (كذا) صانعا قل من معه دون ثلاثة سوى من قضى حاجته وخرج.»
وفي ذلك دليل على غنى أهل الفسطاط وترفهم، ومن هذا القبيل استكثارهم من الفرش. فقد يقتني أحدهم ألف فرشة أو عشرة آلاف فرشة، وذكروا رجلا من أهل الفسطاط عنده ثلاثمائة فرشة كل فرشة لحظية، وكذلك كانوا يفعلون يالثياب ونحوها، وقد تكون أثمانها فاحشة فلا يبالون لغناهم. قال القضاعي: إن قطر الندى ابنة خمارويه كان في جملة جهازها ألف تكة، ثمن كل واحدة عشرة دنانير فبلغ ثمنها كلها عشرة آلاف دينار. ناهيك بتأنقهم في المآكل والمشارب مما يطول شرحه، وقد فصله المقريزي وغيره في كلامهم على الفسطاط. (11-10) موت أسد الدين ووزارة صلاح الدين
فسر الخليفة العاضد جدا لنجاته من شاور، فاستلم أسد الدين الوزارة في يوم الأربعاء 17 ربيع أول سنة 564ه وفرق العطايا في جيوشه التي رافقته إلى مصر، وأمر النصارى بشد الزنانير على أوساطهم، ومنعهم من إرخاء الذؤابة التي تسمى بالعدبة، فكتب المهذب بن أبي المليح زكريا ، وكان مسيحيا إلى أسد الدين بقوله:
يا أسد الدين ومن عدله
يحفظ فينا سنة المصطفى
كفى غيارا شد أوساطنا
فما الذي أوجب كشف القفا
فلم يسعفه بطلبته، ولا مكنه من إرخاء الذؤابة ، وعندما يئس من ذلك أسلم.
ولم تطل مدة وزارة أسد الدين فعاجلته المنية في 22 جمادى الثانية سنة 564ه ولم يمكث في منصبه إلا شهرين وخمسة أيام فقط، ودفن في القاهرة، ثم نقل إلى مدينة الرسول، وكان شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة، وكانت تتواتر عليه التخم والخوانيق فاعتراه خانوق عظيم ذهب بحياته، وكان يعد نفسه نائبا لنور الدين في مصر، وأنه قائم بمنصب الوزارة باسمه، وبعد وفاته أحب العاضد أن يبين حبه له فولى مكانه ابن أخيه يوسف صلاح الدين، ولقبه بالملك الناصر، وكان لا يزال شابا.
وذكر ابن الأثير في سبب مجيء صلاح الدين إلى مصر نقلا عن صلاح الدين نفسه قال: لما أتت كتب العاضد إلى نور الدين يستغيث به من الإفرنج، ويطلب إرسال العساكر أحضرني وأعلمني الحال وقال: «تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر، وتحثه أنت على الإسراع فما يحتمل الأمر التأخير.» ففعلت، وخرجنا من حلب فما كنا على ميل منها حتى لقيناه قادما في هذا المعنى فأمره نور الدين بالمسير. فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي: «تجهز يا يوسف، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية وغيرها ما لا أنساه أبدا.» فقال لنور الدين: «لا بد من مسيره معي.» فأمرني نور الدين وأنا أستقيل، وانقضى المجلس، وتجهز أسد الدين، ولم يبق غير المسير فقال لي نور الدين: «لا بد من مسيرك مع عمك.» فشكوت إليه الضائقة، وعدم البرك فأعطاني ما تجهزت به، فكأنما أساق إلى الموت، فسرت معه وملكها. ثم توفي فملكني الله تعالى ما لا كنت أطمع في بعضه. ا.ه.
وأما كيفية ولايته: فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر ولاية الوزارة العاضدية بعد أسد الدين، منهم: عين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغالب عليها. فأرسل العاضد إلى صلاح الدين أحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه، وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا له: «ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنا من يوسف، والرأي أن يولى فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.» فلما خلع عليه لقب الملك الناصر، لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه.
وكان الفقيه عيسى الهكاري معه فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: «إن هذا الأمر لا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما.» ثم قصد الحارمي، وقال: «هذا صلاح الدين هو ابن أختك، وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه، ولا يصل إليك.» فمال إليه أيضا. ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال: «أنا لا أخدم يوسف.» وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء.
فثبت قدم صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين، وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب: «الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا ...» واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال فمالوا إليه وأحبوه، وضعف أمر العاضد. ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله. فأرسلهم إليه وشرط عليهم طاعته، والقيام بأمره، ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذ إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاهم أهله والأمراء الذين معه، وزادهم فازدادوا له حبا وطاعة. (11-11) مؤتمن الخلافة وصلاح الدين
فلما أجمع المصريون على حب صلاح الدين ظهر حساده، وأكبرهم مؤتمن الخلافة، وهو خصي كان بقصر العاضد، وإليه الحكم فيه، والتقدم على جميع من يحويه. فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الصليبيين، واستدعائهم إلى البلاد، والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون إليه، وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء فلقيه إنسان تركماني فرأى معه نعلين جديدين فأخذهما منه، وقال في نفسه: «لو كان مما يلبسه هذا الرجل لكانا خلقين فإنه رث الهيئة.» وارتاب به وبهما فأتى به صلاح الدين ففتقهما فرأى الكتاب فيهما فقرأه وسكت عليه.
وكان غرض مؤتمن الخلافة أن يتحرك الصليبيون إلى الديار المصرية فإذا وصلوا إليه خرج صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على متخلفيهم فيقتلونهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين فيأتونه من وراء ظهره، والصليبيون من بين يديه فلا يبقى لهم باقية. فلما قرأ صلاح الدين الكتاب سأل عن كاتبه فقيل: رجل يهودي فأحضر فأمر بضربه وتقريره فأسلم وأخبره الخبر، وأخفى صلاح الدين الكتاب، لكن مؤتمن الخلافة استشعر فلازم القصر، ولم يخرج منه خوفا، وإذا خرج لم يبعد من صلاح الدين، ولا يظهر له شيئا من الطلب لئلا ينكر ذلك.
فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالخرقانية للتنزه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة فأخذوه وقتلوه وأتوا برأسه، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر قصر الخلافة، واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خصي أبيض، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره فغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة للجنسية، ولأنه كان يتعصب لهم فحشدوا وجمعوا فزادت عدتهم على خمسين ألفا، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية فاجتمع العسكر أيضا وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتل في الفريقين.
شكل 9-13: آلة رمي قارورة النفط مشتعلة للإحراق.
وكان العاضد في هذه الوقعة يشرف من المنظرة. أما أهل القصر فلما رأوا كسرة السودان وعساكر مصر رموا على الغز من أعلى القصر بالنشاب والحجارة حتى أنكوا فيهم، وكفوهم عن القتال ، وكادوا ينهزمون. فأمر حينئذ صلاح الدين النفاطين بإحراق المنظرة فأحضر شمس الدولة النفاطين وأخذوا في تطبيب قارورة النفط ووضعوها في الآلة، وصوبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد فخاف العاضد على نفسه، وفتح زعيم الخلافة باب المنظرة، وقال بصوت عال: «أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة، ويقول: دونكم، والعبيد الكلاب أخرجوهم من بلادكم.» فلما سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم وتخاذلوا. فحمل عليهم الغز فانكسروا، وركب القوم أقفيتهم إلى أن وصلوا سوق السيوفيين فقتل منهم كثير، وأسر منهم كثير، وامتنعوا هناك على الغز بمكان فأحرق عليهم.
وكان في دار الأرمن قريبا من بين القصرين خلق عظيم من الأرمن كلهم رماة، ولهم جار في الدولة يجري عليهم. فعندما قرب منهم الغز رموهم عن يد واحدة حتى امتنعوا عن أن يسيروا إلى العبيد فأحرق شمس الدولة دارهم حتى هلكوا حرقا وقتلا، ومروا إلى العبيد فصار هؤلاء كلما دخلوا مكانا أحرق عليهم وقتلوا فيه. إلى أن وصلوا إلى باب زويلة فإذا هو مغلق فحصروا هناك، واستمر فيهم القتل يومين. ثم بلغهم أن صلاح الدين أحرق المنصورة التي كانت أعظم حاراتهم، وأخذت عليهم أفواه السكك. فأيقنوا أنهم قد أخذوا لا محالة فصاحوا الأمان فأمنوا، وذلك يوم السبت في 28 ذي القعدة، وفتح لهم باب زويلة فخرجوا إلى الجيزة. فعدا عليهم شمس الدولة في العسكر وقد قووا بأموال المهزومين وأسحلتهم، وحكموا فيهم السيف حتى لم يبق منهم إلا الشريد، وتلاشى من هذه الواقعة أمر العاضد، ودعيت بواقعة العبيد.
ومن غرائب الاتفاق أن الذي فتح مصر للدولة الفاطمية وبنى القاهرة يدعى جوهرا، والذي كان سببا في زوال هذه الدولة وخراب القاهرة يدعى أيضا جوهرا الملقب بمؤتمن الخلافة.
فلما انتهت هذه الواقعة واستؤصلت جرثومة الفساد عاد صلاح الدين إلى السكون فولى أخاه طوران شاه قوص وأسوان وعيذاب مكافأة لما أظهره من البسالة في واقعة العبيد، وجعل البلاد المذكورة له إقطاعا فكان دخلها في تلك السنة 266000 دينار، وفي سنة 568ه خرج طوران شاه؛ لغزو بلاد النوبة، وفتح قلعة أبريم، فسبى وغنم، ثم عاد بعد أن أقطع أبريم بعض أصحابه، وفي سنة 569ه خرج إلى بلاد اليمن وفتحها عنوة، ولقب بالملك المعظم طوران شاه. (11-12) حصار دمياط
وكانت وزارة صلاح الدين في مصر سببا لاضطراب الصليبيين. أما نور الدين فركب عمارة مصرية، وجعل يطوف البحر المتوسط عند شطوط سوريا؛ ليمنع مرور الوافدين إلى الأرض المقدسة، ويستولي على ما يرد إلى الصليبيين من المؤن والذخائر. فتشاور الصليبيون في شأن ذلك فأقروا على إرسال بطريرك صور فريدريك مع يوحنا أسقف عكا؛ لاستمداد ملوك فرنسا وإنكلترا وصقلية وغيرهم من الأمراء المسيحيين فلم ينجح مسعاهم. غير أن إمبراطور القسطنطينية أرسل عمارة من مائة وخمسين شراعا مملوءة بالذخار والمؤن والعدة والرجال فاتحدت بجند عسقلان، وساروا برا وبحرا إلى مصر حتى إذا بلغوا الفرما جدوا بالسير حتى أتوا دمياط فعسكروا بينها وبين البحر في صفر سنة 565ه.
وكانت هذه الحملة تحت قيادة الملك أمري، فظن أنه يقدر على أخذ دمياط بالهجوم، لكنه رأى منها مقاومة ودفاعا ألزماه على إقامة الحصار فأقامه، ولم يكن أكثر فائدة له من الهجوم؛ لأن أهل دمياط كانوا كثيرين، ولم يبالوا بعدة الصليبيين وعددهم، وطال الحصار حتى نفدت مئونة الصليبيين فأرادوا العبور في النيل؛ ليأتوا بالزاد فأوقفهم سد أقامه المسلمون في عرض النهر، وهو عبارة عن سلسلة قوية من الحديد طرفها الواحد مشدود بمتاريس دمياط، والطرف الآخر ببرج هائل منيع الجانب من أبراج الحصار، وكانت الإمدادات ترد لحامية دمياط من القاهرة بسهولة، أما الصليبيون فكان انتظارهم للمدد من سوريا عبثا، فانتشر الجوع في معسكرهم، وقام الشقاق بين الفرنساويين منهم وهم الذين كانوا في سوريا، والروم الذين أتوا بالمدد في الأستانة، واشتد ذلك الاختلاف حتى أفضى إلى الانفصال التام بعد أن بلغ منهم الجوع مبلغا عظيما فكانوا يتخاصمون على كسرة، ويمضغون أفنان النخيل، ومما زاد شقاءهم: تكاثر الأمطار، وهبوب الزوابع على معسكرهم بدون انقطاع حتى أصبحوا كأنهم في طوفان عظيم، وحصل من تكاثر الإعصار نوء في النيل أسرع جريه فتزاحمت مراكب الصليبيين وتلاطمت، فلم يعد استخدامها ممكنا لوقوعها بين قوتين متضادتين الريح من جهة ومجرى النيل من جهة أخرى، فتكسر معظمها ثم انتشبت النار فيها فأحرقت ما بقي منها.
شكل 9-14: برج من أبراج الحصار.
فلما شاهد الإفرنج ذلك لم يروا بدا من العود على أعقابهم إلى سوريا صفر اليدين بعد أن تعاقدوا مع المسلمين أن لا يعارضهم معارض في سيرهم، وكان صلاح الدين قد أعد في القاهرة جيوشا؛ ليسير بها مددا إلى دمياط لكنها لم تبلغها حتى فارقت الجيوش الصليبية مراكزها فشق عليه ذلك، وعنف الأمراء الذين سمحوا لهم بالرجوع، ثم عاد إلى القاهرة.
وفي السنة التالية جرد صلاح الدين على سوريا؛ لمحاربة الذين ضافوه السنة الماضية فدخل فلسطين سنة 566ه فعلم أمري وهو في عسقلان أنه حاصر قلعة دارون، وهو دير قديم للنصارى على قمة جبل وعر على أربع أميال من غزة اتخذه الصليبيون معقلا، فأسرع الملك أمري؛ لمهاجمة صلاح الدين في ذلك المكان، وكان صلاح الدين قد علم بقدومه فسار لملاقاته فلاقاه في منتصف الطريق، وحاربه وغلبه، ونزل على غزة فاستولى عليها، واستبشر المسلمون بهذه الانتصارات، ولكنهم اكتفوا بهذا أخذا بالثأر فتركوا في غزة حامية، وعادوا إلى مصر فبلغوا القاهرة في أواخر السنة المذكورة.
ثم بلغ صلاح الدين أن الإفرنج احتلوا أيلة، وتحصنوا فيها فسار إليها ومعه عصبة من رجاله الأقوياء، وحمل معه مراكب مفككة ينقلها على الجمال، ولما وصل إلى البحر عند أيلة ركب تلك المراكب وأنزلها البحر، وهاجموا أيلة في ربيع الأول من السنة المذكورة برا وبحرا، وما زالوا عليها حتى فتحوها، وقتلوا من كان فيها من الصليبيين، وجعل فيها صلاح الدين جماعة من ثقاته، وقواهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، وعاد إلى القاهرة.
وكان لصلاح الدين نفوذ عظيم في مصر، ولم يكن الخليفة العاضد إلا اسما لغير مسمى، ولم يعد لديه إلا السلطة الدينية. فلاح لنور الدين أن يتخلص من سلطة الفاطميين فأوعز إلى صلاح الدين أن يقطع خطبتهم، ويخطب للخليفة العباسي. (11-13) الخطبة العباسية بمصر
وفي سنة 567ه جعل صلاح الدين الخطبة بمصر للخليفة العباسي بدلا من الفاطمي، ومعنى ذلك في اصطلاحهم أن مصر عادت إلى سيطرة العباسيين السنيين وخرجت من سلطة الفاطميين الشيعة، وكان صلاح الدين سنيا، وكيفية البيعة: أن صلاح الدين لما ثبتت قدمه بمصر ، وأزال المخالفين له، وضعف أمر الخليفة العاضد، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش، وكان من أعيان الأمراء الأسدية، وكلهم يرجعون إليه. فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية، وإقامة الخطبة للمستضيء بالله العباسي. فامتنع صلاح الدين، واعتذر بالخوف من قيام أهل الديار المصرية؛ لميلهم إلى العلويين، وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم، ويريد بقاءهم خوفا من نور الدين؛ فإنه كان يخافه أن يدخل إلى الديار المصرية ويأخذها منه. فكان يريد أن يكون العاضد معه حتى إن قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه، فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره، وألح عليه بقطع خطبته، وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته؛ لأنه على الحقيقة نائب نور الدين، واتفق أن العاضد مرض في هذا الوقت مرضا شديدا. فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه فمنهم من أشار به ولم يفكر في المصريين، ومنهم من خافهم إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين.
وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجي يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هم فيه من الأحكام، وأن واحدا لا يتجاسر يخطب للعباسيين قال: «أنا أبتدئ بالخطبة له.» فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب، ودعا للمستضيء بالله ففعلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففعلوا. (11-14) موت العاضد وانقضاء الدولة الفاطمية
وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة، وقالوا: إن عوفي فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته. فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة، ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة وما فيه فحفظه بهاء الدين قراقوش، وكان قد رتبه قبل موت العاضد.
فحمل جميع ما فيه إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا عن مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم؛ فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو سبعة عشر مثقالا، واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير، ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد، وقد احتاطوا بالحفظ. فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب فيه فسخروا من العاضد وكسروه، ثم علموا أنه طبل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك.
وكان في القصر من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد فباع جميع ما فيه، ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبد فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس، وكان العاضد لما مرض أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه فندم على تخلفه عنه، وكان يصفه كثيرا بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه.
ويقول بعض المؤرخين الصليبيين: إن صلاح الدين قتل العاضد بيده، إلا أن الجمهور على خلاف ذلك. على أننا لا يسعنا إلا لومه لتطرفه في احتقار الخليفة، وتجريده إياه من ذات يده ومن متاعه، وقد بالغ بذلك حتى إنه علم بجواد كريم كان يركبه الخليفة؛ لترويح النفس في حديقته فطلبه منه فلم يسع الخليفة إلا إعطاءه إياه والتوقف عن الرياضة التي لم يبق لديه من ثروة الخلفاء سواها.
وكان الخليفة العاضد شديد التشيع متغاليا في سب الصحابة، وإذا رأى سنيا استحل دمه، وترى في شكل
9-15
صورة نقود زجاجية ضربت في عهد الدولة الفاطمية أيام احتياجها للمال وقلة الذهب، وحالما تولى صلاح الدين ألغاها، وضرب نقوده المعروفة بالنقود الناصرية نسبة إليه.
شكل 9-15: نقود زجاجية مضروبة على عهد الدولة الفاطمية. (12) حضارة الدولة الفاطمية
انقضت هذه الدولة بموت العاضد الفاطمي والخطبة للمستضيء العباسي سنة 576 فيجدر بنا أن نأتي على ما كان من مبلغ حضارتها لولا ما نخافه من التطويل، وقد أفاض المقريزي في ذكره مفصلا، فنأتي على مثال من بذخهم وترفهم، وقد ذكر شيء من ذلك. (12-1) أدوات الترف
كان الفاطميون يناظرون العباسيين في كل شيء حتى في أسباب الحضارة، وكان التمدن الإسلامي قد نضج، وأخذت الدولة العباسية بالتقهقر ففاقوهم في كثير من أسباب البذخ والترف، ولا سيما من حيث الأثاث والرياش والثياب؛ فإن العباسيين رصعوا عصائب نسائهم وخفافهن بالجواهر، ولكن الفاطميين رصعوا بها آنية المطبخ، واتخذوا كوز الزير من البلور مرصعا بالجوهر، وكللوا المزيرة بحب اللؤلؤ النفيس، وتأنقوا في المصوغات حتى اتخذوا منها التماثيل المرصعة للزينة في مجالسهم. فإذا جلس الخليفة في إحدى المناظر للراحة أو تبديل الثياب وضعوا بين يديه الصواني الذهب عليها أشكال الصور الآدمية والوحشية من الفيلة والزرافات ونحوها، معمولة من الذهب والفضة والعنبر والمرسين المشدود والمظفور عليها، المكلل باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، ومن الصور الوحشية ما يشبه الفيلة بينها عنبر معجون كخلقة الفيل، وناباه فضة، وعيناه جوهرتان كبيرتان في كل منهما مسمار ذهب مجرى سواده، وعلى الفيل سرير منجور من عود بمتكآت فضة، وذهب وعليه عدة من الرجال ركبان عليهم اللبوس تشبه الزرديات، وعلى رءوسهم الخوذ، وبأيديهم السيوف المجردة، والدرق وجميع ذلك فضة. ثم صور السباع منجورة من عود، وعينا السبع ياقوتتان حمراوان، وهو على فريسته، وأشكال من سائر الوحوش، وأصناف تشد من المرسين المكلل باللؤلؤ شبه الفاكهة.
وكان للفاطميين في القاهرة دور يختزنون بها أدوات الترف يسمونها خزائن؛ بعضها للفرش، والبعض الآخر للجوهر، وآخر للطيب، وآخر للبنود، وآخر للسلاح، وآخر للسروج أو الدرق أو الكسوات أو الأدم أو الشراب أو التوابل أو الخيم، وكان الخليفة يذهب إلى مجالس خاصة له في تلك الخزائن، والمجلس عبارة عن دكة عليها طراحة، ولها فراش يخدمها وينظفها؛ ليجلس الخليفة عليها إذا زار تلك الخزانة. (12-2) الحلي والمجوهرات عند الفاطميين
فمما أخرجوه من خزانة الجوهر في أيام الشدة على عهد المستنصر بالله (سنة 487ه) صندوق فيه سبعة أمداد زمرد سألوا الصياغ عن قيمتها، فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودا، واستخرجوا خريطة فيها ويبة جوهر، قال الصياغ: إنه لا قيمة له وأصل ثمنه 700000 دينار بيع يومئذ بعشرين ألف دينار، ووجدوا ما لا يحصى من أقداح البلور المنقوش والمجرود، وصحونا من الميناء منها ما يساوي مئات من الدنانير، وفي مكان آخر 18000 قطعة من بلور تتراوح أثمانها بين عشرة دنانير وألف دينار كل قطعة، وصوان من الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بأنواع النقوش، و17000 غلاف خيار مبطن بالحرير محلاة بالذهب، ونحو مائة كأس بادزهر وأشباهها، على أكثرها اسم هارون الرشيد.
غير ما وجدوه هناك من الصناديق المملوءة بالسكاكين المذهبة والمفضضة وأنصابها من الجواهر المختلفة، وصناديق مملوءة دوى (جمع دواة) على اختلاف الأشكال من الذهب والفضة والصندل والعود والأبنوس والعاج محلاة بالجواهر، مما يساوي ألف دينار إلى بضعة آلاف كل دواة، وعدة أزيار مملوءة كافورا، وعدة جماجم عنبر، ونوافج المسك التيبتي، وشجر العود، وغيره.
ومما خلفته رشيدة بنت المعز وحفظ هناك ما قيمته 1700000 دينار من جملتها 12000 من الثياب المصمت ألوانا، و100 قاطرميز مملوءة كافورا قيصوريا، ومعممات بجواهر من أيام المعز، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، ومثل ذلك مما تركته عبدة بنت المعز أيضا ويطول شرحه، وخزانة مملوءة بأنواع الصيني تساوي القطعة منها ألف دينار، وحصير من الذهب وزنه عشرة أرطال يظن أنه الحصير الذي حملت عليه بوران بنت الحسن بن سهل لما زفت إلى المأمون، وصوان من الذهب كان ملك الروم أهداها إلى العزيز بالله.
ووجدوا أنواعا من الشطرنج والنرد مصنوعة من الجوهر والذهب والفضة أو العاج أو الأبنوس، وعدد كبير من الزهريات ونحوها، ومن تماثيل العنبر 22000 قطعة أقل تمثال منها وزنه 12 منا، ومن تماثيل الخليفة ما لا يحد، والكلوثة المرصعة بالجوهر قيمتها 130000 دينار فيها من الجوهر 17 رطلا، وطاووس من ذهب مرصع بنفيس الجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من الزجاج المينا المجري بالذهب على ألوان ريش الطاووس، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر بطنه أبيض قد نظم من در رائق، ومائدة من الجزع يقعد عليها جماعة قوائمها ممخروطة، ونخلة ذهب مكللة بالجوهر، وبديع الدر في أجانة من ذهب تجمع الطلع والبلح والرطب بشكله ولونه وعلى صفته وهيأته من الجواهر لا قيمة لها، وكوز زير بلور مرصع يحمل عشرة أرطال، ومزيرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس، وقس على ذلك عشرات من أمثاله. (12-3) الفرش والأثاث عند الفاطميين
ووجدوا في خزائن الفرش من أصناف الأثاث والرياش ما يعد بالألوف. من ذلك 100000 قطعة خسرواني أكثرها مذهب، ومراتب خسرواني وقلموني ثمن الواحدة 3500 دينار وجلة معمولة للفيلة من الخسرواني الأحمر المذهب، و3000 قطعة خسرواني أحمر مطرز بأبيض من هدبها لم يفصل من كساء البيوت كاملة بجميع آلاتها ومقاطعها، وكل بيت يشتمل على مسانده ومخاده ومساوره ومراتبه وبسطه ومقاطعه وستوره وكل ما يحتاج إليه، ومثل ذلك من المخمل والديباج والخز وسائر أنواع الحرير، وعليها أشكال الصور من كل شيء، ونحو ألف من الستور الحرير المنسوجة بالذهب على اختلاف ألوانها وأطوالها فيها صور الدول وملوكها ومشاهيرها، وعلى صورة كل واحد اسمه ومدة أيامه وشرح حاله.
و4000 رزمة خسرواني مذهب في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه وسائر آلاته منسوجة في خيط واحد، ومن جملتها مقطع من الحرير الأزرق التستري غريب الصنعة منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير؛ كان المعز لدين الله أمر بعمله، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها شبه الخارطة الجغرافية، وفيه صورة مكة والمدينة، ومكتوب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب والفضة أو الحرير، وقد كتب في آخره: «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله، وإشهارا لمعالم رسول الله في سنة 353ه.»
فاعتبر ما تدل عليه هذه الآثار من رقي المدنية والحضارة، وكم تكون قيمتها لو وجدت الآن، وكم يدفع المتمولون من المال في الحصول عليها.
وقس عليه ما كان في سائر الخزائن من التحف؛ ففي خزانة السلاح سيف الحسين بن علي، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق، ومئات الألوف من الدروع والسيوف والقسي والرماح وغيرها، وفي خزانة السروج ألوف من السروج الثمينة، ومنها ما يساوي ألف دينار إلى سبعة آلاف دينار، وفي خزانة الخيم أنواع الفساطيط والمضارب والمسطحات والحصون والقصور والشراعات والمشارع العمومية من الديبقي والمخمل والخسرواني والديباج المكي والأرمني والبهنساوي والكردواني وغير ذلك، على اختلاف الألوان والنقوش من المقيل والمسبع والمخيل والمطوس والمطير وغيرها من أشكال السباع والطيور والآدميين مما ينصب على أعمدة ملبسة بالفضة، ومن هذه الفساطيط ما يبلغ طوله 65 ذراعا كبيرا يحمله مع ملحقاته مائة جمل، وفي خزانة البنود كثير من الرايات والأعلام الساذجة والمطرزة وغيرها.
ومن أدلة الترف والإسراف في هذه الدولة: أن السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله أهدت أخاها هذا هدايا من جملتها ثلاثون فرسا بمراكبها ذهب، منها مركب واحد مرصع ومركب من حجر البلور، وتاج مرصع بنفيس الجوهر، وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر.
وقد يتبادر إلى الذهن أن ما تقدم ذكره لا يخلو من مبالغة أو هو من قبيل الأحاديث الخرافية، ولكن مصر اشتهرت في الأعصر الإسلامية الوسطى بالثروة مثل شهرة بغداد في إبان حضارتها، واشتهر المصريون بالترف والغنى حين كان الناس يشكون الضيق، ولذلك قالوا: «من دخل مصر ولم يستغن فلا أغناه الله.» وقد تواتر ذكر هذه التحف وأمثالها في كتب الثقات، وبعضهم شهد الأمر بنفسه ورأى هذه التحف رأي العين، ومنهم ابن الأثير المؤرخ الشهير فقد ذكر في حوادث سنة 567ه التي أقام فيها السلطان صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية، واستولى على ما كان باقيا في قصور الخلافة من التحف والجواهر بعد ما أصابها من النهب في فتنة المستنصر وغيره، قال: «وحمل الجميع إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا من مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم؛ فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو 17 مثقالا أنا لا أشك فيه لأني رأيته ووزنته، واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير.»
شكل 9-16: السلطان صلاح الدين الأيوبي.
الفصل العاشر
الدولة الأيوبية
من سنة 567-648ه/1171-1250م (1) سلطنة صلاح الدين يوسف (من سنة 567-589ه/1171-1193م)
ولما علم صلاح الدين بوفاة العاضد وضع يده على القصر، وكان قد عهد إلى بهاء الدين قراقوش أن يخفي التحف التي كانت قد جمعت. ثم ألقى القبض على جميع من بقي من الأسرة الفاطمية، وهم: الأمير داود بن ولي العهد وينعت بالحامد لله، وأخواه أبو الأمانة جبريل وأبو الفتوح وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي طاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ، وجعلهم تحت الحجر في مكان بعيد من القصر. أما مماليك العاضد وعبيده فباع بعضها، وفرق البعض الآخر في أرباب دولته.
هكذا كانت نهاية دولة الفاطميين فقد غادروا القاهرة وفيها من آثارهم بنايات عظيمة وقصور ومناظر منها القصر الكبير الذي بناه جوهر عندما أناخ في موضع القاهرة، والقصر الصغير الغربي، ونحو عشرة قصور أخرى جميعها متقنة ثمينة كلها قاعات ومناظر داخل سور القصر كان يقال لها القصور الزاهرة.
ومن آثارهم عدة بساتين ومناظر بأماكن مختلفة من القاهرة، وقلما بقي من تلك الآثار على حاله، ولكن هناك أثرا عظيما لا يمحوه كرور الأيام نعني به القاهرة؛ فإنها من بنائهم كما علمت، وللفاطميين أحاديث مطولة فيما يتعلق بهيئاتهم في مجالسهم العامة، وكيف كان يجالسهم أرباب الدولة والفقهاء والعلماء وسائر أنواع الأتباع، وكيفية صلاتهم في المساجد، وما يجري في ذلك من الاحتفال من أحب الاطلاع عليه فليطالعه في خطط المقريزي.
ويقال إن صلاح الدين وجد بين تلك الخزائن مكتبة تحتوي على مائة ألف مجلد منتخبة من أحسن المؤلفات، ولا يزال قسم منها إلى الآن في مكتبة ليدن بألمانيا. (1-1) نور الدين وصلاح الدين
ثم أسرع صلاح الدين إلى تبليغ أتابك نور الدين أنه أنفذ أوامره، وأن الخليفة مات، واتصل هذان الخبران ببغداد فأصبح خليفتها منفردا بالخلافة على سائر المشرق؛ فخلع على أتابك نور الدين وبعث إليه سيفين إشارة إلى توليته على سوريا ومصر، وخلع أيضا على صلاح الدين وبعث إليه بالأعلام السوداء يجعلها على المنبر، وبعد أن كانت القاهرة عاصمة من عواصم الإسلام أمست كغيرها من المدن، وتحولت العظمة جميعها إلى بغداد.
فلما رأى نور الدين نفسه سيدا على سوريا كلها تقريبا، وعلى بعض جزيرة العرب، وعلى آسيا الصغرى، وما بين النهرين عزم على الاستقلال بها وبمصر. أما صلاح الدين فكان في نيته الاستقلال بمصر لنفسه منذ أول توليته فيها، وكان بينه وبين نور الدين مكاتبات سرية مآلها المحافظة على سلطة الخليفة العباسي الدينية ريثما يتأتى لهم الاستقلال، فكان صلاح الدين مع تظاهره في تأييد سلطة الخلفاء العباسيين لا يفتر ساعيا في إتمام مقاصده التي كانت تحت طي الخفاء، فأخذ في تربية الأحزاب، وإعداد القوات إلى ما يمكنه من الاستقلال بمصر ومقاومة نور الدين إذا عارضه بذلك، فشعر نور الدين فبعث إليه على إثر وفاة العاضد يستقدمه وفرقة من رجاله مظهرا استنجاده على الصليبيين في الكرك، وقصده الحقيقي أن يخرجه من مصر، ويبقيه عنده تحت مراقبته فيأمن طائلته، فأدرك صلاح الدين غرضه الحقيقي لكنه لم يستصوب مخالفة أمره؛ لئلا تتنافر القلوب فتتعرقل مساعيه، فكتب إليه: إنه إذعانا لأمره برح القاهرة في فرقة من الجند؛ لملاقاة جند نور الدين في الكرك، فوصل نور الدين إليها، ولم يجد فيها أحدا فانتظر فلم يقدموا، ثم ورد إليه كتاب من صلاح الدين بأنه برح القاهرة بجنده يطلب الكرك فعرض له في الطريق ما ألجأه إلى العود حالا إلى مصر. (1-2) دهاء نجم الدين أيوب
فعلم نور الدين أنها مماطلة مقصودة فأقر على المسير بنفسه إلى مصر، والاشتغال بصلاح الدين عن الصليبيين، لكنه قبل ذهابه بعث إلى صلاح الدين يهدده بالعزل إذا لم يبادر إلى ما أمر به؛ فجمع صلاح الدين أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي وسائر الأمراء، فلما تكامل الجمع أعلمهم بما كان بينه وبين نور الدين، وما بلغه من عزمه على المجيء إليه، واستشارهم فلم يجبه أحد، فنهض تقي الدين عمرو بن شاهين شاه أخي صلاح الدين فقال: «إن الرأي إذا جاءنا نور الدين قاتلناه، ومنعناه من البلاد.» ووافقه غيره من أهلهم، فشتمهم نجم الدين والد صلاح الدين، واستعظم أقوالهم، وشتم تقي الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: «أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، وهل تظن بين هؤلاء من يحبك ويخلص لك أكثر منا؟» قال: لا. فقال: «اعلم يا يوسف، أننا والله لو رأينا نور الدين لم نمكث أن نقتل بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟ وكل الذين تراهم عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يجسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه فيها فإن أراد سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب كتابا مع نجاب تقول فيه: بلغني أنك تريد الحركة إلى هذه البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابا يضع في رقبتي منديلا ويأخذني إليك، وما هنا من يمنع.»
وقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا. ثم خلا أيوب بصلاح الدين فقال له: «بأي عقل فعلت هذا؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا نقوى عليه؟ وأما الآن إذا بلغه ما جرى وما أظهرنا من الطاعة له تركنا، واشتغل بغيرنا، والأقدار تعمل عملها، ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتله.» ففعل صلاح الدين ما أشار به أبوه.
فلما جاء كتاب صلاح الدين إلى نور الدين كما نصه أبوه سكن روعه وتوقف عن المسير إلى مصر، وعاد للاهتمام بأمر الصليبيين، وكانوا قد أمعنوا في سوريا، ولم تعد أخبارهم تصل لنور الدين بالسرعة اللازمة؛ لاتساع إيالاته فاستخدم الحمام لنقل الأخبار فكانت تأتيه بها بزمن قريب. (1-3) وثوب المصريين بصلاح الدين
أذعن المصريون لصلاح الدين وفي قلوبهم غل، فتآمر جماعة من أصحاب الخلفاء الفاطميين على الوثوب به، وسبب ذلك: أن جماعة من الشيعة؛ منهم: عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين، ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده؛ اتفق رأيهم على استدعاء الصليبيين من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال. فإذا قصدوا البلاد وخرج صلاح الدين بنفسه إليهم ثاروا في القاهرة ومصر، وأعادوا الدولة الفاطمية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقام مقابل الصليبيين، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه أخذا باليد لعدم الناصر إليه، وقال لهم عمارة: «وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفا من أن يسد مسده، وتجتمع الكلمة عليه بعده.»
فأرسلوا إلى الصليبيين في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الصليبيين، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا الواعظ والقاضي المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقضاة. إلا أن بني رزيك قالوا: إن الوزير منا، وبني شاور والقاضي قالوا: يكون الوزير منا. فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر؛ فأمره بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون فعله، وتعريفه ما يتجدد أولا بأول. ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه.
ثم وصل رسول من ملك الصليبيين بالساحل بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان صلاح الدين يرسل إليهم بعض النصارى تأتيه رسلهم، فأتاه الخبر من بلاد الصليبيين بجلية الحال. فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق إليه من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته. فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة، ومنهم عمارة وعبد الصمد الكاتب والعويرس وغيرهم وصلبهم.
وقيل في كشف أمرهم: أن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل وزير صلاح الدين يخدمه ويتقرب إليه فلقيه يوما فلم يلتفت إليه. فقال القاضي الفاضل: «ما هذا إلا لسبب.» وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: «أريد أن تكشف لي الأمر.» فسعى في كشفه فلم ير له من جانب صلاح الدين شيئا، فعدل إلى الجانب الآخر فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه. فقال: «تحضر الساعة عند صلاح الدين، وتنهي الحال إليه.» فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع فذكر له الحال. فقام وأخذ الجماعة وقررهم فأقروا فأمر بصلبهم، وكان بين عمارة وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها، فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه، وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه فقال لصلاح الدين: «يا مولانا، لا تسمع منه في حقي.» فغضب الفاضل وخرج، وقال صلاح الدين لعمارة: «إنه كان يشفع فيك.» فندم، ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة:
عبد الرحيم قد احتجب
إن الخلاص هو العجب
ثم صلب هو والجماعة، ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله، وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم، ولا أعلمهم أنه علم بحالهم.
وأما الصليبيون فكانوا يتألفون عصبا، ويتقدمون في سوريا يفتتحون مدنها، وما زالوا في خطتهم هذه حتى لم يعد أمامهم إلا عدوان كبيران، وهما: نور الدين وصلاح الدين، وكان هذا الأخير يترقب الفرص لبلوغ مرامه، فكان يغتنم فرصة اشتغال نور الدين بالمحاربة في ما بين النهرين، ويسير إلى غزو سوريا، وحالما يعلم بقدومه إليها يعود إلى مصر حالا. (1-4) وفاة نور الدين ومناقبه
فآل ذلك إلى النفور الشديد بين هذين الرجلين، وهم نور الدين بحشد الجيوش، وتسييرها إلى مصر؛ لإخراج صلاح الدين منها، وإقامة حامية لحماية الحدود التي يخشى هجوم الصليبيين عليها، وبينما هو على أهبة الرحيل فاجأته المنية بعلة الخوانيق فمات في دمشق في شوال سنة 569ه وسنه ستون سنة، ومدة حكمه 29 سنة.
وكانت مملكته شاملة جميع سوريا الشرقية وقسما من سوريا الغربية ومصر والموصل وديار الجزيرة، وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين، وكان قد اتسع ملكه جدا، وخطب له بالحرمين بالشريفين وباليمن ، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه في الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو عشرين دينارا. فلما استقلتها قال: «ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جنهم لأجلك.» وكان يصلي كثيرا بالليل، وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه
ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر، وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ولا عشرا، بل أطلقها جميعا في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان يعظم الشريعة ويقف عند أحكامها، وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يقول: «قد جئت محاكما فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم.» وظهر الحق له فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: «أردت أن أترك له ما يدعيه، إنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة فحضرت ثم وهبته ما يدعيه.» وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي فيها ينصف المظلوم من الظالم ولو أنه ولده أو أكبر أمير عنده.
وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين ليقاتل بهما، فقال له القطب النساوي الفقيه: «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف.» فقال له نور الدين: «ومن محمود حتى يقال له هذا أمن قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو.»
وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق، وبنى الخانكاهات في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة، وكان حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري، وكان يكرم العلماء وأهل الدين، ويعظمهم، ويقوم إليهم، ويجلسهم معه، ويتبسط معهم، ولا يرد لهم قولا، ويكاتبهم بخط يده، وكان وقورا مهيبا مع تواضعه. (1-5) استقلال صلاح الدين بمصر والشام
فانتقلت مملكته بعد موته إلى ابنه الملك الصالح إسماعيل، وكان في الحادية عشرة من العمر. فأقيم شمس الدين محمد بن المقدم نائبا له في تدبير المملكة. فاستخف الناس به لصغر سنه حتى هم أفراد أسرته بتنزيله لكنهم لم ينجحوا، وحاول الملك أمري غزوه فعاد خائبا. أما الأمراء الذين كانوا على الإمارات في مملكته فحاول كل منهم الاستقلال بذاته، فأحب نائب الملك أن يسير إلى صلاح الدين يستنجده فأوقفه أولئك الأمراء، وفي خلال ذلك ورد إليهم وإلي نائب الملك كتب من صلاح الدين تقول بوجوب الخضوع التام لخليفة نور الدين كما كان له، وأرسل نقودا مضروبة في مصر باسم السلطان الجديد، ومما كتبه للأمراء قوله: «لو علم نور الدين أن فيكم من هو أكثر أهلية وأمانة مني لولاية مصر فلا أشك أنه كان يعهدها إليه، وهي أجمل وأخصب ولاياته، واعلموا أيضا أنه لو لم يفاجئه القضاء لأقامني وصيا على ابنه، وأرى أنكم تحاولون إخراج يدي، ولكني سأذهب إلى دمشق بنفسي، وأقدم عبوديتي إلى هذا السلطان الجديد معترفا بالأفضال العظيمة التي حملنيها أبوه، أما أنتم فسأعاملكم بمقتضى تصرف كل واحد منكم؛ لأني أعدكم من أهل الفتنة.»
وجاء صلاح الدين إلى دمشق بعد وصول كتبه بقليل، وأخرج منها سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين، وكان قد وضع يده عليها، وأعادها للملك الصالح، ثم أسرع في استرجاع الأماكن التي قد استقل بها بعض الأمراء الصغار من أسرة نور الدين في سوريا الشرقية استخفافا منهم بسلطة الملك الصالح. فاسترجع منهم حمص وحماة وبارين وسلامية وتل الخاطب وبعلبك والرها. إلا أن هذه الفتوح لم تجد الملك الصالح نفعا؛ لأنها دخلت في سلطة صلاح الدين، ولم يعط منها شيئا للملك الصالح. فاستنكف منه وخافه. ثم حاول صلاح الدين الاستيلاء على حلب، وكانت في حوزة الملك الصالح على نية أن يخرجه إلى شرقي البلاد السورية، واستنجد الملك الصالح ابن عمه سيف االدين غازي وكان قد ولاه الموصل فأمده. فاتحد الجيشان وهاجموا صلاح الدين في 19 رمضان سنة 570ه فتغلب عليهم، وسلب منهم أمتعتهم، واستولى على حلب، وأبطل الخطبة للملك الصالح وخطب لنفسه.
فرأى صلاح الدين إذ ذاك من قواته والأحوال المحيطة به ما يؤهله لبلوغ ما طالما كان يتمناه من الاستقلال بالملك. فصرح بسلطانه في مصر وسوريا وكان كذلك. فأصبح الصليبيون أعداءه مباشرة. أما هم فاغتنموا اشتغاله في جهات حلب وحملوا على البلاد الغربية من سوريا، وجعلوا يفتكون بأهلها ويسومونهم سوء العذاب؛ يقتلون بعضهم، ويأسرون البعض. فحاربهم طوران شاه أخو صلاح الدين فلم يقو عليهم. فبلغ ذلك أخوه وكان قد استقدم جندا مصريا. فأنفذ بعضهم فأرجعوا الصليبيين على أعقابهم فعاد إلى إتمام فتوحه فحارب سيف الدين غازي وفاز به، واستولى على بوزاع ومنبج وعيراز، حيث قبض على اثنين من الباطنيين وقتلهما بيده، وكانا مرسلين من قبل أمير الباطنيين ليقتلاه.
وختم صلاح الدين فتوحه بمعاهدة عقدها مع سيف الدين غازي والملك الصالح تقضي باستبقاء جميع البلاد التي فتحها تحت سلطته، وأن لا يكون للملك الصالح دخل فيها. (1-6) إصلاحات صلاح الدين بمصر
وعاد صلاح الدين إلى مصر في 20 محرم سنة 572ه بعد أن استخلف أخاه طوران شاه على دمشق، وكان قبل مسيره إلى الشام قد استخلف على مصر وزيره الأمير بهاء الدين الأسدي الخصي الفارسي الذي تقدم ذكره. فعهد إليه تدبير الأحكام، وأمره أن يقيم البنايات اللازمة لرونق البلاد ومنعتها. فأنفذ بهاء الدين ما عهد إليه بغيرة ونشاط، وكانت الجسور المبنية لتنظيم مجرى النيل عند الفيضان قد أهمل شأنها منذ تولى الخلفاء الفاطميون فإذا فاض النيل طغت مياهه على اليابسة، وخربت الطرق، وأفسدت الزرع؛ فمهد الطرق، واحتفر الترع، وأقام الجسور والسدود، واستخدم لذلك بعض حجارة الأهرام الصغيرة التي كانت تحيط بأهرام الجيزة وغيرها من أبنية المصريين القدماء، وأنشأ طريقا يمتد طولا على ضفة النيل فيقيها من صدمات المياه، وتسهل علائق العاصمة بمصر العليا والسفلى، وشاد فوق الترعة التي كانت تجري بين الجيزة وأهرامها جسرا عظيما مؤلفا من أربعين قنطرة.
شكل 10-1: قلعة القاهرة الآن.
ولم يكن لصلاح الدين إذ ذاك مسكن إلا القصران اللذان كانا للخليفة والوزير السابقين، ولم يكونا منيعين حق المنعة فجعلهما منزلا لأمراء الدولة وقواد الجند، وبنى في الطرف الشمالي من جبل المقطم على سفحه قلعة منيعة؛ لإرهاب الأهالي إذا حاولوا العصيان، وجعل فيها قصرا لبلاطه، وكان في ذلك المكان بناء قديم من عهد الدولة الطولونية يعرف بقبة الهواء فهدمه، وأقام القلعة في مكانه، وأتى بحجارتها من خرائب منف والأهرام وغيرها؛ فجاءت قلعة منيعة الجانب تشرف على كل المدينة، وليس في القاهرة بناء آخر أمنع موقعا من القلعة، وهي لا تزال باقية إلى هذا العهد، وتعرف بقلعة الجبل وقلعة القاهرة، واحتفر بهاء الدين في القلعة بئرا نقرا في الصخر عميقة جدا تسع كل ما تحتاج إليه الحامية من الماء، ولا تزال البئر والقصر إلى هذه الغاية يعرفان باسمه؛ فالبئر تدعى بئر يوسف، ويظن بعض العامة أنها سميت هكذا نسبة إلى يوسف الصديق بن يعقوب، والصحيح نسبتها إلى يوسف صلاح الدين الذي أمر باحتفارها، والغالب أن هذه البئر كانت محفورة من أيام قدماء المصريين، ثم طمرت بالرمال فأعاد صلاح الدين حفرها، وما بقي من القصر يعرف بديوان يوسف أو ديوان صلاح الدين.
وابتنى هذا الوزير أيضا حواصل كبيرة في الفسطاط لخزن الغلال التي ترد من الأعمال سنويا، ولا تزال تدعى إلى يومنا هذا بمخازن يوسف، وقد ظن بعضهم أنها من بناء فرعون في زمن يوسف الصديق. (1-7) سور القاهرة
وبعد أن فرغ بهاء الدين من إصلاح الترع والخلجان والطرق وبناء القلعة أخذ يهتم بإتمام سور القاهرة، وكان قد ابتدأ بعمارته السلطان صلاح الدين سنة 566ه وهو يومئذ على وزارة العاضد فلما عهد إلى بهاء الدين إتمامه عمل له رسما عظيم الاتساع يحيط بالقاهرة والفسطاط وقصر الشمع وما بينها من الأرض. إلا أنه استعظم بناءه بهذا الاتساع فجعله محيطا بالقاهرة والقلعة فقط، واضطر لقيام مشروعه هذا إلى هدم جوامع وبيوت وقبور كثيرة كانت في مكان السور.
ولم يكن الأهالي معتادين على الإذعان لأوامر صلاح الدين كسلطان، وبعضهم لا يزال متشيعا للدولة الفاطمية فاتهموه بالاستبداد، ولقبوا بهاء الدين بقراقوش، أي الطير الأسود وهو العقاب، ولا يزال بعض عامة الشرقيين يعبرون بهذا الاسم عن الاستبداد والعسف، وينسبون إليه أحكاما عجيبة في ولايته حتى إن الأسعد بن مماتي له كتاب لطيف سماه الغاشوش في أحكام قراقوش، وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفاءته ما فوضها إليه، وكان رجلا مسعودا وصاحب همة عالية.
وهذه هي المرة الثالثة لبناء سور القاهرة؛ ففي المرة الأولى بناه جوهر، وفي الثانية أمير الجيوش، وفي الثالثة بهاء الدين بأمر صلاح الدين فزاد فيه القطعة التي من باب القنطرة إلى باب الشعرية ومن باب الشعرية إلى باب البحر، وبنى قلعة المقس، وهي برج كبير جعله على النيل بجانب جامع المقس الذي يعرف اليوم بجامع أولاد عنان، وهو خارج باب البحر على يسار الذاهب من وجه البركة إلى محطة السكة الحديد، وانقطع السور من هناك.
وزاد في سور القاهرة قطعة مما يلي باب النصر ممتدة إلى باب البرقية، وإلى درب بطوط، وإلى خارج باب الوزير يتصل بسور قلعة الجبل فانقطع من مكان يقرب من الصوة تحت القلعة، وإلى الآن آثار الجدر ظاهرة للمتأمل فيما هو آخر السور إلى جهة القلعة، وجاء دور هذا السور المحيط بالقاهرة 29302 من الأذرع الهاشمية.
وقلعة المقس المذكورة كانت برجا مطلا على النيل في شرقي جامع المقس، ولم تزل حتى هدمها الوزير الصاحب شمس الدين عندما جدد الجامع المذكور سنة 707ه وجعل في مكان ذلك البرج حديقة، وحفر بهاء الدين خارج السور خندقا جعله من باب الفتوح إلى المقس، ومن الجهة الشرقية خارج باب النصر إلى البرقية وما بعده، وجعل خارج هذا الخندق سورا آخر بأبراج مبني بالحجارة، إلا أن هذا السور الثاني هدم جميعه، والخندق ردم إلا في بعض الأماكن.
شكل 10-2: باب النصر كما هو الآن.
وفي سنة 573ه عاد الصليبيون إلى التعدي فحصلت بينهم وبين صلاح الدين واقعة في الرملة كان الفوز فيها للصليبيين، إلا أن ذلك الفوز لم يلبث حتى انقلب عليهم؛ لما حدث بين رءوسائهم من الانشقاق.
وفي 5 صفر سنة 576ه توفي شمس الدين طوران شاه في ثغر الإسكندرية، وكان قد جاءها من دمشق فنقلته أخته ست الشام بنت أيوب إلى دمشق، ودفنته في مدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبرها وقبر ولدها حسام الدين عمر بن لاجين، وقبر زوجها ناصر الدين بن أسد الدين شيركويه صاحب حمص، وكانت قد تزوجته بعد لاجين.
وفي سنة 578ه حمل صلاح الدين على سوريا حملة ثانية، وسببها: أن الملك الصالح كان قد مات واستخلف عز الدين ملك الموصل، فأراد هذا أن يخرق المعاهدة التي كانت قد عقدت مع صلاح الدين، فاتصل ذلك بصلاح الدين، واتصل به أيضا أن أمراء الموصل تآمروا عليه سرا مع الصليبيين؛ فأسرع إلى سوريا فجاء حلب وحاصرها فسلمت، ثم استولى على الرها والرقة ونصيبين وسروج وخابور وسنجار وحران، ثم أتى فعسكر أمام الموصل، ولم يبق غيرها للملك الصالح فحاصرها، وبعد أخذ ورد سلمت سنة 581ه.
وأصيب فيها صلاح الدين بمرض شديد فانتشر ذلك في أنحاء سوريا، ثم بعث عز الدين يطلب المصالحة، وكانت المصالحة النهائية؛ لأنهم جعلوا لها حيثية دينية، ومن مقتضاها الخطبة لصلاح الدين في الموصل وسائر البلاد التي أرجعت للأتابك الملك الصالح، وأن يعترف صاحب الموصل أنه تابع لصلاح الدين، وعليه تقديم العدة والرجال عند الحاجة لمحاربة الصليبيين. (1-8) واقعة حطين
وفي 14 ربيع آخر سنة 583ه كانت بداية واقعة حطين الشهيرة في وسط نهار الجمعة، والمسلمون كثيرا ما يحاولون لقاء عدوهم يوم الجمعة عند الصلاة تبركا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر في سائر العالم الإسلامي في وقت واحد. فسار السلطان صلاح الدين بما اجتمع لديه على أتم نظام، وحط رحاله عند بحيرة طبرية على سطح الجبل على أمل أن الإفرنج إذا بلغهم نزوله هناك يقدمون إليه، وكانوا معسكرين في مرج صفورية بأرض عكا فلم يتحركوا من منزلتهم. فسار صلاح الدين في جريدة من جيشه إلى طبرية، واستلمها بساعة بعد القتل والنهب إلا أن القلعة بقيت سالمة بمن فيها. فبلغ الإفرنج ما حصل في طبرية فساروا نحوها، فعلم السلطان بذلك فترك على قلعة طبرية من يحاصرها، وعاد لملاقاة العدو فالتقى به على سطح جبل طبرية الغربي في يوم الخميس 22 ربيع آخر، وبعد حرب شديدة تفرقت جيوش الصليبيين إلا فرقة منهم تحصنت في تل يقال له تل حطين، وهي قرية هناك عندها قبر النبي شعيب فضايقهم المسلمون، وأشعلوا حولهم النيران فاشتد بهم العطش إلى أن ألجأهم الأمر للقتال يأسا، فأسرت مقدمتهم وقتل الباقون.
وكان في جملة المأسورين الملك جفري، وأخوه البرنس أرباط صاحب الكرك والشوبك وغيرهما من القواد والأمراء. فجلس السلطان صلاح الدين في خيمته، وأمر بتحضير الأسرى بين يديه فأحضروا وفيهم الملك جفري فأمر له بشربة من جلاب ثلج فشربها وكان في غاية الظمأ، ثم أعطى البرنس أرباط أخاه فشرب، وقال السلطان للترجمان: «قل للمك: أنت الذي سقيته، أما أنا فما سقيته.» إذ كان من جميل عادة العرب أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن. فقصد السلطان بقوله هذا أن الملك جفري قد أمن أما أخوه فلم يأمن، وكان في قلب صلاح الدين حقد على البرنس أرباط السابق تعديه على جماعة من المسلمين وقتلهم في حال سلمية لغير داع، فسبق من السلطان قسم أنه إذا ظفر بهذا الأمير قتله. فبعد أن شربا أرسلهما للمائدة فأكلا، ثم أعيدا إلى السلطان فأخذ بيده سيفا وتقدم إلى البرنس أرباط قائلا: «ها أنا انتصر لمحمد.» ثم عرض عليه الإسلام فأبى فضربه بالسيف فحل كتافه، وتمم قتله من حضر، ورميت جثته على باب الخيمة. فلما رأى جفري ذلك وقع الرعب في قلبه. فكلمه السلطان وطيب خاطره، وقال له : «لم تجر العادة أن يقتل الملوك الملوك، أما هذا فقد تجاوز الحد، وتجرأ على الأنبياء.» وفي أثناء هذه الحروب التقى صلاح الدين بريكاردس قلب الأسد.
شكل 10-3: ريكاردس قلب الأسد.
وفي اليوم التالي نزل السلطان على طبرية فاستلم قلعتها، ثم رحل طالبا عكا فبلغها يوم الأربعاء غاية ربيع آخر، وفي اليوم التالي حاربها وأخذها، وأنقذ من كان فيها من أسارى المسلمين، وكانوا أكثر من 4000، واستولى على ما فيها من الأموال. ثم فرق السلطان صلاح الدين جيشه فرقا في أنحاء سوريا فاستولى على نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، وسار هو يطلب تبنين فنزلها يوم الأحد 11 جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة فحاصرها أسبوعا، ونصب عليها المنجنيق حتى فتحها عنوة، ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد نزوله، ثم سار إلى بيروت وركب عليها المنجنيق، وما زال حتى أخذها في يوم الخميس 29 جمادى الآخرة، وسارت سرية من رجاله إلى جبيل من أعمال لبنان فاستلمها. ثم حول شكيمه فتوجه جنوبا قاصدا عسقلان فمر على مواضع كثيرة كالرملة والدارون فاستولى عليها، فلما وصل عسقلان نصب عليها المنجنيق، وقاتلها قتالا شديدا حتى تسلمها، ثم بعث من رجاله من استلم غزة، وبيت جبريل، والبترون بغير قتال. (1-9) فتح بيت المقدس
ولما تم لصلاح الدين الاستيلاء على البلاد المحيطة ببيت المقدس شمر عن ساعد الجد في المسير إليه فجمع جنده، وكانوا متفرقين في الساحل، وسار بهم حتى أتى بيت المقدس يوم الأحد 15 رجب سنة 583ه، وكان به البطريرك المعظم عندهم وهو أعظم شأنا من ملكهم، وبه أيضا باليان بن بيرزان صاحب الرملة، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك .
شكل 10-4: شكل بيت المقدس وأسواره لما حاصره صلاح الدين.
وبه أيضا من خلص من فرسانهم من حطين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي؛ عسقلان وغيرها، فاجتمع به كثير من الخلق كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلا، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم مجتمعين على حفظه، والدفاع عنه بجهدهم وطاقتهم، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم، ونصبوا المنجنيقات؛ ليمنعوا الدنو منه، والنزول عليه، ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه غير محتاط ولا حذر فلقيه جمع من الصليبيين قد خرجوا من القدس، فقاتلوه وقاتلهم فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه. فأهم المسلمين قتله، وفجعوا بفقده، وساروا حتى نزلوا على القدس في منتصف رجب. فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم، وسمعوا لأهله من الغلبة والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتلها؛ لأنها في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليها موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمود أو كنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها، ونصب تلك الليلة المنجنيقات فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها ورمى بها.
شكل 10-5: منجنيقات لرمي النبال.
ونصب الصليبيون على سور البلد منجنيقات، ورموا بها، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس كل واحد من الفريقين يرى ذلك دينا وحتما واجبا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني، بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون، ويزجرون ولا يزدجرون.
وكان خيالة الصليبيين كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون فيقتل من الفريقين، وممن قتل من المسلمين: الأمير عز الدين عيسى بن مالك، وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم فقتل، وكان محبوبا إلى الخاص والعام. فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك، وأخذ من قلوبهم فحملوا حملة رجل واحد. فأزالوا الصليبيين عن مواقفهم فأدخلوهم بلدهم، ووصل المسلمون إلى الخندق فجاوزوه، والتصقوا إلى السور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم، والمنجنيقات توالي الرمي لتكشف الصليبيين على الأسوار؛ ليتمكن المسلمون من النقب. فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة، فلما رأى الصليبيون شدة قتال المسلمين، وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون. فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم بيت المقدس إلى صلاح الدين؛ فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان. فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم، وقال: «لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة 492ه من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.» فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل باليان من بيرزان، وطلب الأمان لنفسه؛ ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره. فأجيب إلى ذلك وحضر عنده، ورغب في الأمان، وسأل فيه فلم يجبه إلى ذلك، واستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه. فلما آيس من ذلك قال له: «أيها السلطان، اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت، ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منا دينارا واحدا ولا درهما، ولا تسبون وتأسرون رجلا ولا امرأة، وإذا فرغنا من ذلك أخرجنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا قاتلناكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء أو نظفر كراما.»
شكل 10-6: آلة لنقب الأسوار وهي برج يجر على مجادل أو عجل نحو السور، وفي أسفله رجال ينقبون السور بعمود طرفه كرأس الكبش وفي البرج رجال يشغلون حماة السور برمي النبال. (1-10) شروط التسليم
فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا، ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي، وقالوا: «نحسب أنهم أسارى بأيدينا فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم.»
فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للصليبيين، فاستقر أن يؤخذ من الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدى ذلك في أربعين يوما فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا. فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك، وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوما مشهودا، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها، ورتب صلاح الدين على أبواب البلد في كل باب أمينا من الأمراء؛ ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم. فاستعملوا الخيانة ولم يؤدوا فيه الأمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدي سبأ، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن وعم الناس، فإنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان، ولا يعجب السامع من ذلك فإن البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها والدارون والرملة وغزة وغيرها من القرى بحيث امتلأت الطرق والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي، ومن الأدلة على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة، وأطلق باليان بن بيرزان ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ويعطي، وأخذ أسيرا ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة. ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس فيطلقهم ويأخذ قطيعتهم.
وكان جماعة من الأمراء يلبسون الصليبيين زي الجند المسلمين ويخرجونهم، ويأخذون فيهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من صلاح الدين عددا من الصليبيين فوهبهم لهم فأخذوا قطيعتهم، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل، وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم وقد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم، فطلبت الأمان لنفسها ومن معها فأمنها وسيرها، وأطلق أيضا ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الصليبيين بسببها، وكان يقوم بالملك نيابة عنها، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المسير إلى زوجها، وكان حينئذ محبوسا بقلعة نابلس فأذن لها فأتته وأقامت عنده.
وأتته أيضا امرأة للبرنس أرباط صاحب الكرك الذي قتله صلاح الدين بيده في حطين فشفعت في ولد لها مأسور فقال لها صلاح الدين: «إن سلمت الكرك أطلقته.» فسارت إلى الكرك فلم يسمع منها الصليبيون، ولم يسلموه فلم يطلق ولدها، ولكنه أطلق مالها ومن تبعها، وخرج البطريرك الكبير الذي للصليبيين ومعه من أموال البيع منها الصخرة والأقصى وقمامة وغيرها ما لا يعلمه إلا الله، وكان له من المال مثل ذلك فلم يعرض له صلاح الدين فقيل له ليأخذ معه يقوي به المسلمين فقال: «لا أغدر به.» ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور.
وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة؛ ليقلعوا الصليب فحين صعدوا صاح الناس كلهم صوتا واحدا من البلد ومن ظاهره المسلمون والصليبيون. أما المسلمون فكبروا، وأما الصليبيون فصاحوا تفجعا وتوجعا، فسمع الناس صيحة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها.
فلما ملك البلد، وفارقه الصليبيون أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية؛ ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هرى ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى حاله الأول، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس ففعل ذلك أجمع، ولما كانت الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام محيي الدين ابن الزكي قاضي دمشق. ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر فقيل له: إن نور الدين محمودا كان قد عمل بجلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: «هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس.» فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله فأمر بإحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة.
ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى، واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وقد ادخر على طول السنين. فشرعوا في عمارته ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور، وكان الصليبيون فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها فأمر بكشفها، وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للصليبيين الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة فكانوا يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة وجعله في مذبحها. فخاف ملوكهم أن تفنى فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها. فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف والربعات، ورتب القراء وأدر عليهم الوظائف الكثيرة.
شكل 10-7: كنيسة القيامة بالقدس عند فتحها.
وأما الإفرنج من أهل بيت المقدس فإنهم شرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن. فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الصليبيين؛ فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم، ويأخذ منهم الجزية فأجابهم إلى ذلك. فاستقروا فاشتروا حينئذ من أموال الصليبيين، وترك الصليبيون أيضا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبنيات وغير ذلك، وتركوا أيضا من الرخام الذي لا يوجد مثله من الأساطين والألواح وغيره شيئا كثيرا ثم ساروا. (أ) تهاني الشعراء بالفتح
وكانت ليلة المعراج وكان يوم فخر لجيش المسلمين، فتقاطر الشعراء من سائر الأنحاء؛ لتهنئة السلطان صلاح الدين بما أتاه الله من الفتح، ونظموا القصائد، وقالوا الخطب على الجماهير، وسالت أقلام الكتاب، وفاضت قرائحهم؛ فكنت ترى فيهم إما خطيبا يبشر ويحرض، وإما شاعرا يحمد الله ويمدح الفتح، أو مؤرخا يذكر الحادثة بما فيها من الفخر لجيش المسلمين، وكان من جملة من كتب القاضي الفاضل صاحب السيرة الأيوبية، وعماد الدين الأصبهاني، وممن أنشد في هذا الشأن عبد الرحمن بن بدر النابلسي فقال قصيدة منها:
هذا الذي كانت الأيام تنتظر
فليوف لله أقوام بما نذروا
بمثل ذا الفتح لا والله ما حكيت
في سالف الدهر أخبار ولا سير
الآن قرت جنوب في مضاجعها
ونام من لم يزل حلفا له السهر
يا بهجة القدس إذا ضحى به علم الإ
سلام من بعد طي وهو منتشر
يا مالك الأرض مهدها فما أحد
سواك من قائم للمهد ينتظر
ما اخضر هذا الطراز الساحلي ثمرا
إلا لتعلو به أعلامك الصفر
أضحى بنو الأصفر الأنكاس موعظة
فيها لأعدائك الآيات والنذر
صاروا حديثا وكانوا قبل حادثة
على الورى يتقيها البدو والحضر
هذا الذي سلب الإفرنج دولتهم
وملكهم يا ملوك الأرض فاعتبروا
ولا أصرح بأسماء البلاد فقد
أسهبت والقبائل المنطيق يختصر
يغنيك إجمال قولي عن مفصله
في لفظة البحر معنى تحته الدرر
وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدح بها السلطان، ويهنئه بالفتح. (1-11) فتح سائر سوريا
وبعد فتح بيت المقدس سار صلاح الدين لفتح صور فجاء عكا فنزل فيها، ونظر في أمورها، ثم سار عنها إلى صور في يوم الجمعة 15 رمضان فنزل قريبا منها، وأرسل لإحضار آلات القتال، ولما تكاملت نزل عليها، وقاتلها برا، واستقدم أسطول مصر ليقاتلها بحرا، ثم أرسل من حاصر هونين فسلمت. أما الصوريون فأرسلوا أسطولهم إلى أسطول المسلمين فأسروا منه خمس قطع، وقتلوا كثيرا من المسلمين؛ فعظم ذلك على السلطان وضاق صدره، وكان الشتاء قد هجم، وتراكمت الأمطار، واستشارهم فيما يفعلون فأشاروا عليه بالرحيل؛ لتستريح الرجال، ويجتمعوا للقتال فساروا، وحملوا من آلات القتال ما أمكن، وأحرقوا ما بقي منها، وسارت كل جماعة إلى بلادهم، وسار صلاح الدين إلى عكا.
وبقيت الهدنة إلى أن دخلت سنة 584ه وعند ذلك نزلوا على حصن كوكب، وكان منيعا فأخذوه بعد قتال شديد، ثم سار السلطان إلى دمشق وبقي فيها خمسة أيام. ثم بلغه أن الإفرنج قصدوا جبيل فسار نحوهم، ثم علم أنهم رحلوا عنها فتوقف، وسار قاصدا إتمام فتح سوريا، فجاء ترسوس في 6 جمادى الأولى سنة 584ه، وكان قد انضم إليه رجال من سنجار والموصل تحت قيادة عماد الدين زنكي ومظفر الدين بن زين الدين ففتح ترسوس، ثم سار إلى جبلة ففتحها، ومنها توجه إلى اللاذقية في 24 جمادى الأولى فأخذها في يوم واحد إلا قلعتيها على أنهما اضطرتا أخيرا للتسليم. ثم رحل من اللاذقية إلى صهيون فنزل عليها في 2 جمادى الآخرة فصالحه أهلها على أن يدفع الرجل منهم عشرة دنانير والمرأة خمسة والصغير دينارين. ثم سير من رجاله من استولى على عدة قرى منها بلاطس وغيرها من الحصون المنيعة. ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على نهر العاصي ففتحها عنوة وهدم قلعتها، وتوجه بعدئذ إلى قلعة برزنة الشهيرة ففتحها، وفتح غيرها من القلاع.
وفي 3 شعبان أرسل أهل أنطاكية يطلبون الصلح فصالحهم، ثم توجه إلى حلب في ضيافة ابنه الملك الظاهر، ثم إلى حماه في ضيافة عمر ابن أخيه فبات في حماه ليلة واحدة، ثم سار على طريق بعلبك ودخل دمشق، وسار في أوائل رمضان يريد صفد فحاربها، واستولى عليها بالأمان، وفي هذا الشهر سلمت الكرك أيضا.
ثم نزل في الغور وأقام بالمخيم بقية الشهر، وأعطى الجماعة دستورا، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه؛ لأنه كان متوجها إلى مصر فدخل القدس في 8 ذي الحجة، وصلى بها العيد، وسار منها إلى عسقلان في 11 منه ينظر في أمورها فأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك. ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم من سنة 585ه وأصلح أمورها ، ورتب بها الأمير بهاء الدين قراقوش واليا، وأمره بعمارة سورها، وسار إلى دمشق فدخلها في مستهل صفر، وأقام بها إلى ربيع أول، ثم خرج إلى شقيف أريون وهو موضع حصين فخيم في مرج عيون بالقرب من الشقيف في 17 ربيع أول، وأقام أياما يباشر قتاله كل يوم، والعساكر تتواصل إليه فتضايق صاحب الشقيف فنزل إلى صلاح الدين بنفسه وطلب الأمان، ووعد أنه يسلم المكان بشرط أن يعطى له موضع يسكنه في دمشق؛ لأنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الصليبيين، وأقطاع تقوم به وبأهله، وشروطا غير هذه. فأجابه إلى ما طلب، وفي أثناء ذلك وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان السلطان قد أقام عليها أناسا يحاصرونها مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيها فسلموا.
ثم ظهر بعد ذلك للسلطان أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة فسيره مهانا إلى دمشق. ثم ظهر له أن الصليبيين قصدوا عكا، ونزلوا عليها في 13 رجب سنة 585ه فسار إليها حالا، ونزل فيها بغتة؛ ليقوي قلوب من بها، وأرسل يستدعي النجدات من الأنحاء، وكان عند الصليبيين نحو ألفي فارس و30 ألف راجل. ثم تكاثروا واستفحل أمرهم، وأحاطوا بعكا، وحاصروها في آخر رجب فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهد في فتح الطريق إليها؛ لتستمر السابلة بالنجدة فتمكن وانفتح الطريق وسلكه المسلمون، ودخل السلطان عكا، وجرى بينه وبين الصليبيين مناوشات في عدة أيام. ثم تأخر المسلمون إلى تل العياضة وهو مشرف على عكا، وفي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان.
وما زالت الحال كذلك والصليبيون يتشددون بما كان يأتيهم من المدد بحرا إلى أن قووا على فتح المدينة ودخلوها والسلطان خارجها فعظم ذلك عليه جدا. ثم بلغه أن الصليبيين سيخرجون من عكا للاستيلاء على عسقلان فأتى السلطان الرملة، وتشاور وذوي شوراه في أمر عسقلان، وهل الصواب إخرابها أم بقاؤها؟ فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل قبالة العدو، وأن يسير صلاح الدين بنفسه لإخرابها خوفا من وصول العدو إليها فيأخذ بها القدس، فسار وشرع بإخرابها بكل نشاط رغم إرادته؛ لأنه قال: «لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهدم منها حجرا، ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة المسلمين فما الحيلة؟» وهاجر أهالي عسقلان إلى الشام ومصر وغيرهما حزانى تاركين أراضيهم وبيوتهم ومواشيهم بحالة يرثى لها.
وبينما كان الإخراب قائما أتى من الملك العادل أن الصليبيين تحدثوا معه بأمر الصلح طالبين جميع البلاد الساحلية. فرأى السلطان أن موافقتهم على طلبهم هذا أفضل لما رأى من الضجر الذي خامر قلوب المسلمين من المشاق المتوالية، فكتب إليه يؤذنه في ذلك، وفوض الأمر إلى رأيه، وأصر على حريق عسقلان ففوض ذلك إلى أحد أولاده الأفضل، وسار إلى الرملة، ومنها إلى اللد وأشرف عليها، وأمر بإخرابها، وإخراب قلعة الرملة، ثم دار حول قلعة البترون، وهي قلعة منيعة فأمر بإخرابها.
وفي يوم الأربعاء 22 شعبان سنة 588ه تم الصلح بين صلاح الدين وكبير الصليبيين بعد مداولات ومخابرات يطول شرحها، ونادى المنادون أن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة؛ فمن أحب من كل طائفة أن يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور، وكان يوما مشهودا سرت به الطائفتان، وعادت الصلات إلى مجاريها، وعادت التجارة، وجعل الزائرون يفدون إلى بيت المقدس من كل صوب، وتوجه السلطان إلى تلك المدينة يتفقد أحوالها، وسار أخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الأفضل إلى دمشق، وبقي السلطان صلاح الدين في القدس مدة يقطع الناس ويعطيهم دستورا، ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية، وكان في عزمه السفر للحج لكنه لم يستطع.
ولما سار ملك الصليبيين إلى بلاده رأى السلطان أن يعود لتفقد القلاع السورية ففعل، وسار منها إلى دمشق فوصلها في 16 شوال وفيها أولاده الأفضل والظاهر والظافر المعروف بالمشمر وأولاده الصغار، وكان يحب تلك المدينة، ويؤثر الإقامة فيها على سائر البلاد. ثم قدم الملك العادل من الكرك قاصدا البلاد الفراتية. فنزل دمشق واجتمعت هذه العائلة على رغد وسلام، وقد نسي السلطان صلاح الدين عزمه إلى مصر، وعرضت له أمور أخرى غير ما تقدم. (1-12) وفاة صلاح الدين ومناقبه
على أن المنية مع عجزها عن مهاجمة هذا الباسل في ساحة الحرب لم تخف مهاجمته على فراشه وبين أولاده وإخوانه. ففي يوم الجمعة 15 صفر ركب السلطان لملاقاة الحج فعاد إلى منزله كسلا، ثم غشيته حمى صفراوية. ثم أصبح في اليوم التالي أكثر كسلا وضعفا، وما زال المرض يتزايد يوما فيوما إلى أن توفاه الله بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء 27 صفر سنة 589ه، وكان يوم موته يوما لم يصب الإسلام بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، وكان الناس يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم، وكان عمره عند وفاته 57 سنة، ومدة حكمه 24 سنة في مصر و19 سنة مع سوريا.
فحضر الجميع وشيعوا جنازته ودفنوه في الدار التي كان متمرضا فيها، وكانت بينهم شقيقة الفقيد المدعوة ست الشام، وفرقت في الناس الصدقات العظيمة من جيبها الخاص؛ لأنه لم يترك في خزينته الخصوصية إلا دينارا واحدا و47 درهما من الفضة، ولم يجدوا في جميع صناديقه أثرا للذهب أو لغيره من الحجارة الكريمة، وذلك مما يدل على فرط كرمه؛ لأنه أصاب أموالا كثيرة جاد بها على آله وذويه.
ومن آثاره في العدل والرفق أن الأموال الهلالية كانت قد أعيدت إلى مصر في أثناء الدولة الفاطمية، وصارت تعرف بالمكوس. فلما تولى السلطان صلاح الدين أمر بإسقاطها، وكانت مداخيلها عظيمة جدا تبلغ مائة ألف دينار سنويا، إلا أنها كانت مضروبة على جميع أنواع الأطعمة والألبسة والحيوانات من ماشية وخيول وغيرها، وعلى الحوانيت والأخشاب والمصنوعات والمزروعات والأبنية والأقمشة إلى غير ذلك. جميع هذه أمر صلاح الدين بإلغائها، ورأى أن كثيرين من الأهالي لا يزالون مثقلين بالديون بسبب تلك المظالم فسامحهم بما كان عليهم، وكان بالغا قدرا عظيما جدا من الدنانير والغلال.
وكان بين أقارب السلطان صلاح الدين رجل يدعى عز الدين موسك كان من حفظة القرآن ومحبي أهل العلم، فابتنى قنطرة فوق الخليج الكبير دعاها قنطرة الموسكي، ولما تم الصلح بين السلطان صلاح الدين والصليبيين أباح لهم أن يستوطنوا مصر، وكان هو أول من فعل ذلك، فجاء منها بعض الباعة واستوطنوا في جهات الموسكي؛ لأنها خارج أسوار المدينة، وافتتحوا حوانيت لمبيع الأدوات الإفرنجية. ثم أخذ شارع الموسكي بالظهور على تمادي الأيام حتى وصل إلى ما هو الآن.
وترك صلاح الدين من الأولاد 17 ذكورا، وأنثى واحدة اسمها مؤنسة خاتون تزوجت ابن عمها ناصر الدين محمد بن سيف الدين الذي لقب بعدئذ بالملك الكامل، فلما توفي صلاح الدين اقتسم أولاده وإخوته وأولادهم مملكته فيما بينهم، غير أن الحصص لم تكن متساوية؛ لأن ثلاثة من أولاده أخذوا أكبرها، واقتنع الباقون بمقاطعات صغيرة، وتم كل ذلك بموافقة الأمراء، فتلقب أول أولاد صلاح الدين المدعو نور الدين بالملك الأفضل، وكان من نصيبه مملكة دمشق والشطوط البحرية وأورشليم والبصرة وبانياس وسوريا الغربية، ولقب أبو الفتح غازي بالملك الظاهر غياث الدين، فأخذ حلب وجميع سوريا الشرقية ومن ضمنها حران وتل ياسر وعيراز ومنبج، ولقب عماد الدين عثمان بالملك العزيز وتولى مصر.
ومن هؤلاء الأمراء الثلاثة تكونت ثلاث دول مختلفة هي الدول الأيوبية الحلبية والدمشقية والمصرية. أما ما بقي من تلك العائلة فكانوا ولاة على بلاد أقطعهم إياها صلاح الدين إلا أنها تحت سلطة هؤلاء الثلاثة. فسيف الدين أبو بكر الملقب بالملك العادل بن أيوب وأخو صلاح الدين كان حاكما في الكرك والشوبك، وناصر الدين محمد الملقب بالملك المنصور بن تقي الدين عمر بن شاهين شاه أحد أخوي صلاح الدين كان أميرا على حماه والسلامية ومارا، وبهرام شاه الملقب بالملك الأمجد حفيد شاهين شاه أيضا كان ملقبا بملك الرها، وشمس الدولة طوران شاه بن أيوب الذي كان قد فتح اليمن بأمر أبيه سنة 569ه كان قد أقام فيها مملكة، وكان أخوه توغتغن حاكما فيها تحت اسم الملك المعز.
وترى في الأشكال
10-8
و
10-9
و
10-10
صور النقود التي ضربت في أيام السلطان صلاح الدين على أحد وجهيها اسمه، وعلى الوجه الآخر اسم الإمام الناصر الخليفة العباسي لذلك العهد. فالصورة الأولى نقود ذهبية ضربت في دمشق سنة 583ه والثانية نقود نحاسية ضربت سنة 584ه، والثالثة مثل ذلك.
شكل 10-8: نقود صلاح الدين. ضربت في دمشق سنة 583.
شكل 10-9: نقود صلاح الدين ضربت سنة 584.
شكل 10-10: نقود صلاح الدين. (2) سلطنة الملك العزيز بن يوسف (من سنة 589-595ه/1193-1198م)
وبعد أن قسمت الدولة الأيوبية على ما تقدم عرف كل منهم نصيبه، وبعد يسير نهض أعداء صلاح الدين، وكانوا ينتظرون فرصة للانتقام منه لقهره إياهم. فلما لم يستطيعوا ذلك في حياته قاموا على خلفائه، وأجمعوا على محاربتهم . فاتحد الأيوبيون في بادئ الرأي دفعا لمناهضيهم، ثم تفرقت كلمتهم لما قام بينهم من التحاسد انقيادا للمطامع، وإصغاء لذوي المفاسد فأصبحوا بما بينهم في شاغل عن دفع مهاجميهم.
ففي سنة 592ه رأى الملك العادل صاحب الكرك والشوبك أن حصته قليلة، ومنصبه حقير بالنسبة لغيره من الأسرة الأيوبية، فتواطأ مع الملك العزيز عثمان سلطان مصر على خلع الملك الأفضل نور الدين علي عن دمشق وتولية أحدهما الملك العادل عليها وفعلا ذلك بسهولة. ففر الملك الأفضل من دمشق إلى بغداد ملتجئا إلى الخليفة الناصر لدين الله العباسي، وكان كلاهما شاعرا ماجدا. فكتب الأفضل إلى الإمام الناصر:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه
عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده
عليهما فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته
والأمر بينهما والنص فيه جلي
فأجابه الإمام الناصر بقوله:
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا
بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبا عليا حقه إذ لم يكن
بعد النبي له بيثرب ناصر
فأبشر فإن غدا عليه حسابهم
واصبر فناصرك الإمام الناصر
إلا أن الملك العادل لم يلبث أن بكته ضميره فأعادوا الملك إلى ابن أخيه الأفضل، وتنازل أيضا عن حصته الأصلية. إلا أن العزيز لم يتمتع بالملك مدة طويلة فتوفي في القاهرة في 21 محرم سنة 595ه، وكان ملكا مباركا كثير الخير واسع الكرم محسنا إلى الناس يقرب أرباب الخير والصلاح، ولكنه كان ضعيف الرأي سهل الانقياد قليل التروي، وكان له عشراء من ذوي الخفة فأشاروا عليه يوما أن يهدم أهرام الجيزة. فأمر بهدمها حالا، وبعث إليها بالعملة فابتدأوا بالهرم الثالث منها وهو أقلها متانة ويعرف بالهرم الأحمر. قال عبد اللطيف البغدادي وقد زار مصر على إثر ذلك: «وحينما شاهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر سألت مقدم الحجارين فقلت: لو بذل لكم ألف دينار على أن تردوا حجرا واحدا إلى مكانه وهندامه هل يمكنكم ذلك؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عن ذلك ولو بذل لهم أضعافه.» وقد شوهوا وجه الهرم تشويها، ولم يهدموا منه إلا قسما صغيرا جعل في الهرم خرقا لا يزال ظاهرا فيه.
ثم ارتأى الملك العزيز مشروعا آخر جاء بنتيجة أقبح من تلك، وذلك أن أيام الفيضان في مصر - وخصوصا في القاهرة - تعد من أيام النزهة؛ لجريان المياه في الترع والخلجان ولا سيما خليج مصر فإنه يجري مخترقا المدينة. فكان الناس يخرجون في ذلك الحين في صغار القوارب للنزهة في مجاري المياه ليلا ونهارا يتمتعون بنعمة ربهم فيقيمون الولائم ويضربون الموسيقى، وكان الحاكم بأمر الله قد حاول مرات عديدة إبطال هذه العادة فلم يقدر؛ لأن الناس أبوا إلا التمتع بما وهبتهم الطبيعة من أسباب السرور، فأمر الملك العزيز سنة 594ه بالامتناع عن هذه الاحتفالات امتناعا كليا، واستخدم لتنفيذ أمره هذا طرقا خشنة. فاسترحم الناس إلغاء هذه الأوامر مرات عديدة فلم ينجحوا فجاهروا بالعصيان. ثم عاجلت المنية الملك العزيز فقطعت جهيزة قول كل خطيب.
ومما أتاه الملك العزيز في سلطنته من المظالم أنه أعاد إليها المكوس الظالمة التي كان قد ألغاها أبوه وزاد في شناعتها، وزادت في أيامه المنكرات وترك الإنكار لها، وكثر شرب المسكر وأباحه أولو الأمر والنهي، وتفاحش الأمر فيه إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت في حارة المحمودية مطحنة لطحن الحشيش المزر، وأفردت برسمه، وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الكثيرة. فمنها ما انتهى أمره في كل يوم إلى 16 دينارا، وحملت أواني الخمور على رءوس الأشهاد في الأسواق فداهمهم غلاء الحبوب لوقوف زيادة النيل جزاء لفحشهم، وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية من خبز ولحم بحيث لم يعد لهم ما يأكلون، وكثر ضجيجهم وشكواهم، فجعل الملك العزيز يغتصب الأرزاق ويضمها إلى اقتيات عائلته، وصارت الأهالي في حال صعبة زادها ارتكاب المنكرات والمظالم صعوبة. إلى أن جاءت المنية منصفة المظلوم من الظالم، وسبب موته: أنه توجه إلى الفيوم فساق فرسه وراء صيد فتقنطر به فأصابته الحمى فحمل إلى القاهرة فتوفي في الساعة الرابعة من ليلة الأحد سنة 595ه. (3) سلطنة الملك المنصور بن العزيز (من 595-596ه/1198-1200م)
وخلف العزيز ابنه ناصر الدين محمد، وعمره 8 سنوات فلقبوه بالملك المنصور، ثم استقدموا عمه الملك الأفضل من سوريا؛ ليكون وصيا على ملكهم الجديد. فقبل وجاء القاهرة ونودي به أتابكا أي وصيا على ابن أخيه إلا أنه لم يتمتع بهذا المنصب؛ لأن عمه الملك العادل قدم بجيش جرار إلى القاهرة وبين حقوقه بالتوصية بناء على أنه جد الصبي الحاكم وعم وصيه. فحاول الأفضل مقاومته فلم ينجح. فحاصره في قصره في القاهرة، ثم فر راجعا إلى حكومته في دمشق مكتفيا بما قسم له.
وترى في شكل
10-11
صورة النقود النحاسية التي ضربت على عهد الملك المنصور بن العزيز.
شكل 10-11: نقود المنصور بن العزيز. (4) سلطنة الملك العادل بن أيوب (من 596-615ه/1200-1218م)
ولما خلا الجو للملك العادل خلع الملك المنصور في شوال سنة 596ه بعد أن حكم 21 شهرا، وتولى سلطنة مصر وسوريا بنفسه، وخلع الملك الأفضل عن دمشق، وما زال حتى جعل جميع من بقي من الحكام الأيوبيين في الإمارات الصغيرة خاضعين لسلطانه، وفي جملتهم ابن أخيه الظاهر ملك حلب فغادرت مملكة صلاح الدين بعد أن انقسمت حصصا إلى مملكة واحدة تحت سلطان واحد. (4-1) مجاعة (سنة 597ه)
وفي السنة التالية حدثت بمصر المجاعة الشهيرة التي وصفها عبد اللطيف البغدادي في رحلته فقال: «وقد يئس الناس من زيادة النيل، وارتفعت الأسعار، وأقحطت البلاد، وأشعر أهلها البلاء، وهرجوا من خوف الجوع، وانضوى أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد، وانجلى كثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن، وتفرقوا في البلاد أيادي سبا، ومزقوا كل ممزق، ودخل إلى القاهرة ومصر منهم خلق عظيم، واشتد بهم الجوع، ووقع فيهم الموت، وعند نزول الشمس الحمل وبئ الهواء، ووقع المرض والموتان، واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث. ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل، ورأيت صغيرا مشويا في قفة، وقد أحضر إلى دار الولي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما.
ووجد في رمضان بمصر رجل، وقد جردت عظامه عن اللحم فأكل وبقي قفصا كما يفعل الطباخون بالغنم، ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته، ولذلك تطلبه بكل حيلة، وكذلك كل من آثر الاطلاع على علم التشريح، وحين ما نشم الفقراء في أكل بني آدم كان الناس يتناقلون أخبارهم، ويفيضون في ذلك استفظاعا لأمره، وتعجبا من ندوره، ثم اشتد قرمهم إليه، وضراوتهم عليه بحيث اتخذوه معيشة ومطيبة ومدخرا، وتفننوا فيه، وفشا عنهم، ووجد بكل مكان من ديار مصر فسقط حينئذ التعجب والاستبشاع، واستهجن الكلام فيه والسماع له.
ولقد رأيت امرأة مشججة يسحبها الرعاع في السوق، وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها، ومقبلون على شئونهم لم أر فيهم من يعجب لذكر ذلك أو ينكره، فعاد تعجبي منهم أشد، وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه، ورأيت قبل ذلك بيومين صبيا نحو الرهاق مشويا، وقد أخذ به شابان أقرا بقتله وشيه وأكل بعضه.
وفي بعض الليالي بعيد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير، فبينما هو إلى جانبها اغتنمت غفلتها عنه صعلوكة فبقرت بطنه وجعلت تأكل منه نيئا، وحكى لي عدة نساء أنه يتوثب عليهن لاقتناص أولادهن ويحامين عنهم بجهدهن.
ورأيت مع امرأة فطيما لحيما فاستحسنته وأوصيتها بحفظه، فحكت لي أنها بينا تمشي على الخليج انقض عليها رجل جاف ينازعها ولدها فترامت على الولد نحو الأرض حتى أدركها فارس وطرده عنها، وزعمت أنه كان يهم بكل عضو يظهر منه أن يأكله، وأن الولد بقي مدة مريضا؛ لشدة تجاذبه المرأة والمفترس.
وتجد أطفال الفقراء وصبيانهم ممن لم يبق له كفيل ولا حارس منبثين في جميع أقطار البلاد وأزقة الدروب كالجراد المنتشر، ورجال الفقراء ونساءهم يتصيدون هؤلاء الصغار ويتغذون بهم، وإنما يعثر عليهم في الندرة وإذا لم يحسنوا التحفظ.
وأكثر ما كان يطلع من ذلك مع النساء، وما أظن العلة فيه إلا أن النساء أقل حيلة من الرجال، وأضعف عن التباعد والاستتار ، ولقد أحرق بمصر خاصة في أيام يسيرة ثلاثون امرأة كل منهن تقر أنها أكلت جماعة، فرأيت امرأة قد أحضرت إلى الوالي وفي عنقها طفل مشوي فضربت أكثر من مائتي سوط على أن تقر فلا تحير جوابا، بل تجدها قد انخلعت عن الطباع البشرية، ثم سحبت فماتت.» ا.ه. (4-2) عود الصليبيين إلى الحرب
وفي سنة 598ه أرسل الملك العادل ابنه أبا الفتح موسى الملقب بالملك الأشرف مظفر الدين إلى الرها فتملكها، ثم أضيفت إليه حران، وكان الأشرف رجلا محبوبا من الناس مسعودا مؤيدا في الحروب، وفي سنة 600ه حصلت بينه وبين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل موقعة حربية عظيمة وكان النصر له.
وكان الصليبيون عند انقسام الدولة الأيوبية قد اغتنموا الفرصة؛ لإعادة سلطتهم فأكثروا من الجند، وجاهروا بطلب الفتح فسار إليهم العادل، وعسكر على جبل طابور أمامه، وكانوا قد استمدوا أوروبا على أمل أن تأتيهم الإمدادات وأملاك المسلمين منقسمة، وكلمتهم متفرقة فيسهل قهرهم، لكنها لم تصل إليهم إلا بعد أن اتحد المسلمون، وأصبحت بلادهم مملكة واحدة تحت سلطان واحد، هو السلطان الملك العادل سيف الدين، فحاربهم فعادوا على أعقابهم، وقد حبط مسعاهم فتعقبهم نحوا من شهر، فجاءه مخبر يخبره بحصول زلزلة عظيمة في مصر شعر بها أهل سوريا وقبرص وآسيا الصغرى حتى العراق وما بين النهرين، وهذه هي الزلزلة التي هدمت أسوار صور سنة 600ه، وكانت تهدد مصر زلزلة أخرى سياسية، وهي عمارة صليبية عظيمة احتلت سواحلها، واخترقتها حتى بلغت فوه على فرع رشيد، فاستولت عليها بعد أن نهبتها، وذبحت أهلها؛ فاضطرب العادل لهذين الخبرين فأسرع لملاقاة الأمر، فتخابر مع قواد الصليبيين، وعقدوا معاهدة تقضي بانسحابهم من مصر على أن يتنازل لهم بمقابلة ذلك عن يافا، ويسحب من كان في اللد والرملة من المسلمين.
فأجلي الصليبيون من مصر، لكنهم لم ينفكوا عن المحاربة في سوريا، وهم لم يقبلوا بتلك المعاهدة إلا ليشغلوا السلطان العادل في مصر، ويسيروا إلى فتح حماه، والاستيلاء على ما بطريقهم إليها. فاتصل ذلك بالسلطان العادل فبرح مصر في جيش للمدافعة عن حماه، فحصلت بينه وبينهم مواقع كثيرة، وبينما هم في ذلك جاء الخبر بقدوم المدد إلى الصليبيين، وهي الحملة العظيمة التي أرسلها البابا، وحطت رحالها عند عكا وغيرها، فهرع الملك العادل إلى نابلس؛ ليقيم فيها حصنا فطردوه منها فرجع إلى برج الصفر. فقطع الصليبيون المخابرات مع مصر حتى جاءوا على نهاية الحروب الصليبية في سوريا، فحولوا أعنتها إلى مصر. (4-3) حصار دمياط
فجاءوا إليها بحرا، وحاصروا دمياط في يوم الثلاثاء في 4 ربيع أول سنة 615ه، وهم نحو 70 ألف فارس و400 ألف راجل فخيموا تجاه دمياط في البر الغربي، وحفروا على معسكرهم خندقا، وأقاموا عليه سورا، وشرعوا في قتال برج دمياط؛ فإنه كان برجا منيعا في سلاسل من حديد غلاظ تمتد على النيل؛ لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح من الدخول إلى ديار مصر في النيل، وكان البر الذي نزل عليه الصليبيون جزيرة محاطة بالنيل من جهة وبالبحر المالح من الأخرى، يقال لها: جزيرة دمياط، وكان المسلمون في مدينة دمياط محاصرين حصارا منيعا من البحر والبر، والسلسلة ممتدة بين البرج والسور، فحاول الصليبيون امتلاك ذلك البرج؛ لأنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة، وكان هذا البرج مشحونا بالمقاتلين تأتي إليه المؤن من دمياط على جسر خشبي منصوب في عرض النيل، وبعد مدة انكسر ذلك الجسر فاغتنم الصليبيون تلك الفرصة، واصطنعوا برجا خشبيا نصبوه على مركبين موسوقين قيودا، وأنزلوا إليه أقوى رجالهم وأحسن عدتهم، وساروا في النيل لمهاجمة برج المسلمين. فلما رأى المسلمون ذلك تجمهروا من البرج والسور، وأخذوا برمي السهام والحراب والحجارة والمنجنيق على برج الصليبيين؛ فلعبت النار به فخاف الذين فيه، ثم انطفأت حالا، وتشدد الصليبيون حتى استولوا على برج المسلمين، وطمعوا بالاستيلاء على دمياط.
شكل 10-12: دخول الصليبيين برج المسلمين عنوة.
فبلغ قدوم الصليبيين الملك الكامل، وكان يخلف أباه الملك العادل على ديار مصر، فخرج بمن معه في ثالث يوم من وقوع الطائر بخبر نزول الصليبيين، وأمر والي الغربية بجمع العربان، وسار هو في جمع كبير بمن معه من العساكر من البلا الشامية شيئا بعد شيء حتى تكاملت عنده، واشتد خوفه من نزول الصليبيين على دمياط فرحل من مرج الصفر إلى عالفين، فنزل به المرض، ومات في جمادى الآخرة، فكتم الملك المعظم عيىسى موته، وحمله في محفة، وجعل عنده خادما وطبيبا راكبا إلى جانب المحفة، والشرابدار يصلح الشراب ويحمله إلى الخادم فيشربه، ويوهم الناس أن السلطان شربه إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق، وصارت إليها الخزائن والبيوتات فأعلن موته، وتسلم ابنه الملك المعظم جميع ما كان معه ودفنه بالقلعة، ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق.
وترى في الأشكال
10-13
و
10-14
و
10-15
صور النقود التي ضربت في عهد الملك العادل بن أيوب؛ فالأولى والثانية عليهما اسم الملك العادل من الجهة الواحدة، والخليفة الناصر لدين الله من الجهة الأخرى، والثالثة لا يظهر عليها إلا اسم الملك العادل فقط.
شكل 10-13: نقود العادل وعليها اسم الخليفة الناصر.
شكل 10-14: نقود العادل وعليها اسم الخليفة الناصر.
شكل 10-15: نقود نحاسية للملك العادل. (5) سلطنة الملك الكامل بن العادل (من سنة 615-635ه/1218-1238م)
وبلغ الملك الكامل موت أبيه وهو بمنزله بالعادلية فاستلم زمام الأحكام، أما الصليبيون فألحوا في القتال، ولا سيما عندما علموا بموت الملك العادل، وقطعوا السلاسل التي كانت تتصل بالبرج؛ لتجوز مراكبهم في بحر النيل، ويتمكنوا من البلاد. فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرا عظيما في عرض النيل فقاتل الصليبيون قتالا شديدا إلى أن قطعوه، وكان قد أنفق عليه وعلى البرج ما ينيف على سبعين ألف دينار.
وكان الكامل يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط؛ لتفقد الأحوال، وإعمال الحيلة في مكايدة الأعداء، فأمر أن تغرق المراكب في النيل؛ لتمنع الصليبيين من سلوكهم فيه، فعمد هؤلاء إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديما فحفروه وعمقوا حفره، وأجروا فيه الماء إلى البحر المالح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بؤرة على أرض جزيرة دمياط مقابل المنزلة التي فيها السلطان ليقاتلوه من هناك. فلما صاروا في البؤرة قاتلوه في الماء، وزحفوا إليه مرارا فلم يظفروا منه بطائل، ولم يتغير على أهل دمياط شيء؛ لأن الميرة والإمداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم وبين عدوهم، وأبواب المدينة مفتوحة ليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر، وكانت العربان تتخطف الصليبيين في كل ليلة حتى منعوهم من الرقاد خوفا من غاراتهم؛ فقوي طمع العرب في الصليبيين حتى صاروا يخطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها. فكمن لهم الصليبيون عدة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا فكفوا عن ذلك. ثم أدرك الناس الشتاء، وهاج البحر على مخيم المسلمين وأغرقهم فعظم البلاء، وتزايد الغم، وألح الإفرنج في القتال حتى كادوا يملكون. كل ذلك والملك الكامل يرسل الرسل إلى الجهات ينادي بإخوته مددا، ويستنجد أهل الإسلام على النصارى، ويخوفهم من غلبة الإفرنج، ولا من مجيب.
وفي أثناء ذلك ظهر في رجال الكامل ثورة زعيمها عماد الدين أحمد بن المشطوب أحد كبراء رجاله على أن لا يقبلوا الكامل عليهم سلطانا بعد أبيه، وكان ذلك باتفاق مع أخيه الملك الفائز؛ فوقع الملك الكامل في حيرة، وأوجس خيفة على مركزه، ولم ير من ينجده فسار من العادلية إلى قرية تدعى أشمون طناح (أشمون نطاح) فأصبح العسكر بغير سلطان؛ فركب كل إنسان منهم هواه، ولحقوا بالكامل، ولم يقفوا لأخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم.
شكل 10-16: منجنيقات لرمي الحجارة في الحرب كما ترمى القنابل بالمدافع اليوم.
كل ذلك والصليبيون في البر الثاني لا يدرون، وفي 20 ذي القعدة سنة 615ه بلغهم ما كان من أمر المسلمين فعبروا النيل إلى بر دمياط (البر الشرقي) آمنين بغير منازع، وغنموا ما في عسكر المسلمين مما تركوه من أمتعتهم وغيرها خارج المدينة، وكان شيئا لا يحيط به الوصف، وحاصروا دمياط، وأهلها يرمونهم عن أسوارها بالنبال، وهم يرمون أسوارها بالحجارة الضخمة من المجانيق. فلما بلغ السلطان الكامل ذلك داخله وهم عظيم، وكاد أن يفارق البلاد؛ لأنه لم يعد يثق بنفسه، ولا بمن حوله.
أما مدينة دمياط فبقيت محاصرة، وقد شدد الصليبيون عليها الحصار برا وبحرا، وكانت سنة ليس أشد منها وطأة على المسلمين، وقد أخذ اليأس منهم مأخذا عظيما، وهم في ذلك الشأن وفدت عليهم نجدة من الشام تحت قيادة الملك المعظم عيسى أخي الملك الكامل، وكان قد تولى دمشق بعد أبيه العادل، فلما علم بما حصل لجيوش أبيه بعد وفاته أتى في عدة من رجال الشام فأطلعه الكامل على صورة الحال سرا، وأسر إليه أن رأس هذه الطائفة ابن المشطوب فجاء الملك المعظم يوما على غفلة إلى خيمة ابن المشطوب، واستدعاه فخرج إليه فقال له: «أريد أن أتحدث معك سرا في خلوة.» وسار معه، وقد جرد المعظم جماعة ممن يعتمد عليهم ويثق بهم، وقال لهم: «اتبعونا» ولم يزل المعظم يشاغله بالحديث، ويخرج معه من شيء إلى شيء حتى أبعده عن المعسكر، ثم قال له: «يا عماد الدين، هذه البلاد لك، ونشتهي أن تهبها لنا.» ثم أعطاه شيئا من النفقة، وقال لأولئك المجردين: «تسلموه حتى تخرجوه من الرمل.» فلم يسعه إلا امتثال الأمر لانفراده، وعدم القدرة على الممانعة في تلك الحال.
ثم عاد المعظم إلى أخيه الكامل وعرفه صورة ما جرى. ثم جهز أخاه الفائز المذكور إلى الموصل؛ لإحضار النجدة منها ومن بلاد الشرق فمات بسنجار، وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد. فلما خرج هذان الشخصان من العسكر تحللت عزائم من بقي من الأمراء الموافقين لهما، ودخلوا في طاعة الملك الكامل كرها لا طوعا.
وبعد يسير عاد الملك المعظم إلى دمشق؛ لينظر في أحوال رعيته. ثم خشي من الصليبيين إن امتلكوا دمياط أن يمدوا يدهم إلى أورشليم فتقوى سلطتهم، فأمر بهدم أسوارها حتى إذا ملكوها لا تزيد قوتهم شيئا يستحق الاعتبار. هذا والصليبيون قد ضيقوا على دمياط، ومنعوا القوت من الوصول إليها، وحفروا على معسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشد القتال ويمانعونهم، وقد غلت عندهم الأسعار لقلة الأقوات، والملك الكامل كان لا يزال في أشمون ينظر إلى دمياط وهي محصورة، ولا يقدر أن يصل إليها، وخشي أخيرا أن ييأس أهلها من المساعدة فيسلموا المدينة، فانتدب أحد الجاندارية المدعو شمائل للدخول إلى دمياط؛ لينشط من فيها، ويعدهم بالإنقاذ. فكان يسبح في النيل إلى أن يصل إلى أهل دمياط فيوصل إليهم الأخبار، ويطمئنهم ويعود، وبقي على ذلك مدة فحظي عند الكامل، وتقرب منه حتى جعله واليا على القاهرة، وإليه تنتسب خزانة شمائل القاهرة، وفي أثناء حصار دمياط قاسى المسيحيون في داخلية البلاد اضطهادا شديدا، وكان في الإسكندرية كنيسة قديمة البناء على اسم القديس مرقس فهدمها المسلمون؛ لئلا يباغت الصليبيون الإسكندرية من أجلها فيتخذونها حصنا؛ لأنها كانت حصينة البناء كثيرة الأعمدة، وجعلوها بعد ذلك جامعا، ولا تزال آثارها إلى هذا العهد بقرب باب القباري. (5-1) فتح الصليبيين دمياط
ثم دخلت سنة 616ه وقد غلت الأسعار في دمياط بما يفوق الحد فبلغت البيضة عدة دنانير، وكان رجال الملك الكامل ينفذون الأقوات إلى أهل دمياط بحيل مختلفة؛ مثل أن يأتوا بجمل، ويشقوا جوفه، ويملأوه فراخا وفاكهة وبقلا وغير ذلك، ثم يخيطون عليه، ويرمونه في النيل فيسير منحدرا مع المجرى؛ فإذا جاء أمام دمياط نزل من فيها إليه وأخذوه، واقتاتوا على ما في جوفه، وكان الإفرنج أحيانا يظفرون بهذه الحيلة فيأخذون تلك المؤن، وفي آخر الأمر زاد الضيق في المدينة، وكثرت الموتى جوعا، وامتلأت مساكنهم وطرقات البلد منهم، وعدمت الأقوات حتى لم يبق عندهم إلا بعض القمح والشعير.
وفي يوم الثلاثاء 25 شعبان سنة 616ه هجم الصليبيون على دمياط فاستولوا عليها، وكانت مدة الحصار جميعها 16 شهرا و22 يوما. فدخلوها وأحكموا السيف فيمن بقي فيها من الأحياء إلى أن تجاوزوا الحد في القتل، وكانت الأبخرة الفاسدة تتصاعد عن جثث الموتى ما يلحق الأحياء بهم، وكانت تلك الجثث متراكمة في الأسواق والبيوت وعلى الأسرة، فكان يموت الابن جوعا وليس من يسعى في دفنه فيبقى في مكانه فيلحقه الأخ ثم الأم ثم الأب وهكذا. (أ) مدينة المنصورة
واتصل ذلك بالسلطان الملك الكامل فرحل بعد سقوط دمياط بيومين، ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم ورأس بحر دمياط؛ ليمنع الصليبيين من المسير إلى داخلية القطر بحرا، وحيز في محلة المنزلة، وأقام معسكره هناك. أما الإفرنج فحصنوا دمياط، وجعلوا جامعها كنيسة على اسم القديسة مريم، وبثوا رجالهم في القرى يقتلون وينهبون ويأسرون، وبعثوا جميع من أسروا من المسلمين إلى عكا بحرا. أما الملك الكامل فأخذ في تحصين معسكره في المنزلة؛ فأمر ببناء الدور والفنادق والحمامات والأسواق، وصارت تدعى بعد ذلك الحين «المنصورة» إشارة إلى انتصاره على الصليبيين هناك، وكتب إلى المسلمين في سوريا يستحثهم على محاربة الإفرنج، وإخراجهم من ديار المسلمين.
أما الصليبيون فتركوا أمتعتهم ومؤنهم في دمياط بعد أن أقاموا فيها حامية، وساروا إلى أن وصلوا تجاه المنصورة في ما هو أمام سراي المنصورة الآن وعسكروا هناك، وكان عدد الصليبيين إذ ذاك نحو مائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس. فقدم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة، وعدتها مائة قطعة. فأصبح المسلمون في ضيق. فأمر الملك الكامل أن ينادى بالمسلمين للجهاد من سائر أنحاء القطر؛ فاجتمع الناس من سائر النواحي من أسوان إلى القاهرة، ونودي بالنفير العام أيضا فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقي؛ فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألف فارس في آلاف من العربان؛ ليحولوا بين الإفرنج ودمياط، وسارت الشواني ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون فانقطعت الميرة عن الإفرنج من البر والبحر.
وفي أثناء ذلك أتت النجدات للملك الكامل من الشام والشرق يتقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل، وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى. فتلقاهم الملك الكامل، وأنزلهم عنده بالمنصورة في 13 جمادى الآخرة، وتتابع مجيء الملوك حتى بلغت عدة جيوش المسلمين نحو أربعين ألف فارس فحاربوا الصليبيين في البحر والبر، وأخذوا منهم ست شوان وأسروا منهم ألفين ونيفا. فتضعضع الإفرنج، وضاق بهم المقام، فخابرهم الملك الكامل بأمر الصلح؛ ليخرجهم من بلاده، فعرض عليهم أن يعطيهم بيت المقدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية، وسائر الأماكن التي فتحها السلطان صلاح الدين إلا الشوبك والكرك؛ لأنهما أصبحتا ملكا خاصا له نالهما بالإرث من السلطان صلاح الدين، وطلب إليهم في مقابل ذلك أن يردوا له دمياط، وينسحبوا من القطر المصري.
فأصر الصليبيون على طلب تينك المدينتين، ومبلغ 300 ألف دينار تعويضا لما سببه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق بهدم أسوار بيت المقدس، فامتنع المسلمون عن التسليم لهم بذلك. ثم بعثوا سرية من رجالهم؛ لتسير سرا من وراء معسكر الصليبيين، وتخرق سد ترعة المحلة، وكان النيل في معظم ارتفاعه فطافت مياه الترعة حتى أغرقت جميع الأرضين التي تفصل جيش الصليبيين من دمياط، فأصبحوا على مثل الجزيرة، وقد حال الماء بينهم وبين نجدة أصحابهم؛ فخافوا سوء المصير، وباتوا يشكون من قلة الطعام وكثرة المياه، ولم يكن باقيا بينهم وبين دمياط إلا طريق ضيق، فأمر السلطان بنصب الجسور عند أشمون طناح فعبرت العساكر عليها، وملكت تلك الطريق؛ فاضطرب الصليبيون، وضاقت عليهم الأرض. (ب) انسحاب الصليبيين من دمياط
واتفق مجيء مرمة عظيمة مددا للصليبيين حولها عدة حراقات، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة، فقاتلتها شواني المسلمين حتى ظفروا بها. فاتصل ذلك بالإفرنج فزاد خوفهم، وندموا على رفضهم المعاهدة كما طلبت إليهم. فطلبوا الأمان على أن ينسحبوا من القطر المصري جميعه، ولا يطلبوا لذلك مقابلا، فقبل السلطان الكامل في 7 رجب سنة 618ه بأن يعطي كل من الفريقين رهائن، فأعطى الصليبيون ملك عكا ونائب البابا رهنا، وأعطى الملك الكامل ابنه الملك الصالح وكان سنه 15 سنة وجماعة من الأمراء. فسار الصليبيون إلى دمياط، وسلموها إلى المسلمين في 19 رجب بعد أن كانوا قد أجهدوا أنفسهم في تحصينها وخرجوا من القطر، وبعد خروجهم بقليل جاءت نجدة عظيمة في البحر إلى الصليبيين، فشكر المسلمون الله لتأخرها إلى ذلك الحين، ولما بلغ الصليبيون مكانهم أرسلوا الملك الصالح ومن معه إلى أبيه فأرسل لهم رهنهم، وتفرق الناس إلى بلادهم، ودخل الملك الكامل دمياط بإخوته وعساكره، وكان ليوم دخوله إليها احتفال عظيم.
ثم عاد إلى المنصورة، وجلس في قصره فيها، وبين يديه أخواه: الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق، وغيرهما من أهله وخواصه، وهم في سرور واحتفال، وبين يديهم المغنون فأمر الملك الأشرف جاريته فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا وقومه
وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
أتى نحوهم موسى وفي يده العصا
فأغرقهم في اليم بعضا على بعض
فطرب الأشرف، وقال لها: بالله كرري. فشق ذلك على الملك الكامل وأسكتها، وقال لجاريته: «غني أنت.» فأخذت العود وغنت.
أيا أهل دين الكفر قوموا لتنظروا
لما قد جرى في وقتنا وتجددا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه
وموسى جميعا ينصران محمدا
وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أولها: «أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدا» فأعجب ذلك الملك الكامل، وأمر لكل من الجاريتين بجائزة.
ثم نهض القاضي الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة، وكان من جملة الجلساء، وقال:
هنيئا فإن السعد جاء مخلدا
وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحا لنا بدا
مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا
تهلل وجه الأرض بعد قطوبه
وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخضم بأهله الط
غاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه
صقيلا كما سل الحسام المهندا
فلم ينج إلا كل شلو مجدل
ثوى مبهم أو من تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعا
عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه
وموسى جميعا ينصران محمدا
فكانت هذه الليلة بالمنصورة من أحسن الليالي التي مرت لملك من الملوك. ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه في القاهرة، وانتقل من دار الوزارة التي كانت إلى ذلك العهد منزلا للخلفاء، وسكن في قلعة الجبل، وأطلق جميع من كان في مصر من الأسرى، وكان منهم من له من أيام السلطان صلاح الدين، وكانت مدة نزول الصليبيين على دمياط إلى أن أقلعوا عنها ثلاث سنين وأربعة أشهر و19 يوما؛ منها مدة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يوما.
ولما استتب للملك الكامل المقام على سلطنة مصر أخرج زعماء الثورة منها، وطهر البلاد منهم حتى لم يعد لديه من ينازعه في الملك. ثم عمد إلى الصليبيين مغتنما فرصة ضعفهم، وعقد معهم معاهدة على كيفية تمكنه من الاغتيال بأخويه اللذين لولاهما لم تقم له قائمة في مصر، فأغرى الإمبراطور فريدريك ملك الصليبيين على الاغتيال بأخيه الملك المعظم، واستخراج دمشق من يده، فقدم هذا الإمبراطور إلى عكا فاتصل به خبر وفاة الملك المعظم سلطان دمشق، وتنصيب ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود مكانه. فاستبشر الملك الكامل، ووضع يده على الشوبك وبيت المقدس وغيرهما مما هو من مملكة دمشق، فشق ذلك على الملك الناصر فاستنجد عمه الأشرف وكان متسلطا على بلاد المشرق وما بين النهرين، فجاءه حالا في جيش كبير، ولكن بدلا من أن يدافع عنه ضد الملك الكامل جاء بعكس الأمر.
أما فريدريك فسار توا من عكا؛ لافتتاح مملكة دمشق ففتح أولا صور، وسار فالتقى بالملك الأشرف فتخاصما على الفريسة تخاصما انتهى بموت الملك الأشرف. فخلا الجو للملك الكامل، وأصبح الوارث لكلا الملكين فأتى سوريا لهذه الغاية، فوصل دمشق ومات بها في رجب سنة 635ه ودفن في قلعتها، وكان محبا للعظمة والافتخار، متمسكا بالسنة النبوية، محبا للعلماء، حسن الاعتقاد، معاشرا لأرباب الفضائل، حازما في أموره، لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم كواحد منهم. تولى سلطنة مصر وخفض ضرائبها نحو الثلث وأقام فيها الزينة.
وترى في الشكلين
10-17
و
10-18
صور النقود التي ضربت في أيام الملك الكامل بن العادل على أحد وجهيها اسم الملك الكامل، وعلى الآخر اسم الإمام المستنصر بالله الخليفة السادس والثلاثين من بني العباس. فالأولى نقود ذهبية ضربت في القاهرة سنة 627ه والثانية نحاسية ضربت في حلب.
شكل 10-17: نقود الملك الكامل وعليها اسم المستنصر.
شكل 10-18: نقود الملك الكامل. (6) سلطنة الملك العادل بن الكامل (من سنة 635-637ه/1238-1240م)
ولما علم المصريون بوفاة الملك الكامل بايعوا ابنه سيف الدين أبا بكر الملقب بالملك العادل (الثاني) وكان قد استخلفه أبوه على مصر عندما سار إلى سوريا، وأقاموا الأمير يونس الملقب بالملك الجواد أميرا على سوريا تابعا لمملكة مصر، إلا أن إمارته هذه لم تطل؛ لأنه اتفق في السنة التالية مع الملك الصالح نجم الدين أيوب شقيق سلطان مصر، وكان أميرا على ما بين النهرين، على أن يتبادلا الإمارات. فأتى الملك الصالح إلى سوريا، وسار الأمير يونس إلى ما بين النهرين، وكان غرض الملك الصالح من هذه المبادلة الاقتراب من مصر، والسعي في اختلاس الملك من أخيه، فتنبأ الملك العادل بذلك، وأوجس خيفة فسار بجيوشه إلى بلبيس؛ ليوقف سير أخيه إذا حاول المجيء إلى مصر. فلما وصل بلبيس نزل فيها وما أصبح إلا وهو في قبضة أمرائه مقيدا، وذلك يوم الجمعة في 8 ذي الحجة سنة 637ه وفي الحال خلعوه، واستقدموا أخاه الملك الصالح، وبايعوه على مصر، فدخل القاهرة في موكب حافل، وأصوات الترحاب والدعاء مالئة الجو، فانتهت سلطنة الملك العادل الثاني وكانت مدتها سنتين. (7) سلطنة الملك الصالح بن الكامل (من سنة 637-647ه/1240-1249م)
ولما استوى الملك الصالح على سلطنة مصر أخذ في تمكين قدمه فيها، فأمر السنة التالية بالقبض على الأمراء والمماليك الذين ساعدوه على خلع أخيه وبايعوه مكانه وقتلهم جميعا، وولى مكانهم من اختبر أمانتهم نحوه. ثم عزل الملك الجواد يونس من إمارته، وحظر عليه القدوم إلى مصر، فاغتاظ لهذه المعاملة، فالتجأ إلى الصليبيين في عكا فقبلوه من أجل ثروته راجين التقرب بواسطته من إسماعيل أمير دمشق، وقد كانت تلك فرصة ثمينة لهم فتحالفوا مع أمير دمشق والملك المنصور إبراهيم أمير حمص وأمير الكرك، وتعهدوا لهم بمحاربة مصر وقهرها على أن يأخذوا في مقابل ذلك مدن الصعيد والشقيف وطبرية وعسقلان وأورشليم، ولما تم التحالف المذكور احتل الصليبيون تلك الأماكن، وأخذوا في ترميم حصون طبرية وعسقلان، ثم أخذوا يهتمون بمحاربة مصر.
وفي خلال ذلك نشأ في شرقي سوريا مخاوف كثيرة، سببها: أن قبيلة الخوارزميين لما طردهم جنكيز خان من شرقي آسيا في أثناء فتوحه هناك جاءوا سوريا الشرقية، ونزلوا على حدودهم فأنفذ إليهم الملك الصالح سلطان مصر رسلا عقدوا معهم صلحا، وعاهدوهم على محاربة الصليبيين وأمراء سوريا الذين على دعوتهم. فتجند الخوارزميون، واخترقوا سوريا إلى أن بلغوا غزة فحاربوا الصليبيين عند أسوارها، وأنجدهم سلطان مصر من الجهة الثانية؛ فانهزم الصليبيون فتتبعوهم حتى استولوا على غزة وبيت المقدس باسم الملك الصالح. فأرسل هذا إلى مصر شيئا كثيرا من الأسرى ورءوس القتلى. ثم جمع مددا وسار إلى إسماعيل أمير دمشق وإلي أمير حمص وحاصرهما، وحارب محاربات أخرى شغلته من سنة 645 إلى 647ه وشفت عن خضوع دمشق.
أما حمص فكانت لا تزال تدافع إلى ذلك العهد، فضجر من طول هذه المحاربات، فسار بنفسه لقيادة جندها ففاجأه مرض ثقيل، وهو تورم في مأبضه تكون منه ناصور فتح وعسر برؤه، وانضاف إليه قرحة في الصدر فلزم الفراش في دمشق. فجاءه منبئ يخبره بعزم الصليبيين على مهاجمة مصر وأخذها، وقد أكثروا من التجنيد، ووردت إليهم النجدات من إخوانهم في أوروبا، وكانت هذه التجريدة الصليبية السابعة على الإسلام، وكأني بهؤلاء الإفرنج قد خجلوا لكثرة انكساراتهم أمام جيش المسلمين بعد أن جردوا إليهم أولا وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا، فأقروا المرة السابعة على تجريد قوة عظيمة يرأسها ملك فرنسا لويس التاسع، وهي مؤلفة من خمسين ألف مقاتل، ومعهم من العدة والسلاح شيء كثير، وعدد عديد من المراكب المذخرة، وضباطها انتخبوهم من أشد رجال أوروبا.
فلما علم الملك الصالح بقدوم الصليبيين وهو في ما تقدم من المرض لم يسعه إلا الخروج من دمشق فسار في محفة، ونزل أشمون طناح في أول سنة 647ه وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئا كثيرا خوفا من أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه، وأعد أسطولا من دار الصناعة بمصر، وجعل فيه سائر ما يحتاج إليه الجند، وسيره شيئا فشيئا، وضم إلى جنده كثيرا من العربان وأكثرهم من بني كنانة جعلهم وراء متاريس دمياط، وعهد بقيادة حامية هذه المدينة إلى الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ. ففي صباح يوم الجمعة في 20 صفر من تلك السنة وردت مراكب الصليبيين إلى دمياط وفيها جموعهم، وحال وصولهم بعث ملكهم لويس التاسع إلى الملك الصالح كتابا يقول فيه:
أما بعد فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية، كما أنه لا يخفى علي أنك أمين الأمة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال، ونرمل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية فلو حلفت لي بكل الأيمان، وأدخلت علي الأقساء والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك. فإما أن تكون البلاد لي فهي هدية حصلت في يدي، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة علي فيدك العليا ممتدة إلي، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.
فلما قرئ الكتاب على السلطان الملك الصالح، وقد اشتد به المرض بكى واسترجع فكتب القاضي بهاء الدين زهير بن محمد الجواب: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك؛ فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه، ولو رأت عينك - أيها المغرور - حد سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل؛ لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولا بد أن تزل بك القدم في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل:
أتى أمر الله فلا تستعجلوه
وتكون على آخر سورة ص:
ولتعلمن نبأه بعد حين
ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
وقول الحكماء: إن الباغي له مصرع، وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يقلبك، والسلام.»
وفي اليوم التالي حصلت بين الفريقين مناوشات قتل فيها بعض أمراء المسلمين، وفي المساء فر الأمير فخر الدين لغير داع فتتبعته بنو كنانة، وخرجوا من المدينة فتبعهم الأهلون في الليل على وجوههم لا يلتفتون إلى شيء، ولحقوا بالعسكر في أشمون فخلت المدينة للصليبيين فدخلوها بأمان في 22 صفر، واستولوا على جميع ما فيها من المؤن والزخائر والأسلحة وعدة الحرب، فخسر سلطان مصر بذلك خسارة لا تعوض. فاستشاط الملك الصالح غيظا، وجمع إليه بني كنانة وعنفهم؛ لانهزامهم على حين لم يكن داع للهزيمة، فقالوا: نحن لم نفعل ذلك إلا بعد أن رأينا الأمير فخر الدين فارا ومن ورائه رجاله، فأمر الملك الصالح بإعدام 54 من أمرائهم؛ لأنهم خرجوا من دمياط بغير إذنه.
وفي 24 صفر عسكر في المنصورة وحصنها إلا أنه لم يعش بعد ذلك كثيرا فتوفاه الله في 14 شعبان وسنه أربعون سنة، وكان رجلا مهيبا قليل التكلم يهابه من يجلس في مجلسه، وكان عنده عدد من المماليك لم يسبقه إليه أحد قبله، ولم يوص قبل موته بمن يأخذ السلطان بعده، ولم يكن له من البنين إلا غياث الدين طوران شاه، وكان قد تركه في سوريا.
وكان من جملة جواري الملك الصالح جارية تدعى شجرة الدر مربية غياث الدين، فتواطأت مع الأمير فخر الدين، ورئيس الخصيان جمال الدين محسن على مبايعة ابنها، وكانت عارفة بأمور الحكم وسياستها، ويقال: إن الملك الصالح كثيرا ما عهد إليها إدارة الأحكام في أثناء غيابه عنها في حملاته الحربية. فلما توفي الملك الصالح كتمت أمر موته، ووقفت في جمهور الأمراء والأعيان قائلة: «إن السلطان يأمركم أن تبايعوا بعده ابنه الملك المعظم غياث الدين طوران شاه، وقد عين الأمير فخر الدين أتابكا لإدارة الأحكام.» فبايع جميع الأمراء. ثم أرسلت هذه الأوامر إلى القاهرة فبايع جميع من فيها من القواد وأعيان السلطنة، وبعثت بالرسائل في ذلك مختومة بختم السلطان الملك الصالح إلى جميع أنحاء المملكة، وكان الجميع يظنون أن الملك الصالح لا يزال حيا، لكنهم عندما علموا باستقدام الملك المعظم بسرعة إلى القاهرة داخلهم الريب.
أما الصليبيون فكانوا في خلال ذلك قد تقدموا قاصدين المنصورة، وحاربوا في أثناء الطريق محاربات طفيفة، ولما بلغوا المنصورة حاربوها محاربة قوية، وكان الجيش الإسلامي تحت قيادة الأمير فخر الدين فحارب ببسالة كلية. كل ذلك وبين الجيشين بحر أشمون، ولم يستطع الصليبيون العبور إلى المنصورة، ولم يكونوا يعلمون طريقا إليها غير النيل. فأتى إليهم بعض من غدروا من المسلمين وأخبروهم عن طريق يمكنهم سلكها بسهولة؛ فسارت سرية من فرسانهم، وهاجمت المنصورة بغتة، وكان الأمير فخر الدين في الحمام فأتته الأخبار بهجوم الصليبيين على المحلة فبغت، ونادى في رجاله، وخرج للدفاع فأدركه بعضهم فقتله، وكادت الدوائر تدور على المسلمين لولا مماليك الملك الصالح، فإنهم دافعوا دفاعا شديدا، وانتهت الواقعة، وقد أعيا الفريقين التعب، ولم يكن أحدهما يجسر على تجديد القتال لعظم ما قاسيا من الخسائر.
وفي أثناء ذلك وصل الملك المعظم إلى المنصورة قادما من سوريا فاشتد عزم المسلمين به، وهاجموا النصارى في البر والبحر، فأسروا منهم 32 مركبا. فلما رأى الصليبيون ما كان من ضعفهم طلبوا المصالحة على أن يأخذوا بيت المقدس وضواحيه، وينسحبوا من مصر بعد إخلاء دمياط. فلم يقبل المصريون، فأقاموا في المنصورة حتى نفد زادهم، وقد انقطعت السابلة بينهم وبين دمياط، وفي 2 محرم سنة 648ه عزموا على التقهقهر، فتعقبهم المصريون حتى أدركوهم غربي فرسكور فاستلحموهم، وأثخنوا في قتلهم، ويقال: إنهم قتلوا منهم 30 ألفا، وأسروا الملك لويس التاسع وكثيرا من ضباطه وكبار جيشه، وكانوا قبل أن قبض عليهم قد فروا إلى منية أبي عبد الله فأسروهم هناك. (8) سلطنة الملك المعظم بن الصالح (من سنة 647-648ه/1249-1250م)
فلما تأكد الفوز للمصريين شهروا وفاة الملك الصالح، ومبايعة الملك المعظم طوران شاه؛ فأقام الملك المذكور في فرسكور احتفالا لمبايعته وانتصاره معا. ثم عزل كل من كان في يده أزمة الحكومة من المصريين، وولى مكانهم رجالا ممن جاءوا معه من بين النهرين؛ لأنه كان أشد ثقة فيهم فشغب الناس، وتحدثوا في ذلك كثيرا، وفي غاية محرم ثار عليه المماليك وهموا بقتله، وفي جملتهم مملوك يدعى بيبرس. ففر الملك المعظم، والتجأ إلى برج من الخشب كان قد أقامه للحصار في فرسكور. فأحرقوا البرج فألقى بنفسه إلى النيل لعله يجد قاربا يركبه فينجو بحياته. فأدركه المماليك وقطعوه إربا إربا.
وهكذا كانت نهاية الحملة الصليبية السابعة، وموت السلطان الملك المعظم غياث الدين طوران شاه، وهو آخر من ملك من الأسرة الأيوبية، وبموته انقضت دولتهم، وقامت دولة المماليك الأولى.
الفصل الحادي عشر
دولة المماليك الأولى
من سنة 648-784ه/1250-1382م (1) منشأ المماليك ومبدأ أمرهم في السلطنة
قد تقدم الكلام عن أصل استخدام المماليك الأتراك في الدولة في أيام المعتصم عند كلامنا عن مبدأ الدولة الطولونية. أما السلاطين المماليك فلهم تاريخ آخر في منشئهم، وذلك أنهم من قفجاق من شمالي آسيا، وكانت من المستعمرات الإسلامية، فكانوا يجعلون عليها ولاة من أمراء السلاف الذين كانوا من حكام روسيا. فلما غزا المغوليون تلك الأصقاع تحت قيادة باتوخان حفيد جنكيز خان أخرجوا منها سكان الولايات القزوينية والقوقاسية؛ فتشتت قبائلهم، وتفرقوا في القارة. فالخوارزميون نزلوا أعالي سوريا وما بين النهرين، وحطوا رحالهم هناك. أما ما بقي من تلك القبائل التائهة فلم يجدوا لها مقرا يقيمون فيه. فجعلوا يطوفون البلاد بأولادهم ونسائهم لا يستقرون على حال، وكانت تجارة الرقيق في إبانها فاغتنم تجارها فرصة ثمينة، وجعلوا ينتقون من أبناء أولئك المساكين أجملهم صورة، وأقواهم بنية، وأنورهم عقلا، ويبيعونهم بيع السلع. أما الضعفاء وقبيحو الصورة فكانوا يذبحونهم. فأكثر أمراء سوريا وملوكها من اقتناء أولئك الأرقاء البيض، ودعوهم بالمماليك.
فالملك الصالح من سلاطين الدولة الأيوبية كان قد ابتاع منهم نحو الألف حتى جعل منهم أمراء دولته، وخاصة بطانته، والمحيطين بدهليزه، ودعاهم بالحلقة إشارة إلى أنه لا يبرح محاطا بهم كيفما توجه، كما فعل الخليفة المعتصم العباسي بالاستكثار من المماليك الأتراك.
وكانت ممالك الملك الصالح صفوفا يميز كل منهم بعلامات خصوصية يجعلونها على ثيابهم وأسلحتهم. فكانت علامة بعضهم الورد، وعلامة البعض أشكال الطيور، وكانوا يتمنطقون بمناطق جميلة مختلفة الألوان، فتألف منهم جيش مخصوص تسبب عنه قلاقل في سائر المملكة المصرية، وقد كانوا بالواقع ميالين إلى الاستقلال بالحكم لا يمكنهم الرضوخ لسلطان من السلاطين باختيارهم؛ لأنهم كانوا كثيري العدد والعدد، وكانت أهم المناصب في أيديهم، وأمنع حصون البلاد في قبضتهم قد اتخذوها مستقرا لهم، حتى إذا ضاقت ذرعا عن الإحاطة بهم ابتنوا بأمر الملك الصالح قصورا عظيمة متقنة البناء منيعة الجانب في جزيرة الروضة قرب المقياس، وقد زادها مركزها الطبيعي مناعة وجمالا؛ لأن النيل يتفرع هناك إلى فرعين، وكان يدعى عند نقطة تفرعه بالبحر؛ لعظم اتساعه، فسمي هؤلاء بالمماليك البحرية، ومنها اسم دولتهم تمييزا لها من دولة المماليك الشراكسة.
وكانت سطوة المماليك البحرية تنتشر يوما فيوما إلى أنهم طمعوا بخلع السلطان، وتولي الملك مكانه. فلما تولى الملك المعظم آخر سلاطين بني أيوب، وكان على ما كان عليه من الاستبداد أنفت نفوسهم من أعماله، فسعوا بما سعوا إلى أن قتلوه على ما تقدم.
وكان الملك لويس التاسع والذين معه لا يزالون أسرى في البرج الخشبي الذي التجأ إليه الملك المعظم قبل قتله، ولما لعبت النار بالبرج فر الملك لويس ومن معه، ومروا بين المصريين وهم يقتلون ملكهم، ثم نزلوا على مراكب كانت في انتظارهم، وأقلعوا بعد أن شاهدوا مقتل الملك المعظم. ثم جاءهم رجل من المصريين يدعى الفارس أقطاي حاملا قلب الملك المعظم، وأعطاه للملك لويس، وطلب إليه أن يكافئه على قتل عدوه، وقال بعض المؤرخين - ولا أراه في مكان الثقة - أن الأمراء المصريين بعد قتلهم ملكهم طلبوا إلى لويس المذكور أن يتولى زمام الأحكام مكانه فرفض. (2) سلطنة شجرة الدر (سنة 648ه أو 1250م)
شكل 11-1: المحمل المصري.
فلما قتل الملك المعظم اختلفت الأحزاب على من يبايعون بعده؟ وكل فئة منهم تحاول استبقاء الحكم في يدها، وعلا الخصام حتى كاد يفضي إلى الحرب، فتدراكت الأمر شجرة الدر بعد أن رأت ما حل بالملك المعظم، وتبصرت في أمر من يجب أن يخلفه فرأت حزب المماليك أعز جانبا من الجميع، ونظرا لكونها من أبناء جلدتهم وافقتهم على رأيهم، وكانت قبل ذلك تمكنت بطريقة غريبة لم يسبق لها مثيل في الإسلام أن تستلم زمام الأحكام بإقرار الجميع، وكيفية ذلك: أنها تواطأت مع أيبك عز الدين، وكان من أعظم الأمراء المماليك، وأقواهم نفوذا، وكان بينهما علاقات ودية منذ أيام الملك الصالح، ويقال: إنه من قتلة الملك المعظم، فتمكنت بذلك التوطؤ من مبايعة جميع الأعيان لها، ولقبت بعصمة الدين أم خليل في 10 صفر، وكانت توقع بما مثاله: «والدة خليل» ونقشت اسمها على النقود بما هو «المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل خليفة أمير المؤمنين» وخطب لها على المنابر بعد الدعاء للخليفة، وهذه صورة الخطبة: «واحفظ اللهم الجبهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجميل، والستر الجليل، والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب.» وعينت عز الدين أتابكا عندها لتدبير المملكة. ثم أخذت في التقرب من أرباب الدولة، ووجهاء البلاد فجعلت تخلع عليهم الخلع الثمينة، وتمنحهم المناصب والرتب، وتخفض الضرائب. إلا أن جميع هذه المساعي لم تأتها بفائدة؛ لأن الناس لم يرتاحوا إلى طاعتها. فأنفذ السوريون إلى الخليفة العباسي في بغداد يستفتونه في أمر هذه الملكة. فكتب إليهم يقول: «من بغداد لأمراء مصر. أعلمونا إن كان كل ما بقي عندكم في مصر من الرجال لا يصلح للسلطنة فنحن نرسل لكم من يصلح لها. أما سمعتم في الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ».»
فاستمسك مماليك مصر بهذه الفتوى، وثار رفقاؤهم في دمشق، وخلعوا طاعة شجرة الدر، وبايعوا سلطان حلب الملك الناصر يوسف الأيوبي في 8 ربيع أول، وقتلوا كل من في دمشق من المماليك على دعوة شجرة الدر، ومثل ذلك فعل أهل بعلبك وشميمس وعجلون. فنشأ بسبب ذلك خصام بين مماليك سوريا ومماليك مصر آل إلى وقائع حربية. فتمكن عز الدين أيبك في هذه الانقسامات من الاستقلال عن صديقته، وألجأ الأمراء شجرة الدر على الاستقالة فاستقالت، وهي أول من أرسل المحمل من مصر إلى مكة، ولا يزال ذلك جاريا إلى الآن. (3) سلطنة أيبك الجاشنكير والأشرف بن يوسف (من سنة 648-655ه/1250-1257م)
وفي سنة 648ه بويع عز الدين أيبك على مصر، ولقب بالملك المعز الجاشنكير التركماني الصالحي، وتزوج بشجرة الدر فانضم حزبها إلى حزبه، واحتفلوا بتوليته السلطنة على جاري عادتهم في الاحتفالات الكبرى فركب هو بشعار، وحملت على رأسه القبة والطير، ولعبوا قدامه بالغواشي الذهب، وجلس على سرير الملك، وجميع الأمراء قبلوا الأرض بين يديه.
وبعد قليل انقسم المماليك إلى قسمين عظيمين عرفا بالمعزيين نسبة إلى الملك المعز أيبك، والصالحيين نسبة إلى الملك الصالح نجم الدين، وتنازعا النفوذ. ففاز الصالحيون، وطلبوا أن يكون السلطان عليهم من سلالة الأيوبيين، وقالوا: «لا بد لنا من واحد من ذرية بني أيوب نسلطنه علينا» وكان المتكلم يومئذ من الأمراء الأمير بلباي الرشيدي، والأمير فارس الدين أقطاي، والأمير بيبرس ركن الدين البندقداري، والأمير سنقر الرومي وغيرهم جماعة من المماليك البحرية، فوقع الاتفاق بينهم وبين المعز أيبك بأن يحضروا بشخص من بني أيوب يقال له: مظفر الدين يوسف، من أولاد الملك مسعود صاحب بلاد الشرق.
فاعتزل أيبك السلطنة، وبايع مظفر الدين بن يوسف أتسز ملك اليمن وعمره نحو عشرين سنة فبايعه في 5 جمادى الأولى، وبايعه الناس ولقبوه بالملك الأشرف، وتعين عز الدين أتابكا له، غير أن أزمة الأحكام ما برحت في يده، ولم يكن الأشرف إلا اسما بلا رسم، ومن الغريب تألف هذه السلطة المزدوجة من أحد سلالة الأسرة الأيوبية وأحد مماليكها، وأغرب من ذلك أن يخطب لهما معا.
وفي خلال ذلك نهض سلطان دمشق الجديد ناصر الدين يوسف الأيوبي للأخذ بثار الملك المعظم فدعا إليه أقرباءه أمراء الأسرة الأيوبية للتعاضد على ذلك، وتأكيدا لنجاح مسعاه استمد لويس التاسع ملك فرنسا، وكان إذ ذاك في عكا على أن يعيد له في مقابلة ذلك بيت المقدس. فأرسل ملك فرنسا إلى ناصر الدين راهبا لعقد المعاهدة، وأنفذ إلى المماليك في مصر مندوبا يطلب إليهم التعويض عن نكث المعاهدة التي عقدوها مع الصليبيين، وكان من مصلحتهم الاتفاق مع الصليبيين على سلطان دمشق فأجابوا مطاليبه، وأطلقوا عددا كبيرا من الأسرى المسيحيين بعثوا بهم إلى عكا، وأرفقوهم بمندوبين لتجديد المعاهدة. فاقترح لويس التاسع أن يضاف إليها البنود الثلاثة الأتي ذكرها، وهي:
أولا:
إرجاع رءوس الصليبيين التي كانت مغروسة على متاريس القاهرة.
ثانيا:
إرجاع جميع الأولاد الذين كانوا قد أجبروا على الإسلام.
ثالثا:
التنازل عن المائتي ألف دينار التي تعهد الصليبيون بدفعها بمقتضى معاهدة المنصورة.
فرضي المماليك بجميع ذلك، وأهدوه فوقها فيلا جميلا، وكان هذا أول فيل أرسل إلى فرنسا، ووعدوه أن يعيدوا إليه بيت المقدس إذا تغلبوا على سلطان دمشق. فاتصل أمر تلك المخابرات بسلطان دمشق فأنفذ عشرين ألف مقاتل تحول دون اتحاد الجيشين، فعثروا بالمصريين في غزة فناهضوهم حتى أرجعوهم إلى الصالحية فأنجدهم الفارس أقطاي فأعادوا السوريين على أعقابهم إلى سوريا. ثم تشدد السوريون، وعادوا بمدد كبير تحت قيادة شمس الدين لولو صاحب دمشق، ومعهم سلطان دمشق نفسه، فالتقوا بالمماليك تحت قيادة أيبك والفارس أقطاي يوم الخميس 10 ذي القعدة سنة 649ه في العباسة، وتقاتلا فانكسر المصريون أولا فتعقبهم السوريون فجعل أيبك والفارس أقطاي انهزامهما نحو سوريا، ومعهما جماعة من الفرسان فالتقيا بشمس الدين لولو في شرذمة من رجاله فقتلاه، وشتتا رجاله فاشتد أزرهما فعادا لمهاجمة سلطان دمشق، وكان في معسكره مع شرذمة قليلة من الجند. أما باقي الجيش فكانوا يتعقبون الجيوش المصرية المنهزمة، فاضطر السلطان إلى الفرار بنفسه فتبعاه فلم يدركاه، فعادا إلى مصر فرأيا الجيوش السورية قد دخلت القاهرة، وخاف أهلها ظنا منهم أن النصر لناصر الدين فبايعوه وخطبوا له. إلا أن الفقهاء لم يوافقوا على المبايعة شخصيا على أنهم لم ينجوا من انتقام أيبك. فلما علم المصريون أن النصر لهم فرحوا جدا، وأبطلوا مبايعة ناصر الدين. أما هذا فلما رأى أمر انكساره على ما تقدم لم يعد يمكنه استئناف الحرب، فصالح المصريين على أن يتخلى لهم عن مصر وغزة وبيت المقدس، وقد ربح من الجهة الثانية ما كان يرومه من فساد المعاهدة بين المصريين والصليبيين، فاتفق مع المماليك على محاربة الصليبيين. (3-1) خراب دمياط
ثم اتفق المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفا من مسير الإفرنج إليها مرة أخرى، فسيروا إليها الحجارين والفعلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين شعبان سنة 648ه ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع ويعرف بجامع الفتح، وأخصاص ابتناها بعض الفقراء للسكن في قبليها، ودعوا ذلك المكان المنشية. أما دمياط الباقية إلى هذا العهد فابتنيت على أنقاض تلك فبلغت جمالا فائقا، وقد ساعدها على ذلك حسن مركزها الطبيعي، وأهميته للتجارة، وقد بالغ المقريزي في وصفها؛ لأنها كانت في أيامه أزهى وأعمر مما هي الآن فنظم في مدحها قصيدة اقتطفنا منها هذه الأبيات:
سقى عهد دمياط وحياه من عهد
فقد زادني ذكراه وجدا على وجد
وبشنينها الريان يحكي متيما
تبدل من وصل الأحبة بالصد
فقام على رجليه في الدمع غارقا
يراعي نجوم الليل من وحشة الفقد
وظل على الأقدام تحسب أنه
لطول انتظاره من حبيب على وعد
كان التقاء النيل بالبحر إذ غدا
مليكان سارا في الجحافل من جند
وقد نزلا للحرب واحتدم اللقا
ولا طعن إلا بالمثقفة الملد
وعظم الفارس أقطاي في عيون المصريين؛ لما أظهره من البسالة والإقدام في الحروب الأخيرة فلقبه أحزابه بالملك، وتزوج أخت المنصور سلطان حماه، وأسكنها في القلعة؛ لاتصال حبل قرباها بالعائلة الملوكية، فأوجس أيبك شرا من نفوذ الفارس المذكور حتى خشي مناظرته في الملك فأخذ يسعى في التخلص منه، وكان الفارس زعيما لحزب من المماليك الصالحيين، وكانوا يطلبون له المشاركة في الملك مع الملك الأشرف، وما زالوا حتى نالوا مطلوبهم فرقى كثيرين منهم، وفي جملتهم سيف الدين قطز الذي صار بعد ذلك ملكا.
أما الفارس أقطاي فقتله أيبك وهو داخل بسراي القلعة، ثم خشي الوقوع في شر أعماله فأمر بإقفال القلعة وأبواب المدينة، ولبث يتوقع الحوادث فلم تمض برهة حتى جاء الأمراء الصالحيون تحت رئاسة بيبرس، وتجمهروا على أبواب القلعة، وطلبوا الفارس أقطاي وهم يحسبونه مأسورا، فرمى إليهم برأسه من على السور، فلما علموا بقتله ارتاعت قلوبهم فعمدوا إلى الفرار نحو باب القراطين ففتحوه، وساروا قاصدين سوريا، وبقي منهم شرذمة قبض عليهم، وأودعوا السجن.
فلما تخلص الملك المعز أيبك من طائفة الصالحين قبض على الملك الأشرف، وألقاه في سجن مظلم، فمات فيه تعسا بعد أن حكم سنة وشهرا.
وترى في شكل
11-2
صورة النقود التي ضربت على عهد الملك الأشرف بن يوسف، وعليها اسمه، واسم الإمام المستعصم بالله العباسي، والأشرف آخر من ملك مصر من الأيوبيين، وحكم بعض أفراد هذه العائلة في دمشق وحلب وحمص وميافرقين.
شكل 11-2: نقود الملك الأشرف.
إلا أن هؤلاء لم تمض عليهم عشر سنين حتى انقرضوا، ولم يبق منهم إلا فرع واحد في حماه بقي حاكما فيها قرنا بعد انقراض جميع الدولة، وكانت سلطته ضعيفة؛ لانحصارها في تلك الإمارة الصغيرة، وقد جاء من نسله أبو الفدا المؤرخ المشهور سنة 718ه، وقد نسي كثيرون منا ذكر الدولة الأيوبية وفتوحاتها العظيمة، ولكنا لم ننس أبا الفدا؛ لأنه ترك لنا ذكرا لا يمحى بتأليفه المشهور.
واستوزر أيبك شخصا من نظار الدواوين يدعى شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي أحد كتاب الأقباط، وكان قد أسلم من أيام الملك الكامل، وترقى في الكتابة، وكان طبيبا للسلطان الأيوبي الخامس مشهورا بالطب والسياسة، فلما صار وزيرا قرر على التجار وذوي اليسار وأرباب العقاقير أموالا، ورتب مكوسا وضمانات سموها حقوقا ومعاملات.
ولما استتب المقام لأيبك، وتخلص من المماليك الصالحيين وغيرهم ممن كانوا ينازعونه الملك حسب الجو قد خلا له، وما دري أن شجرة الدر لا تزال واقفة له بالمرصاد بعد أن صارت له زوجة، فكانت تحول دون كثير من مقاصده، ولم يكن يجسر على مقاومتها مع علمه باستقالتها من مهام الملك، على أنه لم يستطع احتمال هذا التقييد والسلطان في يده، وهي تمن عليه بأنها سبب وصوله إلى ذلك المنصب، فجعل يبحث عن طريقة تنقذه من هذه القيود مع علمه أن مكايدة النساء أشد وطأة من ملاقاة الرجال. فادعى أنها عقيمة لا يرجو منها نسلا فاقتنى عليها سراري أخريات فولدت له إحداهن ولدا دعاه نور الدين علي، ثم بلغها أنه ساع في التزوج بابنة بدر الدين لولو ملك الموصل، وكان قد أمسك عن زيارتها فاشتعلت حسدا؛ لعلمها أن هذه الزوجة الأخيرة من بنات الملوك فخافت أن تحل محلها من العظمة فأقرت على الكيد به.
وكانت شجرة الدر صعبة الخلق شديدة الغيرة قوية البأس سكرانة من خمرة العجب، فلما ضايقت أيبك نزل من القلعة وهو غضبان فبعثت تتلطف به حتى عاد إلى القلعة فلاقته، وقامت إليه، وقبلت يديه على غير عادة منها، وكانت قد أضمرت له السوء، فندبت له خمسة من الخدم الخصيان الروم، وقالت لهم: «إذا دخل الحمام فاقتلوه.» فلما طلع إلى القلعة اصطلح مع شجرة الدر وتراضيا، ثم دخل الحمام فلما صار هو وشجرة الدر هناك دخل عليه أولئك الخدم وبأيديهم السيوف، فقام أيبك وقبل يد شجرة الدر، واستغاث بها فقالت للخدم: اتركوه، فأغلظ عليها بعض الخدم في القول، وقال لها: «إن تركناه فلا يبقي عليك ولا علينا.» فقتلوه في الحمام خنقا، وقيل ربطوا محاشمه بوتر وجذبوه حتى مات. فلما حملوه وأخرجوه من الحمام أشاعوا أنه قد أغمي عليه في الحمام فوضعوه على فراش الحمام، وأشاعت أنه مات مصروعا، وكان أيبك ظلوما غشوما سفاكا للدماء.
ولم تجسر شجرة الدر على تعاطي الأحكام بنفسها خوفا من الإيقاع بها فجاءت بخاتم الملك إلى أميرين من كبار الأمراء، وطلبت إليهما أمام جثة زوجها أن يستلما زمام الأحكام فأبيا، وكان قتل أيبك في داخل السراي ليلا، ولم يشع الخبر في القاهرة إلا الصباح التالي. فلما علم أصحابه من المماليك بما حل به أضمروا الانتقام، وكان سن ابنه نور الدين علي 15 سنة فبايعوه، ولقبوه بالملك المنصور.
وكانت مدة أيبك في الأحكام عشر سنوات وأحد عشر شهرا شاد في خلالها بنايات عظيمة، وفي جملتها مدرسة دعاها المدرسة المعزية نسبة إليه بناها على ضفة النيل في مصر القديمة، وربط لها دخلا مخصوصا للنفقة عليها، وهو أول من أقام من ملوك الترك بقلعة الجبل. (4) سلطنة نور الدين علي بن أيبك (من سنة 655-657ه/1257-1259م)
فالملك المنصور حالما بويع قبض على قاتلة أبيه، وعهد بها إلى نساء بيته فأماتوها ضربا بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها في خندق القلعة فأكلت الكلاب نصفها، ودفن النصف الباقي قرب مدفن السيدة نفيسة.
فانتهت حياة هذين الخادعين شجرة الدر وأيبك - كما رأيت - فجوزي كل منهما بما فعل؛ لأنهما قتلا الملك المعظم. أما نور الدين علي فلم يحكم إلا مدة قصيرة تحت مناظرة وصيه شرف الدين هبة الله المتقدم ذكره.
وكان نور الدين قد استقر بالأمير سيف الدين قطز المعزي نائب السلطنة بمصر وأتابك العساكر، وكان قطز شديد البأس صعب الخلق؛ فقبض على الوزير شرف الدين هبة الله وصادره، وأخذ جميع أمواله، ثم صلبه على باب القلعة، وخلع على القاضي زين الدين يعقوب بن الزبير، واستقربه وزيرا عوضا عن هبة الله.
وفي أيام هذا السلطان بمصر هجم هولاكو التتري على مدينة بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله وخرب بغداد، ووصل الخبر إلى مصر أنه حامل على بلاد الشام ومصر فخافوا، وعقد قطز مجلسا من العلماء والقواد، وأقروا فيه أن الحالة تقتضي أن يتولى السلطنة رجل حازم. فأنزلوا نور الدين في 4 ذي القعدة سنة 657ه بعد أن حكم سنتين، وبايعوا سيف الدين قطز، وكان نور الدين طائش العقل يلعب بالحمام مع الغلمان. (5) سلطنة المظفر سيف الدين قطز (من 657-658ه/1259-1260)
وسيف الدين هذا شريف الأصل من عائلة ملوكية خلافا لسلفه فهو ابن مودود شاه ابن أخي ملك خراسان فتح التتر بلاده فتشتت أسرته، ولما تولى سلطنة مصر لقب بالملك المظفر، وحالما استوى على السلطنة قبض على نور الدين، وأمر بقتله فحاول وصيه شرف الدين المدافعة عنه فصلبه عن باب القلعة.
ثم لاح له أن دمياط بعد أن دكت أسوارها لم يبق ما يعيق مراكب العدو عن المرور في النيل؛ فأمر بردم مصب النيل هناك، وبعث بفرقة من الحجارين فمضوا، وقطعوا كثيرا من الحجارة، وألقوها فيه حتى ضاق وتعذر سير المراكب منه إلى دمياط، وهو على ذلك إلى اليوم، فإن المراكب الكبيرة لا تستطيع المرور فيه فتنقل البضائع منها إلى الجروم، والمتواتر على ألسنة البعض أن سبب ذلك وجود جبل أو رمل متجمع هناك. (5-1) محاربة التتر
وفي خلال ذلك جاء القاهرة قائد تتري ناقلا منشورا من هولاكو ملك المغول حفيد جنكيز خان، وكان التتر قد انتشروا في جميع آسيا الشمالية الشرقية، وكان هولاكو قد غزا العراقيين بجيش عظيم، واستولى على مدينتي الموصل وحلب، وقتل الخليفة المستعصم بالله كما تقدم، ونزل هولاكو على سوريا ففتح دمشق والسواحل البحرية حتى قصد مصر فبعث إليها منشورا مضمونه: من ملك الملوك شرقا وغربا القان الأعظم، ونعت فيه نفسه بألفاظ معظمة، وذكر في الكتاب شدة سطوته، وكثرة عساكره، وما جرى على أهل البلاد منه، ولا سيما ما فعله في بغداد، وما جرى على أهلها منه إلى أن قال: «يا أهل مصر، أنتم قوم ضعاف فصونوا دماءكم مني، ولا تقاتلوني أبدا فتندموا.»
فلما قرأ قطز ذلك المنشور، وعلم ما كان من أمر فتوح هذا التتري، وما هو عليه من القوة والمنعة أوجس خيفة، غير أن جيوشه كانوا قد حاربوا الجيوش الصليبية، وانتصروا عليها، ولم يزل في نفوسهم عزة الظفر وأنفة النصر فاستخفوا بقول هولاكو، وأصروا على القتال؛ فحشدهم قطز، وجهزهم بما يلزم من العدة والسلاح، واستقدم إليه قبائل العربان، وفرق فيهم وفي سائر جيشه نحوا من ستمائة ألف دينار جمعها من الضرائب التي أقامها على المصريين مما دعاه تصقيع الأملاك وزكاتها ، وأحدث على كل إنسان دينارا يؤخذ منه، وأخذ ثلث التركات الأهلية فكان يجمع منها 6000 دينار سنويا.
ثم سار من القاهرة لملاقاة التتر في غاية شعبان سنة 658ه وما كاد الجيشان يلتقيان حتى اتصل بهولاكو خبر موت أبيه منجو خان ملك التتر، فاضطر إلى العود حالا ليطالب بحقوق الوراثة. فعاد تاركا في سوريا نحوا من عشرة آلاف من نخبة فرسانه تحت قيادة نسيبه ونائبه كتبغا؛ لمحاربة قطز، فالتقيا في فلسطين في عين الجالوت فالتحم الجيشان، وحصلت بينهما واقعة كبيرة شفت عن هلاك كتبغا وكل رجاله، والقبض على ابنه، وغنم المصريون غنيمة كبيرة تكفي لإغناء كل المشرق؛ لأنها تحتوي على أثمن ما نهبه هولاكو من أغنى المدن في أثناء فتوحه.
فعاد الملك المظفر إلى القاهرة ظافرا، ولم تتم سعادته؛ لأن المنية كانت في انتظاره على الطريق، فقتله بعض رجاله الذين كانوا يترقبون فرصة لقتله، فتمكنوا من ذلك يوم السبت في 17 ذي القعدة سنة 658ه بعد أن حكم 11 شهرا و13 يوما.
وتفصيل ذلك أنه بينما كان عائدا بجيشه إلى القاهرة مر من أمامه أرنب بري، وكان مولعا بالصيد فسار على أثره في عرض الصحراء حتى أمعن فيها، ثم عاد وحده ولا صيد معه، فتقدم لملاقاته أحد أمرائه المدعو ركن الدين بيبرس البندقداري فلما دنا منه هم ليده كان يريد تقبيلها فأمسكها بإحدى يديه وطعنه بالأخرى في قلبه فسقط صريعا يخبط الأرض. فجاء باقي الأمراء، وكانوا متواطئين معه على هذه الفعلة، فرفعوا جثة سلطانهم، ودفنوها في قبر صغير قرب قبر خلف، فخشي ذوو الفقيد أن تبلغ الموسى لحاهم فتفرقوا في مصر السفلى لا يظهرون على أحد، وكان الأتابك إذ ذاك في الصالحية مع السواد الأعظم من الجيش فسار إليه قتلة قطز، وأخبروه بما فعلوا فقال لهم: «من منكم ضربه الضربة الأولى؟» فأجاب بيبرس «أنا هو» فقال له: «فاحكم مكانه.»
فبويع بيبرس للحال، ولقب بالملك القاهر، ثم تشاءم من هذا اللقب فأبدله الملك الظاهر، وأضاف إليه أبا الفتوح، وكان يلقب أيضا بالعلائي وبالبندقداري نسبة إلى سيده الذي كان يدعى علاء الدين بندقدار. (6) سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري (من سنة 658-676ه/1260-1277م)
ولما تم لبيبرس أمر السلطنة سار إلى القاهرة، واستوزر بهاء الدين بن حنا، واتخذ بلباي (بيلي بك) الخازندار، وهو من أعز أصدقائه بل هو صنيعته، وجعله نائب السلطنة، وصار صاحب الحل والعقد فيها، واستقدم من بقي من عائلة قطز فأمنهم، وضمهم إليه، وأطلق من في السجون جميعا بغير استثناء، وأكثر من العطايا لرجاله، وأبطل كثيرا من الضرائب التي كان قد ضربها سلفه؛ كتصقيع الأملاك وتقويتها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة وجباية دينار من كل إنسان وغير ذلك، وأعلن أمره هذا على لسان الخطباء في المنابر.
على أنه مع ذلك لم ينل رضاء كل الرعية. فأهل الشام شقوا عصا الطاعة، وبايعوا الأمير سنجر صاحب حلب، ولقبوه بالملك المجاهد، وعضدهم على ذلك التتر أصحاب هولاكو . فسار بيبرس حالا إلى دمشق؛ لإخماد الثورة فحارب التتر، وتغلب عليهم في 3 وقائع متوالية. فقنط الدمشقيون من المساعدة فسلموا المدينة فدخلها، وانتقم منها شر الانتقام، وما زال حتى أخضع بلاد الشام، ولما عاد إلى القاهرة أخذ في إصلاح الداخلية. (6-1) الخلفاء العباسيون بمصر
وفي سنة 659ه قدم القاهرة رجل من بغداد، قال: إنه من ذرية بني العباس، واسمه الإمام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله بن الناصر بن المستنصر. فلما بلغ الملك الظاهر قدومه خرج إلى لقائه. فلما وصل إلى المطرية تلاقى هناك هو والإمام أحمد المذكور، وكان الإمام أحمد هذا أسمر اللون، وأمه أم ولد حبشية. فلما وقعت عين الملك الظاهر عليه نزل عن فرسه، ونزل الإمام أحمد عن فرسه أيضا وتعانقا، ثم ركبا ومرا في القاهرة، ودخلا من باب النصر فزينت له القاهرة، وكان له موكب عظيم، ويوم مشهود لم يسمع بمثله. فلما وصلا إلى القلعة طلع الإمام أحمد مع السلطان إلى القلعة فأنزله السلطان في قاعة الأعمدة فأقام بها أياما.
ثم إن الملك الظاهر أراد أن يثبت نسب الإمام أحمد بأنه من ذرية بني العباس؛ لأن الخلافة كانت خالية من حين قتل الخليفة المستعصم فعقد مجلسا من القضاة والعلماء والمشايخ، وأثبتوا نسبه فأقامه خليفة في القاهرة، ولقبه بالمستنصر بالله. فأصبحت القاهرة من ذلك الحين مقر الخلفاء العباسيين، وقد ذهب نفوذهم إلا من الوجه الديني، وهو الذي كان الظاهر في حاجة إليه لتأييد سلطانه. فحالما بويع المستنصر ثبت الملك الظاهر في منصبه، ورافق نزول العباسيين في القاهرة قحط عم سائر القطر فتشاءم الناس بحلولهم. أما بيبرس فلم يأل جهدا في استجلاب الأقوات من جهات سوريا وغيرها، وتفريقها في الناس فأنقذ بلاده من ضيق عظيم.
ثم أراد بيبرس أن يسترجع بغداد للخلفاء العباسيين فأنفذ مع الخليفة المستنصر بالله جندا كبيرا؛ لإخراج التتر منها، وتسليمها للخليفة المستنصر فلاقاهم التتر في الطريق فحاربوهم، وشتتوا شملهم، وقتلوا الخليفة ولم يجلس على كرسي الخلافة إلا خمسة أشهر وعشرين يوما، فبايعوا في القاهرة الخليفة الحاكم بأمر الله. ثم ألجئ بيبرس إلى تجريدة أخرى انتقاما من فتح الدين رئيس قلعة الكرك، وسبب ذلك: أن بيبرس قبل توليه سلطنة مصر كان قد ترك امرأته عند فتح الدين، وقاية لها مما كان يقاسيه من الأسفار والعذاب، وعهد إليه رعايتها فلم يحترم هذا حرمة الدين والشرف ففتك بها بغير وجه الحق. فاتصل ذلك ببيبرس، وكان قد تولى أمور مصر فثار فيه حب الانتقام. فجرد إلى الكرك وحاصر قلعتها، وكانت منيعة الجانب طالما امتنعت على كبار الفاتحين ومنهم السلطان صلاح الدين. ثم تمكن بيبرس من القبض على فتح الدين احتيالا، وسلمه إلى امرأته فقتلته على مثل ما قتلت عليه شجرة الدر. فأمست الكرك بغير رئيس. فسلمت وصارت جزءا من مملكة مصر.
شكل 11-3: قلعة الكرك لما فتحها بيبرس.
ولما عاد بيبرس إلى القاهرة حشد جيشا كبيرا لمناهضة الصليبيين، وكانوا لا يزالون حاكمين في أماكن كثيرة من فلسطين فدارت الحرب بينهما سجالا مدة سنتين (سنة 663 و664) وانتهت باستيلاء بيبرس على قيصرية، وهو محاصر عكا ألجئ إلى المسير لمحاربة التتر، وكانوا قد استولوا على دمشق بمساعدة أهل أرمينيا، وهددوا سائر سوريا. فأغفل حصار عكا وسار فلما وصل إلى دمشق لم يجد عدوا؛ لأن هولاكو كان قد مات، وتشتت جيوشه فسار بيبرس إلى أرمينا، وكان عليها ملك مسيحي يقال له هينون فاستولى على عاصمتها سيس، وعلى سائر مدنها، وتابع فتوحه إلى الأناضول، فهاجمه ريكا خان بن هولاكو وولي عهده فأعاده على أعقابه فرجع إلى سوريا وفتح صفد وذبح أهلها. ثم رجع إلى عاصمته بعد أن فتح أيلة على البحر الأحمر. (6-2) الآداب العمومية
وقضى بيبرس سنة 665ه في القاهرة يستعد لحرب جديدة، وينظم داخليته فأبطل ضمان الحشيش، وجهاته، وأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات، وتعفية بيوت المسكرات، ومنع الحانات والخواطئ بجميع أقطار مملكة مصر والشام. فطهرت من ذلك البقاع، وعادت البلاد إلى الهدوء والرغد فقال أحد الشعراء المعاصرين:
ليس لإبليس عندنا إرب
غير بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معا
حرمتا ماؤه ومرعاه
ثم رأى أن بعض الرعية لا يزالون على ما كانوا قد اعتادوه من الفواحش فأمر بمنع النساء الخواطئ من التعرض للبغاء، ونهب الحانات التي كانت معدة لذلك، وسلب أهلها جميع ما كان لهم، ونفى بعضهم، وحبس النساء حتى يتزوجن، وكتب بجميع ذلك توقيعا قرئ في المنابر، وعلم بعد ذلك أن الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز يشرب المسكر فشنقه تحت قلعة الجبل، ولا شك أن الملك الظاهر لم يشدد في إبطال هذه المنكرات إلا لعلمه يقينا أن استعمالها يورث الفقر والذل، ويخمد الهمة، ويضعف عزة النفس، ويغضب الله.
وفي 662ه بنى الملك الظاهر دار العدل القديمة تحت القلعة، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كل اثنين وخميس، وكان ينظر في أمر المتظلمين بنفسه فإذا كان لأحد مظلمة يأتي رأسا، ويشكوها للسلطان، وهو يأمر بصرفها.
شكل 11-4
وفي سنة 666ه استأنف الحرب مع فلسطين؛ فاستولى على يافا والشقيف وطبرية وأرصوف وأنطاكية وبقراس والقرين وصافيتا ومرقية وأيباس، وختم ذلك بفتح بغداد، ثم أحب بطريقه إلى مصر أن يمر بالحج إلى مكة مع ابنه بركة خان، فمر بحلب فطرد التتر منها، ثم زار قبر إبراهيم الخليل في حبرون، وسار لزيارة بيت المقدس. ثم عاد إلى مصر، وقد أتم سياحته الجهادية والدينية معا.
وأصبح أمر الشام يهمه فاشتغل في تسهيل المواصلة بينها وبين مصر فرتب خيل البريد، فكانت أخبار البلاد الشامية ترد عليه في الجمعة مرتين، وقيل: إنه أنفق على ذلك مالا كثيرا حتى تم له ترتيبه، وكانت خيل البريد عبارة عن مراكز بين القاهرة ودمشق، وفيها خيول جيدة، وعندها رجال يعرفون بالسواقين، ولا يقدر أحد يركب خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني، وكان عند كل مركز ما يحتاج إليه المسافرون من زاد وعلف وغير ذلك.
وكانت طريق الحج من مصر إلى مكة عن طريق صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل الفسطاط إلى قوص بمصر العليا، ثم يركبون الإبل من قوص فيقطعون صحراء عيذاب إلى البحر الأحمر حيث ينزلون إلى جدة ساحل مكة، وهكذا بعودهم إلى مصر، وكانت قوافل التجار من الهند واليمن والحبشة تأتي مصر على هذه الطريق أيضا، وكانت صحراء عيذاب إذ ذاك آهلة بالسكان أمينة المسلك، وبقيت طريق الحج على مثل ذلك إلى السنة التي زار فيها السلطان الملك الظاهر مكة، وكساها، وعمل لها مفتاحا فصارت طريق الحج برا من ذلك الحين. أما التجار فما زالوا يقدمون مصر عن طريق الصحراء إلى سنة 760ه ومن ذلك الحين قلت أهمية مدينة قوص، فصارت في حالة تشبه حالتها في الوقت الحاضر، بعد أن كانت مدينة زاهرة بالتجارة والعمارة.
شكل 11-5: مسجد الخليل في حبرون.
وفي سنة 670ه سار بيبرس لمحاربة من بقي من طائفة الباطنيين، وكان هولاكو قد أهلك السواد الأعظم منهم في جهات العراق. فافتتح بيبرس قلعة الأكراد، وقتل من فيها من الباطنيين فتفرقت جموعهم، وهكذا كان انقراض دولتهم.
وفي خلال ذلك عاد التتر إلى سوريا، وحاصروا البيرة فتجند إليهم بيبرس، وسارت معه فرقة تحت قيادة الأمير قلاوون الألفي فالتقى الجيشان عند البيرة، واشتدت الحروب بين المسلمين والتتر، وانتهت بانتصار المسلمين فاستولوا على البيرة. ثم ساروا إلى أرمينيا ففتحوها، واغتنموا منها مغانم كثيرة، ثم عاد بيبرس إلى مصر ففرشوا له القاهرة بالبسط والسجاد الثمين احتفالا بعوده ظافرا، وحملت القبة والطير على رأسه، وقد قرض الباطنيين وغلب التتر.
ثم إن أبغا خان بن هولاكو خان قدم سوريا، وحاصر البيرة ثانية فلاقاه الأمير قلاوون بفرقة من الجيوش المصرية، وأرجعه على أعقابه. فسر بيبرس من بسالته، واتخذ ابنته زوجة لابنه؛ ليكون ابنه في المستقبل آمنا في حمى حميه. فأمنت سوريا بعد هذه الانتصارات، ولم تعد تخشى اغتيالا، فأنفذ بيبرس الأمير آق سنقر الفرغني سنة 674ه؛ لافتتاح بلاد النوبة فافتتح أسوان بعد أن استولى على جميع مصر العليا. (6-3) موت الملك الظاهر ومناقبه وأعماله
وفي سنة 675ه أتت الأخبار بأن التتر زحفوا على البلاد فخرج إليهم السلطان، وتوجه إلى حلب، وتقاتل مع التتر فكسرهم، وقتل منهم خلائق لا تحصى، وكان ملك التتر أبغا خان، فلما انكسر هرب فتبعه السلطان إلى نحو الأبلستين، فكانت بينهما هناك وقعة عظيمة قتل فيها من الفريقين نحو مائة ألف إنسان، فانكسر أبغا وهرب فتبعه السلطان نحو زبيد. ثم رجع السلطان من هناك إلى قيسارية، وحاصر أهلها فأرسلوا يطلبون منه الأمان فأرسل لهم الأمان على يد الأمير بيسري، فسلموا المدينة فدخلها السلطان، وكان يوم دخوله يوما مشهودا. فنزل بدار السلطنة، وصلى بها ركعتين، وحكم بين الناس، وأقام بها أياما، ثم رحل إلى دمشق وحلب سنة 576ه فتوعك، وأخذته الحمى فسقاه الحكماء مسهلا فأفرط في الإسهال، وثقل عليه المرض فرحل من حلب، وقصد الدخول إلى دمشق فمات في بعض ضياعها.
فلما مات كتم موته عن العسكر، وحمل في محفة إلى أن دخل دمشق فدفن هناك ليلا، وكان موته في يوم الخميس ثامن عشر المحرم سنة 676ه، ومات وله من العمر نحو ستين سنة، وكان ملكا عظيما جليلا مهيبا كثير الغزوات خفيف الركاب يحب السفر والحركة في الشتاء والصيف، وكان مشهورا بالفروسية في الحرب، وله إقدام وعزم في القتال، وله ثبات عند التقاء الجيوش، وكان يلقب بأبي الفتوحات؛ لكثرة الفتوح في أيامه، وكان له موكب بمصر وموكب بالشام، وكان شعاره الأسد إشارة لشجاعته وقوة بأسه، وكان كريما سخيا على الرعية باسط اليد يفرق الغنائم التي تحصل من الفتوح على الرعية ترغيبا لهم في القتال وقت الحرب، وكان محبا لجمع الأموال كثير المصادرات لأجل الغزوات والتجاريد، وينفق ذلك على العسكر، وكان حسن الوجه طويل القامة مستدير اللحية الغالب في لحيته البياض، وكان مبجلا في موكبه كفؤا للسلطنة منقادا للشريعة يحب العلماء والصالحين، ويحب فعل الخير، وله بر ومعروف وآثار أهمها رده الخلافة لبني العباس بعد أن كادت تنقطع عنهم.
شكل 11-6: أسوار أنطاكية.
وخلف من الذكور ثلاثة، وهم: السعيد محمد بركة خان وقد ملك بعده، وسلامش وهذا ملك بعده أيضا، والمسعود خضر، وترك من البنات سبعا، ومما استولى عليه من أيدي الصليبيين: قيسارية وأرصوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وبقراس والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلب، وقد ناصفهم على المرقب وبانياس وترسوس وأدنة والمصيصة وغيرها من المدن في بر الأناضول ، وصار إلى يده مما كان في يد المسلمين: دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والسلط وحمص وتدمر والرحبة وتل ناشر وصهيون وبلاطس وقلعة الكهف والقدموس والعليقة والخواني والرصافة ومصياف والقلعة والكرك والشوبك، وفتح بلاد النوبة وبرقة.
ومن أعماله المأثورة: أنه عمر الحرم النبوي وقبة الصخرة ببيت المقدس، وزاد في أوقاف الخليل، وعمر قناطر شبرامنت بالجيزة وسور الإسكندرية ومنار رشيد، وردم فم بحر دمياط ووعر طريقه، وعمر الشواني، وعمر قلعة دمشق وقلاع الصبيبة وبعلبك والسلط وصرخد وعجلون وبصرى وشيزر وحمص، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة والجامع الكبير بالحسينية، وقد جعله الفرنساويون عند مجيئهم إلى مصر قلعة، وهو البناء القديم في شارع الظاهر جعلته الحكومة مخازن للأقوات ويعرف بجامع الظاهر، وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه، وبنى هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشمون طناح، وجدد الجامع الأزهر بالقاهرة، وأعاد إليه الخطبة، وعمر بلد السعيدية من الشرقية بمصر، وبنى القصر الأبلق في دمشق، ومن آثاره في القاهرة أيضا قناطر السباع قرب ميدان الجبل والبرج الكبير في القلعة.
وكان محبا لركوب الخيل الجياد ورمي النبال، فأنشأ ميدانا دعاه ميدان القبق، ويقال له أيضا: الميدان الأسود وميدان العبد والميدان الأخضر وميدان السباق، وكان شاغلا بقعة من الأرض تمتد بين النقرة التي ينزل إليها من قلعة الجبل وبين قبة النصر التي هي تحت الجبل الأحمر، وبنى فيه مصطبة سنة 666ه للاحتفال برمي النشاب، والتمرين على الحركات العسكرية، وكان يحث الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك. فكان ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر، فلا يركب منها إلى العشاء، وهو يرمي ويحرض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، وما برح من بعده أولاده ومن بعدهم يمارسون في هذا الميدان جميع الألعاب الحربية.
وكان يقوم بنفقات جميع هذه الأعمال، وقلما يسلب الأهالي من المال فوق ما اعتادوا دفعه من الضرائب؛ لأن الغنائم التي كان يكسبها من أعدائه كانت تساعده كثيرا في النفقات.
هذه هي أعمال الملك الظاهر بيبرس قد تركت له أثرا يبقى ذكره دهورا طوالا.
وترى في شكل
11-7
صور نقود الملك الظاهر بيبرس وعليها صورة أسد.
شكل 11-7: نقود الملك الظاهر بيبرس. (7) سلطنة بركة خان بن بيبرس (من سنة 676-678ه/1277-1279م)
فلما توفي بيبرس أقر الأمراء على مبايعة ابنه البكر محمد ناصر الدين بركة خان، ولكنهم كانوا قد أجمعوا بعد المشورة طويلا على أن يكتموا وفاة بيبرس؛ لئلا يطمع فيهم العدو، فأرسلوا جثته سرا إلى دمشق، وأشاعوا هناك أنه مريض فنقلوه إلى القاهرة في محفة، ثم استقدموا الجيوش جميعها إلى مصر فقدمت، وحالما أدخلوا الجثة إلى القعلة بايعوا ابنه البكر بركة خان، ولقبوه بالملك السعيد، وأقاموا الأمير بلباي أتابكا، وكان بلباي في الأصل مملوكا ابتاعه بيبرس بثمن بخس إلا أنه ارتقى في خدمته حتى صار أمين خزائنه ونائبه كما تقدم. ثم استحق بعد طول الخدمة الصادقة الأمينة أن يكون وصيا على ابنه في مهام السلطنة.
وكان للملك السعيد ثقة كبرى في بلباي حتى إنه ألقى إليه كل مهام الدولة؛ فسعدت مصر في بادئ الرأي، لكنها ما لبثت أن تعكر كأس صفائها بوفاة ذلك الوصي الأمين الحكيم، ولم يكن الملك السعيد يثق بأحد من أمرائه ليعهد إليه مهام الأمة، وكان يظن أنهم هم الذين سعوا في قتل وصيه، ولكنه لم يتأكد ذلك فنفر منهم فوقع اختياره على آق سنقر فاتح النوبة فولاه الأتابكية، وبعد يسير خنقه في أحد أبراج الإسكندرية فتباعد الأمراء عن هذا المنصب، وأرادوا بالسلطان سوءا لكنهم شغلوا عنه بثورة الدمشقيين.
وذلك أن شرف الدين سنجر الملقب بالأشقر كان واليا على دمشق تحت رعاية بركة خان، فادعى الملك لنفسه فبايعه أهلها، ولقبوه بالملك الكامل، فأسرع بركة خان إلى دمشق، ونزل بجيشه في القصر الأبلق الذي كان قد بناه أبوه، وبعد التحري عن أسباب تلك الثورة علم أنها دسيسة من أمرائه. فلما علم هؤلاء بظهور أمرهم عادوا بمن كان على دعوتهم من المماليك إلى القاهرة، وتحصنوا فيها فتبعهم بركة خان فامتنعوا عليه، وعجز عن قهرهم لكثرتهم، فالتجأ إلى قلعة الجبل فحاصروه فيها، وشددوا عليه الحصار فسلم فانحط قدره عندهم، وهموا بقتله فمنعهم الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، لكنهم أصروا على خلعه فخلعوه في ربيع أول سنة 678ه بعد أن حكم سنتين وثلاثة أشهر فبعثوه إلى قلعة الكرك منفيا، وحبسوه فيها، ثم عادوا إلى قتله فأنفذوا إليه من يقتله، ثم بلغهم أنه سقط عن جواده ومات. (8) سلطنة سلامش بن بيبرس (من سنة 678-678ه/1279-1279م)
فبايعوا أخاه بدر الدين سلامش، وسنه سبع سنوات وبضعة أشهر، ولقبوه بالملك العادل، وأقاموا الأمير سيف الدين بن قلاوون الألفي وصيا عليه، ولم يكن هم هذا الوصي إلا خلع ذلك السلطان الرضيع، وفي رجب من تلك السنة تمكن من مراده فبعثه إلى قلعة الكرك منفيا، واستلم هو زمام الأحكام، وطلب المبايعة فبايعه الناس، ولقبوه بالملك المنصور، وهو لقب ثاني سلاطين هذه الدولة. (9) سلطنة الملك المنصور قلاون (من سنة 678-689ه/1279-1290م)
وهو من مماليك آق سنقر الكاملي، وقدمه إلى الملك الصالح فأعتقه سنة 647ه، فلما تولى السلطنة قرب أنصاره، وأنعم عليهم، واستوزر فخر الدين، وكان كاتب سره الخصوصي، وبعث الأمير طرنطاي إلى دمشق لإخماد ثورة أهلها. فسار في فرقة من الجند فلاقاه الملك الكامل، ودافع دفاعا حسنا، ولكنه ألجئ في سنة 680ه إلى التسليم فقبضوا عليه، وجاءوا به إلى القاهرة، وأودعوه سجنا مظلما، وولوا على دمشق وسائر الشام الأمير حسام الدين لاجين.
وفي سنة 681ه عاد التتر إلى الشام بجيشين: الواحد تحت قيادة أبغا خان، والآخر مؤلف من ثمانين ألف فارس تحت قيادة أخيه منجوتيمور (منكوتمر) فحاربهم المصريون، وفازوا بهم، وقتلوا منجوتيمور، وفر أبغا خان إلى حمدان فسمه أخوه الثالث تيكودار أوغلان، وتولى الحكم بعده، ثم اعتنق الإسلام ولقب بأحمد خان، وكان إسلامه وسيلة لحقن الدماء؛ لأنه خابر قلاون مخابرة سلمية، وتعاهدا على حفظ الولاء، وما زال ذلك مرعيا إلى ما بعد قتل أحمد خان وتولية أرغون مكانه.
فكانت مصر في خلال ذلك مطمئنة في خارجيتها، فنشأت القلاقل في داخليتها بسبب تمرد بعض العامة. فغضب السلطان غضبا أعمى بصره، وأمر مماليكه أن يضعوا السيف فيهم، ولم يعد يميز المجرم من البريء، فساق الجميع بعصا واحدة، وأعمل فيهم السيف ثلاثة أيام متوالية حتى غصت الأسواق بجثثهم رجالا ونساء وأولادا. فجاء العلماء إلى السلطان، وأخذوا يخففون من غيظه، ويبينون له وجه عسفه. فانتبه لما جاءه من الاستبداد الفاحش فندم ندما لا مزيد عليه، وتكفيرا لذلك أمر ببناء البنايات والتكايا رحمة بالمساكين وذوي الأسقام، ومن أجل ذلك أيضا بنى المستشفى الشهير بالبيمارستان المنصوري بخط بين القصرين (في شارع النحاسين) وكان في الأصل قاعة لست الملك بنت العزيز بالله، ولها تاريخ ذكره المقريزي في صفحة 406 ج2. (9-1) ملابس المماليك
وكان المماليك إلى ذلك الحين يلسبون لباس الزينة بما يناسب جمالهم، كانت كلوتاتهم (للرأس) من الصوف الأزرق الغميض، وهي مضربة عريضة بغير شاش، وكانوا يربون ذوائب من الشعر خلفهم يجعلونها في أكياس حرير أحمر أو أصفر، وكانوا يشدون في أوساطهم بنودا بعلبكية عوضا عن الحوائص، وكانت خفافهم برغالي أسود، وكانوا يشدون فوق قماشهم إبزيم جلد وفيه حلق نحاس، وفي ذلك الإبزيم ملعقة من الخشب كبيرة وسكين كبيرة، وكانت لهم مناديل من الخام قدر فوطة كبيرة لمسح أيديهم. فلما تولى الملك المنصور قلاون أمر العسكر أن يغيروا هذه الملابس الشنيعة، ويدخلوا في الهيئة المطبوعة، وكانت خلع المقدمين من العنتابي فأمر لهم بالخلع المخمل الأحمر والأخضر بالفرو والسمور. ثم سار إلى حصن مرقد فحاصره 33 يوما فسلم، وفي سنة 684ه افتتح قلعة الكرك، وقبض على سلامش؛ لأنه كان يحاول الاستقلال عن مصر فقاده إلى القاهرة، وأودعه سجنا مظلما مكث فيه إلى ما بعد وفاة قلاون. (9-2) موت قلاون وآثاره
ولما اطمأن باله في داخليته عكف على تنظيم الوزارة، وما زال يعزل ويولي حتى أقر على وزارة شمس الدين سنة 685ه فبقي على دستها زمنا طويلا. ثم أوصى قلاون بولاية العهد لابنه علي، ولقبه بالملك الصالح (الثالث) وأخذ منذ ذاك الحين في تدريبه على الأحكام وإدارتها على أن يستخلفه عليها إذا طرأ عليه ما يستدعي غيابه عن مصر في حرب أو غيرها فلم يصح تقديره؛ لأن عليا أصيب بحمى شديدة ذهبت بحياته سنة 687ه فحزن قلاون حزنا شديدا، وكثرت هواجسه حتى كره الأحكام. ثم رأى أن يجرد حملة؛ لافتتاح طرابلس الشام تسلية له عن هواجسه، وكانت في حوزة الصليبيين منذ مائة وثمانين سنة لم ينازعهم أحد عليها. فسار إليها قلاون وافتتحها، وذبح من فيها وأخربها، ثم أعاد بناءها، وجعل عليها حامية.
ولما عاد إلى القاهرة جاءه وفد من قبل ألفونس ملك أرغون عقدوا معه معاهدة في 13 ربيع أول. غير أن ذلك لم يكن ليشغله عن أحزانه، وما زال كئيبا حتى قضى يوم السبت في 6 ذي القعدة فاحتفل بجنازته احتفالا حضره جمع غفير من جهادية وملكية، وشيعوه إلى البيمارستان حيث واروه التراب، ولا يزال مقامه هناك إلى هذا العهد، وكانت مدة حكمه 11 سنة و3 أشهر و6 أيام.
شكل 11-8: بقايا البيمارستان المنصوري.
ومن آثاره الباقية إلى هذا اليوم جامعه الشهير ومقامه، وكلاهما داخلان في بناء البيمارستان الذي يشاهده المار في شارع النحاسين شمالا بعد أن يتجاوز خان الخليلي، ولا تزال هذه الأبنية قويمة العماد تتجلى فيها العظمة والقوة إلا البيمارستان، فإنه أصبح أقرب إلى الأثر من العين، وقد زرت مقام هذا السلطان فرأيت فيه كما رأيت في غيره من أمثاله جماعات من النساء والأطفال هم في الغالب من ذوي الأمراض قد جاءوا يطلبون الشفاء، وهم يأتون غالبا في أيام السبت، ولهم في ذلك أساليب مختلفة. فرأيت بعضهم يضع الطفل المريض تحت المحراب، ويجلس مصليا متضرعا، وآخر يأتي بقطعة من الليمون الحامض يمرح بها جدار المحراب أو ما يقاربه، ثم يلحسه بلسانه طلبا للشفاء، ورأيت آخرين يفعلون غير ذلك.
وكان المنصور قلاون حسن الشكل ربع القامة دري اللون، وكان قليل الكلام بالعربية، وكان شجاعا بطلا مقداما في الحرب مغرما بمشترى المماليك حتى قيل إنه تكامل عنده اثنا عشر ألف مملوك، وقيل سبعة آلاف مملوك، ومما يدل على علو همته وحسن اعتقاده عمارة البيمارستان المذكور.
وقد كان قلاون سببا لإخراج السلطنة من نسله كما كان الملك الصالح الأيوبي باستثكاره من المماليك الشراكسة حتى جمع منهم نحوا من 12 ألفا جعل منهم بطانته، وكان يلقب بعضهم بالألفي أي المبتاع بألف دينار، وبعضهم بأبي المعالي، وغير ذلك.
وترى في شكل
11-9
صورة نقود الملك المنصور قلاون مضروبة في حلب.
شكل 11-9: نقود الملك المنصور قلاوون. (10) سلطنة خليل بن قلاون ثم الملك القاهر بيدرا (من سنة 689-693ه/1290-1293م)
وتولى بعده على سلطنة مصر ابنه البكر صلاح الدين خليل، ولقب بالملك الأشرف فاستوزر علم الدين سنجر، وجرد للجهاد على الصليبيين، فسار في سنة 690ه حتى أتى عكا فحاصرها، وكانت الحصن الوحيد الذي بقي لهم فحصنوه تحصين اليأس، لكنه لم يمتنع على جيوش المسلمين فهدموه، ودخلوا المدينة، وأمعنوا فيها قتلا ونهبا، وفي سنة 691ه عاد إلى القاهرة، وأخرج سلامش منفيا إلى القسطنطينية؛ لأنه كان سببا للقلاقل. ثم سار إلى أرمينيا وفتح أرضروم فذاع صيته حتى أرهب أعداءه فعاد إلى القاهرة؛ ليستريح من الأسفار ففاجأته المنية على فراشه، وسبب موته: أن إحدى نسائه تواطأت مع مملوك له يدعى بيدرا فقتلاه بخنجر في جوفه في شهر محرم سنة 693ه بعد أن حكم ثلاث سنوات وشهرين وأربعة أيام.
وإلى جهاركس الخليلي أحد المنسوبين إليه ينسب الخان المشهور بخان الخليلي في السكة الجديدة بالقاهرة، وكان في مكانه قبل بنائه مدافن الخلفاء الفاطميين فبنى على أنقاضها، وأضاف الغوري إلى بنائه في القسم العلوي كما يفهم ذلك مما هو مكتوب فوق مدخله، وفي الخان تباع الآن جميع أنواع الأقمشة السورية والهندية، وما شاكل من طنافس ومطرزات وأوان نحاسية وغيرها.
ومن آثاره البنائية قاعة الأشرفية التي بقلعة الجبل والمدرسة التي بالقرب من مزار السيدة نفيسة.
وبويع بعده بيدرا، ولقب بالملك القاهر، إلا أنه لم يحكم إلا يوما واحدا، ثم قتله المماليك أخذا بثأر سلطانهم السابق، وبايعوا الملك الأشرف المدعو محمد بن قلاوون وعمره 9 سنوات، ولقب بالملك الناصر. (11) سلطنة الملك الناصر بن قلاوون (أولا) (من سنة 693-694ه/1293-1294م)
وسلطنة هذا الملك أكثر أهمية من سلطنات سلفائه؛ لكثرة ما حصل فيها من التقلبات السياسية والثورات المتعددة، ونظرا لصغر سنه أقاموا له وصيا يدعى زين الدين كتبغا الملقب بالمنصوري؛ لأنه كان من مماليك الملك المنصور قلاون. فما استتبت له الوصاية حتى تاقت نفسه إلى السلطة، وكان معه وزير آخر هو علم الدين سنجر، وكانت تحدثه نفسه بمثل ذلك أيضا فاختلفا وتخاصما، وانتهت المخاصمة بمقتل سنجر، ولما خلا الجو لكتبغا، ولم يعد من ينازعه عمد إلى الملك الناصر فخلعه، وتولى مكانه سلطانا على مصر، ونفاه إلى الكرك، ولم يحكم هذه المرة إلا سنة واحدة. (12) سلطنة الملك العادل كتبغا (من سنة 694-696ه/1294-1296م)
وفي شهر محرم سنة 694ه بويع كتبغا، ولقب بالملك العادل، وهو اللقب الذي لقب به قبله سلامش بن بيبرس الأول، واستوزر فخر الدين وزير قلاون، ولما كان هذا الاختلاس داعيا لتراكم المصائب على مصر، وتداخل الأجانب فيها فداهمها الطاعون، ثم القحط فأهلك جزءا كبيرا من أهلها، ثم جاءت الحرب تتمة لهذه الضربات.
وذلك أن قبيلة المغول التي كانت تحت قيادة بيدو بن طرغاي بن هولاكو أصبحت بعد وفاته تحت قيادة الملك غازان محمود بن خربنده بن إيغاني، فتخوفت منه طائفة من رجاله عرفوا باسم الأويراتية، وفروا من بلاده إلى نواحي بغداد. فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هناك، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنونه في قطع الفرات؛ ليعبروا إلى ممالك الشام فأذن لهم، وعبروا الفرات إلى مدينة بهنا فأكرمهم نائبها، وقام لهم بما ينبغي من العلوفة والضيافة، فاتصل ذلك بالملك العادل زين الدين كتبغا، فاستشار الأمراء في ما يفعل بهم، فاتفق الرأي على استقدام أكابرهم إلى الديار المصرية، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام، فجيء بثلاثمائة من أكابرهم إلى القاهرة، وفرق الباقون بالبقاع العزيزية وببلاد الساحل، ولما قرب الجماعة إلى القاهرة خرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للفرجة عليهم. فكان لدخولهم يوم عظيم فساروا إلى قلعة الجبل فأنعم السلطان على مقدمهم طرغاي بإمرة طبلخانة، وأجرى عليهم الرتب وأنزلهم بالحسينية، وكانوا على غير الدين الإسلامي فشق ذلك على الناس، وبلوا مع ذلك منهم بأنواع البلاء؛ لسوء أخلاقهم، ونفرة نفوسهم، وشدة جبروتهم، وكان إذ ذاك في مصر والقاهرة غلاء عظيم فتضاعفت المضرة، واشتد الأمر على الناس، وقال في ذلك شمس الدين محمد بن دينار:
ربنا اكشف عنا العذاب فإنا
قد تلفنا في الدولة المغلية
جاءنا المغل والغلا فانصلقنا
وانطبخنا في الدولة المغلية
وفي أول رمضان سنة 695ه لم يصم أحد من الأويراتية فأعلن السلطان بذلك فأبى أن يكرههم على الإسلام، ومنع من معارضتهم، ونهى أن يشوش عليهم أحد، وكان مراده أن يجعلهم عونا له، فبالغ في إكرامهم؛ فشق ذلك على أمراء الدولة، وخشوا إيقاعه بهم؛ لأن الأويراتية كانوا من مواطني كتبغا، وكانوا مع ذلك جميلي الصورة فافتتن بهم الأمراء، وتنافسوا فيهم، وبالغوا في تقربهم حتى بعثوا إلى البلاد الشامية استجلبوا طائفة كبيرة منهم فتكاثر نسلهم في القاهرة، واشتد التحاسد والتشاجر بسببهم بين أهل الدولة، حتى آل الأمر بسببهم وبأسباب أخرى إلى خلع السلطان الملك العادل كتبغا، وذلك في صفر سنة 696ه. (13) سلطنة الملك المنصور لاجين (من سنة 696-698ه/1296-1399م)
وبويع حسام الدين لاجين المنصوري، ولقب بالملك المنصور كما كان لقب سيده قلاوون، فأذن لكتبغا أن يخرج إلى صرخد في سوريا، وقبض على طرغاي مقدم الأويراتية، وعلى جماعة من أكابرهم، وبعث بهم إلى الإسكندرية فسجنهم بها. ثم قتلهم وفرق جميع الأويراتية على الأمراء فاستخدموهم، وجعلوهم من جندهم، فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن، وما برحوا أيضا يوصفون بالزعارة والشجاعة، وكان يقال لهم: البدورة، فيقال: البدر فلان، والبدر فلان، وكانوا يعانون لباس الفتوة، وحمل السلاح، ويؤثر عنهم حكايات كثيرة، وكانت الحسينية قد فاقت عمارتها على سائر أخطاط مصر والقاهرة. (13-1) إقطاعات القاهرة
وكانت أرض مصر 24 قيراطا يختص السلطان منها بأربعة، والأجناد بعشرة، وكان الأمراء يأخذون كثيرا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شيء، وكان يصير ذلك الإقطاع في دواوين الأمراء، ويحتمي بها قطاع الطريق، وتثور بها الفتن، وتمنع منها الحقوق الديوانية، وتصير طعمة لأعوان الأمراء ومستخدميهم، ومضرة على أهل البلاد التي تجاورها.
فعندما تولى الملك المنصور لاجين راك البلاد ورد تلك الإقطاعات على أربابها ، وأخرجها بأسرها من دواوين الأمراء، وجعل للأمراء والأجناد أحد عشر قيراطا، وأفرد تسعة قراريط؛ ليخدم بها العسكر أو يقطعم إياها. ثم رتب أوراقا بتكفية الأمراء والأجناد بعشرة قراريط، واقتصد قيراطا لزيادة ما عساه يطلب زيادة لقلة متحصل إقطاعه، وأفرد لبطانته عدة أعمال جليلة. فتنكرت قلوب الأمراء، وحقدوا عليه، وما انفكوا حتى قتلوه في 11 ربيع آخر سنة 698ه فبقي كرسي السلطنة خاليا 41 يوما تمكن في خلالها الأمير سيف الدين طقجي من دعوة الناس إلى حزبه فالتف عليه جماعة كبيرة فبايعوه، ولقبوه بالملك القاهر كما لقب بيدرا قبله، وكان حظه من الملك كحظ سميه فلم يحكم إلا يوما واحدا، ثم ذبحه المماليك. (14) سلطنة الملك الناصر بن قلاون (ثانية) (من سنة 698-708ه/1299-1308م)
ففكر المماليك في انتخاب سلطان يحكم فيهم فأقروا على استقدام الملك الناصر بن قلاون من منفاه، وقد بلغ الخامسة عشرة من العمر ليبايعوه. فبعثوا إليه وفدا يبلغه ذلك القرار فقدموا إليه في الكرك، وكانت والدته عنده فلم تسمح بسفره معهم لئلا يكون تحت أقوالهم مقاصد خطرة. فألحوا عليها، وأكدوا لها صدقهم، ثم جثوا أمام الملك الناصر وبايعوه، فتأكدت إخلاصهم، فأذنت بمسيره معهم، فساروا حتى أتوا القاهرة، فحاول بعض دعاة لاجين الإيقاع بحياة الملك الناصر لكنهم هددوا فبايعوه.
وكان غازان خان ملك التتر قد عاد ثانية إلى افتتاح سوريا فجرد إليه الملك الناصر سنة 700ه جيشا جرارا، وأسرع حتى التقى به في حمص فتقهقر الناصر، ثم جمع رجاله، وأمدهم بالعدة والرجال، واستأنف الحرب، وكان التتر قد حسبوا أن الفوز تقرر لهم فوضعوا أيديهم على سوريا، وضربوا عليها الضرائب، وأخذوا في إدارة أحكامها، وبينما هم في ذلك وصل الملك الناصر بجيشه إلى مرج الصفر بقرب دمشق فخرج إليهم التتر، وانتشب القتال بين الفريقين؛ فغلب المصريون في بادئ الأمر، ثم ارتدوا على صفوف التتر كالسيل الهاطل بعزم أشد من الجبال ففرقوا جموعهم، وأثخنوا فيهم ضربا بالسيف حتى تطهرت الشام منهم، فعاد الملك الناصر إلى القاهرة ظافرا، ودخلها من باب النصر باحتفال عظيم.
ولما لم يبق ما يشغله في سوريا عكف على إخضاع قبائل العربان الذين شقوا عصا الطاعة في مصر العليا، فجرد إليهم فدانوا له، واغتنم منهم خمسة آلاف فرس، ومائة ألف رأس غنم، وثلاثين ألف من المواشي الكبيرة كالبقر والجاموس، وعددا وافرا من الأسلحة. فلما كانت سنة 702ه داهمت الشرق زلزلة قوية أخربت قسما عظيما من سوريا ومصر، وأخرجت المياه من الآبار إلى سطح الأرض، وطافت الأبحر على اليابسة فأغرقت خلقا كثيرا، والظاهر أن هذا الحادث الطبيعي أثر في أخلاق المصريين فانقسموا أحزابا يضاد بعضها بعضا، ثم عادوا فاتحدوا على خلع الناصر فرأى أنه لا يقوى على دفعهم، وخاف على حياته فترك القاهرة مظهرا للحج، وسار مع بطانته إلى الكرك، وكان له فيها ثروة تبلغ 27 ألف دينار ومليون وسبعمائة ألف درهم فاستولى عليها، وحصن المدينة، ثم بعث بالختم السلطاني إلى المماليك مصرحا بتنازله، ومفوضا لهم تولية من أرادوا. (15) سلطنة بيبرس الجاشنكير (من سنة 708-709ه/1308-1309م)
فوصل كتابه إليهم في 25 رمضان سنة 708ه فبايعوا الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير (بيبرس الثاني) ولقبوه بالملك المظفر، وهو من مماليك الملك المنصور قلاوون، ومما يؤكد ذلك أنهم وجدوا بين أسلحته سيفا منقوشا عليه اسمه مع لقب «المنصوري والسيفي» كما ترى في شكل
11-10 .
شكل 11-10: اسم بيبرس على سيفه.
وفي أواخر هذه السنة قدم الصليبيون بموافقة صاحب قبرس؛ لغزو دمياط بحرا، فاتفق الأمراء في القاهرة على إنشاء جسر يمتد من القاهرة إلى دمياط خوفا من قدوم الصليبيين بحرا في أيام الفيضان، فيتعذر الوصول إلى دمياط، فكتبوا بذلك إلى العمال أن يخرجوا بالرجال والأبقار؛ لإتمام ذلك، فاجتمع ستمائة رأس بقر و30 ألف رجل، وباشروا العمل، وأتموه في شهر واحد. فكان طوله من دمياط إلى قليوب، وعرضه أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله تمشي عليه ستة رءوس من الخيل صفا واحدا، ومن آثاره في القاهرة جامعه المعروف بجامع جاشنكير في الجمالية مبني على مثال جامع السلطان حسن، ولا يزال مسجدا إلى هذه الغاية.
ثم ندم الملك الناصر لاستقالته، وتخليه عن مقاليد الأعمال لأحد مماليكه، فجعل يترقب فرصة لتسلق العرش ثالثة، وفي شهر شعبان من سنة 709ه برح الكرك مستخلفا عليها أرغون أحد مماليكه المقربين، وجاء دمشق فبايعه أمرؤاها فجند إلى مصر ومعه رجال عديدون، وكان الأمير برلك أحد زعماء المماليك قد نبذ طاعة بيبرس ومعه كثيرون من نخبة رجاله فتشجع الناصر وقدم القاهرة. أما بيبرس فخاف ولم ير سبيلا لنجاته إلا بالتنازل فاستقال، وأخذ معه مبلغا مقداره 300 ألف دينار، وكثيرا من الجمال والخيل، وخرج إلى مصر العليا طامعا في الاستيلاء عليها فلاقاه خارج القاهرة سرب من الأسافل أوسعوه شتما ورجما فرشقهم بما كان معه من النقود، وسار حتى جاء أخميم فنزل فيها. (16) سلطنة الملك الناصر بن قلاون (ثالثة) (من سنة 709-741ه/1309-1341م)
وفي غد خروج بيبرس من القاهرة دخلها الملك الناصر باحتفال عظيم، وهي المرة الثالثة لتوليه ، وكان ذلك في يوم عيد رمضان فزاد العيد بهجة، وبويع بالسلطة، ولبس خلعة السلطنة، وهي جبة سوداء وعمامة سوداء بعذبة زركش وسيف بداوي. فجلس على سرير الملك، وجميع الأمراء من كبير وصغير قبلوا الأرض بين يديه وهو جالس في الإيوان الأشرفي. ثم خلع على سائر الأمراء والنواب الذين حضروا معه خلع الاستمرار، وخلع على الخليفة المستكفي بالله سليمان، والقضاة الأربع وأرباب الدولة من أصحاب الوظائف، ثم تتبع الهاربين وقبض عليهم، وجردهم مما أخذوه.
وفي جملة الذين قتلهم الأمير سلار النائب، وضبط أمواله سنة 710ه فكان في جملتها صناديق إفرنجية مصفحة بنحاس فيها فصوص ياقوت أحمر بهرمان رطلان، وفصوص بلخش رطلان ونصف، وفصوص زمرد بابي عشرون رطلا، وفصوص الماس، وعين الهر ثلثمائة قطعة، ولؤلؤ كبير مدور كل حبة وزن مثقال مائة وخمسون حبة، ووجد عنده صناديق فيها ذهب عين مائتا ألف دينار، ومن الفضة أربعمائة ألف درهم وواحد وسبعون ألف درهم.
وفي يوم الاثنين سابع عشر وجد له من الذهب العين خمسة وخمسون ألف دينار ومن الفضة مليون درهم، ومن الفصوص المختلفة رطلان، ووجد له مصاغ من ذهب ما بين خلاخل وأساور وزن أربعة قناطير مصرية، ووجد عنده طاسات فضة وأطباق وأهوان ذهب وطشوت فضة ستة قناطير.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر وجد له من الذهب العين خمسة وأربعون ألف دينار، ومن الفضة ثلثمائة ألف وثلاثون ألف درهم، ووجد عنده طلعات فضة للصناجق، وقطريات فضة ثلاثة قناطير ... وغير ذلك شيء كثير ذكره ابن إياس في تاريخه مفصلا مما يدهش لكثرته.
وكان سن الملك الناصر لما تولى للمرة الثالثة 25 سنة صرف 16 منها في مقاساة الأهوال حتى عرف كيف تؤكل الكتف، وكيف يجب أن ترسخ قدمه في الملك، فكان ذلك بمثابة الأمثولة له، فمكث على دست السلطنة هذه المرة حتى توفي أي مدة 33 سنة.
وكان النصارى إلى أيام هذا الملك يقيمون احتفالا سنويا في 8 بشنس في ناحية شبرا من ضواحي القاهرة، يسمونه: احتفال عيد الشهيد، زعما منهم أن النيل لا يفي إلا إذا ألقوا فيه تابوتا من خشب فيه أصبع من أصابع آبائهم المائتين. فكانوا يجتمعون من سائر القرى أفواجا على اختلاف الدرجات والنزعات، ويكثرون بسبب ذلك من الغناء وشرب المسكر. فكانوا ينفقون مبالغ فاحشة في هذا السبيل، وكان فلاحو شبرا يركنون في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في ذلك العيد. فأمر الملك الناصر بإبطال هذه العادة.
وأبطل كثيرا من الضرائب الظالمة كزكاة الدولة، وهو ما كان يؤخذ من الرجل عن زكاة ماله أبدا ولو عدم منه، وإذا مات يؤخذ من ورثته، وأبطل ما كان يجبى من أهل القاهرة وضواحيها إذا حضر مبشر بفتح حصن أو نحوه فإنهم كانوا يأخذون من الناس كل واحد على قدر طاقته، وكان يجتمع من ذلك مال كثير، وأبطل ما كان يجبى من أهل الذمة، وهو دينار سوى الجالية برسم نفقة الأجناد في كل سنة، وكانت العادة إذا كان وفاء النيل أن يجبوا من التجار والباعة دينارا من كل واحد قياما باحتفال كانوا يقيمونه عند المقياس يكثرون فيه من الشوي والحلوى والفاكهة فأبطل الجباية، وأمر بصرف ذلك من بيت المال. (16-1) أعماله
أما أعماله فأكثرها بناء وترميم: فقد بنى في سنة 717ه جسرا بين بولاق وميت شيرج؛ لحجز مياه النيل عند الفيضان ، وكانت الأرض واطية، ولم يكن فيها شيء من البناء، فإذا ارتفع النيل جرى على مسافة قصيرة من المقس (ثمن الأزبكية) فلما بنى الجسر كف الماء إلا يسيرا، فتكون هناك جزيرة دعوها جزيرة بولاق فأقيمت فيها المساكن، ثم اتصلت بالبر الحقيقي فأصبحت جزءا منه، فاتخذوها مرسى للسفن الواردة إلى مصر، ولا تزال كذلك إلى اليوم، وهذا ما يعبر عنه الآن بثمن بولاق.
ومن آثاره البنائية جامعه المسمى الجامع الجديد عند موردة الخلفاء، ويقال: إنه نقل حجارته من صنم عند قصر الشمع اسمه السرية عمل منه قواعد للأعمدة الكبار، وعمر القصر الأبلق بالقلعة، وجر الماء إلى قلعة القاهرة سنة 718ه في مجراة على قناطر مبنية بالحجر، وركز للمياه آبارا، وجعل عليها سواقي نقالة من عدة أماكن، وهي الباقية إلى الآن تعرف بالسبع سواقي عند فم الخليج، وتمتد منها نحو القلعة قناطر تفصل بين القاهرة ومصر القديمة، وعمر الحوش الكبير في القلعة زرع فيه بستانا نقل إليه الأشجار من الشام وغيرها، وبنى قناطر عديدة في أماكن مختلفة والبركة الناصرية، وكان في القلعة إيوان يسمى الإيوان الأشرفي فهدمه وبناه، وعقد فوقه قبة عظيمة، وكان يعمل فيه المواكب العظيمة، والقصر الكبير عند البركة الناصرية، وعمل باب الكعبة من الخشب السنط الأحمر المصفح بالفضة.
شكل 11-11: مجراة الماء والسبع سقايات.
وكانت مدة حكم الناصر هذه المرة كلها سكينة وسلاما خارجا وداخلا، ولم يخرج من مصر كل هذه المدة إلا مرتين؛ لزيارة الحرمين، ولم يتخابر مع دولة أخرى إلا التتر، وذلك بشأن تزوجه بابنة أزبك خان سنة 720ه فكان معتكفا بكليته إلى ترقية شأن البلاد، فأقام فيها - ولا سيما في القاهرة - مشروعات كلية الأهمية منها نزح الخليج المدعو باسمه «الخليج الناصري» سنة 727ه وقد أنشأ سنة 728ه سبعة جسور، وفي السنة التالية أنشأ مرصدا في الميدان، وشاد قصرا على أنقاض قصر الأشرف، فانتهى منه في سنة 734ه وأقام جسور شيبين سنة 735ه، وابتنى - عدا عن الجامع الناصري المتقدم ذكره - جامعا آخر بجانب جامع أبيه في شارع النحاسين يشاهد فيه عند الدخول إليه أعمدة ملتفة ، يقال: إن الملك الأشرف بن قلاون جاء بها من عكا تذكارا للظفر، وهناك كتابة يقول فيها: إن الذي بنى ذلك المشهد هو السلطان محمد بن الملك المنصور قلاون الصالحي سنة 698ه والمقريزي يقول: إن بناءه تم سنة 703ه وأن الملك العادل كتبغا هو الذي وضع أساسه أيام السلطنة، وشاد الناصر دارا كبيرة دعاها دار العدل، وأنشا عيونا كثيرة، ومدارس عالية متعددة.
ومن أعماله الحميدة: أنه أبطل جميع الضرائب الظالمة التي كانت تؤخذ على ما يباع ويشترى من حيوانات ونبات وعقار فأحبته الرعية، وأجمعوا على طاعته. فاستتبت الراحة، وعمر الصعيد على وجه خاص، ولم يشب الراحة إلا تنازع الوزراء على منصب الوزارة فألغاه حسما للمشاكل.
وفي سنة 740ه توفي ابنه أنوك فحزن عليه حزنا شديدا أورثه مرضا رافقه حتى الموت،فتوفي الناصر في 21 ذي الحجة سنة 741ه وعمره 75 سنة، ومدة حكمه 44 سنة وبضعة أشهر عن ثمانية أولاد ذكور تناوبوا الملك بعده الواحد بعد الآخر، إلا أن تنصيبهم وخلعهم كانا منوطين بأحزاب متضادة لا يستقرون على حال. فكانت مدات حكمهم قصيرة جدا.
وتزايدت فخامة ملك ابن قلاوون في آخر حكمه، وكثرت مماليكه حتى صار راتبه وراتب مماليكه كل يوم من اللحم الضاني ستة وثلاثين ألف رطل، وبالغ في مشترى المماليك حتى قيل بلغت مماليكه اثني عشر ألف مملوك، وهو أول من اتخذ الشاش والقماش للعسكر والأقبية المفتوحة، واتخذ الطرز الذهب، والحوائص الذهب، والسيوف المسقطة بالذهب والأقبية القاقم، ورتب المواكب في القصر ترتيبا حسنا، ورتب شرب السكر بعد السماط في القصر والأمراء مجتمعون، ورتب وقوف الأمراء في المواكب على قدر منازلهم، وكذلك أرباب الوظائف من المتنعمين، وقد طالت أيامه في السلطنة بخلاف من تقدمه من الملوك، وصفا له الوقت، وصار أكثر الأمراء والنواب مماليكه أو مماليك والده قلاون، ولا يعلم لأحد من الملوك آثار مثله ومثل مماليكه، حتى قيل: قد تزايدت في أيامه الديار المصرية، والبلاد الشامية في العمائر مقدار النصف من جوامع، وقناطر، وجسور، وغير ذلك من العمائر والإنشاء.
وترى في الصورة
11-12
نقود الملك الناصر بن قلاون النحاسية.
شكل 11-12: نقود الملك الناصر بن قلاوون. (17) سلطنة أولاد الناصر وهم أبو بكر وكجك وأحمد وإسماعيل وشعبان وحاجي وحسن وصلاح الدين (من سنة 741-762ه/1341-1362م)
فأول من تولى بعد الملك الناصر ابنه البكر سيف الدين أبو بكر، ولقب بالملك المنصور (الرابع) وبعد أربعين يوما عزل ونفي إلى قوص في مصر العليا، وتوفي سنة 742ه وفي يوم خلعه سطا المماليك على نساء أبيه، وأهانوهن، ونهبوا متاعهن. فبويع أخوه علاء الدين كجك، وله من العمر ست سنوات فقط، ولقب بالملك الأشرف.
وبعد خمسة أشهر أي في رمضان من تلك السنة خلع الأشرف، وسجن في قلعة القاهرة فتوفي هناك. فبويع أخوه شهاب الدين أحمد، وكان متغيبا في الكرك فاستقدم، وبويع ولقب بالملك الناصر (الثاني) وفي 12 محرم سنة 743ه أعيد إلى الكرك منفاه الأول. فبويع أخوه عماد الدين إسماعيل، ولقب بالملك الصالح، وهذا بقي على كرسي السلطنة أكثر قليلا من إخوته السابقين أي ثلاث سنوات وشهرين وبضعة أيام، وأهم ما حصل في أيامه أنه أعاد منصب الوزارة إلى حكمه سنة 744ه وكان قد ألغاه أبوه كما رأيت، وأنه قتل أخاه شهاب الدين أحمد سنة 746ه وكان منفيا في الكرك، ثم انتهت سلطته بموته في 4 ربيع آخر سنة 746ه.
فبويع أخوه الخامس زين الدين شعبان، ولقب بالملك الكامل، ولكنه لم يكن اسما على مسمى فأبغضته الرعية، وهجاه الشعراء، ومكث حاكما سنة وبضعة أشهر، وفي جمادى الأول سنة 747ه عزل. فبويع أخوه السادس زين الدين حاجي، ولقب بالملك المظفر (الثالث) وكان أكثر استبدادا من سلفه، فلم تطل مدة حكمه أكثر من سنة وثلاثة أشهر فذبح في 12 رمضان سنة 748ه، فبويع أخوه السابع ناصر الدين حسن، ولقب بالملك الناصر (الثالث) وقد كان من سيره في الملك ما كان لأبيه، فحكم ثلاث سنوات وعشرة أشهر بمساعدة نائبه الأمير الطمش، وخلع في غرة رجب سنة 752ه وسجن في قلعة القاهرة. فبويع أخوه الثامن صالح صلاح الدين، ولقب بالملك الصالح، وكان على وزارته الأمير شيخو العمري، وإلى هذا الأمير ينسب الجامع المعروف بجامع شيخون أو شيخو في الصليبة غربي الرميلة، ويقابله خانقاه، وبقي الصالح على دست السلطنة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر و14 يوما.
وفي سنة 754ه دهم القطر طاعون، وانتشر حتى عم البلاد، واختطف الإمام الحاكم بأمر الله (الثاني) وصي الخلافة فبويع عمه المعتضد بالله.
وفي أوائل سنة 755ه رفع المسلمون إلى الملك الصالح تقارير مفصلة بما للنصارى من الأملاك الموقوفة للأديرة، فأحيلت هذه التقارير إلى ديوان الأحباس، فوجد أن للنصارى أوقافا تبلغ 25 ألف فدان من الطين كلها موقوفة للكنائس والأديرة. فعرضت على الأمير شيخو والأمير صرغتمش والأمير طاز، وكانوا قائمين بتدبير الدولة، فقرروا أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم، وهدموا للنصارى عدة كنائس.
وفي أواخر رجب من هذه السنة خرج الحاجب والأمير علاء الدين علي بن الكوراني، وكان واليا على القاهرة إلى ناحية شبرا الخيام من ضواحي مصر فهدم كنيسة للنصارى، وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق، وأحضره إلى الملك الصالح فأحرق بين يديه في الميدان، وذرى رماده في البحر حتى لا يأخذه النصارى فبطل عيد الشهيد من يومئذ.
وكان من المترشحين للوزارة وزيران قبطيان مرتدان، هما: موفق الدين، وعلم الدين، فتنازعا عليها، وانضم إلى كل منهما أحزاب فانتهى الخصام بخلع الملك الصالح في 22 شوال سنة 755ه، وكان منشأ هذا النزاع دسيسة من أخيه الملك الناصر حسن باتفاق مع الأمير تاج الدين، وكان الناصر مسجونا ففاز بمراده وخلع أخاه فأخرج من السجن، وبويع وبقي الملك الناصر حسن على دست السلطنة هذه المرة ست سنوات وسبعة أشهر وبضعة أيام بمساعدة الأمير تاج الدين، فولاه الوزارة مكافأة لمسعاه، وفي 9 جمادى الأولى سنة 762ه قتل بمكيدة من كبار أمرائه.
ومن آثاره الباقية إلى هذا العهد جامعه في الرميلة مقابل قلعة الجبل في القاهرة، وهو المعروف بجامع السلطان حسن أو بجامع الحسنية، وهو من أجمل جوامع القاهرة وأتقنها اقتضى لبنائه 3 سنوات أنفق عليه في خلالها ما يساوي ستمائة جنيه كل يوم، وقد جاء بالحجارة الكبيرة من أنقاض الأهرام، ونقش عليه الكتابات الكوفية والعربية فزادته رونقا وجمالا، وقد أصبح الآن وعلى وجهه ملامح الشيخوخة لكنها لم تزده إلا عظمة ووقارا.
وترى في شكل
11-13
صورة النقود الذهبية للملك الناصر ناصر الدين حسن.
شكل 11-13: نقود الملك ناصر الدين حسن. (18) سلطنة محمد بن حاجي (من 762-764ه/1360-1362م)
ولما قتل السلطان حسن بويع ابن أخيه محمد بن الملك المظفر حاجي، وسنه 14 سنة، ولقب بالملك المنصور (الخامس) وفي منتصف شعبان سنة 764ه اضطر إلى التنازل عن الملك لابن عمه شعبان بن حسن، وسنه عشر سنوات فبويع، ولقب بالملك الأشرف (الثالث).
وترى في شكل
11-14
صورة النقود الذهبية للملك المنصور محمد ضربت في القاهرة سنة 764ه.
شكل 11-14: نقود الملك المنصور ضربت في القاهرة سنة 764. (19) سلطنة شعبان بن حسن (من سنة 764-778ه/1362-1376م)
وحكم الأشرف شعبان 14 سنة وشهرين وبضعة أيام معظمها سكينة وسلام، وفي السنة الثالثة من حكمه أصيبت مصر وسوريا بقحط ضيق على الناس حتى أكلوا الكلاب والقطط، وأكل بعضهم أولاده من شدة الجوع، واستمر الأمر كذلك في بعض الأماكن 3 سنوات، ولما كانت السنة الحادية عشرة من حكمه أصاب البلاد حروب أهلية أشد وطأة من الجوع، وسببها: أن يلبغا العمري أحد أمراء المماليك كان نائبا للملك. ففي سنة 776ه سطت عليه عصبة من مماليكه في قصره فقتلوه، وساروا يريدون مثل ذلك من السلطان نفسه فردهم بعد حرب هائلة قتل فيها زعيمهم فتشتتوا، فولى على النيابة الجاي اليوسفي، وكان طماعا، فتقرب من السلطان حتى تزوج بوالدته فنال منها ثروة عظيمة فقويت شوكته وكثر أشياعه فطمع بالسلطة فقتل زوجته المذكورة، وتواطأ مع قاتلي يلبغا على قتل السلطان فهاجموه فدفعهم ورئيسهم، وقتل منهم جمعا كبيرا، وتبعهم رجاله حتى أغرقوهم في النيل.
ولم يكد يطمئن من هذا القبيل حتى اجتمع عليه أضداد يريدون قتله، فتربصوا ينتظرون فرصة حتى إذا كان عائدا من زيارة الحرمين كمنوا له في مضيق العقبة فقتلوا من معه من الحاشية، ولم يقفوا للسلطان على أثر، فظنوه قتل فعادوا إلى القاهرة، وعهدوا إلى الخليفة المتوكل بالله العباسي، وكان قد تولى الخلافة بعد المعتضد بالله سنة 763ه أن يبايع من يشاء، فكتب إليهم: «اختاروا من بينكم من تشاءون، وأنا أصادق على بيعته.» ثم علم الأمراء أن الأشرف لا يزال حيا مختبئا في القاهرة فقبضوا عليه وخنقوه في 15 ذي الحجة سنة 778ه.
وترى في شكل
11-15
نقود الملك الأشرف شعبان.
شكل 11-15: نقود الملك الأشرف شعبان. (20) سلطنة علي بن شعبان (من سنة 778-783ه/1376-1381م)
وبايعوا ابنه علاء الدين علي وسنه سبع سنوات، فسر بذلك المنصب لصغر سنه، ولم يعلم أنه مدفن أبيه، ولا يلبث حتى يلحق به. فلقبوه بالملك المنصور (السادس) وأقاموا له الأمير لاين بك وصيا. ثم أبدل لاين بالأمير قرطاي، ثم أبدل هذا بالأمير برقوق، وهو الذي أتى على ختام هذه الدولة، وتأسيس دولة جديدة، وكانت هذه مقاصده منذ ولي الوصاية، لكنه بقي محافظا على ولاء مولاه إلى أن توفاه الله في شهر ربيع أول سنة 783ه، وكانت مدة حكمه أربع سنوات وأربعة أشهر. (21) سلطنة حاجي بن شعبان (من سنة 783-784ه/1381-1382م)
فبويع أخوه زين الدين حاجي وسنه ست سنوات، ولقب بالملك الصالح، ولم تمض على مبايعته سنة ونصف حتى مل برقوق من إخفاء مقاصده فخلعه، ونفاه في 19 رمضان سنة 784ه واستلم مقاليد الملك، وكان الملك المنصور هذا آخر من حكم من دولة المماليك الأولى المسماة بالبحرية أو التركمانية، فانقرضت دولتهم بعد أن حكمت نحوا من مائة وست وثلاثين سنة؛ أولها امرأة، وآخرها صبي، وقامت دولة المماليك الثانية أو الشراكسة.
الفصل الثاني عشر
دولة المماليك الثانية
من سنة 784-923ه/1382-1517م (1) منشأ المماليك الشراكسة
دعيت هذه الدولة بدولة المماليك الشراكسة نسبة إلى منشأ سلاطينها، فإنهم من الشعب الشركسي، ويدعى أيضا كركس أو جركس أو كرغز، وهم لم ينشئوا في آسيا العليا إنما جاءوا إليها من سيبيريا، ونواحي بحيرة بيقال منذ القرن السادس للميلاد. ثم هاجروا إلى غربي بحر قزوين يحملون من بلادهم للاتجار بهم في جهات العالم، فاقتنى منهم سلطان المماليك البحرية الأخير عددا وافرا، فضلا عن المماليك البحرية اقتداء بأسلافه.
وكانوا يستخدمونهم في مصالح الدولة، فارتقوا فيها تبعا لما خصتهم به الطبيعة من الجمال والذكاء، حتى صارت إليهم حماية الحصون والقلاع، فجعلوا سكناهم في الأبراج فلقبوا بالبرجية، وما زالوا يزدادون عددا وقوة ومنعة حتى تاقت نفوسهم إلى تسلق كرسي الملك يجعلونه إرثا لنسلهم، وقد رأينا أنهم تمكنوا مما أرادوا فخلعوا حاجي بن شعبان، وبايعوا برقوق.
وأما برقوق فهو ابن مرتد شركسي اسمه أنس من قبيلة كسا استملك في شركاسيا، وقيد إلى القرم فاشتراه رجل مسلم يقال له: عثمان، وجاء به إلى مصر سنة 762ه وباعه للأمير يلبغا فجعله في عداد مماليكه، إلا أن نباهة برقوق وجماله ومهابته استلفتت انتباه سيده، فبالغ في ترقيته حتى أدخله في بطانته، ولقبه بالشيخ إشارة إلى براعته بالفقه وسائر العلوم الإسلامية، وجعله في مصاف الأمراء، وكان يلقب بالعثماني واليلبغاوي، وما زال في خدمته إلى أن قضى الله على يلبغا بما قضى، وتشتت مماليكه، فبقي برقوق وأمير آخر يقال له بركة؛ لأنهما كانا في السجن، ثم أطلقا فدخلا في خدمة منجك صاحب دمشق. ثم عادا إلى مصر بطلب الملك الأشرف شعبان، فتمكن برقوق بوسائط مختلفة من الحصول على رتبة باش أمير ياخور، وقيادة ألف رجل، فأصبح من الذين يطمعون في نيابة الملك فتولاها، ولقب بأتابك الجيوش، وتولى رفيقه بركة رئاسة الأعمال (المديريات) وما زالت الحال كذلك حتى خلع الملك الصالح حاجي. فتمكن برقوق بمساعدة أحزابه أن يتسلق كرسي الملك في 19 رمضان سنة 784ه كما رأيت. (2) سلطنة الملك الظاهر برقوق (من سنة 784-801ه/1382-1398م)
فأقر الخليفة المتوكل على الله تولية برقوق، وبايعه جميع القضاة والمشايخ والعلماء والأمراء، ولقبوه بالملك الظاهر، وهو لقب أعظم من حكم مصر من دولة المماليك الأولى نعني به ركن الدين بيبرس البندقداري، وأول شيء خالف فيه أسلافه أنه أبطل حمل القبة والطير على رأس السلطان عند توليه، وأبطل ما كان يعمل في يوم النيروز أول السنة القبطية، ومما كان يعمل في ذلك اليوم بالديار المصرية أنه كان يجتمع السواد الأعظم من الناس الأسافل فيقفون على أبواب الأكابر من أعيان الدولة، فيكتب أمير النيروز وصولا بالجمل الثقال، وكل من امتنع عن الإعطاء من الأكابر سبوه سبا قبيحا، ولا يزالون قائمين على بابه حتى يأخذوا منه ما يقرون عليه من الدراهم بحسب ما يقرره عليه أمير النيروز. فيأخذون منه ذلك غصبا ويمضون، وكان ذلك السواد الأعظم العياق يقفون في الطرق ويتراشون بالماء المتنجس، ويتراجمون بالبيض النيئ في وجوههم، ويتصافعون بالأنطاع والأخفاف، ويقطعون الطريق حتى يمتنع الناس من الخروج إلى الأسواق، وتغلق في ذلك اليوم أيضا أسواق القاهرة ودكاكينها، وكل من ظفروا به في الطرق سبوه.
وكان تيمور لنك القائد التتري الشهير إذ ذاك قد ملأ الأرض بافتتاحاته حتى سمع دويها في سوريا؛ إذ جاء يهدد حدودها، فنهض إليه برقوق في جيش عظيم فأوقفه عند حده، لكنه لم يكد يتخلص منه حتى ظهر له عدو في بيته، نعني به الخليفة المتوكل على الله، فإنه دعا إلى خلع برقوق، فالتف حوله دعاة عديدون، فاجتمع برقوق بالمشايخ والأئمة والعلماء، وأجمع معهم على خلع الخليفة فخلعه، وحبسه في القلعة سنة 787ه ونصب عمرا أخا إبراهيم ولقبه بالواثق بالله.
ثم توفي الواثق في 19 شوال سنة 788ه فنصب أبا يحيى زكريا عمر بن الخليفة المستنصر بالله، وهذا لم يلبث طويلا؛ لأنه أساء إلى السلطان برقوق فخلعه في جمادى الأولى سنة 791ه وأعاد المتوكل على الله، لكنه ندم بعد ذلك لما رأى من سعيه في خلعه، فحاول تنزيله ثانية فلم يستطع؛ لأن المتوكل كان قد تواطأ مع أحد الأمراء المسمى منطاش على خلعه، ووافقهما سائر الأمراء ورجال الدولة فخلعوه بعد أن حكم ست سنوات وسبعة أشهر وبضعة أيام، وأرسلوه منفيا إلى قلعة الكرك منفى السلاطين في تلك الأيام، واستقدموا السلطان حاجي آخر سلاطين دولة المماليك البحرية وهو الذي خلعه برقوق. فبايعوه في 6 جمادى الأخرى سنة 791ه، وكان يلقب بالملك الصالح فأبدله بالملك المنصور، لكنه لم يهنأ بهذه التولية الثانية؛ لأن المتوكل ومنطاش بعد أن سعيا في توليته ندما فأنزلاه، وأعادا برقوق في 4 صفر سنة 792ه فتعلم برقوق هذه المرة كيف يستبقي الملك في يده، فبادر حالا إلى المنصور حاجي وأماته، وقتل كل من كان على دعوته منعا لدسائسهم. ثم عمد إلى الخارجية فوطد الأمن في أنحائها، ولم يكن يثق بمقاصد أعوان الخلفاء فدخل في أحزابهم يتحد تارة مع هؤلاء، وطورا مع هؤلاء؛ ليدوم الشقاق بينهم فلا يتفقوا على خلعه.
شكل 12-1: تيمور لنك القائد التتري.
وفي سنة 794ه أهداه قرا يوسف أمير فارس مدينة تبريز فبعث إليه برقوق خلعة، وفوض إليه أن يفتتح ما استطاع من المدن على أن يكون واليا عليها. لكنه ما لبث أن جاء القاهرة في السنة التالية مع أحد محالفيه أحمد بن أويس فارين من وجه تيمور لنك، وكانا قد التجآ إلى منويل إمبراطور القسطنطينية فلم يؤمنهما؛ لأنه كان في ريب من أمره مع دولة أخرى قارب صبحها الانفجار، وهي الدولة العثمانية نسبة إلى عثمان الغازي أول سلاطينها، وجرى ذلك في عهد بيازيد بن مراد رابع سلاطين هذه الأسرة الظافرة، وكان قد غزا معظم إيالات المملكة الرومانية الشرقية (مملكة الروم) وأعظمها حتى هدد القسطنطينية، فجاءه التتر من ورائه بقيادة تيمور لنك فأوقفوه عن مقصده، وأصبحت قارة آسيا بين مناظرين عظيمين يتنازعانها، وكل منهما ذو بأس شديد، وهما: تيمور لنك التتري، وبيازيد التركي، فتلاطمت الزوبعتان فارتعدت لهما أفريقيا، واضطربت مصر من دويهما.
وطمحت أنظار هذين الفاتحين إلى مصر، فبعث كل منهما وفدا إلى القاهرة فطلب وفد بيازيد إلى برقوق أن يعاهده على السلم، وإلى الخليفة المقيم في القاهرة أن يقر بيازيد رسميا على سلطنة الأناطول فأجابهم إلى ما طلبوه.
أما وفد تيمور لنك فاتخذوا خطة أخرى؛ لأنهم استعملوا الخشونة والفظاظة في أقوالهم ومطالبهم؛ فطلبوا إليه أن يسلم لهم قرا يوسف وأحمد بن أويس اللذين قد التجآ إليه. فطيب برقوق خاطرهم، وأخذهم بالملاينة، فازدادوا فجورا فأمر بقتلهم. فشق ذلك على تيمور لنك فساق جيشه، وقدم للانتقام فمر بالرها فافتتحها وقتل من فيها، ثم جاء حلب فأنكى فيها. ثم توقف عن مسيره لغرض في نفسه؛ ليسهل عليه افتتاح مصر. فلم يغفل برقوق عن ذلك، فأكثر من الجند والسلاح وتأهب للدفاع أو الهجوم، لكنه لم يكد يتم هذه التأهبات حتى أدركته الوفاة بداء الصرع في يوم الجمعة 15 شوال سنة 801ه وعمره ستون سنة، فأسف عليه الناس أسفا شديدا؛ لما كان من عدله، ويقظته، ورفقه برعيته. (2-1) أعماله
ومن أدلة ذلك أنه خفف ضرائب الحبوب، وأبطل الضرائب التي كانت تؤخذ على الأثمار والفواكه الواردة عن طريق بولاق، وكان كثير التصدق على الفقراء محبا للعلم والعلماء؛ فبنى مدرسة دعاها المدرسة الظاهرية نسبة إليه، وابتنى جامعا لا يزال معروفا باسم جامع السلطان برقوق بجانب جامع الملك الناصر في شارع النحاسين، وكان له ولع خاص في اقتناء الأسلحة والخيول الجياد، والاستكثار من المماليك الشراكسة؛ فنظم منهم فرقة يركن إليها عند الحاجة.
وقد رتب مراتب الدولة في أيامه على هذه الصورة: (1)
أتابك العساكر. (2)
رأس نوبة الأمراء. (3)
أمير السلاح. (4)
أمير المجلس. (5)
أمير الياخور. (6)
دوادار. (7)
رأس النوبة الثاني. (8)
حاجب الحجاب. (9)
النائب.
وكانت مقاليد الحل والعقد بيد هؤلاء التسعة فإذا أجمعوا على أمر أنفذوه، ولا مرد لقضائهم.
ومما أنشأه في أيامه من العمائر: جسر الشريعة بالغورية، وجدد بناء خزائن السلاح بثغر الإسكندرية، وجدد عمارة زريبة البرزخ بثغر دمياط بعد أن ظهر منها عظام الشهداء، وبنى سورا على مدينة دمنهور، وعمر قناة العروب بالقدس، وجدد عمارة المجراة التي تجر الماء من بحر النيل إلى قلعة الجبل. (3) سلطنة فرج بن برقوق (أولا) (من سنة 801-808ه/1398-1405م)
فلما توفي السلطان برقوق بايعوا بكر أبنائه فرج زين الدين الملقب بأبي السعادات، وسنه ست وعشرون سنة، ولقبوه بالملك الناصر، وفي أول حكمه ثار الأتابك أيتمش وتنم الفرساني حاكم سوريا، فتواطأ هذا الأخير مع يلبغا السالمي حاكم حلب فاستولى على مضايق فلسطين على نية الاستيلاء على سائر مدنها. إلا أن حدسه لم يتحقق فأخذت منه المضايق، وضويق عليه حتى قيد أسيرا، وقتل هو وكل دعاته.
ولم تكد تنجو مصر من هذه النازلة حتى داهمتها نازلة أشد وطأة وأصعب مراسا. فإن تيمور لنك بعد أن أتم حروبه في الهند وبغداد وسيواس وملاطية سنة 803ه أمعن في سوريا فاستولى على حلب وحمص بعد حروب شديدة، وفر فرج إلى مصر فجمع إليه رجاله، وتأهب للدفاع، فبلغه أن عدوه شغل عنه بمحاربة بيازيد في الأناضول فسكن روعه، ثم جاءته الأنباء بفوز تيمور، وانكسار بيازيد وأسره سنة 804ه في وقعة أنقرة فخارت قواه، ويئس من الفرج. فبعث إليه تيمور لنك فيلا هنديا، وطلب إليه أن يبايعه ويبعث إليه بأحمد وقرا يوسف حالا. فلم يسع فرج إلا الإذعان لقضاء الله. فأجابه إلى طلبه صاغرا وأهداه زرافة حبشية، وبايعه واعترف بسيادة التتر على مصر، وأنه قائم بأحكامها بالنيابة عنهم. أما أحمد وقرا يوسف فقال: إنهما احتميا به، وحقوق الضيافة تمنعه من تسليمهما فيكون هو الجاني عليهما، لكنه وعد أن يسجنهما عنده فاستقرت سيادة تيمور على مصر.
وفي سنة 806ه شرقت مصر بقصور النيل فدهي أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف حتى إنه مات في مدينة قوص وحدها 17 ألف إنسان، ومات في مدينة أسيوط 11 ألفا، ونحو ذلك في مدن أخرى، وفي 17 شعبان من السنة التالية أدرك تيمور القضاء المبرم في أوترار، وتخاصم أبناؤه على الملك، فتخلصت مصر من سلطة التتر، وذهب الحذر عن أحمد وقرا يوسف فأفرج عنهما فسارا إلى بلادهما.
ثم أخذ فرج بالتأهب لاسترجاع سوريا بنفسه، فلم يكد يتم الاستعداد حتى ضويق عليه في قصره؛ لأن المصريين لما رأوا إذعانه لتيمور، وتسليمه بسيادته حسبوا ذلك خيانة وضعفا، وأيقنوا أنه لا يصلح لإدارة الأعمال فأقروا على خلعه، وتولية أخيه عز الدين عبد العزيز، وكان أعظم في عيونهم منه. فاجتمعوا تحت لوائه، وساروا لمحاصرة أخيه في قصره في 16 ربيع أول سنة 808ه ومازلوا يهددونه حتى تنازل حفظا لحياته، وقد حكم ست سنوات وخمسة أشهر و11 يوما.
وكانت أيامه كثيرة الفتن والشرور؛ فقد طرق الشام فيها تيمور لنك - كما رأيت - فأخربها وأحرقها، وعمها بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الخيرات، وتفرق أهلها في جميع أقطار الأرض، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء؛ فاشتد بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها، وشنع موتهم، واستمرت بها مع ذلك الفتن، وقصر مد النيل بمصر حتى شرقت الأرض إلا قليلا، وعظم الغلاء والفناء، فباع أهل الصعيد أولادهم من الجوع وصاروا أرقاء مملوكين، وشمل الخراب الشنيع عامة أرض مصر وبلاد الشام من مصب النيل عند الجنادل إلى حيث مجرى الفرات. (4) سلطنة عبد العزيز بن برقوق (من سنة 808-809ه/1405-1405م)
ثم خرج من قصره واختفى في مكان غير معلوم، فظن الناس أنه قتل من الضوضاء والازدحام فبايعوا أخاه، ولقبوه بالملك المنصور، ولم يمض شهران على توليته حتى تحققوا خيبة ظنهم به فملوا من طاعته، ومالوا بكليتهم إلى سلفه فاتصل ذلك بفرج، فخرج من خبائه فتقدم إليه الناس ورجال الدولة أن يعود إلى منصبه، فعاد في جمادى الآخرة، ونفى أخاه عز الدين إلى الإسكندرية فعاش فيها أشهرا قليلة، وتوفي في 7 ربيع آخر سنة 809ه. (5) سلطنة فرج بن برقوق (ثانية) (من سنة 809-815ه/1405-1412م)
فلما عاد فرج إلى منصبه وجه انتباهه خصوصا إلى استرجاع ثقة الأهلين فيه فغزا دمشق وافتتحها، ثم فتح غيرها من مدن سوريا، واهتم براحة الرعية فخيم الأمن وسكنت القلوب. فإذا كانت سنة 813ه ظهرت في القاهرة ثورة دينية ذهبت بحياته، وذلك أن أحد أمراء المماليك المدعو أبا نصر الملقب بالشيخ المحمودي الظاهري نسبة إلى سيده الأمير محمود أحد أمراء الملك الظاهر برقوق، وكان الملك الظاهر قد أعتقه، ووعده بالمناصب الحربية، فطمحت أبصاره إلى السلطنة، فاستخدم لهذه الغاية الخليفة المستعين بالله، وكان قد ولي الخلافة بعد الخليفة المتوكل على الله منذ خمس سنوات، وكان الخلفاء العباسيون منذ استئصال شوكتهم من بغداد وانتقالهم إلى القاهرة لا يخرجون في اعتبار الأهالي عن حد السلطة الدينية، وكانوا يلقبونهم بالأئمة. فأسر الشيخ المحمودي إلى المستعين أنه يقدر أن يعيد السلطة السياسية كما كانت لأسلافه، وقال له: «إن الناس ميالون إلى ذلك بكليتهم، وهم مستعدون لمبايعتكم، وتنفيذ أوامركم.» فتنبه في قلب الخليفة حب السيادة فوافق الشيخ المحمودي، وكان فرج إذ ذاك في دمشق فاتفقا على استقدامه فأنفذا إليه أولا أن يتنازل عن الملك، فأجاب أن لا جواب عنده غير السيف، وأخذ في إعداد مهمات الحرب، ومثل ذلك فعل الخليفة والشيخ المحمودي، وتقدم الجيشان لكنهما لم يتلاحما حتى أصدر أمرا بتوقيعه فجاء بما لا يجيء به السيف ، ونصه: «من الإمام أبي الفضل المستعين بالله أمير المؤمنين إلى أهل مصر. اعلموا أننا قد خلعنا فرج بن برقوق عن سلطنة مصر والشام؛ لأن سيدهما الحقيقي إنما هو الخليفة خليفة الرسول
صلى الله عليه وسلم
فويل لمن خالفه.»
فلما دار ذلك بين الجيوش أعرضوا عن فرج، ولم يبق له نصير فحاول الفرار فلم ينج فقبض عليه، وقيد إلى الخليفة فانتحل له ذنبا يستوجب عليه المحاكمة، وهو أنه قد اضطر لكثرة ما أنفقه في محاربة التتر أن يضرب ضرائب فوق العادة فرفعت عليه عرائض التشكي إلى مجلس الأئمة والفقهاء أنه اختلس الأموال، وخرب البلاد، وأنه تمرد على الخليفة ظل الله على الأرض، فاتخذ الخليفة ذلك ذريعة للحكم على فرج بالإعدام، فقتلوه في 25 محرم سنة 815ه خارج أسوار دمشق، وتركوا جثته ملقاة على دمنة هناك. (6) سلطنة الإمام المستعين بالله (من سنة 815-815ه/1412-1412م)
فاجتمعت السلطتان الروحية والسياسية للمستعين بالله فبايعه الأمراء وقواد الجند، ولقبوه بالملك العادل فاستلم مقاليد الأحكام، وجعل الشيخ المحمودي أتابك العساكر ومدبر المملكة، وأخذ في إصلاح الأحوال، ووجه انتباهه إلى ما يكتسب قلوب الرعية، فأعاد الأمن إلى البلاد بمقاصة المعتدين، وأظهر لياقته لما عهد إليه فشرع في تنظيم الأحكام، وإنصاف المظلومين، وبذل العطاء فأحبه الناس.
أما الشيخ المحمودي فإنه قام بهذه الثورة خدمة لأغراضه، وليس للخليفة فرأى أنه أصبح آلة بيده فأضمر له شرا، ونوى على خلعه، لكنه استخدم الحزم والتأني واغتنام الفرص خوفا من الوقوع في شر أعماله، فعمل على توطيد العلاقات الودية بينه وبين أمراء المماليك، والتقرب منهم، وإقناعهم تحت طي البساطة والإخلاص أن في هذا الخليفة شيئا من ضعف الرأي والخمول فضلا عن كونه غريبا عنهم. فاستمال قلوبهم، واشتد أزره بهم، فأخذ يشكو من منصبه فولاه الخليفة نيابة الملك في 8 ربيع أول من تلك السنة، فصار أقدر على تنفيذ مآربه، وما زال ساعيا إلى مطمح أنظاره حتى كثرت أحزابه، وأصبحت أزمة البلاد في يده، فأجبر الخليفة على مشاركته في السلطة فأجاب، ولقبه بالملك المؤيد، ثم خطا خطوة أخرى فخلع الخليفة، وحبسه في بعض غرف القصر. (7) سلطنة الشيخ المحمودي (من سنة 815-824ه/1412-1421م)
فلم يستطع المستعين بالله مقاومة، لكنه كتب سرا إلى نوروز أحد أصدقائه القدماء، وكان قد ولاه سوريا يستنجده، فقدم نوروز مسرعا إلى القاهرة في جيش، فرأى أنه يقصر عن مناوأة المحمودي فأوعز إلى الخليفة أن يستخدم الوسائط الدينية كما فعل المرة الماضية، وكان الشيخ المحمودي في دمشق، فأصدر منشورا بخلعه، فاغتنم المشايخ والأمراء فرصة غيابه وجاهروا بخلعه، وبلغ ذلك الشيخ المحمودي فأسرع إلى القاهرة فخافه المشايخ والعلماء وأنكروا خلعه، وقالوا: إن الخليفة أولى بذلك الخلع، وألحوا على معاقبته؛ لأنه تمرد على سلطانهم فخلعوه من السلطنة والخلافة وسجنوه، ثم نفوه إلى الإسكندرية سنة 818ه وأقاموا أخاه داود خليفة مكانه، ولقبوه بالإمام المعتضد بالله.
فعاد الشيخ المحمودي إلى كرسي السلطنة، وأخذ يسعى في اكتساب ثقة الأهلين، فاتبع خطة الخليفة المستعين فأنصف ورفق فأمنت الرعية وسعدت البلد، وما زالت الحال كذلك ثماني سنوات وخمسة أشهر، وفي 9 محرم سنة 824ه توفي السلطان الشيخ المحمودي، وكان محبا للعلماء يكرم مثواهم، وله بنايات جميلة من جملتها الجامع المسمى جامع المؤيد بالقرب من باب زويلة، وقد جدد بناؤه، وهو كثير النقوش، ولم يبق من البناء القديم إلا إيوان القبلة، وبعد وفاته عادت الأمور إلى مجراها الأول من القلاقل، فتولى السلطنة بعده ثلاثة سلاطين لم يحكموا إلا مدة قصيرة. (8) سلطنة أحمد بن المحمودي ثم سيف الدين ططر ثم محمد بن ططر (من سنة 824-825ه/1421-1422م)
أولهم: ولده شهاب الدين أحمد الملقب بالملك المظفر، وفي شوال من تلك السنة تخلى عن الملك لوصيه وحميه سيف الدين ططر الملقب بالملك الظاهر، وهذا توفي في ذي الحجة من السنة المذكورة، فبويع ابنه ناصر الدين محمد، ولقب بالملك الصالح، وبعد أربعة أشهر خلعه وصيه سيف الدين برس باي فقضى باقي حياته في الشقاء. (9) سلطنة الملك الأشرف برس باي (من سنة 825-841ه/1422-1437م)
وبعد خلعه اختلف الأمراء في من يخلفه فتنحى برس باي حتى أهلك الأحزاب بعضها بعضا، فالتقم السلطنة غنيمة باردة. فبويع في 8 ربيع آخر سنة 825ه ولقب بالملك الأشرف، وقد كان برس باي مملوكا أحبه سيده الملك الظاهر ططر فأعتقه، ورقاه حتى جعله وصيا على ابنه، وفي أول حكمه فاض النيل حتى غمر الأرض بالخيرات فكثرت الحبوب وشبع الفقراء، وكان برس باي كالشيخ المحمودي حكمة ورفقا، وقد رمم عدة مدن، وشاد في القاهرة عدة بنايات منها الجامع المعروف بجامع الأشرفية تجاه سوق العطارين ابتدأ في بنائه سنة 826ه.
وقد تمكن برس باي لحسن سياسته وحزمه من استبقاء السلطة بيده مدة طويلة، والبلاد في سكينة إلا في سنة 827ه إذ ثار الأمير بنيق النجاشي نائبه في دمشق. غير أن تلك الثورة ما لبثت أن ظهرت حتى اضمحلت، وعوقب الثائرون بمساعدة أمير زنجي يقال له: عبد الرحمن، فولاه برس باي على سوريا بدلا من النجاشي، وكانت هذه الثورة أول القلاقل وآخرها في أيامه.
أما محارباته مع الدول الأخرى فجديرة بالاعتبار؛ لأنه جرد على الإفرنج عدة تجريدات، وتغلب عليهم فأخضع جزيرة قبرص، وحمل الملك جان لوسينيان الثالث على الاعتراف بسلطانه وأداء الجزية، وعقد مع ملوك الصليبيين وسلطان آل عثمان إذ ذاك مراد بن محمد معاهدات سلمية تدل على عظيم شوكته. فكانت مصر في أيامه سعيدة داخلا وخارجا، وقال بعض المؤرخين: إن الملك الأشرف برس باي أجدر الملوك الشراكسة بالمدح؛ لأنه كان أعلاهم همة، وأشدهم عزيمة، وأكثرهم تدربا في الأحكام، ومما يمتدح عليه أنه أبدل جميع التذللات التي كانت تقدم للملوك قبله بتقبيل اليد فقط.
لكنه أصيب في أواخر أيامه بمرض في عقله كما أصيب الحاكم بأمر الله فأصدر أوامر غريبة، منها: أنه أمر بنفي الكلاب إلى بر الجيزة. فصار كل من أمسك كلبا يأخذ نصف فضة من صيرفي باب السلسلة، فأمسك العياق من الكلاب نحو ألف كلب فنفوها إلى بر الجيزة. ثم إنه أمر بأن لا تخرج امرأة من بيتها إلا بإذن من الحكومة، فكانت الغاسلة إذا أرادت التوجه إلى ميتة تأخذ ورقة من المحتسب تجعلها في رأسها وتمشي في السوق. ثم إنه نادى في القاهرة بأن لا يلبس الفلاحون زمطا مطلقا فامتثل الناس أمره. ثم إنه رسم بتوسيط الحكماء فوسط الرئيس خضر، ووسط الرئيس شمس الدين بن العفيف، واستمر على أمثال ذلك إلى أن مات بعد أن حكم 17 سنة و8 أشهر و6 أيام. قضى يوم السبت 13 ذي الحجة سنة 841ه وعمره ستون سنة. (10) سلطنة يوسف بن برس باي (من سنة 841-842ه/1437-1438م)
فبويع ابنه جمال الدين يوسف الملقب بأبي المحاسن، ولقب بالملك العزيز، وبعد ثلاثة أشهر من مبايعته تخاصم مماليكه وسيف الدين جقمق أتابك جيشه خصاما انتهى بعزله، ومبايعة جقمق في 19 ربيع أول سنة 842ه. (11) سلطنة الملك الظاهر جقمق (من سنة 842-857ه/1438-1453م)
وكان سن جقمق إذ ذاك 69 سنة، ولقب بالملك الظاهر، وبعد سنتين من حكمه أصيبت مصر بطاعون تفشى في أنحائها، وفي سنة 846ه توفي الإمام المعتضد بالله، وكان بارا نقيا، وأوصى بالخلافة بعده لأخيه بالرحم فبايعوه، ولقبوه بالمستكفي بالله، وكان صديقا للسلطان جقمق، وبعد ثماني سنوات من خلافته توفي سنة 854ه وكان كأخيه تقيا وبرا حتى تخاصم الأعيان والكبراء في المسابقة إلى حمل نعشه وقت الجنازة حتى السلطان جقمق فإنه حمل به على منكبيه.
فبويع أخوه، ولقب بالقائم بأمر الله، وكان سير هذا الخليفة مغايرا لسير أسلافه فأبغضه السلطان، وخاف دسائسه، وكان قد تجاوز الثمانين من سنه، ولم تبق فيه عزيمة على مقاومة الدسائس، فتنازل عن السلطة لابنه فخر الدين عثمان، وتوفي في 29 صفر سنة 857ه وهي السنة التي فتح فيها السلطان محمد الثاني القسطنطينية. (12) سلطنة عثمان بن جقمق (من سنة 857-857ه/1453-1453م)
وبويع فخر الدين عثمان، ولقب بالملك المنصور. أما الخليفة فلم ينفك عن دسائسه طمعا بالسلطة؛ فدعا إليه زمرة من الأمراء، وحملهم على نبذ طاعة الخليفة على أمل أن ينال بذلك ما ناله المستعين بالله فانتشبت الثورة، وخلع الملك المنصور عثمان في غرة شهر ربيع آخر من تلك السنة بعد أن حكم شهرا ويوما. أما الخليفة فخاب انتظاره، وحبطت مساعيه فغادرته الأحزاب، وبايعوا مملوكا مسنا اسمه أبو النصر إينال، ولقبوه بالملك الأشرف. (13) سلطنة الملك الأشرف إينال (من سنة 857-865ه/1453-1460م)
فقال الخليفة في نفسه: إن هذا السلطان شيخ فلننتظر وفاته، إنه لا يلبث أن يصيب حتفه. فانتظر ست سنوات فلم يمت فعمد إلى الدسيسة فاتصل ذلك بالوزير بلجيوني فأعلم السلطان بأمره فاستحضر الخليفة وقرعه، ثم أمر بخلعه عن الخلافة. فقال الخليفة: «من أين لك أن تخلع الخلفاء ولهم وحدهم أن يولوا ويعزلوا؟» فلم يجبه إلا بالنفي إلى الإسكندرية فبقي فيها مدة ثم مات. فبايعوا يوسف أخا المعتضد بالله، ولقبوه بالمستنجد بالله، وكان حكيما معتدلا، وعاش السلطان إينال بعد ذلك سنتين ولى وعزل في أثنائهما كثيرا من الوزراء، ثم توفي يوم الخميس 15 جمادى الأولى سنة 865ه بعد أن حكم 8 سنوات وشهرين وستة عشر يوما. (14) سلطنة أحمد بن إينال (من سنة 865-865ه/1460-1461م)
فتولى بعده ابنه شهاب الدين أحمد الملقب بأبي الفتح، وكان قد تعاطى الأحكام في آخر أيام أبيه.
وترى في شكل
12-2
صورة نقود مضروبة في عهد شهاب الدين أحمد يوم كان يتعاطى الأحكام في حياة أبيه، فلما بويع لقب بالملك المؤيد، ولكنه لم يحكم إلا أربعة أشهر، فعزل في 18 رمضان من تلك السنة، وبويع سيف الدين خوش قدم، ولقب بالملك الظاهر.
شكل 12-2: نقود أبي الفتح والأشرف. (15) سلطنة الظاهر خوش قدم (من سنة 865-872ه/1461-1467م)
ويعرف خوش قدم هذا بالرومي؛ لأنه كان يوناني الأصل، وبالناصري؛ لأنه كان من مماليك الملك الناصر، وكان محبا للآداب اليونانية محافظا عليها، وكان حكيما بارا حليما محبا لرعيته ساهرا على راحتهم، ولم يكن يستوزر إلا الذين اختبر نزاهتهم ونشاطهم، فأحبته الرعية، وأجمعوا على طاعته، والإخلاص له، ويقال بالجملة: إن هذا السلطان من أفضل سلاطين مصر، وقد اقتدى به رجال دولته. أما الخليفة فلم يكن يتجاوز سلطته الدينية، فحكم خوش قدم ست سنوات ونصف كلها سلام ونعيم، وتوفي في 10 ربيع أول سنة 872ه وسنه ستون سنة فأسف عليه الناس كثيرا.
وكان حسن الشكل معتدل القامة مترك الوجه أحمر اللون مستدير اللحية ضخم الجسم شائب اللحية فصيح اللسان بالعربية، وكان ماشيا على النظام القديم تابعا لطريقة الملوك السالفين في إقامة المواكب في القصر الكبير والمبيت به في كل ليلة، وكان سائرا على خطة أستاذه الملك المؤيد شيخ في كسر السد بنفسه، ولبس الصوف في المطعم، وكان كثير الرمايات في كل سنة، ويشق في القاهرة المواكب الجليلة، وكان يطيف المحمل في كل سنة في رجب، وتسوق الرماحة على جاري العادة أربعين يوما، ثم يلبسون الأحمر، وتزين القاهرة ثلاثة أيام، ويخرج الناس في ذلك عن الحد بالقصف والخلاعة، وكانت أيامه كلها لهوا، ولم يجئ في أيامه الطاعون بمصر، ولا جرد تجريدة إلى البلاد الشامية، وكان متأنفا في ملبسه فصنع ركبا ومهاميز من ذهب، وكان يلبس السمور الأسود بلون الحبر، وكان يلبس القباء الصوف الفاخر، ويبطنه بالمخمل الأحمر الكفوي. (16) سلطنة الملك الظاهر بلباي ثم الظاهر تمر بغا (من 872-872ه/1467-1467م)
فبايعوا أبا سعيد بلباي، ولقبوه بالملك الظاهر، فكان سميا لسابقه بالاسم لا بالفعل، فجاء من السيئات أكثر مما جاء من الحسنات؛ لأنه كان مستبدا عاتيا لا يغادر كبيرا ولا صغيرا، فكرهته الناس، ولم يمض 66 يوما من توليته حتى خلعوه، وذلك في 17 جمادى الأولى من تلك السنة.
وبايعوا الأمير أبا سعيد تمر بغا الملقب بالظاهري، ولقبوه بالملك الظاهر أيضا، فكان حظه من الملك كحظ سلفه؛ لأنه خلع بعد شهرين من توليته، وبايعوا الأمير قايت باي الملقب بالمحمودي وبالظاهري، ولقبوه بالملك الأشرف. (17) سلطنة الملك الأشرف قايت باي (من سنة 872-901ه/1467-1495م)
فتوالى على مصر في سنة 872ه أربعة سلاطين. أما السلطان الأخير فمكث على سرير السلطنة مدة طويلة رغم ما كانت عليه البلاد من الاضطراب، وكان قايت باي مملوكا محررا من مماليك جقمق، وكان لعلو همته وحسن سياسته قابضا على أزمة الأحزاب، فكانت البلاد آمنة مطمئنة، إلا أنها اضطربت بخبر انتصار محمد الثاني العثماني على أوزون حسن ملك الفرس، وكان بين الفرس والمصريين تحالف؛ فتنبأ قايت باي أن ذلك التحالف سيكون سببا لعزم العثمانيين على فتح سوريا. فأرسل حامية كبيرة إلى الحدود، فأجل العثمانيون عزمهم؛ لاشتغالهم بحروبهم في أوروبا.
أما قايت باي فخاف سوء العقبى، ولم ير سبيلا لرفع التبعة عنه إلا بالتنازل عن الملك، فأدرك الأمراء شدة احتياجهم إليه في مثل تلك الأحوال فأجبروه على قبول السلطنة، ولم يكد يعلوها حتى جاءته الأنباء بانتصار محمد الثاني على الإفرنج، وعزمه على فتح سوريا، وذلك سنة 885ه، لكنه لم يخرج من بر الأناضول حتى داهمته المنية في مدينة طيقور جابر، وتخاصم ابناه بيازيد وجم (أوزيزم) على الملك فشغلا عن الفتح فاغتنم قايت باي تلك الفرصة، وانسحب بجيشه إلى مصر.
وما زال الخصام يتعاظم بين ابني محمد حتى كانت بينهما واقعة يكي شهر فانهزم جم حتى أتى مصر فالتجأ إلى قايت باي فأكرم وفادته، ثم علم أن ذلك الإكرام يهيج حاسة الانتقام في بيازيد. فقال في نفسه: «إذا كان لا بد لنا من محاربة العثمانيين فلنكن مهاجمين أولى من أن نكون من مدافعين.» فجعل يناوئ الأتراك، ويقطع السبل على قوافلهم الناقلة الحجاج إلى الحرمين حتى قبض على وفد هندي مرسل في مهمة سياسية إلى بيازيد، واستولى على أدنة وترسوس، وكانتا في حوزة العثمانيين.
أما بيازيد فكان واقفا بالمرصاد ينتحل حجة لمهاجمة المصريين، فجاءت تلك الإجراءات طينة على عجينة، إلا أنه رأى أن يأتيهم من باب الحزم، فأنفذ إليهم رسلا في طلب التعويض عما سببوه من الخسائر والأضرار. فأرجع قايت باي الرسل، وبعث يهاجم الجيوش العثمانية فقاومته أشد مقاومة، وأرجعت جيشه إلى ملاطية، فأنجدهم قايت باي بخمسة آلاف رجل، فعادوا إلى العثمانيين وهم في مضايق الجبال فهجموا عليهم بغتة، وذبحوا منهم عددا كبيرا، وفر الباقون وتحصنوا في ترسوس وأدنة. فاتصل ذلك بقايت باي فأرسل الأمير الأزبكي في نجدة لإخراج العثمانيين من تينك المدينتين، فسار وحارب وفاز.
فشق ذلك على بيازيد، وآلى على نفسه إلا أن يسترجع ترسوس وأدنة؛ فأنفذ جيشا كبيرا تحت قيادة صهره أحمد وهو ابن أمير البوسنة - ولد في ألبانيا، ثم أسلم، وأخذ يرتقي في أعمال الدولة حسب استحقاقه حتى تمكن مع صغر سنه، وكونه غير مولود في الإسلام من قيادة هذه الحملة لمحاربة الجيوش المصرية - فلما وصل إلى معسكر الأزبكي اقتتل الجيشان فهجم أحمد هجمة قوية، لكن رجاله لم يستطيعوا الثبات ففازت الجيوش المصرية، وأسر أحمد بعد أن جاهد جهادا حسنا، فعاد الأزبكي بأسيره إلى مصر ظافرا فبنى جامعه المشهور المعروف بجامع الأزبكية، وكانت في أيامه بركة يتجمع إليها الماء في أيام الفيضان، وستأتي كيفية تحويلها إلى ما هي عليه الآن.
فلما بلغ بيازيد ما كان من انكسار جيوشه استشاط غضبا، وجند جندا كبيرا جعله تحت قيادة علي باشا؛ لمحاربة المصريين، فسارت تلك الحملة من الأستانة فعبرت البوسفور في 3 ربيع آخر سنة 893ه ونزلت في قرمان. فاتصل خبرها بقايت باي فأوجس خيفة فعمد إلى المصالحة؛ فأنفذ إلى بيازيد صهره أحمد واسطة لعقد شروط المصالحة. فرفض بيازيد ذلك رفضا كليا، وسار حتى التقى بالمصريين في أدنة وترسوس فحاربهم وفاز عليهم، واسترجع المدينتين الواحدة بعد الأخرى بعد أن أهرق دماء غزيرة. ثم سار إلى أرمينيا وأخضعها، وحاصر عاصمتها فافتتحها بعد أن دافعت دفاعا قويا، وأسر حاكمها، وأرسله بعد ذلك إلى مصر بدلا من الأمير أحمد.
فبعث قايت باي الأزبكي ثانية لدفع العثمانيين فواقعهم في ترسوس فغلبوه أولا، ثم عاد إليهم وفاز بهم وأعادهم القهقرى، وعاد إلى القاهرة ظافرا فخلع عليه قايت باي. ثم رأى أن يغتنم كونه ظافرا لمصالحة العثمانيين؛ فبعث إلى بيازيد في ذلك فأجابه مهددا، وطلب إليه أن يتنازل له عن ترسوس وأدنة، وأنه إذا لم يفعل يدعو الناس إلى الجهاد، فيجتمع تحت لوائه كل من يدعو لآل عثمان فيجيء مصر ويفتحها فتحا مبينا. فخاف قايت باي، وتنازل عن المدينتين اكتفاء بأهون الشرين، وكان ذلك سنة 896ه.
وعاش قايت باي بعد مصالحة الدولة العثمانية خمس سنوات، وتوفي في 22 ذي القعدة سنة 901ه بعد أن حكم 29 سنة وأربعة أشهر وعشرين يوما فبكاه الناس، ومن آثاره: جامعه المعروف باسمه إلى هذا العهد في القرافة خارج القاهرة، وفيه مقام قايت باي، وهو مثال لما بقي من مدافن المماليك في تلك الجهة، وبنى قايت باي جامعا في جزيرة الروضة لا يزال يشاهد هناك إلى هذا اليوم. (18) سلطة محمد بن قايت باي ثم قنسو خمسمائة ثم قنسو أبي سعيد ثم قنسو جانبلاط ثم الملك العادل طومان باي (من سنة 901-906ه /1495-1501م)
وتولى بعد قايت باي ابنه أبو السعادة محمد، ولقب بالملك الناصر، ولم يجلس على سلطنة مصر رجل أقل لياقة لها منه، فإنه كان أحمق جبيصا وحشيا لا ديدن له إلا الانغماس في الملذات الحيوانية، ولو كلفه ذلك ارتكاب شر الآثام، وقد زادت قحته حتى سلخ جلد أحد مماليكه حيا، فثار عليه المماليك وخلعوه بعد أن حكم ستة أشهر.
وبايعوا الأمير قنسو الملقب بخمسمائة؛ لأنه ابتيع بالأصل بخمسمائة دينار، ولقبوه بالملك الأشرف، وبعد خمسة أشهر تنازل عن الملك عجزا، فأعادوا الملك الناصر محمد ثانية لكنه لم يبق إلا 18 شهرا ونصف فذبحه المماليك في 16 ربيع أول سنة 904ه.
وبايعوا عم قنسو واسمه قنسو الثاني، الملقب بأبي سعيد، ولقبوه بالملك الظاهر، ولم يقبل هذا المنصب الخطر إلا بالرغم عنه، وبعد عشرين شهرا وبضعة أيام عزلوه، وبايعوا قنسو الثالث جانبلاط ولقبوه بالملك الأشرف، ولم يحكم إلا سبعة أشهر، ثم خلع في 18 جمادى الآخر سنة 906ه.
فأقام أمراء دمشق الأمير سيف الدين طومان باي، وكان من مماليك قايت باي، ولقبوه بالملك العادل. فوافقهم أمراء القاهرة على ذلك، وبعد ثلاثة أشهر أضمر له المماليك مكيدة يقتلونه بها، فعلم هو بذلك ففر طلبا للنجاة، فأوى إلى مكان ظنه ملجأ حصينا مكث فيه أربعين يوما، ثم اكتشف عليه المماليك، وقتلوه في ذي القعدة سنة 906ه.
ثم اجتمع المماليك والأعيان وأرباب الدولة، وتداولوا فيمن يجب أن يختاروا؛ ليحكم فيهم من أهل اللياقة، فأقروا على الأمير قنسو الرابع الملقب بالغوري، وكان هو أيضا من مماليك قايت باي، وكان رجلا تقيا مخلصا محترما عفيفا غير عالم بما كان يتخاصم عليه الأمراء، وما كانوا يدسونه من الدسائس. فلما بلغه أمر مبايعته انذهل ورفض قائلا للذين انتخبوه: «لا أخالف لكم أمرا، إنما أراني غير لائق بهذا المنصب؛ لأني لم أعتد معاناة الأحكام، والأمر والنهي.» فأجابوه أن صدق نيته، وإخلاصه، وثقة الناس فيه كافية لاستحقاقه هذا المنصب. فلم ير بدا من القبول لكنه قال لهم: «أكون في غاية السرور إذا جئتموني يوما تنبئونني بالإقالة من هذا المنصب، فأرجع إلى ما اعتدته من معيشة السكينة.» فولوه في غرة شوال من تلك السنة، ولقبوه بالملك الأشرف أيضا. (19) سلطنة قنسو الغوري (من سنة 906-922ه/1501-1516م)
فاستلم الغوري مقاليد الأحكام، وأخلص في الحكم؛ فاطمأنت البلاد، وسكن حالها فأخذ في إصلاح شأنها؛ فابتنى في القاهرة جامعا، ومدرسة ينسبان إليه، وهما: مدرسة الغورية، وجامع الغورية في أول شارع الغورية في السكة الجديدة كل منهما إلى جانب من الطريق. فإلى الشرق البناية التي كانت فيها المدرسة، ويليها إلى الجنوب مدفن فيه مقام بعض أهله، وإلى الغرب الجامع، ويظهر للناظر عندما يشرف عليه أنه هائل، وهو مبني على مثال جامع قايت باي، وعلى القبلة كتابة كوفية، وقد رمم بمساعي جمعية حفظ الآثار، وإلى الشمال سبيل جميل. ثم كانت الحوادث السياسية فتوقف الغوري عن إتمام ما كان يقصده من البناء والتحسين، فإن البرتغاليين لما استولوا على بعض بلاد الهند أثقلوا على العلاقات التجارية بينها وبين مصر؛ فجهز قنسو الغوري إلى محاربتهم حملة عظيمة ذهبت غنيمة باردة لجيوش الإفرنج في البحر الأحمر.
وفي سنة 918ه جاء كركود أخو السلطان سليم بن بيازيد «سليم الأول» إلى مصر ملتجئا إليها بعد أن تخاصم مع أخيه على الملك كما حصل بجم وبيازيد المتقدم ذكرهما، فرحب به قنسو الغوري ترحابا عظيما، وجهزه بعشرين بارجة بحرية؛ لافتتاح القسطنطينية، فذهبت هذه العمارة غنيمة لمراكب أورشليم في البحر المتوسط، ولم تكن النتيجة إلا إثارة غضب السلطان سليم على مصر فجهز إليها، وابتدأ بافتتاح الحدود السورية، وأرسل إلى مصر رسائل التهديد. فاتحد الغوري مع ملك الفرس إسماعيل شاه على قهر العثمانيين، وكان الفرس في حرب معهم إلا أن الجيوش العثمانية لم تبال بكثرة العدد؛ فشتتت الجيشين وأي تشتيت.
فعمد قنسو الغوري إلى مخابرة العثمانيين بأمر الصلح على أي وجه كان، وبعث إلى السلطان سليم بذلك، فسارت الرسل حتى أتوا السلطان سليم فخروا ساجدين، وخاطبوه بأمر الصلح، فقال لهم وقد استشاط غيظا: «لقد فات الأوان، انهضوا وارجعوا إلى سلطانكم، وقولوا له: إن الرجل لا تعثر بحجر واحد مرتين، وها أنا ذاهب إلى القاهرة فليستعد للدفاع إن كان له أهلا.»
فعادوا وأخبروا بما كان، فجمع إليه رجاله، وسار لملاقاة الجيوش العثمانية فالتقى بها في مرج دابق قرب حلب فانتشبت الحرب هناك، وأظهر الغوري بسالة وإقداما عظيمين حتى أوشكت رجاله أن تستظهر فمنعتها مدافع العثمانيين من ذلك، ولم يكن سلاح المصريين إلا الرماح والحراب والسيوف؛ فتشوش نظامهم، ووقع الرعب في قلوبهم، وانحاز قائد جناحيهم إلى العثمانيين، وكان الغوري قائدا لقلب الجيش فاضطر إلى الفرار، فحول شكيمة جواده فسقط عنه لشدة الازدحام، وذهب قتيلا تحت أرجل الخيل في 25 رجب سنة 922ه بعد أن حكم 15 سنة وتسعة أشهر و25 يوما. (20) سلطنة الملك الأشرف طومان باي (من سنة 922-923ه/1516-1517م)
وكان السلطان قنسو الغوري قبل خروجه من القاهرة هذه المرة قد استخلف عليها ابن أخيه طومان باي (الثاني) فلما اتصل خبر تلك الموقعة بالأمراء بايعوا طومان باي، ولقبوه بالملك الأشرف، وكان حازما باسلا. فلما وصلت بقية الجيوش المنهزمة إلى القاهرة أمر بإعداد حملة أخرى لمحاربة العثمانيين، وكان العثمانيون في سوريا قد توقفوا للاستراحة، فظن طومان باي أن الرمال المتراكمة بين سوريا ومصر تحول بين العثمانيين وما يريدون. إلا أن الأمر لم يكن كما ظن؛ لأنه لم يكد يتم إعداده حتى أتاه كتاب السلطان سليم إلى القاهرة، ونصه:
من السلطان سليم خان بن السلطان بيازيد خان، سلطان البرين وخاقان البحرين السلطان ... إلخ. إلى طومان باي الشركسي: الحمد لله، أما بعد، فقد تمت إرادتنا الشاهانية، وباد إسماعيل شاه الهرطوقي. أما قنسو الكافر الذي حملته القحة على مناوأة الحجاج فقد نال جزاءه منا، ولم يبق لدينا إلا أن نتخلص منك، فإنك جار معاد، والله - سبحانه وتعالى - يساعدنا على معاقبتك، فإذا أردت اكتساب رحمتنا الملوكانية اخطب لنا، واضرب النقود باسمنا، وتعال إلى أعتابنا، واقسم على طاعتنا، والإخلاص لنا وإلا ...
شكل 12-3
فلما قرأ طومان باي الكتاب، وما في ذيله من التهديد المستتر استشاط غيظا، وأصر على المقاتلة، وكان عالما بعجزه، لكنه فضل الموت في ساحة الحرب على التسليم. فزاد في حصون دمياط وغيرها من الحدود السورية، وجمع كل ما أمكنه جمعه من الرجال، وسار حتى أتى الصالحية فعسكر هناك. أما السلطان سليم فسار من مرج دابق، وافتتح غزة والعريش والقطيعة، ثم علم بمقر الجيوش المصرية في الصالحية، وما هم فيه من العزم على المدافعة؛ لشدة اليأس فعرج بجيشه تاركا الصالحية عن يمينه، وسار حتى أتى الخانكاه على بضع ساعات من القاهرة.
فلما بلغ طومان باي تقدم العثمانيين إلى هذا القدر عاد بجيشه لمهاجمتهم من الوراء، فالتقى الجيشان في سهل قرب بركة الحج يوم الجمعة في 29 ذي الحجة سنة 922ه واقتتلا طويلا، والمصريون يحاربون ببسالة شديدة، لكنهم لم يكونوا يعرفون البارود، ولا المدافع - كما قدمنا - فكانت الغلبة للعثمانيين، ففر المصريون إلى القاهرة، وعسكر العثمانيون في الروضة.
فجمع إليه طومان باي عددا كبيرا من العربان بعد أن أرضاهم بالمال، وهجم على معسكر السلطان سليم هجمة اليأس، فلم ينل هذه المرة غير ما نال في المرات الماضية، فعاد إلى القاهرة على نية الحصار، فزاد في حصونها واستحكاماتها، وحصن القلعة تحصنيا عظيما، وأقام في كل شارع وفي كل بيت طابية للدفاع، وحمل السلاح كل من يستطيع حمله للمدافعة عن الوطن، ولكن رغم كل هذه الإعدادات، وما عما أظهره طومان باي من البسالة والإقدام، وما سعى إليه أمراؤه لم تنج القاهرة من يد العثمانيين فإنهم دخلوها عنوة، وأمعنوا فيها قتلا ونهبا وحرقا، واستلموا القلعة.
أما طومان باي فتمكن من الفرار على معدية قطع بها إلى الجيزة، ثم سار منها قاصدا الإسكندرية، فقبض عليه بعض العربان الرحل، وباعوه للعثمانيين. فاستحضره السلطان سليم مغلولا، ونظر إليه فإذا هو في حالة الكدر، وقد علا وجهه القنوط لما حل ببلاده من الذل والدمار، فتحركت عواطف السلطان سليم؛ فأمر بأن تحل قيوده، وأن يؤذن له بالحضور في مؤتمرات كان يعقدها السلطان سليم؛ لأجل المداولة في أمر البلاد، فكان يسأله مسائل كثيرة تتعلق بمحصولات البلاد، وخراجها، وإدارتها، وبقي الحال كذلك نحو عشرة أيام ، وفي اليوم العاشر رأى السلطان سليم أنه لم يعد في احتياج إلى مشورة طومان باي فأمر بشنقه في 19 ربيع أول سنة 923ه، فعلقوه تحت رواق باب زويلة بكلاب من حديد كان باقيا هناك إلى عهد قريب.
وبقتل طومان باي انتهت دولة المماليك الشراكسة أو البرجية بعد أن تسلطوا نحو 139 سنة، وأصبحت مصر إحدى الإيالات العثمانية الكبيرة، وبقيت جثة طومان باي ثمانية أيام معلقة؛ ليراها الناس.
الجزء الثاني
بيان
انتهى الجزء الأول من هذا الكتاب في طبعته الأولى بانقضاء الدولة الأيوبية، فبدأنا الجزء الثاني بدولة المماليك الأولى. ونظرا لتوسعنا في مواضيع الكتاب وإضافة ما جد من الحوادث المصرية بعد الطبعة الأولى جعلنا الجزء الأول من هذه الطبعة ينتهي في آخر دولة المماليك الثانية. فأصبح الجزء الثاني هذا يبتدئ بدخول مصر في سيادة الدولة العثمانية وينتهي بالعام الماضي. ولذلك كان أكثر توسعنا في تاريخ الدولة المحمدية العلوية من زمن مؤسسها محمد علي باشا إلى الآن. ويدخل في ذلك بيان ما حدث في هذا العصر من النهضات السياسية والعلمية والمالية والصحافية، وما تقلب على مصر من الأحوال السياسية أشهرها الحوادث العرابية والحوادث السودانية. واقتضى ذلك أن نخص هذا الجزء بدرس خاص، فطالعنا أهم المؤلفات التي صدرت عن أحوال مصر وتاريخها بعد صدور الطبعة الأولى، أو ما لم نكن اطلعنا عليه من قبل وهاك أهمها:
مصر الحديثة:
في مجلدين تأليف اللورد كرومر في الإنكليزية.
إنكلترا في مصر:
في مجلدين تأليف اللورد ملنر في الإنكليزية.
الإسماعيلية: رحلة إلى خط الاستواء:
في مجلدين للسير صموئيل باكر في الإنكليزية.
مصر والخديوي:
لدايسي في الإنكليزية.
تاريخ السودان:
في 3 مجلدات لنعوم بك شقير في العربية.
تقارير اللورد كرومر:
للورد كرومر في العربية.
مصر في حكم محمد علي:
في مجلدين لهامون في الفرنساوية.
الفصل الأول
الدولة العثمانية
من سنة 923-1213ه/ 1517-1798م (1) منشأ الدولة العثمانية
قبل التقدم إلى تاريخ مصر في سلطة الدولة العثمانية يحسن بنا أن نأتي على فذلكة في أصلها ومنشئها.
يتصل نسب العثمانيين بالتتر الذين كانوا يقطنون ما يجاور جبال الناي عند حدود الصين الشمالية، ويغلب على الظن أنهم الإسكثيون المعروفون قديما بالشجاعة وشدة البأس. ويقال إن جماعة منهم ينتبسون إلى جد يقال له «ترك»، نزحوا غربا في الجيل الأول للميلاد وأقاموا فيما هو الآن بلاد تركستان، ويحدها شمالا سيبريا، وجنوبا بخارا، وشرقا حدود الصين، وغربا بحيرة أورال، وهي مشهورة بجودة الإقليم وخصب المرعى وجمال السكان وقوة أبدانهم.
وما استتب لهم المقام في تركستان حتى أخذوا يمدون سلطتهم وهم لا يزالون في حالة الجاهلية. ولم يعتنقوا الديانة الإسلامية إلا في أواسط القرن الرابع للهجرة، وأشهرهم طائفتان كبيرتان تعرفان بالأغوزية والسلجوقية.
وكان الأتراك السلجوقيون يقيمون في ما يجاور بخارا، ثم اشتدوا وأنشئوا مملكة مستقلة شاسعة الأطراف يحدها بحر قزوين من جهة وبحر الروم من جهة أخرى، عواصمها فرسبوليس (إصطخر) وقرمان ودمشق وحلب ورومية في آسيا الصغرى. ثم افتتحوا جانبا من بلاد فارس. ثم هددوا إمبراطور الروم، وتغلبوا عليه حتى اضطر إلى تقبيل الأرض بين يدي ألب أرسلان ملك السلجوقيين.
وفي القرن الثالث عشر للميلاد كانت سلطة السلجوقيين منتشرة في آسيا الصغرى، وسلطانها علاء الدين ومقره مدينة قونية.
وظهر في أثناء ذلك جنكزخان القائد المغولي، وغزا قبائل الأتراك المقيمين في تركستان، فأذعنوا له إلا قبيلة أوغوزية من قبائل خراسان، هاجرت تحت قيادة أمير يدعى سليمان تطلب مقاما لها ومرعى لمواشيها. وما زالوا يسيرون غربا حتى حدث وهم يعبرون الفرات أن أميرهم سقط بجواده في النهر ومات فدفنوه هناك - وهو جد ساكن الجنان السلطان عثمان الغازي - فأصبحوا بعده جماعات متفرقة، فاتخذ ابنه أرطغرل قيادة جماعة منهم وسار بهم يخترق آسيا الصغرى. وهو في بعض السهول شاهد عن بعد غبارا متصاعدا وحربا قائمة فتقدم على نية الانتصار لأضعف الفئتين ففعل وهو لا يدري لمن ينتصر فقيض الله النصر له وتقهقرت الفئة الأخرى، ثم علم أنه انتصر للسجلوقيين وقهر المغوليين فشكر الله على ذلك.
فنال بذلك منزلة رفيعة لدى علاء الدين، فأقطعه بقعة كبيرة يقيم فيها برجاله على حدود فريجيا ويثينيا، وكانت أرضا جيدة ذات مرعى خصب. وفي تلك البقعة نشأ ابنه عثمان وشب وترعرع. وما زال أرطغرل تحت رعاية علاء الدين حتى توفي هو فخلفه عثمان. ثم توفي علاء الدين بغير ولد، فاقتسم أمراؤه مملكته فاستقل عثمان بما لديه سنة 1300م، وهو أول أمراء دولة آل عثمان.
شكل 1-1: السلطان عثمان الغازي.
ومن التقاليد المأثورة بين العثمانيين أن عثمان هذا عشق وهو شاب فتاة تدعى «مال خاتون»، وكان والدها شيخا تقيا ورعا طاعنا في السن اسمه أدبالي، فلما شعر بمحبة عثمان لابنته خاف العاقبة وصار يحاول إبعادهما الواحد من الآخر، وبالغ في حجاب ابنته؛ لأنه لم يكن يطمع بمصاهرة ابن حاكمه.
فجاء عثمان ذات ليلة ليبيت في منزل أدبالي وقضى معظم الليل هاجسا بحبيبته حتى غلب عليه النعاس، فرأى في الحلم كأن القمر خارج من صدر أدبالي ثم رآه يتسع بسرعة حتى غطى كل ما كان واقعا تحت نظره من الأرض. ثم أخذ في التقلص حتى عاد إلى حجمه الأول وارتد إلى صدر أدبالي كما كان. ثم رأى شجرة عظيمة خارجة من صلب أدبالي، وأخذ ظلها يمتد حتى غطى البر والبحر وتراءى له أن أنهر دجلة والفرات والدانوب والنيل خارجة من أصل تلك الشجرة. وجبال قوقاس وأطلس وطورس وهيموس يستظل بأغصانها، ورأى أوراقها تستطيل وتستدق حتى صارت كالسيوف، ورءوسها مصوبة إلى أشهر عواصم العالم وخصوصا القسطنطينية الواقعة عند ملتقى القارتين ومجتمع البحرين. وخيل له أنها جوهرة بين زمردتين وياقوتتين مصطنعة في فص خاتم، وأنه هم أن يجعل ذلك الخاتم في إصبعه فاستيقظ مبغوتا. فأخبر أدبالي في الصباح بما كان فاستبشر بما سيكون من مستقبل ذلك الشاب، وأنه سيملك القسطنطينية.
وما انفك خلفاء عثمان كلما اتسع سلطانهم يزدادون ثقة بمآل ذلك الحلم، وقد حاول بعضهم فتح القسطنينية فرجع ولم ينل وطرا، حتى ظهر محمد الفاتح السلطان السابع من سلاطين آل عثمان، وبينه وبين صاحب الحلم نحو 160 سنة؛ ففتحها بعد أن يئس المسلمون من فتحها.
شكل 1-2: السلطان محمد الفاتح يوم دخوله القسطنطينية بعد فتحها سنة 1453.
وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوروبا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فينا عاصمة النمسا، وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ إسبانيا، ووجهوا مطامعهم من الجهة الأخرى نحو الشرق، ففتحوا العراق والشام ومصر على يد سليم الفاتح كما تقدم، وبسلطنته يبدأ هذا الجزء من تاريخ مصر الحديث. (2) سلطنة سليم بن بيازيد (من سنة 923-926ه/ 1517-1520م)
أمر السلطان سليم بدفن طومان باي قرب قبر قنسو الغوري، وبعد دفنه بثلاثة أيام دخل السلطان سليم عاصمة الديار المصرية ظافرا في غاية ربيع أول سنة 923ه. وبعد يسير نزل إلى الإسكندرية في فرقة من جيوشه لوضع الحماية عليها. ثم عاد إلى القاهرة ومكث فيها إلى 20 شعبان من تلك السنة فبرحها قاصدا الروملي. ويقال إنه نقل معه ألف جمل محملة ذهبا وفضة فضلا عن أسلاب أخرى وهدايا قدمت له. وقبل خروجه من مصر جعل فيها حكومة منظمة فأصبحت مصر أيالة عثمانية.
وكان فيها من الخلفاء العباسيين إذ ذاك محمد المتوكل على الله (الثالث) الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية بمصر. وكيفية وصول الخلافة إليه أن الإمام المستنجد بالله الخليفة الخامس عشر الذي تولى الخلافة في أيام ينال سنة 859ه، كما تقدم توفي في 24 محرم سنة 884ه بعد أن تولاها 25 سنة، وولي مكانه الخليفة عبد العزيز بن يعقوب حفيد الخليفة العاشر المتوكل على الله ولقب بلقب جده. ثم توفي يوم الجمعة في 2 صفر سنة 903ه، فخلفه الخليفة أبو صابر يعقوب الملقب بالمستمسك بالله، ثم خلف هذا نحو الفتح العثماني الخليفة محمد المتوكل على الله المتقدم ذكره. فلما فتح العثمانيون مصر رأى السلطان سليم الفاتح أن نصره لا يؤيد إلا إذ قبض على الأزمة الدينية. فاستخرجها من أيدي الخلفاء العباسيين فصارت الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين وأول خلفائهم السلطان سليم. وأما الخليفة العباسي فإنه نقل إلى الأستانة وخصص له راتب معين لنفقاته، وقبل وفاة السلطان سليم بيسير عاد المتوكل إلى مصر وعاش فيها منفردا إلى أن توفاه الله سنة 945ه، وهو آخر الخلفاء العباسيين. (2-1) الخلافة والعرب والترك
ويجدر بنا أن نقول كلمة في الخلافة ونسبتها إلى العرب أو غيرهم. أفضت أمور المسلمين إلى ملوك وسلاطين من الفرس والأتراك والأكراد والبربر والجركس وغيرهم، ومع ما بلغوا من سعة الملك وعز السلطان، ومع حاجتهم إلى السيادة الدينية لتستقيم دولهم وتجتمع الرعية على طاعتهم لم يخطر لأحد منهم أن يطلب الخلافة لنفسه قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني بعد تضعضه بفتوح المغول. ولا ادعاها أحد من العرب غير قريش. وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة السلطان سليم العثماني، ولا تزال الخلافة في دولته إلى الآن.
على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن من الأمراء المسلمين أو القواد غير العرب، كانوا إذا طمعوا بالسيادة الدينية أو الخلافة انتحلوا لأنفسهم نسبا في قريش، كما فعل أبو مسلم الخراساني لما رأى من نفسه القوة على إنشاء الدولة، وربما طمع بالخلافة فانتحل لنفسه نسبا في بني العباس، فقال إنه ابن سليط بن عبد الله بن العباس.
وأما الملوك أو السلاطين الأعاجم فلما ضخمت دولهم في أواخر العصر العباسي، ورأوا انحطاط الخلافة وتقهقرها وتمنوا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلا إلى ذلك إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع بالنفوذ الديني من طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة. وأول من فعل ذلك عضد الدولة بن بويه المتوفى سنة 372ه، فإنه حمل الطائع لله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد ابنته ولدا فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب ولم يوفق إلى مراده.
ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى التقرب بالمصاهرة أيضا ولكن على أن يتزوج السلطان طغرلبك السلجوقي ابنة الخليفة وهو يومئذ القائم بأمر الله، فخطبها إليه ووسط قاضي الري في ذلك فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج؛ إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا أكفاؤهم بالنسب، وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده فأخذ في استعطافه ليعفيه من الإجابة على طلبه ، فأبى السلطان إلا أن يجاب. وحدثت أمور يطول شرحها خيف منها على الدولة فاضطر الخليفة إلى القبول، فعقد له عليها سنة 454ه، وهذا ما لم يجر مثله قبله؛ لأن آل بويه لم يطمعوا بذلك ولا تجاسروا على طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب؛ إذ يكفي من الخليفة تنازلا أن يتزوج بنات الملوك لا أن يزوجهم بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرلبك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في السنة التالية قبل الأرض بين يديها وهي جالسة على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت له. وظل أياما يحضر على هذه الصورة وينصرف. على أنه لم يوفق لإتمام ما أراده؛ لأنه توفي في تلك السنة. أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين. (2-2) نظام الحكومة المصرية أيام العثمانيين
وأخذ السلطان سليم في تأييد سلطته في مصر؛ ليأمن من تمردها وتلاعب ذوي الأغراض فيها. فجعل عليها حاكما يلقب بالباشا إليه مرجع الحل والعقد. وكان من جملة الذين انحازوا إلى العثمانيين في واقعة مرج دابق أمير يقال له خير بك من كبار رجال قنسو. فلما فتح الله على العثمانيين ولاه السلطان سليم على مصر بلقب باشا. ثم خشي من تفرد هذا الحاكم بالأمر مع بعد مصر عن الأستانة أن يكون داعيا لعصيانه. فأعمل الفكرة فيما يكفيه مئونة هذا الخطر فاهتدى إلى طريقة تضمن له ذلك. وهي أن يجعل في مصر ثلاث إدارات كل منها تراقب أعمال الأخريين؛ فلا يخشى من اتحادها وتمردها.
فالقوة الأولى: «الباشا»، وأهم واجباته إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة وللشعب ومراقبة تنفيذها.
والقوة الثانية: «الوجاقات» فإنه أقام في القاهرة وفي المراكز الرئيسية من القطر ستة آلاف فارس وستة آلاف ماش بالبنادق، جعلها ستة وجاقات «فرق» تحت قيادة وأوامر خير الدين أحد قواد العثمانيين العظماء، وأمره أن يقيم في القلعة ولا يخرج منها لأي سبب كان، وواجبات هذه الوجاقات حفظ النظام في القطر المصري والدفاع عنه وجباية الخراج. وقد رتبها على الوجه الآتي: (1)
وجاق المتفرقة: وهو مؤلف من نخبة الحرس السلطاني. (2)
وجاق الجاويشية: وهو مؤلف في الأصل من صف ضابطان جيش السلطان سليم فعهد إليهم جباية الخراج. (3)
وجاق الهجانة. (4)
وجاق التفقجية: وهم ناقلو البنادق. (5)
وجاق الإنكشارية: وهم أخلاط من نخبة القبائل الخاضعة للدولة العثمانية، وكانوا يعرفون أيضا بالمستحفظين لإناطة محافظة البلاد بهم. (6)
وجاق العزب.
وكان كل من هذه الوجاقات مؤلفا من أفراد يقال لهم «وجاقلية»، واحدهم «وجاقلي» على كل وجاق منها ضابط يلقب بالآغا يصحبه الكخيا والباش اختبار والدفتردار والخزندار والرزنامجي. ومن اجتماع هؤلاء الضباط من سائر الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا، فلا يقضي أمرا إلا بمصادقتهم. أما هم فلهم أن يوقفوه عن الإجراء وأن يستأنفوا إلى ديوان الأستانة عند الاقتضاء. ولهم أيضا أن يطلبوا عزله حالما يشتبهون بمقاصده. (2-3) الإنكشارية
وأهم تلك الوجاقات «الإنكشارية»، وهم يشملون الجند العثماني في ذلك العهد. أنشئ هذا الجند في زمن السلطان أورخان ثاني سلاطين آل عثمان (سنة 721-761ه) على يد قره خليل أحد كبار رجال الدولة، ونظر في تنظيمه إلى خلوه من عصبية تبعث على التمرد. وكان العثمانيون يومئذ يفتحون البلاد وأكثر أهلها مسيحيون فيدخل في حوزتهم جماعة من غلمان النصارى الذين قتل آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم ولا مرجع لآمالهم. فارتأى أن يربي أولئك الغلمان تربية إسلامية، ويدربهم على الفنون الحربية ويجعلهم جندا دائما لا يخشى منه التمرد؛ لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة ولا عملا غير الجندية ولا دينا غير الإسلام. فجندهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية ليدعو لهم. فدعا لهم وسماهم «يكي چري» الجند الجديد.
وقسم هذا الجند إلى وجاقات واحدها وجاق، والوجاق يقسم إلى أورط إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به ولبعضها أسماء خاصة. ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب الأعصر من 100 إلى 500، ويختلف عدد الأورط في الوجاق وعدد الوجاقات بمقتضى ذلك. وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «آغا» تحته سكبان باشي تحته غيره فغيره على هذه الصورة:
الآغا:
قائد الوجاق ويقابل اللواء في هذه الأيام.
سكبان باشي:
ينوب عن الآغا في الأستانة ويقابل القائمقام اليوم.
قول كخيا أو كخيا بك:
نائب الآغا أو السكبان باشي.
سمسونجي باشي:
قائد أورطة نمرو 71.
زغرجي باشي:
قائد الأورطة نمرو 64.
محضر آغا:
ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
خصكي:
ينوب عن الآغا في القيادة على الحدود.
باشجاويش:
قائد الأورطة الخامسة.
كخيا كري:
ينوب عن الوجاق لدى الآغا.
الأفندي:
الكاتب.
ولكل أورطة ضباط يقتسمون قيادتها وإدارة شئونها مما يطول شرحه.
شكل 1-3: آغا الإنكشارية ونائبه وخادمه.
كان للإنكشارية رواتب يسمونها العلوفة كانت تدفع يوميا باعتبار درهم واحد لكل إنكشاري، ثم ارتفعت إلى خمسة دراهم غير الهدايا التي كانوا ينالونها في الأعياد وعند تولية السلاطين، ويسمونها «بخشيش الجلوس» وغير ما يصرف لهم من الأطعمة كاللحم والخبز أو القمح. (أ) ملابس الإنكشارية وطعامهم
المقصود من ألبسة الجند التفريق بين رتبهم، فكان لكل طبقة من الإنكشارية لباس خاص نقتصر على وصف بعضها بالتصوير (انظر شكل
1-3 ).
فالصورة الوسطى التي تحتها نمرة 2 هي صورة آغا الإنكشارية وعمامته كبيرة منفوخة وعليه القفطان والجبة، وحول وسطه الحزام وفيه الخنجر، وفي قدميه نعال مكشوفة. وإلى يمينه في الطرف نمرة 4 نائبه المسمى «قول كخيا» وقاووقه يختلف عن ذاك اختلافا عظيما، وفي قمته شبه المروحة من الريش وبجانبه نمرة 3 خادم الآغا وعمامته كالعمائم المعروفة. وإلى يسار الآغا نمرة 1 الباشجاويش ويختلف لباسه عن أولئك من كل جهة وخصوصا قاووقه وقفطائه وإزاره ونعاله.
وترى مثل هذا الاختلاف في صغار الإنكشارية أيضا على تفاوت في الرتب والأعمال، فترى في شكل
1-4
أن نمرة 3 صورة جندي إنكشاري واقف وعليه الجبة والقطفان بشكل خاص والقاووق مثني إلى الوراء، ونمرة 4 إنكشاري واقف وقفة الاحترام، و1 ضرب آخر من الإنكشارية يعرف بسلاق، و5 نوع آخر جيولك. وانتبه إلى 2 فإنها صورة أحد الغلمان الأعاجم الذين يخرج الإنكشارية منهم ونمرة 6 إنكشاري مدرع.
شكل 1-4: أنقار الإنكشارية.
شكل 1-5: توزيع الشورباء علي الإنكشارية.
ويمتاز الإنكشارية بعادات خاصة في طعامهم وأهم أصنافه الشورباء؛ فقد كانت تصنع في حلل خاصة ترسل إلى الأجناد في قدور كبيرة يحملونها معلقة بأعواد مستعرضة كما ترى في شكل
1-5 .
يحمل الحلة اثنان من الجند يقال لهما «قراقول أقجي» يتقدمهما ضابط اسمه باش قراقول أقجي يحمل على كتفه ملعقة كبيرة من الحديد. فيمر بالأماكن التي فيها عساكر من أورطتهم وهم في انتظار وصولهم، فيحطون القدر على الأرض ويغرفون منها بالملعقة لمن يأتي بطبقة على قدر حاجته.
وللطعام شأن كبير عند الإنكشارية، وفي مطبخ كل أورطة قدر كبيرة هي مثال لقدر يحترمونها؛ اعتمادا على حديث يتناقلونه بينهم عن الحاج بكطاش صاحب الطريقة البكطاشية التي ينتسب إليها الإنكشارية أنه طبخ شورباء فيها، ويعتقدون أنهم إذا نقلوا هذه القدر من مكانها وصبوا هناك ماء زلزلت الأرض. وكانت هذه القدور ملجأ للمجرمين فمن أتى إليها وجب على الإنكشارية حمايته والدفاع عنه، كما كان يفعل العرب في حماية من يستجير بهم. وفي الحوادث الكبيرة التي تتفق لهم كقيامهم بثورة أو مفاوضتهم في أمر يهمهم يجتمعون حول هذه القدر للمفاوضة بجانبها تبركا بها. (2-4) الأمراء المماليك
أما القوة الثالثة فالمماليك. وهم بقايا الدولتين السالفتين، والفائدة منهم حفظ الموازنة بين الباشا والوجاقات؛ لأنهم في الأصل أعداء لكلا الفريقين، ومن غرضهم الانتصار للفريق الأضعف ليمنعوا القوي من الاستبداد. وقد كان القطر المصري منقسما إلى 12 «سنجقلية» (مديرية) يحكم كلا منها حاكم يقال له: «سنجق» أو «بك» يعينه الديوان (وهو مجلس شورى الباشا) من أمراء المماليك. ولا غرو أن تقاطع المصالح على هذه الصورة واختلاطها مع تعداد الآمرين مما يقود إلى القلاقل والمتاعب. أما الدولة العثمانية فقد اجتنت راحة من هذا التعب؛ لأنها كانت على ثقة من استبقاء الديار المصرية في حوزتها.
وبقي خير بك باشا واليا على مصر إلى أن أدركته الوفاة بمرض جلدي سنة 928ه، ودفن في جامعه المعروف باسمه في شارع درب الوزير تحت القلعة. وبعد وفاته لهجت الألسنة بذمه لعظم استبداده فكانوا يقولون إنه كان ينهض من لحده ليلا ويستغفر الله على ما أتاه من الشرور في حياته. (3) سلطنة سليمان القانوني (من سنة 926-974ه/1520-1566م)
وقبل وفاة خير بك باشا بسنتين توفي السلطان سليم، وخلفه ابنه السلطان سليمان سنة 926ه، وسنه 26 سنة ويعرف بالقانوني؛ لأنه سن قانونا. فمكث على كرسي الخلافة نحوا من نصف قرن، وقد أكثر من الاهتمام بمصر وتنظيمها. وكان أبوه قبل وفاته قد رسم الخطة التي يجب أن تسير عليها مصر في حكومتها وإدارتها لكنه توفي قبل أن يبرزها إلى حيز الفعل، فلما تولى السلطان سليمان جعل اهتمامه إتمام مشروع أبيه.
شكل 1-6: السلطان سليمان القانوني. (3-1) نظام الحكومة المصرية أيضا
وكان من رأي السلطان سليم أن ينشئ ديوانا تحت رئاسة الباشا حفظا للموازنة، أما السلطان سليمان فأتم الموازنة بإنشاء ديوانين عرفا بالديوان الكبير والديوان الصغير «أو الديوان فقط» وأناط رئاستهما بالباشا. وعليه أن يجلس عند انعقاد الجلسة وراء ستار المنبر. وعلى الكخيا والدفتردار استئذانه قبل المفاوضة، ومتى أقر الديوان على أمر أبلغاه ذلك القرار، وليس له إلا المصادقة والأمر بالتنفيذ. وجعل إقامة هذا الباشا بالقلعة تحت ملاحظة الآغا الذي هو قومندانها، ويجدد تعيين الباشا في كل سنة.
أما واجبات الديوان الكبير فهي المفاوضة والإقرار على ما يتعلق بالأشغال العمومية التي لا تتعلق إدارتها بالباب العالي نفسه. أما أعضاء هذا الديوان فهم آغاوات الوجاقات الستة ودفترداريوها وروزنامجيوها، ونواب من جميع فرق الجيوش وأمير الحج وقاضي القضاة وأعيان المشايخ والأشراف والمفتون الأربعة والأئمة الأربعة والعلماء. أما المخاطبات التي ترد إلى هذا الديوان فتعنون باسم الديوان الكبير لكنها تسلم للباشا، وله وحده الحق أن يأمر بعقد جلساته ولم تكن كثيرة. أما جلسات الديوان الأصغر فكانت تنعقد يوميا في قصره، وأعضاء هذا الديوان هم كخيا الباشا ودفترداره وروزنامجيه ونائب من كل من الوجاقات والآغا وكبار ضباط وجاق المتفرقة. ومن واجبات هذا الديوان النظر في الحوادث اليومية، ومن اختصاصاته البحث في الإدارات الثانوية.
وأنشأ السلطان سليمان فضلا عن الستة الوجاقات التي أنشأها أبوه وجاقا سابعا دعاه وجاق الشراكسة وهم بقية جند المماليك. ومن هذه الوجاقات السبعة تتألف حكومة مصر وحاميتها. أما نفقاتها فمن مخصصات يتولى ضبطها وتفريقها «أفندي» من كل وجاق. وجعل لكل وجاق مجلسا مؤلفا من ضباط ذلك الوجاق وبعض صف ضابطانه؛ لمحاسبة الأفندية والنظر في الدعاوي الخصوصية وعرض الترقيات للباشا للمصادقة عليها. ومقامهم في القاهرة، ولكل منهم لباس خاص برتبته وعليه علاماته. ومجموع رجال الوجاقات معا عشرون ألفا وقد يزيد أو ينقص حسب الاقتضاء. أما مقرهم ففي القاهرة، على أنهم كثيرا ما كانوا يخرجون منها للمهمات في المديريات. وكان لوجاق الإنكشارية امتيازات على سائر الوجاقات، وقائده (الآغا) مفضل على سائر القواد وله نفوذ عليهم.
وجعل السلطان سليمان للبكوات المماليك الذين أقامهم السلطان سليم امتيازات خصوصية وحقا بالارتقاء إلى رتبة الباشوية. وأضاف إليهم 12 بيكا آخرين لمهمات فوق العادة. وهاك أسماء الموظفين الذين ينتخبون من البكوات المماليك وهم: الكخيا أو نائب الباشا والقبابطين الثلاثة، وهم قومندانات ثغور السويس ودمياط والإسكندرية، ويسمى واحدهم قبطان بك، والدفتردار وأمير الحج وأمير الخزنة وحكمداريو أو مديريو المديريات الخمس الآتي ذكرها، وهي: جرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية. ولم يكن لغير الكخيا والدفتردار وأمير الحج الحق في دخول الديوان؛ فالدفتردار كان عليه ضبط الحسابات وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا ينفذ أمر بيع عقار إلا بعد توقيعه عليه إشارة إلى تسجيله في دفاتره. وأمير الحج يحمل الهدايا والصدقات التي كانت يرسلها السلطان سنويا إلى مكة أو المدينة، وعليه حماية قافلة الحج ذهابا وإيابا. وأما أمير الخزنة فيحمل القسم المختص بالقسطنطينية من حاصلات مصر برا وعليه حمايته. وينتخب من البكوات المماليك أيضا شيخ البلد. وسنعود إليه.
وكانت مديريات القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم في عهده كشاف لا فرق بينهم وبين البكوات في النفوذ. ولا يعمل بإقرار أحدهم إلا بعد مصادقة الشربجية وغيرهم من الوجاقليين الذين يتألف منهم ديوان خاص في كل مديرية.
ثم إن تعيين كخيا الباشا وقباطين السويس ودمياط والإسكندرية متعلق رأسا بجلالة السلطان، فيرسلونهم من الأستانة، ويستدعونهم إليها في آخر كل سنة. أما البكوات الآخرون فيعينهم الديوان ويوليهم الباشا، ويثبتهم الباب العالي. ومراكزهم ثابتة إلا أن واجباتهم تتغير إلا الدفتردار. وقد ينتخب البكوات من وجاق المتفرقة، ومتى انتخبوا لا يعودون تابعين لذلك الوجاق. وكان من هم الباب العالي الانتباه إلى السويس ودمياط والإسكندرية على الخصوص؛ لأنها الأبواب التي يدخل منها إلى مصر؛ فكان يرسل حاميتها رأسا من الأستانة تحت قيادة القبابطين ويجددها كل سنة، وهؤلاء القبابطين لم يكونوا يحسبون من جند مصر إلا باعتبار إقامتهم فيها، وبما ينالونه من الإمدادات المالية لنفقاتهم. أما فيما خلا ذلك فكانوا يحسبون أجانب في اعتبار الباشا وديوان مصر، ولم يكونوا تحت أوامر حكومة البلاد في شيء؛ فأوامرهم كانت ترد إليهم من ديوان الأستانة رأسا. (3-2) حاصلات البلاد
هذا من قبيل الإدارة، أما من قبيل حاصلات البلاد، فإن السلطان سليمان صرح بأنه المالك الحر لأرض مصر؛ فكانت له ملكا، وكان يفرقها إقطاعات على مزارعين كان يدعوهم «الملتزمين»، على أنه لم يكن له أن يمنع إقطاعها أو يوقفه فلم يكن بالحقيقة فرق بين هذه الإقطاعات والملك الحقيقي. والفلاحون الذين كانوا يحرثون الأرضين كانوا يتمتعون بنصيبهم منها ويورثونها لأعقابهم. ولكنهم كانوا مجبورين على العمل فيها بدون حق التصرف بها، وعليهم خراج لا مناص من دفعه للملتزمين، فإذا توفي فلاح بلا وريث تعطى أرضه للملتزم، وهو يعهد بحراثتها إلى من يشاء، وإذا مات الملتزم بلا وريث تعود الأرض للسلطان. وكان على كل من الملتزمين والفلاحين خراج يدفعونه إما نقدا وإما عينا، فإذا تأخر الفلاح عن الدفع يمنع من نيل نصيبه وإذا تأخر الملتزم تؤخذ الأرض منه. ونظرا لاتساع أرض مصر لم يمكن حصر أملاك كل من الملتزمين؛ فلم يكن ممكنا تعيين مقدار خراجها، فأرسل السلطان سليمان مساحين مسحوا الأرضين المصرية فقسموا المديريات إلى أقسام دعوها بالقراريط ومسحوا كلا منها على حده وحدوده. (3-3) باشوات مصر أو ولاتها أيام السلطان سليمان
كل هذه النظامات الإدارية والمالية أجراها السلطان سليمان بالتتابع بواسطة الباشوات الذين أقامهم على مصر مدة حكمه وعددهم 14. أولهم مصطفى باشا تولى بعد وفاة خير بك باشا في ذي الحجة سنة 926ه، وبعد تسعة أشهر و25 يوما أبدل بأحمد باشا وكان عدوا للصدر الأعظم إبراهيم باشا، فأسر الصدر سنة 930ه إلى أمراء القاهرة أن يقتلوه، فعلم هو بالدسيسة فقبض على الكتب الواردة بذلك قبل أن تصل إلى أصحابها، ثم استدعاهم وأعلنهم أنها أوامر من جلالة السلطان بقتلهم، ولم يطلعهم عليها فأبوا الإذعان، إلا أن إباءهم لم يمنع قتلهم.
ولما تأكد أحمد باشا أنه صار في مأمن من المقاومين صرح باستقلاله، وأمر أن يخطب له وأن تضرب النقود باسمه، وهو أول من طمع بالاستقلال من ولاة مصر في عهد الدولة العثمانية. لكنه بالغ بالعسف فاختلس ممتلكات البعض وحبس البعض فثارت الأفكار عليه حتى أصبحت حياته في خطر. وبينما كان ذات يوم في الحمام فاجأه أميران من أمرائه كان قد أمر بسجنهما وهما جهم الحمزاوي ومحمود بك، فكسرا باب السجن وخرجا رافعين العلم الشاهاني يستنصران الناس حتى أتيا الحمام، فعلم الباشا بذلك ففر من السطح والتجأ إلى أحد مشايخ عربان الشرقية واسمه ابن بقر، فتعقبه أعداؤه حتى أدركوه وقطعوا رأسه وعلقوه على باب زويلة، ثم نقل إلى الأستانة سنة 931ه.
فأرسل السلطان عوضا عنه قاسم باشا، وفي نيته تقصير مدة هؤلاء الولاة؛ لئلا يثور في خواطرهم حب الاستقلال، فبعد تسعة أشهر و14 يوما استبدله بإبراهيم باشا، وكان نشيطا محبا للإصلاح والنظام إلا أن قصر مدته لم يمكنه من إتمام ما كان شارعا فيه، فعزل وأقيم بدلا منه سليمان باشا سنة 933ه، وكان السلطان راضيا عن هذا الباشا واثقا به فأبقاه في الحكم تسع سنوات و11 شهرا.
وفي سنة 941ه استقدمه إلى الأستانة ليسلمه قيادة حملة أعدها لمحاربة الفرس والهند، وقد أقام في أثناء حكمه بنايات كثيرة من جملتها جامع سارية في القلعة. وناب عنه في غيابه خسرو باشا نحو سنة وعشرة أشهر فعاد سليمان باشا إلى مصر، وبقي عليها بعد ذلك نحو سنة وخمسة أشهر.
وفي سنة 945ه عهدت باشوية مصر إلى داود باشا، فبقي عليها 11 سنة و8 أشهر، وكان رجلا مستقيما كريم الأخلاق محبا للعلماء آخذا بناصرهم كلفا بالمطالعة، وعلى نوع خاص مطالعة المؤلفات العربية؛ فجمع منها عددا وافرا واستنسخ كل ما ظفر به من الكتب غير المطبوعة، فجمع مكتبة جميلة جدا. وكان الأهلون في مدة حكمه في بحبوحة السعادة والأمن، وتوفي في القاهرة سنة 956ه فتولى مكانه علي باشا، وهذا رمم وبنى عدة بنايات عمومية في القاهرة وفي فوة ورشيد واقتدى به غيره من بكوات مصر، فجعلوا يشيدون الجوامع منها الجامع الذي ابتناه عيسى بك في ديروط. وكان علي باشا محبوبا مكرما عند المصريين بمنزلة الأب، لكنه مع ذلك لم يحكم إلا أربع سنوات وستة أشهر. ففي سنة 961ه تولى باشوية مصر محمد باشا، وكان الناس يبغضونه فلم يحكم إلا ثلاث سنوات، ولما زاد التشكي منه عزل واستقدم إلى الأستانة للمحاكمة فحكم عليه بالقتل سنة 963ه.
وبعد محمد باشا تولى إسكندر باشا فحكم 3 سنوات و3 أشهر ونصف، وفي سنة 968ه تولى علي باشا الخادم. وبعد 17 شهرا خلفه مصطفى باشا (الثاني) في سنة 969ه، ثم في سنة 971ه تولاها علي باشا الصوفي سنتين و3 أشهر. وكان علي الصوفي قبلا حاكما في بغداد مشهورا فيها باعوجاج الأحكام والخيانة، فلما تولى مصر كثرت فيها السرقات والتعديات حتى غصت ضواحي القاهرة باللصوص، واخترقت فئة منهم المدينة حتى الجامع الأبيض. فاضطرت الحكومة أن تقيم سورا من قنطرة الحاجب إلى هذا الجامع منعا لمثل ذلك.
وفي شوال سنة 973ه أبدل علي باشا الصوفي بمحمود باشا، وهو آخر من تولى مصر في أيام السلطان سليمان فجاء من الأستانة بموكب عظيم فأهدي إليه في أثناء مروره من الإسكندرية إلى القاهرة هدايا عظيمة. فلما وصل القاهرة لاقاه الأمير محمد بن عمر متولي الصعيد على قارب فيه جميع أنواع الهدايا وخمسون ألف دينار، فأخذ الباشا الهدايا منه وأمر بخنقه حال خروجه من مجلسه. وأمر أيضا بخنق القاضي يوسف العبادي لأنه لم يأت لملاقاته ولم يهده شيئا، واستمر على هذه المظالم حتى قتل معظم أعيان القاهرة، فكان لا يمر إلا ومعه الشوباصي (رئيس الجلادين)، فإذا مر بأحد وأراد قتله أشار بيده إلى الشوباصي فيعمد حالا إلى ذلك السيئ الطالع فيعدمه الحياة بأسرع من لمح البصر.
وفي 3 رجب سنة 974ه توفي الأمير إبراهيم الدفتردار، وكان أميرا للحج فاستولى محمود باشا على ما ترك من المال والمماليك والجواري، وجملة ذلك مائة ألف دينار ضمها إلى المال الذي يرسل إلى الأستانة سنويا، وبعث معها هدايا ثمينة للسلطان ووزرائه استجلابا لخاطرهم. لكنه لم ينتفع من ذلك قبل أن قتل في يوم الأربعاء غاية جمادى الأولى سنة 975ه وهو مار في موكبه الاعتيادي بين البساتين. ولم تقف الحكومة على القاتل فاتهمت اثنين من الفلاحين وقتلتهما ظلما؛ لأنهما وجدا بقرب مكان القتل. وكان السلطان سليمان قد توفي قبل ذلك بسنة (صفر سنة 974ه) وسنه 74 سنة، ومدة حكمه 48 فتولى بعده ابنه سليم شاه «الثاني» في 9 ربيع أول من تلك السنة.
شكل 1-7: نقود سليمان القانوني.
وترى في شكل
1-7
نقود السلطان سليمان ضربت في القسطنطينية سنة 926ه. ومما يحسن التنبيه إليه أن سلاطين آل عثمان لا يؤرخون نقودهم إلا بسنة جلوسهم على السلطنة وليس بسنة ضربها. (4) سلطنة سليم بن سليمان (من سنة 974-982ه/1566-1574م)
فلما بلغ السلطان سليم شاه موت محمود باشا أمر بنقل سنان باشا من باشوية حلب إلى باشوية مصر. وبعد وصوله إليها بتسعة أشهر أنفذه لمحاربة اليمن، فسار سنان من مصر في 4 شوال سنة 976ه، ومعه حمزة بك وماماي بك وغيرهما من أمراء مصر، واستخلف على مصر إسكندر باشا الشركسي. ومكث سنان باشا في تلك الحملة سنتين و4 أشهر ففتح اليمن وعاد ظافرا إلى مصر، فرأى الأحوال هادئة والنظام مستتبا بدراية إسكندر باشا المذكور؛ لأنه كان حكيما محبا للرعية، فرفع الضرائب عن الفقراء والعاجزين والقسم الأعظم من طلبة العلم، وكان شديد التعلق بالعلم وذويه، فلما عاد سنان باشا إلى مصر (أول صفر سنة 979ه) عادت أحكامها إلى يده، فاهتم بتأييد النظام وحفظ رونق البلاد، فأعاد حفر ترعة الإسكندرية، ورمم وبنى فيها جامعا وشارعا وعدة حمامات، وبنى في بولاق بمصر شارعا ووكالات وجامعا لا يزال معروفا باسمه. وما زال على مصر إلى ذي الحجة سنة 980ه، فخلفه حسين باشا وكان على جانب من اللطف والدعة وحب العلم والأدب، ولا يعاب إلا لكثرة حلمه؛ الأمر الذي آل إلى تكاثر اللصوص في ولايته، ولم يحكم إلا سنة وتسعة أشهر. وفي أيامه توفي السلطان سليم شاه (سليم الثاني) في 28 شعبان سنة 982ه بعد أن حكم ثماني سنين وخمسة أشهر و19 يوما.
شكل 1-8: نقود السلطان سليم الثاني.
وترى في شكل
1-8
صورة نقود السلطان سليم الثاني مضروبة في حلب بتاريخ سنة 974ه. (5) سلطنة مراد بن سليم (من سنة 982-1003/1574-1594م)
وفي 10 رمضان بويع ابنه مراد خان (مراد الثالث)، وحال جلوسه على كرسي السلطنة ولى على مصر بدلا من حسين باشا مسيح باشا وكان خزندارا عند السلطان سليم الثاني، فحكم في مصر خمس سنوات وخمسة أشهر ونصف، ووجه اهتمامه خصوصا إلى إبطال السرقات والتعديات، فكان يقبض على اللصوص ويقتلهم بدون شفقة حتى بلغ عدد من قتل من اللصوص عشرة آلاف فارتاحت البلاد من شرورهم. ثم عكف على إصلاح شئون الرعية، وكان نزيها لا يقبل الرشوة ولا الهدية. ومن آثاره مسجد عظيم في ضواحي القرافة لا يزال يعرف باسمه. وقد بناه على اسم الشيخ نور الدين القرافي، وجعله له ولنسله ملكا حرا وخصص دخلا معينا للنفقة عليه. وأمر مسيح باشا أن تستهل الأوامر والكتابات الرسمية والأحكام بهذه العبارة: «الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه، إن المؤمنين إخوة فاحفظوا السلام بين إخوتكم واتقوا الله.»
وفي سنة 988ه ولي مصر حسن باشا الخادم خزندار السلطان مراد الثالث، فلم يكن همه إلا جمع الأموال بأية وسيلة كانت وإعادة ما كان حظره سابقه من الرشوة والهدايا. فبقي على ولاية مصر سنتين وعشرة أشهر. ولما عزل عنها سار من القاهرة خفية وطلع من باب المقابر لئلا ينتقم منه أهلها. وفي سنة 991ه خلفه إبراهيم باشا فأخذ يستطلع ويتحرى ما أتاه سابقه من الاختلاس، فجعل في جامع السلطان فرج بن برقوق موظفا خصوصيا لاستماع تشكيات المتظلمين على الوالي السابق من 10 رجب من تلك السنة إلى غاية رمضان، فاطلع على مظالم لا تحصى من جملتها 100442 أردب قمح من الشون العمومية باعها حسن باشا واستولى على قيمتها، فرفع إبراهيم باشا تقريرا مدققا بشأن ذلك إلى السلطان فأمر بقتله خنقا. ثم طاف إبراهيم باشا بنفسه يتفقد أحوال المديريات ويتحقق حالتها، وزار أيضا آبار أمرود في الصحراء ورمم بعضها. وفي عودته إلى القاهرة استقال من منصبه سنة 992ه، وتولى مكانه سنان باشا الثاني وكان دفتردارا. وبعد ستة أشهر وعشرين يوما برح مصر هاربا وسبب ذلك أنه أساء التصرف فاشتكاه الناس إلى الأستانة، فجاء أويس باشا إلى مصر ليتحرى تلك التشكيات فحالما علم سنان بمجيئه فر هاربا.
فتولى أويس حكومة مصر سنة 994ه وكان صارما في الأحكام. وكان في أول أمره قاضيا ثم صار دفتردارا في الروملي ثم نقل إلى باشوية مصر كما تقدم. وبقي عليها خمس سنوات وخمسة أشهر وعشرة أيام، وأراد أن يدرب الجنود فعصوه وهجموا عليه في الديوان في 28 شوال سنة 997ه وأهانوه ونهبوا بيته. وفي جملة ما نهبوا منه ساعة كبيرة تعرف منها الأيام. ثم ذبحوا الأمير عثمان قائد وجاق الجاويشية، وأخربوا بيت قاضي العسكر وقتلوا قاضيين من قضاة مصر، ثم عمدوا إلى الحوانيت فنهبوها. كل ذلك والأمراء لا يستطيعون منعهم والاضطراب يزداد والثائرون يتمردون، وقد حاول الدفتردار إيقافهم عند حدهم فذهب سعيه باطلا. ثم ظن أويس باشا أنه إذا جاءهم بالحسنى ربما يلينون فبعث إلى القضاة أن لا يخالفوا لهم أمرا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وفجورا حتى قبضوا على أولاد الباشا رهنا لما يريدون، فاضطر الباشا إلى الإذعان لما أرادوه وأعطاهم ما طلبوه، واستقال من تلك الولاية بعد أن مل من خيبة مساعيه الحميدة فيها. فتولى مكانه حافظ أحمد باشا سنة 999ه، وكان حاكما في قبرص وعلى جانب عظيم من حب العلم وطالبيه، حاذقا مدربا في أمور الأحكام. وكان رفيقا بالأهلين ففرق الحسنات على الحجاج الفقراء، وابتنى في بولاق وكالتين وعدة قيصريات وعدة بيوت وخصص ربع دخلها لعمل الخير وبقي حاكما في مصر 4 سنوات.
شكل 1-9: نقود السلطان مراد بن سليم.
شكل 1-10: نقود السلطان مراد بن سليم.
وترى في الشكلين
1-9
و
1-10
صورة نقود السلطان مراد بن سليم مضروبة في القاهرة بتاريخ سنة 982ه. (6) سلطنة محمد بن مراد (من سنة 1003-1012ه /1504-1693م)
وفي 17 رمضان سنة 1003ه تولى الخلافة في الأستانة السلطان محمد بن مراد (محمد الثالث) عوضا عن أبيه مراد الثالث.
فولى على مصر قورط باشا فلم يبق فيها إلا سنة وثمانية أيام، وكان الناس يحبونه للطفه ودعته وتنشيطه لطالبي الأدب ومساعدته للفقراء ولكل من يلتجئ إليه. وفي شوال سنة 1004ه خلفه السيد محمد باشا، وبقي على الحكومة سنتين اتبع في أثنائهما خطة أسلافه في تنشيط العلم والأدب؛ فأعاد بناء الجامع الأزهر، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ تفرق في الطلبة الفقراء، ورمم المشهد الحسيني. ومع كل ما كان يتوخاه من السعي في حفظ النظام بين الأهلين لم يمكنه إنقاذهم من ثورة عسكرية انتشبت في غرة رجب سنة 1006ه في سائر أنحاء القطر المصري. ثم اجتمع العصاة إلى القاهرة، وكان السيد محمد باشا إذ ذاك في منزله في برية الجيزة فعاد إلى القاهرة تحف به السناجق وزمرة من الخفراء فلم يبال العصاة بذلك، بل أطلقوا عليه النار ولم يتخلص من أيديهم إلا بعد شق الأنفس. فسار إلى أحد منازله فتبعوه وحاصروه هناك ليلا ونهارا، وألحوا عليه أن يسلمهم بعضا من ضباطه وفي جملتهم دالي محمد أحد كبار الأمراء والأمير جلاد الشوباصي والأمير خضر كاشف المنصورة، فطلب إليهم أن يمهلوه ثلاثة أيام، فلما جاءهم رسوله قالوا له: «سيحكم الله بيننا وبين مولاك.» وتفرقوا في المدينة فظفروا بقاضي العسكر عبد الرءوف فأجبروه على القيام بمطاليبهم. أما الباشا فاغتنم اشتغالهم بذلك الشأن وفر من منزله ودخل القلعة وأقفل أبوابها وراءه والتجأ إلى حسين باشا السكراني قائد عموم الجيش وبيري بك أمير الحج فحاولا تسكين الثورة فذهب سعيهما عبثا. ثم علما أن العصاة قتلوا الأمير محمد بك والدالي محمد وعلقوا رأسيهما على باب زويلة، ونهبوا بيتيهما وأثخنوا في الناس قتلا ونهبا.
شكل 1-11: والي مصر في موكبه بالقرن العاشر للهجرة.
وفي 17 ذي الحجة سنة 1006ه أبدل السيد محمد باشا بخضر باشا فحكم ثلاث سنوات و12 يوما، وقد أغضب الأهلين منذ وصوله القاهرة؛ لأنه أمر بقطع الأعطيات والجرايات التي كانت توزع على العلماء والفقراء من الحنطة، ولم يقتصر على الإيقاع بهؤلاء الضعفاء، بل تجاوزهم إلى الضابطة فأحرمهم زادهم فتجمهروا في 20 رمضان سنة 1009ه وساروا إلى قاضي العسكر. ثم اتحدوا والقاضي في مقدمتهم وتوجهوا إلى الديوان يريدون الانتقام، فقتلوا كخيا الباشا وأمراء آخرين فخاف الباشا فسلم لهم بما كانوا يطلبونه وأعاد لهم الأعطيات كما شاءوا، وخمدت الثورة وعادت المياه إلى مجاريها. إلا أن الباشا لم يلبث هنيهة حتى جاءه الأمر بالإقالة فاستقال وولي مكانه الوزير علي باشا السلحدار وكان محبا للحرب؛ ولذلك كان يكرم الجند على الخصوص، لكنه كان سفاكا للدماء، فتظلم الناس من قسوته ولم يكن يخرج في موكبه إلى المدينة أو ضواحيها إلا ويميت على الأقل عشرة أشخاص تحت حوافر جواده. فكان الناس يرتعدون خوفا من ذكر اسمه. ورافق كل ذلك جوع عظيم فكثرت الوفيات وعم الخراب. فازداد الرعب حتى أمر الباشا أن تدفن الموتى سرا، أما هو فترك القاهرة فرارا من تلك الغائلة واستخلف عليها بيري بك. وبعد يسير توفي هذا فانتخب السناجق الأمير عثمان بك ليقوم مقامه وبقي هذا حتى عين الباب العالي من يخلف علي باشا، وكان ذلك التغيير بسبب وفاة السلطان محمد الثالث في 16 رجب سنة 1012ه.
وترى في الشكلين
1-12
و
1-13
صورتين من نقود السلطان محمد بن مراد، الأولى مضروبة في القاهرة والثانية في دمشق.
شكل 1-12: نقود السلطان محمد بن مراد ضربت في القاهرة.
شكل 1-13: نقود السلطان محمد بن مراد مضروبة في دمشق. (7) سلطنة أحمد بن محمد (من سنة 1012-1026ه/1603-1617م)
فنصب ابنه أحمد بن محمد (أحمد الأول) فولى على مصر إبراهيم باشا. فحكم فيها مدة قصيرة انتهت بخطب جسيم، وذلك أنه منذ وصوله إليها عزم على إبطال طلبات الجند، ولما أراد إنفاذ ما نواه زادت الجنود تمردا. وفي 39 ربيع آخر سنة 1013ه علموا أن الباشا خرج من القاهرة في زمرة من رجاله، وركب النيل إلى بولاق قاصدا شبرا قرب جسر أبي المنجا. فاجتمعوا في ضواحي القرافة وتعاقدوا بالأيمان المغلظة على قتله، وفي الصباح التالي جاءوا وعسكروا في بولاق ينتظرون عوده. ثم قاموا من هناك يريدون مهاجمته في قلعة الدولاب وكانوا قد علموا بالتجائه إليها. فلما علم هو ومن معه من السناجق بقدوم تلك العصابة تشاوروا فيما بينهم، فنصح له السناجق أن يسافر بحرا قبل أن يصل إليهم ضيم، فلم يصغ لهم وتشدد بمن معه من الجاويشية والمتفرقة.
ثم جاءت الجنود الثائرة وأحاطوا بالقلعة وبعثوا من بينهم 15 رجلا ليأتوا برأس الباشا، فدخل هؤلاء القلعة والسيوف مشرعة في أيديهم حتى جاءوا مجلسه فانتهرهم قائلا: «ماذا تريدون؟ ألم تستولوا على مرتباتكم والإنعام الذي يعطى اعتياديا عند تولية الحكام عليكم فماذا تطلبون؟» فأجابوه: «لا نطلب منك شيئا إلا رأسك.» قالوا هذا وصفعه أحدهم على وجهه وأدركه الباقون بالطعن مرارا. ثم عمد أحدهم إلى رأسه فقطعه. فانتهرهم الأمير محمد بن خسرو ووبخهم على ما جاءوا به من القحة فلم يجيبوه إلا بما أجابوا ذاك، وأخذوا رأسي الاثنين وعادوا بهما إلى رفاقهم حول القلعة.
ثم حملوها وداروا بهما شوارع المدينة إلى أن علقوهما على باب زويلة، وكان قد تعود مثل هذه الأكاليل.
شكل 1-14: جامع السلطان أحمد بالأستانة.
وفي ذلك اليوم أقاموا عليهم عثمان بك فلم يقبل فولوا قاضي العسكر مصطفى أفندي، فلما علم ديوان الأستانة بقتل إبراهيم باشا أرسل عوضا عنه الوزير محمد باشا الكورجي الملقب بالخادم. وحال وصوله القلعة وردت الأوامر الصارمة من الباب العالي إلى جميع السناجق أن يستطلعوا أصل الثورة وأسبابها ويقبضوا على زعمائها. فاجتمع السناجق والقسم الأعظم من الجيش في قراميدان، وكان الباشا في القلعة، فبعث يستقدم السناجق إليه ليبلغهم هذه الأوامر رسميا فرفضوا المثول بين يديه، فتوسط الأمراء ووعدوا السناجق أنهم إذا سلموا القاتلين نجوا ونالوا العفو العام، فقبلوا وسلموا القاتلين إلى الباشا فأمر بقطع أعناقهم بين يديه حالا وأطلق السناجق . فخاف الثائرون وضعف عزمهم، ولا سيما لما رأوا من محمد باشا التيقظ لحفظ النظام ومعاقبة المعتدين، وقد قتل منهم نحوا من مائتي رجل في مدة حكمه القصيرة التي لم تدم أكثر من سبعة أشهر وتسعة أيام.
فتولى بعده الوزير حسن باشا وهو أقل صرامة من سلفه، فكان يعامل الجند بالحسنى، وكان ابنه فيهم برتبة بكلربكي، وكانت الأحوال هادئة جدا في أثناء حكمه، ثم تولى بعده الوزير محمد باشا في 7 صفر سنة 1016ه، وبقي على حكومة مصر أربع سنوات وأربعة أشهر و12 يوما ، وكان حكيما حازما أخذ منذ وصوله القاهرة في المحافظة على السلام، فنجى الأهلين مما كان يكدر راحتهم فاكتسب ثقتهم ومحبتهم إلا أنه لم ينج من الحساد وذوي الأغراض.
وفي أواخر شوال من السنة التالية ثارت عليه الجيوش، واجتمعوا في برج سيد أحمد البدوي، وتحالفوا أن لا يوافقوه على إلغاء الضرائب غير العادلة التي كانت مضروبة على القطر إلى ذلك العهد. ثم اختاروا من بينهم رئيسا ولوه عليهم سلطانا، وتقاسموا مصر إلى أقسام تولى كل واحد منهم إثارة الشغب والنهب في قسم منها، فانتشرت تعدياتهم في جميع الدلتا. فلما علم محمد باشا بذلك جمع السناجق والجاويشية والمتفرقة وسار بهم تحت قيادته لردع العصاة في 9 ذي الحجة سنة 1017ه، وأخذ معه ستة مدافع، وانضم إليه كثير من مشايخ قبائل العرب، وفي الليلة التالية عسكر الجميع في بركة الحج.
وفي الصباح هاجموا العصاة في الخانقاه فضيقوا عليهم بالنيران، فاضطر أولئك إلى التسليم فأخذ عليهم الباشا عهودا؛ أولها: أن يسلموا إليه سلطانهم وكبار رؤسائهم ووعدهم بالتأمين على حياتهم، فقبلوا وسلموا الرؤساء وعددهم نحو 77 فأمر بقتلهم حالا، ثم جرد الباقين من سلاحهم فتفرقوا فتعقبهم رجال الباشا، وقتلوا من ظفروا به منهم. فلما رأى قاضي العسكر محمد أفندي الملقب بختي زاده ما كان يحصل من أمثال هذه المذابح يوميا، نصح للباشا أن ينفي كل من يقبض عليه منهم إلى اليمن ففعل، وكانت النتيجة حسنة وبطلت التعديات.
ولما ارتاح محمد باشا من تلك الثورات أخذ في إصلاح الإدارة المالية، فتفحص بنفسه النفقات التي كانت تدفع من الخزينة، واقتصد منها كل ما لم يكن ضروريا. ثم نظر إلى الضرائب فأبطل طريقة المماليك الشراكسة فيها، واتبع القوانين التي صدرت سنة 932ه في زمن السلطان سليمان القانوني، ثم نظم المكوس وعدلها، ولم يكن يكلف نفسا إلا وسعها، فإذا رأى أرضا لا تقوى على القيام بما فرض عليها من المكوس تنازل لها عنه وساعدها في إحياء مواتها. ولما برح مصر نال من المكافآت والإنعامات ما لم ينله أحد من أسلافه في مصر. وتولى بعده محمد باشا الملقب بالصوفي، وكان يحب العلماء ورجال الفضيلة، وكان ورعا حليما عفيفا لم يقبل رشوة ولم يأت ظلما، إلا أنه كان ملوما لزيادة ضعفه بما يتعلق بمحبوبه يوسف الذي كثيرا ما تعدى حدوده.
وفي سنة 1022ه أرسل الصدر الأعظم عشرة آلاف جندي إلى اليمن لإخماد ما كان ثائرا من الشغب هناك، وأرسلت الفرقة المذكورة عن طريق مصر ومعها أمر سام إلى الباشا بدفع النقود اللازمة لها وتشييع الحملة إلى اليمن، فلما وصلت الجيوش إلى مصر وعلموا بما ورد من الأوامر بشأنهم ادعوا أنهم جاءوا ليقيموا في مصر ولم يذعنوا لأوامر الباشا بالسفر، فاتخذوا لهم منازل في مخازن باب النصر وطردوا بعض أصحابها منها، فاجتهد الباشا أن يحملهم على التسليم بالأوامر الواردة إليه بشأنهم، فذهب سعيه باطلا، وأقاموا المتاريس في أبواب الحارة، وأقفلوا باب النصر ونصبوا المدافع في برجيه؛ فاضطر الباشا إلى محاصرتهم بكل ما لديه من الوجاقات والمدافع، فتمكن الأمير عابدين بك من الدخول إلى حصنهم من باب في المدرسة المدعوة بالجانبلاطية، فخاف العصاة وسلموا، ففرق فيهم الباشا نحو ثمانين كيسا وسافروا.
وبعد يسير أقيل محمد باشا الصوفي فاعتزل في قبة العدلية، ولم يبرحها إلا بعد أن علم بوصول خلفه أحمد باشا دفتردار مصر سابقا إلى الإسكندرية، ثم جاء القاهرة ودخلها بموكب حافل. وبينما هو بموكبه في المدينة رماه بعض الناس بحجر من سطح بعض البيوت فكسر الهلال الذي كان فوق عمامته ولم يؤذه ، فأمسك الفاعل فاعترف بذنبه فقتل في ذلك المكان.
شكل 1-15: سبيل السلطان أحمد بالأستانة.
وفي محرم سنة 1025ه ورد إلى الباشا المذكور أمر من الأستانة أن يرسل ألفا من جنود مصر لتنضم إلى الجيش العثماني الذاهب لمحاربة الفرس، فأرسلهم تحت قيادة صالح بك أمير الحج فساروا على أتم نظام، ومروا بالمديريات، ولم يشعر الأهالي بمرورهم لما كان لهذا الباشا من النفوذ، وما أقامه في مصر من النظام، مع إعطائه الجيوش حقهم من المرتبات. ولم يكن يتيسر قبل ذلك مرور مائة رجل بمقاطعة واحدة ما لم ينهبوها. فالتقت هذه الفرقة بالجيش العثماني في الخانقاه وانضمت إليه، ولما ودع الباشا عساكره فرق فيهم المال فأصاب الواحد منهم 20 دينارا على الأقل.
وكانت مدة حكم أحمد باشا سنتين وعشرة أشهر واثني عشر يوما، ولم يقتل في أثنائها أكثر من عشرة أشخاص ارتكبوا أمورا استوجبوا من أجلها القتل، ولم يكن يحكم على أحد إلا بعد البحث الدقيق واستماع تقارير الدعوى من الطرفين. (8) سلطنة مصطفى بن محمد ثم عثمان بن أحمد ثم مصطفى بن محمد ثانية (من سنة 1026-1032ه/1617-1623م)
وفي يوم الأربعاء 23 ذي القعدة سنة 1026ه توفي السلطان أحمد الأول، وبويع أخوه السلطان مصطفى الأول، ويوم مبايعته استبدل أحمد باشا بمصطفى باشا لفغلي. لكن السلطان مصطفى لم يمكث على عرش السلطنة إلا ثلاثة أشهر وثمانية أيام. وفي يوم الأربعاء 3 ربيع أول سنة 1027ه خلفه ابن أخيه أبو النصر عثمان. أما الوزير مصطفى باشا فلم يبق على مصر بعد خلع السلطان الذي ولاه إلا بضعة أشهر؛ لأنه سهل النفوذ لذويه في الأحكام فنشأت ثورة عسكرية في 7 شوال سنة 1027ه، فقتل الثائرون عددا كبيرا من الأمراء والآغوات وغيرهم من الكبراء، واضطر الباقون إلى الفرار، ولم يسكن الاضطراب إلا بعزل مصطفى باشا بأمر السلطان عثمان. فتولى مكانه الوزير جعفر باشا، وهذا لم تطل حكومته أكثر من خمسة أشهر ونصف. وكان محبا للعلم والعلماء يجمع إليه رجال الأدب، ويكرم مثواهم، ولم يهتم كل تلك المدة إلا بما فيه منفعة البلاد وراحة العباد.
وظهر في أيامه وباء انتشر في مصر، وفتك بأهلها فتكا ذريعا من غاية ربيع أول سنة 1028ه إلى غاية جمادى الثانية من السنة المذكورة، وقد لوحظ أن معظم الذين ماتوا بهذا الوباء شبان بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين أعمارهم، وبلغ عدد من توفي بسببه 365000 نفس.
وتولى بعد جعفر باشا مصطفى باشا، فقبض على مصطفى بك الملقب بالبكلجي زعيم الثورة التي نشأت في أيام مصطفى باشا لفغلي وحكم عليه بالإعدام. فسر الناس بذلك؛ لأن مصطفى بك المذكور كان أصل متاعبهم. على أن سرورهم لم يلبث أن ظهر حتى أبدل بالكدر؛ لأن مصطفى باشا حاكمهم الجديد اضطهد تجارهم وضيق عليهم مسالك رزقهم. فرفعوا تظلماتهم إلى السلطان فنظر في دعواهم وأنصفهم، فعزل ذلك الباشا وولى حسين باشا، فبادر هذا إلى إبطال جميع الضرائب غير العادلة التي كان قد ضربها سلفه. وفي أيامه ارتفع النيل ارتفاعا فوق العادة فطاف على الأرض، وأغرقها حتى يئس الناس من البقاء لنهاية ذلك الطوفان، وأصابهم ضيق عظيم عقبه طاعون شديد. ثم عزل حسين باشا واستقدم إلى الأستانة، وقبل وصوله إليها خلع السلطان عثمان الثاني يوم الخميس في 8 رجب سنة 1031ه، وأعيد مصطفى الأول الذي كان قبله.
أما الباشا المعزول فوصل إلى الأستانة في أسعد الأوقات له؛ لأن إعراض السلطان السابق عنه كان داعيا لرغبة السلطان الجديد في تقريبه منه، فاتفقت الأحزاب هناك على توليته الصدارة العظمى. وكان عثمان الثاني قبل وفاته قد بعث إلى مصر محمد باشا بدلا من حسين باشا، لكنه لم يصل مصر إلا بعد أن أنبأ أهلها بما كان يأتيه في الروملي يوم كان واليا عليها، فنفروا منه وخافوا من تصرفه. ولحسن حظهم لم يبق بينهم إلا شهران ونصف شهر، فلما تولى حسين باشا الصدارة العظمى عزله بأمر السلطان مصطفى الأول وولى إبراهيم باشا. وبقي هذا على مصر سنة وقد تمكن بحسن سياسته وتدبيره من اكتساب رضى الأهلين وثقتهم، إلا أنه حصل في أيامه ضيق عيش وغلت أسعار المأكولات جدا.
ولما عزل إبراهيم باشا سافر إلى الإسكندرية بحرا خلافا للعادة الجارية فيمن سبقوه على حكومة مصر؛ فإنهم كانوا إذا عزلوا من مناصبهم سافروا برا. وتولى مكانه مصطفى باشا، واستلم زمام الأحكام في 22 رمضان سنة 1032ه، فأتاه كتبة الديوان يشتكون تصرف سلفه وقالوا إنه مدين للخزينة بمبلغ وافر، فأرسل في أثره بعض الجاويشية فالتقوا به فهددهم بالقتل إذا لم يعودوا عنه فخافوا وعادوا إلى القاهرة. فأرسل الأمير صالح بك فأدركه وقد نزل البحر في الإسكندرية، فأوعز إليه أن يقف فأجاب أنه متوجه إلى الأستانة، فإذا كان عليه شيء يدفعه هناك إلى السلطان نفسه. قال ذلك ونشر الشراع فمخرت به السفينة فأطلقوا عليه من طابية منارة الإسكندرية بعض الطلقات المدفعية فلم يبال بها. (9) سلطنة مراد بن أحمد (من سنة 1032-1049ه/1623-1640م)
فبلغ الأستانة والسلطان مصطفى الأول قد خلع، وتولى مكانه السلطان مراد الرابع ابن أحمد فلم يتعرض له أحد. وبعد تولية مصطفى باشا بثلاثة أشهر - أي في 15 ذي الحجة - ورد إلى القاهرة الأمر بعزله وتولية علي باشا مكانه. فاجتمعت الأجناد وساروا إلى القائمقام عيسى بك يطلبون الإعطاءات التي تفرق عند تولية كل وال جديد، فانتهرهم عيسى بك قائلا: «أفي كل ثلاثة أشهر يجددون هذه الطلبات؟!» فأجابوه: «وما المانع؟ ألم يغير مولانا السلطان كل ثلاثة أشهر واليا علينا؟ ألا يضر ذلك بمصلحة البلاد؟ وإذا أراد أن يولي كل يوم واليا، فنحن أيضا كل يوم نطلب الإعطاءات التي لنا.» فحاول القائمقام إقناعهم فلم ينجح ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وتهديدا، وصرخوا جميعهم بصوت واحد: «نحن لا نرضى حاكما آخر غير مصطفى باشا وليرجع هذا إلى حيث أتى.» ثم قرءوا الفاتحة وأقسموا أن يحافظوا على ما قالوه، وأن لا يحنت أحد منهم بذلك؛ وبناء عليه أعيد مصطفى باشا إلى منصبه.
فلما رأى الحزب العسكري معه كتب إلى السلطان يطلب تثبيته، وأرفق الكتاب برسائل عديدة ممضاة من علماء القاهرة ومشايخها وقضاتها وجميعهم يطلبون تثبيته. ثم بلغهم وصول علي باشا إلى الإسكندرية، فبعثوا إليه وفدا يبلغونه أن الجند والأهلين متفقون على رفضه، فجمع الوفد إليه ودفع إليهم كتبا كلها مدح وإطناب للأمراء والجيوش، فعاد الوفد وقرأ تلك الكتب على الجند فلم يكن جوابهم إلا إعادة الوفد ليعيدوا مطالبهم الأولى. فلما رأى إصرارهم استشاط غضبا، وأمر فقبض على ذلك الوفد وقيدوا إلى قلعة الإسكندرية مغلولين وزجوا في سجنها، فتآمروا مع جند الإسكندرية - وكانوا من حزبهم - فحلوا وثاقهم وهجموا جميعا على علي باشا، وقوضوا خيمته وأجبروه على الخروج من الإسكندرية حالا، فأنزلوه في قارب مخصوص وأخرجوه من الميناء، وكانت الريح ضده، فأعادته ثانية فأطلق عليه الأمير مصطفى من قلعة المنارة عدة طلقات ثقبت سفينته ثقوبا لم تغرقها لكنها أخرجتها من الميناء ولقب الأمير مصطفى من ذلك الحين بالطبجي.
وفي 20 ربيع آخر سنة 1033ه جاء القاهرة كتاب يحمله حمام الزاجل - وهو بريد تلك الأيام - فحواه قرب وصول مندوب عثماني ومعه الأوامر السلطانية. وبعد أيام وصل ذلك المندوب ودخل القاهرة وجمع السناجق والأمراء وكبار الموظفين في الديوان، وألبس مصطفى باشا الخلعة المرسلة إليه من السلطان. ثم تلا عليهم الفرمان بتثبيته على مصر. وفي السنة التالية زاد النيل زيادة فوق العادة فبلغ 24 ذراعا، فخاف الناس أن لا ينحسر الماء عن أراضيهم في زمن يمكنهم فيه زراعتها. لكنه أخذ في الهبوط بسرعة فانكشفت الأرض وزاد خصبها. (9-1) الوباء وبيرام باشا
ولم تكد مصر تنجو من الجوع حتى داهمها ما هو أصعب مراسا منه، نعني الوباء؛ فإنه ظهر فيها بأوائل ربيع أول سنة 1035ه، وأخذ ينتشر في جميع أنحائها بسرعة.
وفي شعبان من تلك السنة أخذ بالتناقص ولم ينقض إلا في أوائل رمضان. قال بعضهم: إن الذين ماتوا بسبب هذا الوباء ثلاثمائة ألف نفس. فتذرع الباشا بهذه الضربات لاختلاس أموال الناس فجعل نفسه وريثا لكل من مات بالوباء من الأغنياء، فاستولى على تركاتهم؛ فتظلم الورثاء إلى الأستانة. ولا يخفى أن هذا الباشا لم يتول مصر إلا رغم إرادة الباب العالي، فاغتنم هذه الفرصة فعزله وولى بيرام باشا، فجاء وحاكم مصطفى باشا وحكم عليه بدفع الأموال التي اختلسها فباع كل ما له من المتاع والمقتنيات ودفع ما عليه، ولما عاد إلى الأستانة (سنة 1037ه) حكم عليه بالإعدام.
ولا يخفى أن محاولة الجيوش والأمراء عزل وتولية باشوات مصر تجرد إرادتهم مخالف للنظام، ومغاير لما وضعه السلطان سليم الفاتح لكل فئة من فئات مصر الحاكمة من الحدود. فكانت موافقة الباب العالي على مطاليب الأمراء خرقا للحدود السابقة. وعلى ما تقدم حصل بعض التعديل في القواعد الاساسية التي سنها السلطان سليم الأول منذ قرن. وكان بيرام باشا محبا للعلم والعلماء، لكنه كان أكثر حبا لجمع المال وإقامة المشاريع المفيدة، وتنشيط التجارة على أنواعها؛ فأكثر من الضرائب حتى على الصابون، وكان حازما لم يترك للجند فرصة للتمرد فهدأت مصر في أيامه. (9-2) محمد باشا وموسى باشا
ثم استدعي إلى الأستانة وعين وزيرا في ديوانها، وهذه هي المرة الثالثة لتعيينه في ذلك المنصب. فتولى بعده الوزير محمد باشا فساس الأمور بحكمة ودراية، وكان محبا للعزلة؛ فلم يخرج بموكبه في أثناء حكمه التي هي نحو سنتين إلا ست مرات. واتصل به ما أصاب اليمن من الشغب الناتج عن سوء السياسية مع القبائل البدوية، فعرض على السلطان إخضاعها وتعهد بإرسال فرقة من رجاله بقيادة قنسو بك أمير الحج لهذه الغاية. فأجابه السلطان إلى ما طلب، وولى قنسو بك على اليمن مع رتبة باشا وجعله بكلربكي (أمير الأمراء) على الجيش. فأنشأ قنسو جيشا من ثلاثين ألف مقاتل وقبض مبلغا كبيرا ليدفع منه نفقات الحملة، وبعد أن قبضه توقف عن السفر، وترك جيشه بمصر يسلبون وينهبون ويقتلون الأهلين ويتعرضون للمسافرين. ولحسن الحظ كان بين تلك الجيوش ألف رجل من الروملي جاءوا للاشتراك في تلك الحملة تحت قيادة الأمير جعفر آغا، فأخمدوا تلك الثورة وألزموا قنسو بك أن يسير بهم إلى اليمن في محرم سنة 1039ه فسار وحارب وفاز. وبعد سبعة أشهر من سفر تلك الحملة (في 19 شعبان) طاف على مكة سيل من الماء أغرق القسم الأعظم من أرضها حتى الكعبة، فهدم معظم بنائها ولم يبق من جدرانها إلا الأيمن . فاتصل ذلك بوالي مصر فأوصله للسلطان مراد الرابع، فأنفذ السلطان إلى محمد باشا يعهد إليه ترميمها ففعل. فبلغت جميع النفقات نحو مائة ألف قرش (القرش يساوي أربعة فرنكات تقريبا).
وفي سنة 1040ه كان ارتفاع النيل قليلا فجاء شهر توت ولم يبلغ 16 ذراعا، ومع ذلك فتح الخليج وسيقت المياه قليلة إلى الأرضين، ولكن البلاد أمنت من الجوع بتدبير محمد باشا. وفي هذه السنة استدعي محمد باشا إلى الأستانة، وقلده السلطان منصب الوزارة في الديوان الشاهاني مكافأة لحسن سياسته ودرايته. وتولى مكانه في مصر موسى باشا. وكان للأهلين في بادئ الرأي ثقة فيه، وكانوا يحبونه ويجلون قدره فخرجوا لملاقاته في شبرا، لكنه لم يكد يمكن قدمه حتى استسلم لهواه، فأخذ في الاختلاس والاستبداد بأنفس العباد، فأمر بقتل أكبر رجال مصر بغير وجه حق، وجعل يراقب سير أغنيائها ويترصد خطواتهم لعله يجد سبيلا للاستيلاء على ثرواتهم.
وفي شعبان من تلك السنة بعث السلطان يطلب إليه أن يعد حملة من جنده لمحاربة الفرس، فجمعها تحت قيادة قيطاس بك وضرب على البلاد ضرائب فاحشة باسم إعانة حربية. ولما وصلت تلك المبالغ إليه زعم أن مصر لا يمكنها تجريد مثل هذه الحملة؛ لأن ماليتها لا تسمح لها بدفع النفقات اللازمة. فنصح له قيطاس أن يتبع الاستقامة وهي أفضل له؛ فذهبت أقواله عبثا. ثم أوجس موسى باشا خيفة من قيطاس بك؛ لأنه اطلع على فظائعه فاستدعاه إلى القلعة في عيد الأضحى يوم الأربعاء في 9 ذي الحجة، وأمر أربعين من رجاله أن يقتلوه ففعلوا.
فلما رأى الأميران كنعان بك وعلي بك ذلك وقع الخوف في قلبيهما وأسرعا إلى الجيوش، فأعلماهم بما كان من أمر قيطاس بك مع موسى باشا، فاجتمعت العساكر حالا في الرميلة. وأما السناجق والأمراء والقضاء وكبار الموظفين فاجتمعوا في جامع السلطان حسن، وتفاوضوا في الأمر فأقروا على عزل موسى باشا وتولية من يقوم مقامه مؤقتا ريثما يأتي أمر الباب العالي بشأنه، فخلعوه وأقاموا حسن بك مكانه. فكتب موسى باشا إلى السلطان يعلمه بخبر تلك الثورة . وكان رؤساؤها قد رفعوا إلى ديوان الأستانة كتابين الواحد بالتركية وقع عليه السناجق والآغوات وكبار ضباط العسكرية، والآخر بالعربية من القضاة والمشايخ والعلماء يطلبون بصوت واحد خلع موسى باشا. فأجابهم السلطان إلى طلبهم فولى عليهم خليل باشا. (9-3) خليل باشا
وفي ربيع أول سنة 1041ه وصل خليل باشا إلى مصر واستلم أزمتها. وبلغه أن جماعة من اللصوص ثاروا تحت رئاسة أحد الشرفاء المدعو نامي، ونهبوا مكة، فجمع جند القاهرة وأرسلهم بقيادة الأمير قاسم بك لإخماد تلك الثورة. فساروا وحاربوا اللصوص وقتلوا زعماءهم. وفي صفر سنة 1042ه عاد قاسم بك بجيشه إلى القاهرة ظافرا، وأقبلت غلة مصر تلك السنة وزاد خصبها وتضاعف ريعها، ونزلت أسعار الحنطة من ثمانية غروش الأردب إلى غرشين.
وفي سنة 1042ه استقال خليل باشا من ولاية مصر، فخرج منها والناس يثنون عليه ثناء جميلا؛ لأنه كان عادلا حليما. فلم يكن يصدر حكمه إلا بعد التروي بما يقوله المتخاصمان. ومما يحكى عنه أنه جيء إليه يوما بثلاثة لصوص قبض عليهم وهم متلبسون بالجناية، فأمر أن يحاكموا فقال أحد رجال ديوانه: إن هذه الحادثة لا تحتاج إلى محاكمة لثبوت الجناية فعلا، فيجب إصدار الحكم رأسا بالإعدام. فلم يكن جواب الباشا إلا الأمر بهدم بيت ذلك الناصح. فاستغرب الرجل ذلك وسأل عن السبب الموجب له، فأجابه الباشا قائلا: «كيف يحق لك الاعتراض علي إذا أمرت بهدم بيتك المبني من حطام الدنيا، ولا يحق لذلك الباني العظيم معارضتنا إذا هدمنا بنايته بغير وجه شرعي.» ثم أبطل الأمر بالهدم وأطلق اللصوص. قال ابن أبي السرور ناقل هذه الحكاية: إن اللصوص قلوا بعد تلك الحادثة احتراما للباشا.
وبعد استقالة خليل باشا من مصر عين على الروملي، وتولى مصر الوزير أحمد باشا الملقب بالكورجي وكان قبلا أمير ياخور. وفي صفر سنة 1043ه وردت له الأوامر الشاهانية أن يبعث ألفين من عساكر مصر إلى سوريا مددا للحملة العثمانية على دروز لبنان مع خمسة آلاف قنطار من البقسماط وأربعة آلاف قنطار من البارود. ثم جاءت أوامر أخرى بطلب ألفي رجل آخرين وثلاثة آلاف قنطار من البارود لمحاربة الفرس. فرأى أحمد باشا أن مصر لا تقوم بهذه الطلبات فاعتذر إلى السلطان فبعث إليه 12 ألف قنطار من النحاس؛ ليسبكها نقودا على أن يبعث عوضا عنها إلى الأستانة ثلاثمائة ألف زر محبوب. (9-4) النقود بمصر
وللنقود في مصر تاريخ لا بأس من الإشارة إليه. كانت المعاملة بمصر عند الفتح الإسلامي بالدرهم، وهو وزن درهم من الفضة والدينار وهو مثقال من الذهب، وكان الدينار يبدل بعشرة دراهم. ثم تكاثرت الفضة فصار الدينار يساوي 12 درهما في أيام بني أمية و15 درهما في أوائل بني العباس ثم زادت قيمته إلى 20 درهما أو 25 أو 30 باختلاف الأحوال. فلما كانت الحروب الصليبية واختلط الإفرنج بالمسلمين دخل البلاد الإسلامية كثير من النقود الإفرنجية، وحدثت نقود ذهبية جديدة كالبندقي والمجر والبينتور وزر محبوب (وهو الدينار)، والجنيه العثماني والإفرنجي والمصري وغيرها وكلها من الذهب. أما النقود الفضية فأبدلت دراهمها بالأنصاف وهي البارات، وكانت المبيعات الصغرى تقدر بالأنصاف والكبرى بالبندقي أو الزر محبوب أو غيرهما من النقود الذهبية.
فأخذ أحمد باشا في سكب النحاس وأعد لذلك عمالا ومعامل. ثم رأى بعد حين أن جميع هذه الإجراءات ذاهبة عبثا؛ لأن الفعلة ملوا العمل ومات أكثرهم من الحر والجهد، فجمع إليه ذوي شوراه من الأمراء وقضاة الأقسام والقرى واستشارهم. وكان من رأيه أن يدفع مطاليب السلطان من ماله الخاص، ثم يجعل النحاس سبائك صغيرة لتباع في بلاد السودان بين تكرور وبلاد الزنج. فارتأى أحد القضاة رأيا آخر وهو أن يجبر أهالي القاهرة على استلام هذا النحاس ودفع المبالغ المطلوبة. وأن يفرق النحاس عليهم مقادير متناسبة لما يدفعونه، فوافق الجميع على ذلك، وأخذوا في تنفيذه في 16 ذي الحجة سنة 1043ه، وتمموه في آخر شعبان من السنة التالية.
وكان ذلك ثقلا عظيلما على كاهل المصريين؛ لأنه لم ينج من هذه الضريبة غني ولا فقير، فقلت النقود وغلت الحبوب وسائر المأكولات غلاء فاحشا، وزاد في الطنبور نغمة أن النيل في السنة التالية لم يكن وفاؤه حسنا ، لكن الناس استغلوا الأرض غلة متوسطة. (9-5) مظالم وتعديات
وبعد يسير دعي أحمد باشا إلى الأستانة فسار ولم يدفع الأموال التي جمعت للخزينة، فرفع المصريون شكواهم بشأن ذلك، فلما وصل الأستانة حكم عليه بالإعدام. وتولى مكانه الوزير حسين باشا فجاء مصر في عصابة من الدروز التقطهم من كل ناد، وكانوا من قاطعي السبل فساموا المصريين أنواع العذاب نهبا وقتلا، فاضطربت الأحوال وأقفلت الحوانيت ووقفت حركة الأعمال. وهذا أصل استهجان المصريين لكلمة «درزي» على ما يظن.
وأبطل حسين باشا حقوق الوراثة، فإذا مات أحد الناس استولى هو على تركته وأحرم منها ورثته الأيتام أو الأرامل أو الثكالى، وإذا أراد أحد الانتقام من عدو له بكفيه أن يشي به إلى حسين باشا بأنه غني أو ابن غني، فيزجه الباشا في السجن ولا يخرج منه إلا بالبذل الكثير. ولم يكن يمر يوم لا يطوف فيه حسين باشا المدينة في موكبه، ولا تغيب الشمس قبل أن يقتل رجلا أو رجلين أو أكثر. ويخطر له أحيانا أن يقتل كل من لاقاه في طريقه إنسانا كان أو حيوانا. وقد حسب عدد الذين ذهبوا فريسة عتو هذا الغاشم في مدة حكمه وهي سنة و11 شهرا فبلغوا نحوا من ألف ومائتي نفس غير الذين كان يقتلهم بيده. وكان له هيبة في قلوب رجاله فأراد يوما أن لا يشاركوه بالقتل والنهب، فحظر عليهم ذلك فلم يعودوا يجسرون على المخالفة، ولم يسمع بشيء من تعدياتهم من ذلك الحين.
ثم أقيل وخلفه الوزير محمد باشا بن أحمد باشا وابن ابنة السلطان سليم الثاني. وفي شوال من سنة 1047ه وردت إليه الأوامر أن يرسل ألفا وخمسمائة مقاتل نجدة للحملة العثمانية إلى بغداد، فأرسل تلك الفرقة بقيادة أمير الحج قنسو بك في محرم سنة 1048ه، فسارت ولم ترجع إلى مصر إلا بعد الاستيلاء على تلك المدينة في صفر سنة 1049ه.
واتبع هذا الباشا خطوات سلفه بالاختلاس والنهب، فجمع ثروة عظيمة من تركات الأمراء والعلماء، فقام عليه الورثة وبعد الجهد تمكنوا من تحصيل نصف الأموال . وازداد ظلما وعتوا حتى منع الصدقات التي كانت تدفع إلى الأرامل والأيتام وأخذها لنفسه، فكثرت التظلمات وتعددت العائلات المعسرة. وفي يوم الخميس 16 شوال سنة 1049ه توفي السلطان مراد الرابع.
وترى في شكل
1-16
صورة النقود الذهبية للسلطان مراد الرابع ضربت في القاهرة سنة 1032ه وهي سنة توليته.
شكل 1-16: نقود السلطان مراد الرابع بن أحمد. (10) سلطنة إبراهيم بن أحمد (من سنة 1049-1058ه/1640-1648م)
فظن المصريون أن في تغيير السلطان منجاة لهم مما كانوا يكابدونه. فبويع أخوه السلطان إبراهيم بن أحمد وأمر حالا باستبدال محمد باشا وأحرمه من العطية التي كانت تعطى لحاكم مصر عندما يستقيل من منصبه. لكنه أمر بعد ذلك بإبقائه فعاد إلى أعماله وازداد ظلما وعسفا ففتك بالناس فتكا ذريعا لم يبق ولم يذر.
ثم استبدل محمد باشا بمصطفى باشا الملقب بالبستانجي
1
وكان أبي النفس على نوع ما، إلا أن كاتبه أحمد أفندي كان عاتيا غشوما، وكانت أزمة الأحكام بيده فاستبد بها فكره المصريون الحياة من أجله، واتفق في أيامه تقصير النيل فازدادت الأثقال بغلاء الحبوب. ولم يكن الباشا يتعرض للأحكام مطلقا فكثرت السرقات حتى لم ينج حي من أحياء القاهرة من النهب، واضطر الناس إلى مهاجرة بيوتهم. وكان رئيس الضابطة إذا جيء إليه ببعض اللصوص لا تغيب عليهم الشمس في السجن. ومثل ذلك كان يفعل الكشاف «حكام الأقاليم» فتواترت التشكيات إلى الباشا فاضطر إلى عزل رئيس الضابطة وتولية كنعان بك مكانه، فاهتم هذا بالقبض على اللصوص فسجن عددا كبيرا منهم.
وفي شوال سنة 1051ه ثارت الجهادية وتمرد الجاويشيون على رئيسهم الأمير علي؛ لأنه لا يفرق الأعطيات إلا على كتبته، فلم ير الباشا بدا من عزله وتولية عابدين بك في مكانه. فلما رأى سائر الجيش ما كان من فوز الفئة الثائرة ثاروا جميعا وادعوا أن مخازن الحبوب فارغة، وطلبوا معاشاتهم المتأخرة منذ سنة. فعين محمد أفندي قاضي العسكر لتحري دعواهم فتفقد مخازن الحبوب فرآها حقيقة فارغة، وعلم أن ما كان فيها باعه الكاتب وأخفى ثمنه. فاضطر الباشا مراعاة لطلب الجمهور أن يتخلى عن كاتبه مع شدة حبه له، فاستنجد الجاويشية فأنجدوه وأعادوه إلى مركزه، فازداد تمردا وبالغ في الانتقام. ثم استقال مصطفى باشا وتولى الوزير مقصود باشا وكان واليا على ديار بكر قديما، فلما استلم مقاليد الأحكام بمصر بحث عن تصرفات سلفه فاطلع على أعماله، فقبض على كاتبه والكخيا وجلدهما، وأجبرهما على إرجاع مائتي كيس من النقود إلى الخزينة. أما مصطفى باشا فأرسل إلى الأستانة، وهناك أخذ منه مائتا كيس سلمت للخزينة الشاهانية، وأصبح في جملة الوزراء السبعة العظام. (10-1) الوباء
وفي أيام مقصود باشا قاست مصر أمر العذاب من وباء وفد عليها كان أصعب مراسا من الوباء الذي وفد في أيام علي باشا وجعفر باشا؛ لأنه كان عاما لم ينج من إصابته الشيوخ ولا الشبان، وقد أصاب من الشيوخ واحدا في الثمانية. ظهر هذا الوباء أولا في بولاق بأوائل شعبان سنة 1052ه، وبعد ذلك بشهرين ظهر في القاهرة. وما زال على معظمه من أول ذي القعدة من تلك السنة إلى غاية صفر من سنة 1053ه، ثم أخذ بالتناقص شيئا فشيئا ولم ينقض حتى انقضى الشهر الثاني. ولم يكن يسمع إلا بالوفيات المتتابعة في كل ساعة. وكانت الجثث تنقل بالعشرات دفعة واحدة فيمر في الشارع الواحد أحيانا ثلاثون أو أربعون جنازة. وقد روى ابن أبي السرور وهو من المؤرخين المعاصرين أن جملة من صلي عليهم من المتوفين في الجوامع الخمسة الرئيسية في القاهرة في أثناء ثلاثة أشهر ألفان وتسعمائة وستون. وصاروا في آخر الأمر يدفنون موتاهم بلا صلاة، وعدد هؤلاء لا يقل عن عدد الذين صلي عليهم، أما خارج القاهرة فلم يكن الوباء أقل فتكا، ويقال إن 230 قرية أصبحت خرابا لإصابة سكانها جميعا بذلك الداء. (10-2) مقصود باشا
فلما رأى مقصود باشا ما ألم بمصر من الدمار سعى في إصلاح الأحوال جهده، فاستعمل الرفق وألغى الضرائب التي وضعها أسلافه بغير الحق. وجعل الوراثة إلى الأقرباء الشرعيين مع دفع شيء من التركات إلى الحكومة، وتحرى التعديات تحريا شديدا، وشدد في القبض على اللصوص فقبض على كثيرين منهم، فقتل بعضا وسجن بعضا وقاص آخرين حسب ذنوبهم مع الصرامة، فاستكنت الناس وطابت قلوبهم. وبينما كان هذا الباشا ساعيا في ما تقدم ظهرت في الإسكندرية في 20 ذي القعدة من تلك السنة ثورة كدرت أعماله. وذلك أن نحوا من ستمائة من المسيحيين كانوا تحت طائلة القصاص مغلولين في سجون الإسكندرية، ففي اليوم المذكور فتقوا السجون والمسلمون في الجوامع يصلون وطفقوا ينهبون الحوانيت والمخازن والبيوت ولم يبقوا ولم يذروا، ولما ملئوا جعبة مطامعهم نزلوا إلى مركب كان بانتظارهم في البحر وأقلعوا يطلبون الفرار.
ولم يكن ذلك كل ما هدد مقصود باشا وحال دون مشاريعه، بل هناك ما هو أدهى وأمر. وذلك أن جماعة السناجق تآمروا على عزله في يوم الجمعة 12 رمضان سنة 1054ه باجتماع عقدوه في بيت الأمير رضوان بك الملقب بأبي الشوارب. وسبب ذلك أن مقصود باشا كان قد طلب إليهم حبا بإيفاء رواتب الجيش عن شهر رمضان أن يدفعوا الثلث الأول من المال الذي يطلب منهم للخزينة عن الإقطاعات العسكرية التي في أيديهم. فرفضوا بالإجماع وطلبوا عزل بعض الموظفين الذين يعدونهم من أنصار الباشا. فسلم لهم الباشا بما أرادوا فلم يقنعوا بذلك فكتبوا إلى الأستانة يشكون من سوء تصرفه ووافقهم كثيرون من الأعيان، فكتب إليه الباب العالي رأسا ما مفاده: «إن الحضرة الشاهانية لم تعلم أسباب الثورة الجهادية التي انتشبت في مصر، وتتعجب كيف أن الباشا لم يبلغ الباب العالي خبرها.» فأجاب الباشا أنه لم يحصل لديه ما يدعى ثورة، وإنما هناك بعض الاختلافات التي يرجو إصلاحها بالتي هي أحسن؛ ولذلك لم يكن ثم حاجة لإبلاغها. فطلب إليه الباب العالي أن يتحرى ويعاقب المعتدين ويصرف الأمر بما يتراءى له. ومع كل ذلك اضطر إلى الإذعان، لكنه أراد الفتك بالأمير علي بك والأمير ماماي بك والدفتردار شعبان بك؛ لعلمه أنهم زعماء تلك الثورة فأعد لهم كمينا ليقتلوهم في الديوان، وعين لذلك يوم الإثنين في 23 ذي الحجة سنة 1054ه، لكن الدفتردار نزل إلى الديوان وحده في ذلك اليوم فشاور الباشا عقله بين أن يفتك به وحده أو يخفي ما في ضميره ريثما يفتك بالثلاثة معا، فأقر أخيرا على إرجاء ذلك العمل إلى يوم آخر. (10-3) أيوب باشا وغيره
وفي اليوم التالي جاء الفرمان بعزله وتولية الدفتردار شعبان بك قائمقاما يتعاطى الأحكام وقتيا، فشق ذلك على الباشا لكنه أذعن وسلم مقاليد الأحكام لشعبان بك، فكتب السناجق إلى الباب العالي يطلعونه على حقيقة ما حصل في أيام الباشا السابق، ويطلبون إليه الإسراع في إرسال من يخلفه؛ فأنفذ إليهم أيوب باشا. وكان قبل ذلك الحين من رجال القصر الشاهاني. فلما عهدت إليه هذه الولاية تردد في قبولها لما رأى من الأخطار المحدقة بها، لكنه لم ير بدا من قبولها. وقد كان رجلا حازما مستقيما استعان برجاله على إدارة الأعمال فلم تمض سنتان على حكمه حتى استتب النظام وسادت الراحة. ثم استقال من ذلك المنصب بعد أن صار وزيرا، وعكف على العبادة واعتزل السياسة وزهد زهد الدراويش، فتنازل عن أملاكه في الأستانة للدائرة الخاصة الهمايونية، وانفرد في أحد المعابد في الروملي، فولي مكانه الوزير محمد باشا حيدر سنتين ونصف ولم يحسن الإدارة فارتبكت الأحوال.
وفي 10 رجب سنة 1057ه ثارت فرقة من الإنكشارية في مصر القديمة، فهددهم والي الشرطة فازدادوا تمردا، فساروا إلى الباشا وطلبوا قتل ذلك الوالي، ولم يكن ذنبه إلا أنه قام بما عليه، فوافقهم الباشا على ما أرادوا. أما الوالي فكان من وجاق الجاويشية. فلما علم هؤلاء بعزم الباشا قاموا يشكون من سوء تصرفه بصوت واحد، فخاف أن تبلغ هذه التشكيات مسامع الباب العالي فتعود العاقبة وبالا عليه، فاجتمع بقنسو بك واستشاره بما يفعل، وكان هذا لا يشير إلا بما يعود عليه بالمنفعة الشخصية، فأشار على الباشا أن يرفع إلى الأستانة تقريرا سريا يشرح فيه ما حصل من القلاقل، وينسبها جميعها إلى الأميرين رضوان بك وعلي بك، وينسب إليهما أيضا اختلاس الخزينة المصرية وأنهما سلباه منصب أمير الحج وحكومة جرجا؛ كل ذلك لكي يرجع قنسوبك وماماي بك إلى منصبيهما. (10-4) رضوان بك وعلي بك
فباشر الباشا كتابة ذلك التقرير وطلب إلى بعض الأعيان أن يوقعوا عليه، فبلغ ذلك مسامع رضوان بك فأسرع إلى كتابة تقرير مناقض لتقرير الباشا، وبعث به إلى الأستانة فوصل قبل تقرير الباشا، وفيه ما فيه من التشكيات ضد قنسو بك وماماي بك، فورد الجواب من الأستانة مفوضا إلى رضوان بك وعلي بك أمر النظر في تلك القضية، وفي 21 جمادى الأولى سنة 1057ه ورد الفرمان بذلك إلى الباشا، وفي 27 منه استدعاهما الباشا إلى القلعة فاستدعيا قنسو بك وماماي بك، وأمرا بقتلهما وقتل أمراء آخرين كانوا على دعوتهما. ولم تكد تتخلص مصر من دسائس هؤلاء حتى ظهرت دسائس مصطفى كخيا الملقب بالششنير؛ لأنه لم يسم سنجقا عوضا من قنسو بك. وفي 8 رمضان من تلك السنة وردت الأوامر إلى علي بك أن يترك القاهرة، ويتوجه حالا إلى حكومته في جرجا. وبعد ثلاثة أيام استدعى الباشا رضوان بك إلى وليمة في القلعة، فخاف من دسيسته فأبى الحضور، فغضب عليه الباشا وجرده من إمارة الحج، فخرج رضوان بك من القاهرة في مائتين من رجاله، وفيهم عدة من الأمراء والكشاف، واتحد مع علي بك؛ فبعث الباشا على أثرهما ألفين من جنوده ونحو خمسمائة من الإنكشارية، فاجتمع الجند في الرميلة وأقروا على إغفال أوامر الباشا. ثم وردت الأوامر من الأستانة بتثبيت رضوان بك وعلي بك في منصبيهما. فاضطر الباشا إلى استقدام الأميرين فقدما إلى القاهرة في 19 رمضان بما لهما من الرواتب والحقوق، فسعى إلى مصالحتهما مع مصطفى كخيا.
وفي 6 ذي الحجة من تلك السنة شاع في القاهرة أن الوزير مصطفى باشا سمي على مصر عوضا من محمد باشا بن حيدر. وفي 26 منه وردت الأوامر قاضية بإعادة محمد باشا إلى منصبه. وفي 17 رجب سنة 1048ه توفي السلطان إبراهيم وتولى مكانه السلطان محمد الرابع.
وترى في شكل
1-17
صورة النقود الفضية للسلطان إبراهيم بن أحمد ضربت في القاهرة سنة 1049ه.
شكل 1-17: نقود السلطان إبراهيم بن محمد. (11) سلطنة محمد بن إبراهيم (من سنة 1058-1099ه/1648-1687م)
وبلغ خبر ذلك التغيير إلى مصر في أوائل رمضان مع عزل محمد باشا وتولية الوزير أحمد باشا، فاستلم هذا زمام الأحكام مدة سنتين كلهما اضطراب وقلاقل.
وأول تلك القلاقل كانت سنة 1060ه بسبب تقصير النيل؛ فإنه لم يرتفع تلك السنة أكثر من 16 ذراعا فلم يرتو من أرض الصعيد إلا الثلث، أما الوجه البحري فلم يرتو منه شيء تقريبا. فغلت الأسعار حتى خيف من المجاعة.
أما الباشا فلم يكن يهمه غير تكثير الضرائب، مع أنه لم يكن يرسل منها إلى الأستانة إلا الثلثين، وكان لسوء نيته يرسل تلك المبالغ في عهدة رضوان بك؛ ليحمل الباب العالي على الشك بأمانته، فيتغير خاطر السلطان عليه. وكان إتماما لمكيدته يكتب إلى الباب العالي على التتابع يشكو من تصرف رضوان بك، ويطلب خلعه عن إمارة الحج وتقليدها لعلي بك. وكان هذا على ما علمت من الصداقة مع رضوان لكنه لم يكن يعلم بدسائس الباشا. أما الباشا فكان في نيته أن يوقع الضغائن بين الأميرين فيحل عرى اتحادهما، لكنه لم يتم مقصده حتى أتى الأمر العالي بعزله يوم السبت 6 صفر سنة 1061ه، ورضوان بك لم يرجع إلى القاهرة بعد. ولم تكن نتيجة مساعي أحمد باشا إلا زيادة تألف قلبي ذينك الأميرين، وكان من كرم أخلاقهما أن كلا منهما كان يتنازل للآخر عن إمارة الحج، فأعجبت هذه الأريحية المصريين فأحبوهما وبالغوا في احترامهما حتى أقاموا لهما دعاء عموميا في الرميلة. والباشا إذ ذاك محبوس في القلعة ولم يفرج عنه حتى دفع للخزينة مبالغ وافرة. فتولى مكانه الوزير عبد الرحمن باشا وما زال إلى أول شوال سنة 1062ه، وقد قاسى ما قاساه سلفه من السجن والإهانة؛ لأنه سار على خطواته. فاختار الباب العالي الوزير محمد باشا ليقوم مقامه في 5 شوال من تلك السنة، ولكنه لم يدخل القاهرة إلا يوم الثلاثاء في 8 محرم سنة 1063ه.
وما زالت الولاة تتوالى على مصر ولا شيء من أعمالهم وأحوالهم يستحق الذكر. وفي آخر الأمر تحول النفوذ كله من أيديهم إلى أيدي البكوات المماليك وهم يعدون مصر وطنهم ويغارون عليها. أما الباشوات إذا أتوا مصر لا يكون ديدنهم إلا اكتساب الثروة بأية طريقة كانت لعلم كل منهم أنه لا يلبث أن يأتيه الأمر بالعزل، وقلما عزل أحدهم ولم يكن السجن مأواه. (12) السلاطين سليمان بن إبراهيم وأحمد بن إبراهيم ومصطفى بن محمد (من سنة 1099-1115ه/1687-1703م)
فالسلطان محمد الرابع أقيل من السلطنة في 3 محرم سنة 1099ه، وأودع السجن حتى مات (سنة 1105) وبويع السلطان سليمان الثاني، وبعد 3 سنوات توفي (في 20 رمضان سنة 1102ه) فبويع السلطان أحمد خان ويدعى أحمد الثاني، وبعد 3 سنوات ونصف توفي (سنة 1106)، فبويع ابن أخيه السلطان مصطفى خان وهو مصطفى الثاني بن السلطان محمد الرابع. وبعد 9 سنوات تقريبا (في جمادى الأولى سنة 1115ه) أقيل وتوفي في السجن (في محرم سنة 1119ه). (13) سلطنة أحمد بن محمد (من سنة 1115-1143ه/1703-1730م)
وبويع أخوه أحمد خان وهو أحمد الثالث، وكانت مدة حكمه على المملكة العثمانية نحوا من 30 سنة. وفي أيامه حصلت ثورات عديدة انتهت بتحول سلطة الباشوات ونفوذهم إلى البكوات المماليك. وكانت قلعة الجبل سجنا للباشوات الذين كانوا يتولون الأحكام ولا يهمهم منها إلا الكسب الشخصي.
وقد توالى على مصر من سنة 1063ه إلى 1119ه اثنان وعشرون واليا أغضينا عن ذكرهم لعدم أهميتهم. وفي سنة 1119ه في أيام السلطان أحمد خان تولى مصر حسن باشا، وكان على القاهرة قاسم عيواظ بك بوظيفة شيخ بلد.
ومشيخة البلد منصب كان يتولاه أحد البكوات المماليك كما يتولون إدارة المديريات، ويقابل محافظة القاهرة اليوم. ولم يكن المنصب بنفسه مهما ولكن تراخي الباشوات واستفحال أمر المماليك جعل لهذا المنصب أهمية كبرى، حتى أفضى النفوذ بتوالي الأيام إلى صاحبه، وصار إليه الأمر والنهي كما ستراه في ما يلي. (13-1) قاسم بك وذو الفقار بك
وكانت المماليك في مصر على حزبين كبيرين يعرفان بالمماليك القاسمية نسبة إلى قاسم بك، والفقارية نسبة إلى ذي الفقار بك. وكان هذان الحزبان لا ينفكان عن المنافسة يحاول كل منهما اكتساب النفوذ له وإذلال الآخر. أما أصل هذين الحزبين ففيه أقوال، منها أنهما ينسبان إلى أخوين هما قاسم بك وذو الفقار ولدي سودون أحد أمراء المماليك في عهد السلطان سليم الفاتح، وأن السلطان سليما هو الذي نشطهما ونشط أحزابهما. وقد ذكر الجبرتي لذلك قصة طويلة لا حاجة بنا إلى ذكرها. وبعضهم يقول: إن هذين الحزبين ينسبان إلى قاسم عيواظ بك الدفتردار وذي الفقار بك الكبير سنة 1050ه، وكان قاسم عيواظ بك رئيس الطائفة القاسمية وذو الفقار بك رئيس الفقارية، وكان لكل من هاتين الطائفتين مناقب مختصة بها. فالفقارية كانت توصف بالكثرة والسخاء، والقاسمية بالثروة والبخل. وشارة الفقارية علم أبيض مزاريقه برمانة والقاسمية علم أحمر.
وكانت هاتان الفئتان قبل تولي حسن باشا في وفاق تام فلما جاء خشي من اتحادهما، فعمد إلى الدسائس فألقى بينهما الشقاق فحصلت بين الطائفتين وقائع دامت ثمانين يوما، فكانوا يخرجون من القاهرة إلى مكان يعرف بقبة العرب يوميا، ويأخذون بالكفاح من شروق الشمس إلى غروبها، ثم يعودون إلى القاهرة فيقضون الليل بسلام في بيوتهم بين نسائهم وأولادهم، ثم يعودون في الصباح التالي إلى المحاربة. ومن الغريب أن هذه المحاربات لم تؤثر في الراحة العمومية مطلقا، فظلت الأشغال جارية في مجراها والحوانيت والمخازن تفتح وتقفل كالعادة. (13-2) مشيخة إسماعيل بك
وانتهت تلك الوقائع بوفاة قاسم عيواظ بك فأسف عليه الناس وبكوه بكاءهم على حاكم عادل أو أب حنون بار. ولم يبق صديق ولا عدو حتى بكاه؛ لأنه كان فضلا عن حكمته وعدله ودعته شجاعا باسلا أبي النفس. فأقاموا ابنه إسماعيل بك مكانه شيخ بلد وصادق الباشا على ذلك لظنه أن إسماعيل لصغر سنه يكون آلة بيده يديرها كيف شاء، فزاد كدر ذي الفقار بك واشتد حنقه لأنه كان ينتظر أن يئول ذلك المنصب إليه.
وكان إسماعيل عاقلا حكيما كوالده عارفا وجه الربح والحق، فسعى في الوفاق مع طائفة الفقارية فاتحدت الطائفتان على الباشا. وكان إسماعيل بك من الجهة الأخرى يظهر الطاعة والرضوخ لأحكام الباشا لأنه رئيسه، لكنه لم ينفك ساعيا سرا في خلعه فكتب عنه إلى الأستانة، ففاز بعزله، فجاء غيره ثم أبدل بآخر فآخر وإسماعيل بك في منصبه والرعية يحبونه إلى ما يشبه العبادة.
ومما يحكى عنه أن أحد تجار القاهرة في أيامه واسمه عثمان باع لأحد القبقجية (لقب يعطى للحرس السلطاني) ثلاثمائة قفة بن إلى أجل مسمى، وكتب عليه بذلك صكا. فقبل الاستحقاق جاء من الأستانة إعلان بخيانة القبقجي والحكم عليه بالإعدام حالا، فجيء به إلى الباشا فقتله ووضع يده على تركته وفيها البن كما هو. فعلم عثمان التاجر بذلك فعرض لإسماعيل بك ما كان من أمر البن، فأجبر الباشا أن يرجع البن لصاحبه قبل كل شيء ففعل، فأصبح عثمان في حال من الامتنان لا يعرف كيف يبينها. فلاح له أن يهديه علبة مرصعة وبضعة قناطير من السكر النقي، فرفض إسماعيل بك تلك الهدية وخاطب عثمان التاجر قائلا: «إذا كان المال الذي حصلت عليه بواسطتي حقا لك فأكون قد فعلت الواجب علي والله يكافئني، فإذا قبلت هديتك أظلم نفسي. أما إذا كان هذا المال ليس لك وإنما حصلت عليه بالحيلة، فقبولي هديتك يعد مشاركة لك بالخيانة، لكنني مع ذلك أقبل السكر الذي حملته إلي على أن تقبض ثمنه من وكيلي؛ لأني سآمره أن يدفعه إليك.»
ويحكى عنه أيضا أنه كان يأدب في ليالي رمضان مأدبات يجتمع إليها العلماء والفقهاء والمشايخ وقراء القرآن، ولم يكن يؤذن لغير هؤلاء في الحضور فيها. فرأى ذات ليلة رجلا بين الحضور عليه ملامح الكآبة واليأس، فأوصى بعض الخدم متى ارفض الاجتماع أن يأتوا به إليه، ففعلوا فلما حضر بين يديه أعطاه مصحفا وأمره أن يتلو عليه سورة. فتوقف الرجل وجلا ثم ترامى على قدمي البك متضرعا وقال: «يعش سيدي البك، إني رجل نجار لا أعرف القراءة، وإنما أتيت إلى هذه المأدبة متنكرا بثوب الفقهاء لأملأ جوفي من الطعام؛ فإني في حالة من الفاقة شديدة.» فأنصفه، ولم يكتف بالإغضاء عن ذنبه، لكنه جعله في عداد خدمته وجعل لعائلته راتبا معينا. وصار هذا النجار بعد ذلك من أصدق الخدمة وأكثرهم غيرة وهمة.
وما زال إسماعيل بك شيخا للبلد 16 سنة تقلب في أثنائها على مصر عدة باشوات كانوا اسما بلا مسمى. وكان لحسن سياسته قد أوقف الفقاريين عن كل حركة؛ لتظاهره أنه على وفاق معهم فلم يجعل لهم فرصة يتحدون بها عليه. على أنه ارتكب خطأ واحدا آل إلى قتله. وذلك أن أحد المماليك الفقارية واسمه ذو الفقار أيضا كان له عقار يقوم بنفقات عائلته فاختلسه منه أحد المماليك القاسمية (من مماليك إسماعيل بك)، فرفع ذو الفقار دعواه إلى شيخ البلد إسماعيل بك فلم يصغ لطلبه وقضى بالعقار لمملوكه.
فشق ذلك على ذي الفقار فرفع دعواه إلى زعيم الفقارية ويقال له شركس بك. وكان خصما لإسماعيل بك بالفطرة فسار إلى الباشا وخاطبه بشأن تصرف إسماعيل بك. وكان في قلب الباشا حزازات من الحسد عليه فوافقه على الإيقاع به ثم قال له: «ليس لك وسيلة أفضل من أن تبعث أحد مماليكك وتأمره بقتله، وأنا أجعل له جميع ما يتركه من المال والنساء مكافأة لأتعابه.»
فوافقه على رأيه وعين لتلك الفعلة أول يوم يجتمع فيه الديوان، وأمر مملوكه ذا الفقار أن يستعد لإجرائها فقبل اعتمادا على وعد الباشا. ففي اليوم المعين جاء ذو الفقار إلى الديوان وفيه إسماعيل بك، فتقدم إليه وقبل يده قائلا: «أرجو أن تأمر بإرجاع عقاري إلي.» فأجابه إسماعيل بك: «سننظر في طلبك هذا.» فألح عليه فانتهره فاستل خنجرا ماضيا بقر به بطنه فتدفقت أمعاؤه ومات لساعته في وسط الديوان، فهجم رجال الباشا وقتلوا كل من كان هناك من رجال إسماعيل ولم ينج منهم إلا سريع العدو، هكذا كانت نهاية حكم إسماعيل بك سنة 1136ه، فنقلت جثته إلى بيته ثم دفنت بجانب جثة أبيه بجوار باب اللوق.
فتولى مشيخة البلد شركس بك، واستولى ذو الفقار على جميع ممتلكات إسماعيل بك ونسائه حسب وعد الباشا، فأصبح رجلا عظيما يشار إليه بالبنان، وفي حوزته مئات من المماليك، فخافه شركس بك وأخذ يسعى في إذاقته ما أذاقه لإسماعيل بك. فعلم ذو الفقار بتلك الدسائس فجمع إليه رجاله وفيهم عدة من الرجال العثمانيين، وهجم على شركس بك فجرت واقعة لم يستطع رجال شركس الثبات فيها أكثر من ربع ساعة فقتل معظمهم وفر الباقون وزعيمهم معهم يطلبون الصعيد، وهو الملجأ الوحيد للبكوات المغضوب عليهم. (13-3) ذو الفقار بك
فتولى ذو الفقار مكانه مع لقب بك بعد أن أقر الباشا على ذلك، وأصبح ذو الفقار عدوا لأترابه البكوات وعلى الخصوص لأبي دفية (سمي بذلك؛ لأنه كان يتشح برداء كبير يقال له: دفية)، ثم أنبئ ذو الفقار بك أن أبا دفية ساع في إهلاكه، وحاول ذلك مرارا ولم ينجح. أما شركس بك فجمع دعاته في الصعيد وسار بهم نحو القاهرة، فأرسل ذو الفقار بك عثمان كاشف أحد كبار قواده في فرقة من المماليك لمحاربته، فتقهقر شركس ورجاله مرارا حتى لحق ببلاد البربر.
فسكر ذو الفقار من خمرة النصر، وأخذ في الانتقام من البكوات الذين في القاهرة وقتل منهم من يظن فيه الانتماء إلى شركس بك، وهم كثيرون، فاتحد من بقي حيا منهم مع رئيس الشرطة والآغا رئيس الإنكشارية، وبعثوا إلى شركس بك بما كان من فعلة ذي الفقار، وتعاهدوا جميعا على محاربته، وانضم إليهم مصطفى القرد - وكان من أعداء ذي الفقار - ومعه جماعة من الرجال الأشداء. فقدم شركس بك إلى القطر المصري، فعلم ذو الفقار بذلك فجمع إليه العلماء والمشايخ وشاورهم في الأمر، فأجمعوا على عدم مناسبة الهجوم في تلك الحال إلا إذا تأكد الفوز، فلم يصغ لمشورتهم فأرسل عثمان بك أحد قواده لمحاربة شركس بك، فحصلت بينهما واقعة قتل فيها مصطفى القرد وغرق شركس بك في النيل وهو يحاول الفرار. فبعث عثمان بك برأسيهما إلى ذي الفقار. أما هذا فلم يهنأ بذلك النصر؛ لأنه قتل بعد قتل عدوه شركس بيومين بمكيدة أعدها له البكوات في القاهرة. وذلك أنهم ألبسوا واحدا منهم دفية، وجاءوا به إلى بين يدي ذي الفقار وقالوا له: «هذا أبو دفية قد جعله الله في أيدينا.» وكانوا قد جعلوا تحت دفيته عيارين ناريين. فلما وقف بين يديه أطلقهما عليه دفعة واحدة فسقط ذو الفقار مضرجا بدمائه في وسط ديوانه سنة 1142ه، فعلم عثمان بك بما أصاب رئيسه، فهرع للأخذ بثأره فدخل القاهرة وجعل يفتك بمن يصادفه في طريقه فخافه الجميع.
ثم إن محمد بك أحد البكوات الذين كان يترقبهم عثمان بك رأى منصب مشيخة البلد خاليا فطمع فيه، فعاهد صديقه صالح كاشف على أن يقتلوا من بقي من زملائه البكوات بمكيدة ينصبها لهم. فأدب محمد بك مأدبة فاخرة دعاهم إليها فلبوا دعوته، ثم علموا بمكيدته فقاوموه مقاومة شديدة وتمكنوا من قتله. فيئس صالح كاشف من مرامه ففر إلى القسطنطينية بعد أن شاهد رءوس البكوات ملقاة على الطريق أمام جامع الحسين. ثم عقب هذه القلاقل ضربة أشد وطأة؛ نعني الوباء الذي أصاب مصر في تلك السنة ويدعى طاعون الكي، فإنه انتشر في البلاد انتشارا سريعا وفتك بالعباد فتكا ذريعا. ورافق كل هذه الضربات خلع السلطان أحمد الثالث في جمادى الأولى سنة 1143ه.
وترى في شكل
1-18
صورة النقود الذهبية للسلطان أحمد بن محمد مضروبة في القاهرة بتاريخ سنة 1115ه.
شكل 1-18: نقود السلطان أحمد بن محمد. (14) سلطنة محمود بن مصطفى (من سنة 1143-1168ه/1730-1754م)
وبعد عزل السلطان أحمد بويع ابن أخيه محمود بن مصطفى خان وهو السلطان الرابع والعشرون من بني عثمان، ويدعونه محمودا الأول، وبقي هذا على كرسي السلطنة خمسا وعشرين سنة. أما الباشوات الذين تولوا مصر في أيامه فلم يكونوا أكثر أهلية من أسلافهم، وكانت الأحكام قائمة بمشايخ البلد، ولهم الحل والعقد لا يستطيع الباشوات معارضتهم في شيء. (14-1) مشيخة عثمان بك
فبعد قتل ذي الفقار بك تولى مكانه عثمان بك المتقدم ذكره، فرقى كثيرين من مماليكه إلى رتبة البكوية؛ ليقوموا مقام الذين هلكوا بالحوادث الأخيرة. وكان عثمان بك عادلا حازما ولكنه كان صارما لا يراعي في تنفيذ العدل جانبا، فعلم مرة أن أحد بكواته سعى في إقليمه ظلما فاستدعاه إليه فتحقق ارتكابه فقطع رأسه. ويحكى عن عثمان بك حوادث كثيرة تشير إلى حزمه واستقامته وقسطه، لا بأس من ذكر بعضها على سبيل المثال.
يحكى أن حمارا من حماري القاهرة أراد ترميم مذود حماره. وهو يفعل ذلك عثر في أحد جدران البيت على وعاء مملوء ذهبا ففرح جدا وأخذ الوعاء وسلمه إلى امرأته، وأوصاها أن تكتم الأمر لئلا ينكشف للحكومة فتأخذ المال منه؛ لأن لها وحدها الحق بالاستيلاء على مخزونات الأرض. فطلبت المرأة من زوجها أن يبتاع لها حليا وثيابا فاخرة لتتمتع بتلك الهبة، فأبى زوجها إجابة طلبها لئلا يقود ذلك إلى كشف الحقيقة، فاغتاظت وأسرعت لساعتها ووشت به إلى عثمان بك، فاستدعى الحمار وبعد أن سمع حقيقة الحال صرفه قائلا: «احفظ ما وهبك الله وطلق امرأتك وعش بسلام.»
ولما جاء الوباء إلى مصر كان عثمان بك في أول حكمه، فلما رأى الجوع الذي عقب الوباء فتح مخازنه وخزائنه وفرق الأقوات والأموال في الناس. ومع ذلك لم يستطع النجاة من مكايد ذوي المطامع وفي مقدمتهم إبراهيم وإسماعيل رضوان الأول كخيا
2
الإنكشارية، والآخر كخيا العزب، وكان كلاهما من المماليك، الواحد من طائفة القزدغلية والآخر من طائفة الجلفية.
وأصل الطائفة الأولى مملوك يقال له القزدغلي كان سروجيا، وأصل الطائفة الثانية أحمد الجلفي كان في أول أمره شيالا وأغناه الله بطريقة في غاية الغرابة لا بأس من ذكرها وهي: جاء بعض المماليك إلى إحدى معاصر الزيت ليبتاع مئونة بيته من الزيت مدة السنة، وكان أحمد الجلفي شيالا في تلك المعصرة، فابتاع المملوك الزيت واستأجر أحمد فحمله وسار معه حتى بلغا بيته، فأنزل الحمل ووقف ينتظر أجرته. فجاء المملوك وطلب إليه أن يساعده في إخفاء مبلغ من النقود في أحد جدران البيت، وألح عليه أن يكتم الأمر سرا وأعطاه بضعة دراهم مكافأة لذلك. فساعده وأخذ الدراهم وسار في سبيله حامدا شاكرا. وبعد ثلاثين يوما اتفق له المرور بالقرب من ذلك البيت فشاهد جماهير مجتمعة. ثم علم أن ذلك المملوك توفي وقد عرضت تركته للمبيع. فتقدم أحمد وابتاع البيت الذي فيه المخبأة، وبعد ارفضاض الجمع استخرج النقود، وسار بها إلى قريته (جلف) في مصر العليا، وامتلك ممتلكات كثيرة، ثم اتسعت ثروته وما زال حتى أصبح زعيما لعصابة كبيرة نسبت إليه.
وكان إبراهيم وإسماعيل رضوان في بادئ الرأي على تباين كلي بالأدبيات والماديات: كان إبراهيم في ضيق من المعاش مع إقدام وبسالة ومطامع كبيرة. وكان إسماعيل غنيا بليدا لا يهمه إلا التمتع بالملذات والشهوات. فكان إبراهيم في احتياج إلى إسماعيل ولذلك كان يتقرب منه، ثم تزوج إبراهيم ابنة محمد البارودي أحد التجار الأغنياء وأخذ معها مالا كثيرا؛ فتمكن بذلك من التقرب إلى بيت شيخ البلد وإلقاء المفاسد فيه بواسطة بعض المماليك والأتراك وغيرهم من ذوي الرتب كان يستعملهم آلة لتنفيذ مآربه. ثم تأتى له الارتقاء إلى رتبة البكوية مع صديقه إسماعيل رضوان فصار اسمه رضوان بك، واتحد الاثنان على السراء والضراء، ووحدا ممتلكاتهما واجتزآ بالسواء من محصولاتها.
فأوجس عثمان بك خفية من سرعة نمو ثروتهما، وملافاة لما كان يخشى حدوثه من طموح أنظارهما، ضم إليه ثلاثة أحزاب: أحدها حزب إبراهيم بك القطامش وفيه ثلاثة بكوات ، والثاني حزب علي بك الدمياطي وفيه بيكان، والثالث حزب علي كخيا الطويل. وشاورهم في الأمر فأقروا على قتل إبراهيم بك وكان إذ ذاك كخيا الإنكشارية ورضوان بك، فوافقوه على ما أراد. وكان وكيله أحمد السكري من مماليك إبراهيم بك فلم يمكنه كتمان ذلك عنه، فجاء إليه وأخبره بجميع ما كان من التواطئ على قتله وقتل رفيقه. فسار للحال إلى رضوان بك وأخبره، وتشاورا بشأن ذلك، فقررا نصب أحيولة يقتلان بها عثمان بك، فبعثا إليه رجالا يترصدونه في طريقه إلى القلعة، فمر فوثبوا عليه ففر بجواده حتى دخل القلعة ولم يظفروا به. فلاقاه وكيله وقد أضمر له الشر فسأله عما ألم به فأخبره بما كان فكلمه بلسان الثعلب ناصحا له أن يبرح المدينة حالا؛ لأن الناس قد قاموا يطلبون قتله، وما زال حتى أقنعه ففر إلى سوريا وسار هو معه. حتى إذا دنوا من غزة تنحى أحمد عن الطريق واختبأ في قرية يقال لها الأشرفية بحجة استطلاع الأحوال لحماية عثمان بك، فتربص هناك مدة، ثم عاد إلى القاهرة بمن معه من المماليك وسار إلى إبراهيم بك وأعلمه بما فعله، فكافأه على تلك الخيانة برتبة البكوية. وهم الأهلون ببيت عثمان فأحرقوه واقتسموا تركته.
أما هو فوصل سوريا وحده وسار منها إلى الأستانة، فولي بروصة ولبث فيها حتى توفاه الله، وجميع هذه الحوادث توالت على مصر في أثناء سنة 1156ه. (14-2) إبراهيم كخيا ورضوان بك
فلما خرج عثمان بك من مصر صفا الجو لإبراهيم كخيا ورضوان بك، فعملا على إبادة الأحزاب التي تآمرت عليهما، فأخذ رضوان بك على نفسه قتل علي كخيا الطويل، فأمر أحد مماليكه أن يقتله بالرصاص في وليمة حافلة فلبى المملوك الأمر، لكنه أخطأ الرمي وعوضا من أن يصيب عليا أصاب مملوكه الذي كان بجانبه فقبض عليه وقتل للحال. أما إبراهيم كخيا فتكفل بإهلاك من بقي من الأحزاب. وكان على ولاية مصر إذ ذاك كيور أحمد باشا، فطلب إليه إبراهيم أن يوافقه على إبادة البكوات فوافقه، وربما فعل ذلك خوفا منه، أو لأنه يعود عليه بالنفع الشخصي، واستعانوا بالنقود فبذلوها فسهلت مشروعهم حتى قتلوا علي بك الدمياطي بيد وكيله سليمان في وسط الديوان، وقد وعدهم هذا بتسليم رءوس البكوات الآخرين من أحزابه. فأمر إبراهيم كخيا ورضوان بك أن تقفل جميع منافذ القلعة على من فيها من البكوات المنوي قتلهم، وجعلا على بابي الإنكشارية والعزب جندا. وحافظ سليمان على وعده فبوشرت المذبحة وأول من قتل فيها خليل بك من دعاة الدمياطي ومحمد بك من دعاة قطامش وكثيرون غيرهم. وحاول علي بك وعمر بك البلاط الفرار فتبعهما الباشا بنفسه، ثم لاقاهما إبراهيم ورضوان وقتلاهما عند باب القلعة، ولم يدفن من القتلى إلا محمد بك وخليل بك.
ولم يبق من مناظري إبراهيم كخيا ورضوان بك إلا إبراهيم قطامش وعلي كخيا الطويل. فالأول مات من الحزن بعد مدة قصيرة، والثاني هاجر من تلقاء نفسه تاركا الدار ومن بناها. فصفا الجو لإبراهيم كخيا فتولى مشيخة البلد وسمى رضوان بك أميرا للحج. ثم جعلا يتبادلان هذين المنصبين كل سنة وعاد كل منهما إلى ميله الطبيعي: إبراهيم إلى مطامعه ورضوان إلى ملاهيه. فأخذ إبراهيم كخيا يفسد الأحكام ويستخدمها لاسترجاع ما بذله للحصول عليها، فلم يغادر وسيلة إلا استخدمها في سبيل مطامعه من قتل وفتك، فابتدأ بسليمان قاتل علي بك الدمياطي فحجر عليه في القلعة، ولم يفرج عنه حتى استرجع منه ما كان أعطاه من النقود. ثم باغت من بقي من الأغنياء في القاهرة ووضع يده على ممتلكاتهم بعد أن قتل بعضا منهم وبقي البعض الآخر. فاستولى في يوم واحد على أموال ثمانين بيتا من بيوت القاهرة، ووضع يده على محصولات البلاد والكمارك والقرى والمخازن حتى الحوانيت الصغيرة فلم يبق ولم يذر.
وكان كيور أحمد باشا قد استدعي إلى الأستانة وولي حكومة قبرص، فأقيم مقامه باشا آخر سنة 1156ه، فعامله إبراهيم كخيا بالاحتقار فحقد عليه. ثم اتفق غياب إبراهيم في قافلة الحج إلى مكة فاغتنم الباشا غيابه وتواطأ مع حسين بك الخشاب على مكيدة يعدانها لإبراهيم، فاتفقا على أن يقوم الخشاب بقتل إبراهيم ورفيقه رضوان وأن يكافئه الباشا على ذلك بمشيخة البلد. فلما رجع إبراهيم سعى الخشاب في إنجاز وعده، ففاز بالقبض على الاثنين فسجنهما في القلعة فولاه الباشا مشيخة البلد. لكنه لم يهنأ بها؛ لأن دعاة إبراهيم كخيا اتحدوا وهجموا على حسين بك والباشا، وأخرجوا المسجونين، ففر الخشاب إلى مصر العليا واختبأ في إبريم من بلاد النوبة. أما الباشا فاستدعي إلى الأستانة فعاقبه السلطان عقابا انتهى بالموت. (14-3) نشأة علي بك الكبير
وكان في حوزة إبراهيم كخيا أكثر من ألفي مملوك، في جملتهم علي الذي سيلقب بعلي بك الكبير ويكون له شأن عظيم بهذا التاريخ، وسترى في سيرته أنه من أفراد الدهر حزما وبطشا وحكمة. وكان علي سلحدارا بين مماليك إبراهيم كخيا. وكان إبراهيم يحبه كثيرا ويجل مواهبه حتى جعله ناقل سيفه. ومما زاده تعلقا به أنه اصطحبه إلى الحرمين في قافلة وكان قد صار كاشفا. فسار قائدا لتلك القافلة فلاقاهم في الطريق عصابة من اللصوص، فدفعهم علي بقلب لا يهاب الموت فلقبوه بالجني. ولما رجع إبراهيم كخيا إلى القاهرة عزم على مكافأة علي برتبة بك لكن صغر سنه ودسيسة الخشاب حالا دون ذلك.
ثم عقب ذلك شاغل أكثر أهمية زاد الأمر تأخيرا؛ وذلك أنه جاء القاهرة خبر وصول باشا جديد إلى الإسكندرية بدلا من الباشا الذي أخرج منها. وكان من عادة رجال الحكومة في مصر إذا علموا بمجيء باشا جديد أن يبعثوا وفدا يلاقونه في الإسكندرية، وفيهم العيون والجواسيس فيحيطون به يستطلعون مقاصده ونواياه، ويطلعون على ما في يده من الأوامر السلطانية، فإذا رأوا تلك الأوامر سلمية ومقاصده حسنة رحبوا به وفتحوا له الطريق حتى يصل بولاق فيحتفل الأمراء بلقائه. أما إذا تبينوا من أحواله غير ذلك أبلغوا الأمراء بالقاهرة، فيجتمعون ويقررون إعلانه أن يقف حيث هو، ويكتبون إلى ديوان الأستانة بعدم مناسبة ذلك الباشا الجديد وأن بقاءه في مصر مخل بالنظام العمومي، أو ربما حمل الرعية على الثورة. ثم يطلبون استبداله بآخر أكثر موافقة للبلاد منه.
فلما اتصل بهم خبر قدوم هذا الباشا واسمه راغب محمد باشا، سار شيخ البلد بنفسه لاستقباله ومعه البكوات، فخلع على كل واحد منهم خلعة كالمعتاد. ثم اجتمعوا جميعا بجلسة رسمية وأقسموا على الطاعة والإخلاص لأمير المؤمنين. وأحب الأمراء راغب باشا محبة عظيمة؛ لأنه عرف كيف يعامل شيخ البلد، فأحبته الرعية ومالوا بكليتهم إليه، فقضى بين ظهرانيهم سنتين كلهما سلام وطمأنينة، حتى أجمع البكوات على استبقائه بينهم زمنا طويلا.
شكل 1-19: أكبر رجال الدولة بملابسهم الرسمية: الصدر الأعظم والقائمقام والرئيس أفندي وعضو المجلس.
وهم في ذلك ورد إلى الباشا خط شريف
3
أن يسعى جهده في قطع دابر البكوات وفي جملتهم شيخ البلد ومن يلوذ به. فاستنتج الباشا من نص ذلك الخط أن ديوان الأستانة مشتبه بتصرفه في مصر، وأنه وشي إلى جلالة السلطان بأن اتفاقه مع بكوات مصر ليس إلا لعزمه على استخدامهم في مآربه بالاستقلال بحكومة مصر، وإخراجها من طاعة الدولة العلية. فوقع في حيرة وتردد بين أن ينفذ الأوامر الشاهانية مع ما فيها من الخطر، أو أن يعطيها أو يؤخرها، فيعرض حياته للخطر ويؤيد التشكيات التي تقدمت بحقه. وبعد أن نظر في المسألة من سائر وجوهها فضل الفتك بأصدقائه البكوات. فتواطأ مع عصابة من رجاله أنه متى اجتمع البكوات في مجلسه، فليكونوا على استعداد للهجوم عليهم معا عند أول إشارة. ففعلوا ما أمرهم به لكنهم لم يفوزوا كل الفوز؛ لأن ثلاثة من البكوات تمكنوا من النجاة وفي مقدمتهم شيخ البلد بعد أن جاهدوا الجهاد الحسن، وأوسعوا الباشا تعنيفا على فعلته هذه التي لم يكونوا ينتظرونها منه بعد ما أظهروه نحوه من اللطف والإخلاص. فبرأ ساحته بإطلاعهم على الفرمان السري الوارد له بهذا الصدد فكفوا عن الانتقام منه، لكنهم عزلوه وكتبوا إلى الأستانة يطلبون بدله. وعينوا ثلاثة بكوات في مكان الثلاثة الذين قتلوا بتلك المكيدة.
واغتنم إبراهيم كخيا هذه الفرصة لترقية علي كاشف فرقاه إلى رتبة بك، فشق ذلك على أحد البكوات المدعو إبراهيم بك، شركسي المولد يعرف بإبراهيم بك الشركسي، وكان من دعاة إبراهيم كخيا لكنه تظاهر عند ذلك بعداوته، ونمت بينهما الضغائن ولم تنته إلا بقتل إبراهيم كخيا بعد ذلك بخمس سنوات بيد إبراهيم بك الشركسي المذكور سنة 1168ه. وفي تلك السنة توفي السلطان محمود بن مصطفى.
وترى في شكل
1-20
صور نقود السلطان محمود بن مصطفى مضروبة في القاهرة بتاريخ سنة 1143ه؛ فالأولى منها ذهبية وهي صورة القطعة المعروفة باسم زر محبوب أو سكوين. والثانية ذهبية أيضا وهي نصف سكوين أو نصفية. والثالثة صورة القطعة النحاسية المعروفة بالجديد.
شكل 1-20: نقود السلطان محمود بن مصطفى. (15) سلطنة عثمان بن مصطفى (من سنة 1168-1171ه/1754-1757م)
فبويع أخوه السلطان عثمان بن مصطفى، ويدعونه أيضا عثمان الثالث، وبقي على كرسي الخلافة ثلاث سنوات فقط. فشفى إبراهيم بك الشركسي غليله بقتل إبراهيم كخيا، لكنه لم يرو مطامعه؛ لأن مشيخة البلد انتقلت إلى رضوان بك صديق إبراهيم كخيا، ثم ظهر لرضوان منافس آخر من زعماء حزب إبراهيم يقال له حسين بك، أصبح بعد قتل الكخيا أكبر رجال ذلك الحرب ، فادعى لنفسه الأولوية بمشيخة البلد فلم تقبل دعواه، فجمع إليه بعض دعاته المماليك، وصعد إلى قلعة القاهرة واستولى على بطارية من المدافع تشرف على بركة الفيل حيث يقيم رضوان بك، فأطلق بعض القنابل على المنازل فخرقت جدرانها، فتداعت أركانها ورضوان بك مشغول بحلاقة لحيته. فلما أحس بالأمر طلب جواده ولم يعل ظهره حتى أصيب برصاصة كسرت فخذه. وتمكن من الفرار ومعه بعض المماليك إلى قرية الشيخ عثمان، وهناك توقف عن المسير لزيادة الألم ومعه رئيس الضابطة وكان مجروحا، ثم توفي الاثنان ودفنا معا.
فسمي حسين بك من ذلك الحين شيخ البلد، وأخذ يتقرب من أترابه البكوات وهم لا يزيدون منه إلا نفورا. ولم تمض بضعة أشهر من توليته حتى كمنوا له في مكان مصاطب النشاب في السهل الواقع بين القاهرة وأرض إبراهيم بك. وكان مشتغلا بعرض جنوده المماليك فهموا به وذبحوه ثم قطعوه إربا إربا. وصار يعرف من ذلك الحين بحسين بك المقتول. فتولى مكانه خليل بك واشتهر بحب القتل، وكان متظاهرا بالعداوة والحسد لعلي بك على الخصوص؛ لاعتقاده أنه أشد أعدائه وطأة وأقواهم عزيمة. (16) سلطنة مصطفى بن أحمد (من سنة 1171-1178ه/1757-1774م)
وفي سنة 1171ه تولى الخلافة العثمانية مصطفى بن أحمد وهو مصطفى الثالث. وبالحقيقة أن علي بك كان كثير الإخلاص لإبراهيم كخيا لا ينفك ساعيا في الانتقام له، ولكنه كان يرى السبيل الأقرب والأسهل لبلوغ مرامه إنما هو القوة. فأخفى ما في ضميره 8 سنوات اشتغل في أثنائها بجمع القوة. فابتاع عددا وافرا من المماليك، ووطد علائقه مع البكوات الآخرين، واكتسب ثقتهم بما كان يظهره من الغيرة عليهم والإخلاص لهم، وما كان يكرمهم به من الهدايا. وما زال يخطو خطوة بعد أخرى حتى اقترب من النقطة المطلوبة، فأوجس خليل بك خيفة منه، وجعل يتجسس حركاته بالأرصاد والعيون، ويعد المكائد في شوارع القاهرة. ففي ذات يوم هجم عليه حسين كشكش بأمر خليل بك، وبعد موقعة هائلة اضطر علي بك أن يفر إلى الصعيد في طائفة من أصدقائه البكوات يستعد للانتقام مضاعفا.
فصرح خليل بك أن علي بك وأتباعه البكوات مجردون من رتبهم وحقوقهم، وولى مكانهم بكوات من ذويه، وقتل من ظفر به في القاهرة من أصدقاء علي بك أو المنتمين إليه. أما علي بك فالتقى في الصعيد بواحد من مماليك مصطفى القرد يدعى صالح بك، كان منفيا هناك، وفي قلبه من خليل بك حزازات، فاتحد الاثنان ورجالهما وزحفا على القاهرة. فخرج خليل بك وحسين بك كشكش، فدارت رحى الحرب فكان الفوز لعلي ورفيقه، فطاردا خليل بك ورجاله حتى قطعوا مديرية القليوبية، وأوصلوهم إلى المسجد الأخضر على ضفاف النيل. واشتد الكفاح هناك فالتجأ خليل بك ورجاله إلى طنطا، فبعث علي بك كاشفه محمد الملقب بأبي الذهب ليهاجمهم، فهاجمهم واستلم طنطا بعد أن قتل حسين كشكش. أما خليل بك فاختبأ بالمسجد وبقي فيه وقد غلبه الجوع، ثم قبض عليه ونفي إلى الإسكندرية وخنق هناك. ونقلوا رءوس القتلى إلى القاهرة وطافوا بها في أسواقها. (17) علي بك الكبير (من سنة 1177-1187ه/1763-1774م)
فتمكن علي بك بهذا الانتصار من استلام مشيخة البلد في القاهرة سنة 1177ه، وأول أمر باشره قتل إبراهيم الشركسي الذي قتل سيده، فثارت عليه أحزابه يطلبون الانتقام، وهم عديدون فخاف علي بك على حياته، ففر إلى سوريا فالتجأ إلى متسلم (حاكم) بيت المقدس، وكانت بينهما صداقة قديمة، إلا أن هذا الملجأ لم يحمه إلا شهرين؛ لأن أعداءه البكوات لما علموا بمقره شكوه للسلطان مصطفى وأخبروه بمقره، فأنفذ إلى متسلم القدس فرمانا يأمره به أن يرسل علي بك مخفورا إلى الباب العالي. فعلم علي بك بذلك ففر إلى عكا وهناك اكتسب صداقة الشيخ ضاهر العمر أمير تلك المدينة الحصينة، فأكرم وفادته، وسعى في تبرئته أمام الباب العالي. وبمساعدة نصرائه من أصدقاء إبراهيم كخيا اكتسب له العفو من الحضرة الشاهانية، فألغيت الأوامر بالقبض عليه، وأعيد إلى القاهرة في منصبه الأول.
وفي سنة 1179ه - أي بعد ذلك بسنتين - هدد علي بك بالإقالة من ذلك المنصب؛ وذلك أن محمد راغب باشا - الذي كان على مصر وعزل منها على ما مر بك - كان يتذكر كرم أخلاق علي بك مذ كان كاشفا. فبعد استقالته من مصر ولي بر الأناضول، وبعد تسع سنوات صار صدرا أعظم، وما انفك متذكرا صداقة علي بك لا يفتر عن معاضدته وتسهيل مطالبه سرا وجهرا. ففي سنة 1179ه توفي الوزير محمد راغب باشا، فأصبح علي بك في حاجة لمن يعضده. فاغتنم أعداؤه هذه الفرصة ووشوا به إلى الأستانة، فاضطر أن يفر إلى اليمن، ولم تأت سنة 1180ه حتى عاد إلى القاهرة واسترجع منصبه بمساعدة أحزابه وموت أربعة من دعاة إبراهيم الشركسي. ثم تراءى له أن صديقه صالح بك تحدثه نفسه بخرق حرمة الصداقة، واتباع داعي المطامع الشخصية، فوكل أمر قتله إلى إبراهيم كاشف أحد أتباعه، فقتله طعنا، وسترى أن إبراهيم هذا سيرتقي حتى يتولى مشيخة البلد.
شكل 1-21: صورة ختم سليمان كخيا.
ورأى علي بك أن قبائل العربان في مصر السفلى قد شقت عصا الطاعة، فأنفذ إليها أحد مماليكه المدعو أحمد في فرقة من الرجال فحارب أولئك العربان، وأمعن في قتلهم حتى لقبوه بالجزار، وهو الذي تولى عكا بعدئذ واشتهر بأحمد باشا الجزار. أما من بقي من عداء علي بك فخافوا ولزموا السكوت، وتحقق تخلصه من القلاقل والمفاسد والمقاومات، ورأى من باب الاحتياط والحرص أن يرقي ثمانية عشر مملوكا من أتباعه إلى رتبة البكوية؛ لينصروه وقت الحاجة، وهذه أسماؤهم: (1)
رضوان ابن أخيه من جورجيا. (2)
علي الطنطاوي من جورجيا. (3)
إسماعيل من جورجيا. (4)
خليل من جورجيا. (5)
عبد الرحمن من جورجيا. (6)
حسن من جورجيا. (7)
يوسف من جورجيا. (8)
ذو الفقار من جورجيا. (9)
عجيب من جورجيا. (10)
مصطفى من جورجيا. (11)
أحمد الجزار من أماسيا. (12)
سليم آغا إنكشاري. (13)
سليمان كخيا إنكشاري. (14)
لطيف شركسي. (15)
عثمان شركسي. (16)
إبراهيم شركسي. (17)
مراد شركسي.
ولهذين الآخرين شأن في هذا التاريخ لأنهما سيتنازعان السلطة في مصر. (18)
محمد.
وكان يعز محمدا هذا أكثر من الجميع، وستراه رجلا عقوقا منكرا للجميل. ولما تقلد البكوية لقب بأبي الذهب، فأحب أن يجعل هذا اللقب اسما على مسمى، فتظاهر بالكرم المفرط، وبدلا من أن يفرق العطايا بالبارات فرقها بالأرباع.
أما علي بك فكان ساهرا على مصلحة البلاد سهرا تاما، وكان مخلصا في أعماله، فطهر البلاد من اللصوص وسعى جهده في إصلاح شئونها، فساد الأمن فيها بعد أن كانت معرضا للقلاقل والمفاسد. ولم تقف مطامع علي بك عند هذا الحد؛ فإنه رأى من تحامل الواشين بينه وبين ديوان الأستانة، وإيقاع ذوي الأغراض به وبسلطته؛ ما حمله على السعي في الاستقلال بمصر، وتجريدها من رعاية الدولة العثمانية، لكنه كتم مقاصده وجعل يسعى في تنفيذها تحت طي الخفاء. (17-1) مساعيه في سبيل الاستقلال
وأول خطوة خطاها نحو هذه الغاية أنه انتحل أسبابا بنى عليها عزل مستخدمي الملكية والجهادية ورؤساء الوجاقات، واستبدلهم برجال على دعوته، إلا وجاق الإنكشارية فإنه لم يمسه بعد أن تمكن من استبقائه تحت حمايته، وسد جميع السبل التي يمكنه بها التطرق إلى مقاومته، وأخر دفع مرتبات الوجاقات الأخرى عمدا وصار يدفع رواتبهم أقساطا عملة ورق بول كانت تخسر المائة منها تسعين، فكان يربح أرباحا عظيمة باسترجاع الورق بالأثمان البخسة وصرفه ثانية بثمنه الأصلي. فلما رأت رجال الوجاقات أنهم لا يستولون من ماهياتهم إلا على العشر كرهوا الاستخدام بالعسكرية، وجعلوا يستقيلون منها شيئا فشيئا، ويتعاطون أشغالا أخرى أكثر فائدة لهم.
ثم سعى في تقليل العساكر العثمانية واستخدام المماليك من دعاته. حتى صاروا نحوا من ستة آلاف، وحظر على سائر البكوات والكشاف الذين يخشى تغيرهم عليه أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك أو مملوكين. وكان على ولاية مصر إذ ذاك محمد باشا فأزعجته إجراءات علي بك وخشي عاقبتها، فنصح له أن يقف عند حده فلم يكترث بقوله. فأقر على مقاومته؛ لأن هذه الإجراءات مضادة لمصلحة الباب العالي، ولكنه لم يكن يستطيع المجاهرة بمقاصده هذه فأخذ يدسها سرا، واتحد مع من بقي من دعاة إبراهيم الشركسي، وأجمعوا على الانتقام من علي بك، ثم جعلوا يسعون فسادا بين أحزابه، واستجلبوا بعضا منهم إلى جانبهم بالمواعيد المبنية على الحسد والطمع. وفي جملة هؤلاء محمد بك أبو الذهب الذي طمره علي بك بفضله حتى أزوجه ابنته، وكان يناديه كما ينادي أولاده. ولم يكونوا يستطيعون تنفيذ مآربهم جهارا، فأغروا صهره محمد بك المذكور بالمال، ووعدوه أنه إذا قتل علي بك يتولى المشيخة مكانه، فقبل لكنه علم بعدئذ أنه يقصر عن مناوأة علي بك، واستعظم الجناية فعدل عنها إلى جناية تقرب منها. وذلك أنه شكى إلى علي بك معاملة الباشا له، فأسرع علي بك إلى إنقاذه منه، وما انفك عن الباشا حتى أخرجه من مصر فعاد إلى الأستانة. ولم يزدد علي بك إلا ثقة في محمد بك أبي الذهب، وإخلاصا له رغم ما كان ينقل إليه عنه من السعي ضده.
وفي سنة 1182ه انتشبت الحرب بين روسيا والدولة العلية، فبعثت هذه إلى مصر أن تمدها باثني عشر ألفا، فوصلت الأوامر لعلي بك بذلك ومشروعه لم ينضج بعد فلم يسعه إلا مباشرة ما أمر به، فابتدأ بجمع الجنود. أما أعداؤه فاغتنموا تلك الفرصة للوشاية فضموا إليهم الباشا الجديد الذي كان قد أرسل من القسطنطينية بدلا من الباشا الذي أخرجه علي بك، واتفقوا جميعا على كتابة تقرير أمضاه الباشا وسائر البكوات أعداء علي يشون به إلى الديوان الشاهاني؛ بدعوى أنه إنما أراد بما يجمعه من الجيوش معاضدة روسيا للاستقلال بمصر، فأنفذ الديوان الشاهاني إلى الباشا أمرا مشددا أن يقتل علي بك ويرسل رأسه إلى الأستانة.
فاتصل ذلك بعلي بواسطة أصدقائه بالأستانة، فبعث علي بك الطنطاوي أحد دعاته في عشرة من أتباعه المماليك متنكرين بلباس البدو يكمنون على مسافة قصيرة من القاهرة، حيث لا بد للقابجي باشي حامل ذلك الفرمان من المرور به، فمكثوا هناك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع بان لهم القابجي، ومعه أربعة رجال فوثبوا بهم وقتلوهم وطمروهم في الرمل، وأخذوا ملابسهم والفرمان وساروا إلى علي فقرأه ثم جمع إليه ديوان البكوات العمومي، وأطلعهم عليه وأقنعهم أن ذلك الأمر ليس لقتله وحده، بل لقتلهم جميعا، ثم خاطبهم قائلا: «دافعوا إذن عن حياتكم وحقوقكم، واعلموا أن مصر ما برحت منذ القدم يحكمها دول من المماليك كانوا سلاطين أشداء، تفاخر بهم الأرض السماء. فأعيدوها إليهم، وهذه فرصة لا تضيعوها فإنكم لن تعثروا عمركم على فرصة مثلها، هلم إذن نسعى في الاستقلال فإن فيه حياتنا وحريتنا.» (17-2) استقلال علي بك بمصر
فتأثر البكوات من فصاحة علي وبلاغته، وكانوا ثمانية عشر قد أجمعوا على دعوته، فعاهدوه على الدفاع عنه ما استطاعوا إلى الدفاع سبيلا. أما سائر الأمراء المماليك من أعدائه فخافوا العاقبة ولزموا السكوت. فكتب ديوان علي بك أمرا إلى الباشا أن يبرح الديار المصرية في ثمان وأربعين ساعة، وإذا لم يفعل يقتل، وأن مصر قد أصبحت مستقلة. وبعث علي إلى الشيخ ضاهر العمر أمير عكا يعلنه رسميا باستقلال مصر، ويدعوه للمساعدة في ذلك، فأجابه الشيخ ضاهر مسرورا، وجمع إليه رجاله ورجال بنيه السبعة وصهره، وانضم الجميع إلى جنود علي، وكان قد أضاف إلى الستة الآلاف التي عنده من المماليك الاثني عشر ألفا التي جمعت مددا للعثمانيين، وأضاف إلى هذه أيضا رجال أصدقائه البكوات حتى رجال أعدائه؛ لأنهم لم يعد يسعهم إلا طاعته.
فاتصل ذلك بالأستانة فأرسل الباب العالي أمرا إلى والي دمشق أن يسير في 25 ألفا لمنع جنود عكا من معاضدة علي، فسار الوالي في ذلك العدد من الرجال فلاقاه الشيخ ضاهر في 6 آلاف بين لبنان وبحيرة طبرية، ورده على أعقابه سنة 1183ه. وكانت هذه الواقعة آخر الوقائع؛ لأن الباب العالي أمسك بعدها عن إرسال الجند كأنه نسي علاقته مع سوريا ومصر بالكلية.
أما علي فاغتنم اشتغال الدولة العلية بالمحاربة مع روسيا، وصرف عنايته في تنظيم مملكته الجديدة، وإصلاح ما داخلها من الخلل، فخفض الضرائب، وجعل على المالية مدير الكمرك القديم المعلم ميخائيل فرحات القبطي بدلا من يوسف بن لاوي الإسرائيلي، وكان قد قتل جزاء خيانته. ونظم التجارة الخارجية والمواصلات، وأبعد العربان إلى الصحراء فاستولى الأمن، وانتشر الإصلاح في القطر، فزادوا على ألقاب علي لقب بلوط قبان (مبيد اللصوص). (17-3) قبيلة الهوارة
وكان في جملة القبائل الثائرة على مصر قبيلة الهوارة، وهي أشدهن بأسا وأطول باعا جاءت في الأصل من ضواحي تونس الغرب، واستقرت بين جرجا وفرشوط في بقعة من الأرض لم تكن تصلح للزراعة، فاعتنوا فيها حتى أنشئوا عدة قرى وما زالوا ينشرون سطوتهم حتى احتلوا جميع البقاع بين هوارة وكفر الشيخ سليم. ثم اغتنم الشيخ هامان (شيخ الهوارة) اشتغال مصر بما تقدم، ووضع يده على البلاد من أسيوط إلى أسوان وجمع إليه محصولاتها. وكان قد حارب هذه القبيلة كثيرون ممن تولوا مصر قبل علي، وفرضوا عليها ضريبة مقدارها 250 ألف إردب من الحنطة توردها سنويا إلى مصر.
ففي سنة 1183ه أرسل علي بك صديقه محمد بك أبا الذهب لمحاربة الشيخ هامان وقبيلته، فحاربهم وتغلب عليهم في أواخر تلك السنة. فاضطر أبناء الشيخ أن يبتاعوا حياتهم بما لديهم من ثروة أبيهم. فربح أبو الذهب من ذلك مالا كثيرا ثم أسرع إلى القاهرة لما علمه من الدسائس التي كان ساعيا بها رفيقه أحمد بك الجزار على علي بك، وكأنه لم يكن يريد أن يشاركه أحد بالدسائس على سيده. وكان أحمد الجزار ينظر إلى أبي الذهب نظره إلى عدو يناظره في ارتكاب الدنايا فسعى في قتله فلم ينجح. وكان لأحمد الجزار سيف مشهور بطيب فولاذه وإتقان صنعه. فاتفق يوما أنه اجتمع بمحمد أبي الذهب، فقال له محمد: «أرني حسامك لأجربن فرنده.» فأجابه أحمد: «لا يستل حسامي سواي ولا أغمده حتى يستباح قتيل.» ثم نهض للحال وغادر القاهرة قاصدا القسطنطينية فوصلها. ثم عهدت إليه ولاية عكا بعد ذلك، وما زال فيها حتى توفاه الله. (17-4) فتوح علي بك ومعاهداته
شكل 1-22: كاترينا الثانية.
أما علي بك فبعد أن تغلب على الصعيد ثار في خاطره حب الافتتاح، فجرد إلى اليمن جيشا تحت قيادة محمد أبي الذهب، فسار في عشرين ألف مقاتل فقطع برزخ السويس ومضيق العقبة، ولم يبق على أحد من القبائل التي حاولت الوقوف في طريقه، ومازال حتى أتى اليمن وافتتحها. وأمر علي فسار إسماعيل بك في ثمانية آلاف لافتتاح السواحل الشرقية للبحر الأحمر وحسن بك لافتتاح جدة، ولقب بالجداوي إشارة إلى انتصاره على تلك المدينة، وما زال يعرف بهذا اللقب من ذلك الحين. ولم تمض ستة أشهر حتى افتتحت شبه جزيرة العرب وفي جملتها مكة المشرفة، ولحق بها نهب شديد، وأنزل شريفها وأقيم مقامه ابن عمه الأمير عبد الله، فوافق عليا في سلطنته وسماه بسلطان مصر وخاقان البحرين، فعل ذلك بصفته الدينية تملقا لعلي. فلما حصل علي بك على ذلك من شريف مكة أخذ يتمتع بحقوق السلطنة، فأمر أن يخطب باسمه في الصلوات العمومية أيام الجمعة. وضرب النقود سنة 1185ه في القاهرة باسمه كما سترى.
وسعى علي بك في هذه السنة إلى أمر سيق به إلى حتفه؛ وذلك أنه عهد إلى محمد بك أبي الذهب أن يسير في ثلاثين ألفا لإخضاع بلاد الشام؛ لأنه كان يعتبر هذه الولاية بعد خروجه من طاعة الدولة العلية عدوا قريبا يخشى منه على نفسه وعلى صديقه ومحالفه الشيخ ضاهر. وكان ينظر إلى سوريا كأنها جزء طبيعي من مملكة مصر. وكانت بالواقع قسما منها في سائر الأزمنة التي كانت فيها مصر مستقلة في الدولة الطولونية والفاطمية والأيوبية والمماليك وغيرها.
وسعى علي بك في التحالف مع الدول التي بينها وبين الأستانة عداوة طبيعية، فاستخدم تاجرا إيطاليا اسمه روستي عقد له معاهدة سلمية مع البندقيين على أن يكونوا حلفاء له. ثم عهد إلى رجل أرمني اسمه يعقوب أن يستطلع من الكونت ألكسيس أورلوف قومندان القوات الروسية في البحرين (المتوسط والأسود) عن عقد معاهدة دفاعية وهجومية مع قيصرة روسيا كاترينا الثانية. فأجاب الكونت بالإيجاب وفتحت المخابرات بشأن ذلك وطال أمرها كثيرا لبعد المسافة بين الطرفين. أما جنود علي بك في سوريا فصاحبها الظفر، واتحدت بجنود الشيخ ضاهر فاستولوا على غزة والرملة ونابلس والقدس ويافا وصيدا، وأخيرا حاصروا دمشق ولم تلبث يسيرا حتى سلمت. (17-5) خيانة محمد بك أبي الذهب
فلما رأى محمد أبو الذهب تمام هذه الفتوحات العظيمة على يده حدثته نفسه أن يجعلها لنفسه. ثم قادته مطامعه إلى محاربة علي واستخراج مصر من يده. ويظن أنه لم يقدم على ذلك من تلقاء نفسه، وإنما حمل عليه بأوامر جاءته من الأستانة؛ لأن المخابرات السرية كانت متواصلة بينه وبينها بواسطة الباشا الذي أخرجه علي من مصر. فأمسك محمد عن المسير في البلاد العثمانية، وحول شكيمة مقاصده نحو الديار المصرية، فجمع ما كان لديه من الجيوش وضم إليها الحاميات التي كان قد أقامها في المدن المفتتحة وسار قاصدا مصر. لكنه لم يجسر على المسير إلى القاهرة رأسا خوفا من الإنكشارية والوجاقات الأخرى؛ لعلمه بما في قلوبهم من الضغينة عليه. فعرج نحو الصحراء حتى أتى الصعيد فحط رحاله هناك، واستولى على أسيوط في آخر يوم من سنة 1185ه. ثم استقدم قبائل العربان وطلب محالفتهم ومحالفة بكوات الصعيد، وجاهر بعزمه على خلع علي بك وسار قاصدا القاهرة فوصلها في أوائل سنة 1186ه، فنزل بجيشه تجاه البساتين فوق مصر القديمة.
فلما علم علي بك بذلك ندم على ما وضعه من الثقة في رجل كان له أن يعتبر من سيرته الماضية أنه على غير الإخلاص والاستقامة. فجند 3 آلاف رجل بقيادة إسماعيل بك وأمرهم أن يمنعوا محمدا من عبور النيل. فسار إسماعيل لكنه خاف سطوة عدوه، ووردت عليه كتب مفعمة بالمواعيد يمازجها بعض التهديد، فأخذ جانبه وضم جيشه إلى جيشه، فقطع محمد بك النيل فاستقبله رجال إسماعيل بالترحاب. فاتصل ذلك بعلي فيئس من الفوز فانقطع إلى القلعة بأهله وأصدقائه ورجال دعوته، وقد عزم على المدافعة إلى آخر نسمة من حياته. (17-6) علي بك في عكا
وبعد ثلاثة أيام ورد إليه كتاب من الشيخ أحمد أحد أبناء صديقه الشيخ ضاهر أن يبرح القاهرة حالا ويأتي إلى أبيه في عكا. فخرج علي من القلعة بمن معه وسار من جهة الجبل الأحمر طالبا سوريا عن طريق الصحراء. وكان خروجه قبل دخول محمد بك القاهرة بيوم واحد؛ أي مساء 9 محرم سنة 1186ه، وهذه هي المرة الثالثة لخروجه منها إلى سوريا، وفي معيته عدد يسير من الجند لا يبلغ ستة آلاف معظمهم من الخدمة الذين لا يستطيعون الدفاع. ولم يحمل معه من المال إلا ثمانمائة ألف زر محبوب يحملها 25 جملا. ونقل معه من المصوغات والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك. وما زالوا في المسير ليلا ونهارا فوصلوا إلى خان يونس في حدود سوريا بعد ثلاثة أيام، فرأوا أن خمسة من الجمال الحاملة للنقود قد ذهبت فريسة بيد القبائل البدوية، وأن عددا من جنوده فروا ومعهم يوسف الخزندار. وفي اليوم التالي دخل علي بك غزة ثم واصل السير حتى أتى عكا بعد ثمانية أيام فرحب به أميرها، وكانت بينهما مودة شديدة فاطمأن علي هناك. غير أن ما تكبده من المشاق في الأسفار مع ما أثر في نفسه من الغيظ الشديد غير صحته، فلم يصل عكا إلا وهو في حالة الخطر من شدة المرض.
وفي أثناء ذلك وصل مينا عكا أسطول روسي، فلما علمت حاميته بما حل بعلي عقدوا معه معاهدة ثانية، وقدموا له كل ما يحتاج إليه من المؤن والذخائر، وكان في خدمة ذلك الأسطول فرقة من الألبانيين «الأرناءوط» مؤلفة من ثلاثة آلاف رجل فأمدوه بهم. فلما رأى علي بك ما كان من نجدة الروسيين مع ما يمكنه الحصول عليه من جنود الشيخ ضاهر عزم على مناوأة أبي الذهب، لكنه لم يكن يستطيع مباشرة ذلك بنفسه لانحراف صحته. فعهد إلى علي بك الطنطاوي بعد ثلاثة أشهر أن يسير أولا لاسترجاع المدن السورية التي دخلت في حوزة محمد أبي الذهب، فسار واستولى على صور وصيدا وقرى أخرى من سواحل سوريا كانت قد احتلتها جنود عثمانية بعد انسحاب جنود محمد أبي الذهب. ثم سار علي بنفسه مع من بقي من الجند إلى يافا وافتتحها بعد محاصرة خمسة أشهر استولى في أثنائها على غزة عنوة وعلى الرملة واللد تسليما. فأعاد يافا إلى حكومة الشيخ ضاهر، وجعل على اللد حسن بك الجداوي وعلى الرملة سليم بك. (17-7) محمد أبو الذهب بمصر
وفي 9 ذي القعدة 1186ه كان علي بك في يافا، فجاءته رسل من القاهرة بمهمة سرية من وجاق الإنكشارية والوجاقات الأخرى وسائر أعيان القاهرة، يعلمونه أن محمدا أبا الذهب دخل القاهرة حالما خرج منها هو وسمي نفسه شيخ البلد، وجعل يعيث في البلاد عيثا لم يسبقه إلى مثله أحد ممن تولى مصر قبله. فجعل بعض الضرائب ضعفين وبعضها ثلاثة أضعاف. ثم اختلق قانونا غريبا دعاه قانون رفع المظالم والمقصود منه بحسب الظاهر إنقاذ ملتزمي الأموال الأميرية من الإجراءات الاستبدادية التي كان يسومهم إياها الكشاف إلى ذلك العهد، واستبدالها بما يعود بالمنفعة. والحقيقة أن الضرائب ما انفكت أشد وطأة من ذي قبل، والإجراءات لم تزدد إلا استبدادا، فضلا عما رافق كل ذلك من الفتك بالعباد قتلا ونهبا.
ثم قالوا إن مصر بجملتها لما رأت ما وصلت إليه من الانحطاط، وما لحق بأهلها من المظالم التي ما أنزل الله بها من سلطان قد أنابتهم أن يبلغوا علي بك أنها بصوت واحد تلتمس رجوعه ليحكم فيها؛ لأنه هو منقذها الوحيد، وأن مدينة القاهرة مستعدة أن تفتح أبوابها لاستقبال أميرها القديم، وأن تدافع عنه الدفاع الممكن إذا حاول محمد بك أبو الذهب ما يخالف الصوت العمومي. (17-8) خروج علي بك لمحاربة أبو الذهب
فلما علم علي بكل ذلك شعر أن آماله عادت إليه، وبرح يافا للحال قاصدا القاهرة، ولم يكن معه من الجنود إلا ألفان وخمسمائة، فاستنجد حاميات اللد والرملة، وانضم إليهم جنود الشيخ ضاهر وجنود ابنه الشيخ شلبي وصهره الشيخ كريم وحسن شيخ صور، وكان قد استأجر ثلاثة آلاف وخمسمائة من المغاربة. فكان عدد جنوده جملة ثمانية آلاف محارب.
ففي 11 محرم سنة 1187ه وصل علي بك إلى خان يونس، وفي 16 منه اقترب من الصالحية. وفي 18 منه التقى بمقدمة جيوش محمد بك أبي الذهب وعدتهم اثنا عشر ألف مقاتل، وبعد محاربة بضع ساعات ظهر علي بك عليهم وقد قتل عددا غفيرا من رجالهم. فانفتحت له أبواب الصالحية فدخلها وقد أصيب بجروح بليغة. ثم علم أن اعتماده على أحزابه في القاهرة لا يورثه ألا خيبة الأمل؛ لأن أبا الذهب كان قد جمع إليه كبراء البلاد ورجال حكومتها لما علم بمظاهرتهم لعلي وأقنعهم أن علي بك قد غدر الأمة وخان الوطن وأباح دماء المسلمين بمعاهداته مع الروسيين وغيرهم من الأمم النصرانية. واستخدم أبو الذهب في سبيل إقناعهم الدرهم الوضاح فانحازت إليه القوات العسكرية، إلا وجاق الإنكشارية فإنه ظل محافظا على ولاء علي بك. فلما تحقق محمد بك أبو الذهب اجتماع الأحزاب على دعوته أمن من الاضطراب الداخلي فسار بنفسه لمحاربة علي.
أما علي فانزعج لتلك الأحوال انزعاجا كثيرا فضلا عما كابده من مشاق الأسفار في قطع الصحراء الحارة، وزد على ذلك الجروح التي أصابته في واقعة الصالحية، فأصيب بحمى شديدة عجز معها عن ركوب جواده وقيادة جنوده. وفي 2 محرم سنة 1187ه علم بمجيء أبي الذهب، وهو على ما تقدم من المرض فلم يتردد في وجوب الدفاع. فأمر قواده فانتظمت رجاله على قلتها وتهيأت للدفاع، وكان على أحد جناحي الجيش علي بك الطنطاوي ومن معه من البكوات، وعلى الجناح الآخر ابن الشيخ ضاهر وصهره، فاستظهرت جنود علي في بادئ الرأي حتى قاربت الفوز التام. ثم أرسل أبو الذهب بعض جواسيسه إلى المغاربة في جيش علي يغريهم على خيانة رئيسهم، فوافقوه ووافقه غيرهم كثيرون من بكوات علي وفي جملتهم إبراهيم بك ومراد بك. وهذا الأخير اشترط أن يأخذ مقابلا لخيانته هذه ما يخلفه علي من المتاع والنساء، وخصوصا امرأته نفيسة، وكان علي يحبها ويحترمها؛ لما كانت عليه من الفطنة والجمال.
فلما انتشبت الحرب في الصباح التالي انحاز جميع المغاربة والبكوات الذين خانوا إلى معسكر أبي الذهب. وكانت جنود علي بك قريبة من الفوز، فلما رأت تلك الخيانة تضعضعت وفر الجند يطلبون النجاة بأنفسهم بعد أن قتل علي بك الطنطاوي والشيخ شلبي، ونجا الشيخ كريم والشيخ حسن ورضوان بك من المعركة، وساروا إلى فسطاط علي وأعلموه بما حصل وطلبوا إليه أن يمتطي فرسه ويسير برفقتهم إلى غزة حيث يلاقيهم الشيخ ضاهر بمن معه من الجند. (17-9) مقتل علي بك
أما علي بك فأبت نفسه الإصغاء لما أرادوا، فجلس بباب خيمته وقال لهم: «إني ملازم هذا الموضع لا أبرحه حتى تبرحني نفسي ؛ لأن الموت هنا أفضل عندي من الفرار. أما أنتم إذا شئتم النجاة بأنفسكم فبادروا إلى الفرار قبل أن يغشاكم ما ربما لا تقوون على دفعه.» فاضطر ابن أخيه ورجاله الباقون أن يذعنوا لما أمر. فودعوه وحولوا الأعنة في طريق خان يونس قاصدين غزة، فلقوا الشيخ ضاهرا هناك فأعلموه بما كان وبوفاة ابنه فأسف عليه كثيرا. ومكث علي بك بعد ذهاب أصدقائه بضع ساعات ينتظر منيته وبجانبه عشرة من مماليكه، وإذا بخمسين رجلا تحت قيادة الكخيا نائب محمد أبي الذهب قد وصلوا إلى الخيمة، ودخلوها وقتلوا من كان فيها من المماليك ثم وثبوا على علي، وكان المرض مشتدا عليه وفيه جروح لكنه نهض بسيفه فقتل أول قادم إليه، وجرح اثنين آخرين فخشي الباقون الاقتراب منه، فأطلقوا عليه البنادق فجرحوه جروحا بليغة في ذراعه اليمنى وفخذه. فجعل يدافع بيسراه دفاعا شديدا إلى أن وثب عليه الكخيا بنفسه، فدافعه علي حتى أصيب في ذراعه اليسرى وفي أماكن أخرى فسقط على الأرض وهو لا ينفك عن الدفاع، فتكاثرت عليه الرجال حتى أمسكوه حيا، وساروا به إلى محمد أبي الذهب وطرحوه عند قدميه فأمر بحمله إلى القاهرة فحملوه إليها، وأنزلوه في داره بدرب عبد الحق في شارع البكري وراء صندوق الدين، فلبث فيها سبعة أيام ثم توفاه الله. وقد قال بعضهم إن أبا الذهب أدخل السم في جروحه فقتله، والله أعلم.
ودفنوه بتربة أستاذه إبراهيم كخيا بجوار الإمام الشافعي. وكان لموت هذا الرجل تأثير عظيم في قلب كل من عرفه؛ حتى إن أبا الذهب نفسه لم يسعه إلا الندم داخليا لما فرط منه، وما أتاه من نكران الجميل وارتكاب مثل هذه الخيانة. (17-10) مناقبه
ومن مناقب علي بك أنه كان عظيم الهيبة حتى اتفق لاناس أنهم ماتوا خوفا من هيبته. وكانت تأخذ الرعدة بعضهم بمجرد المثول بين يديه فيأخذ هو بتلطيف رعبه فيقول له: «هون عليك.» وكان صحيح الفراسة شديد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمين، ولا يحتاج في التفهيم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق، بل يقرأها هو بنفسه، ولا يختم ورقة حتى يقرأها ويفهم فحواها. ومن مآثره البناية العظيمة بطنطا، وهي المسجد والجامع والقبة على مقام السيد البدوي والمكاتب والميضاة الكبيرة والحنفيات والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة. وجدد أيضا قبة الإمام الشافعي وبنايات ووكالات في بولاق مصر، ولا يزال هذا الرجل مميزا عند المؤرخين بلقب الكبير، فيدعونه «علي بك الكبير».
وترى في الشكلين
1-23
و
1-24
صورتي النقود التي ضربت على عهد علي بك في القاهرة. الأولى فضية وعليها الطغراء الشاهانية للسلطان مصطفى بن أحمد وتاريخ توليه السلطنة سنة 1171ه وبشاهد عليها أيضا من الأعلى اسم علي وتاريخ 85 وهي مختصر من سنة 1185ه، وتدعى هذه القطعة من المعاملة قرشا. والثانية فضية أيضا ويشاهد عليها الطغراء العثمانية. أما تاريخ تولية السلطان فاستبدل بسنة 1183ه وهي السنة التي صرح بها علي بك باستقلاله ويشاهد عليها اسمه. وتدعى هذه القطعة عشرينية أي نصف قرش.
شكل 1-23: نقود السلطان مصطفى بن أحمد وعلي بك.
شكل 1-24: نقود السلطان مصطفى بن أحمد وعلي بك. (18) سلطنة عبد الحميد الأول (من سنة 1177-1203ه/1774-1789م)
وفي تلك السنة تولى الخلافة العثمانية السلطان عبد الحميد الأول عوضا من السلطان مصطفى الثالث.
وترى في الشكلين
1-26
و
1-27
صورتي نقود ضربت في القاهرة في عهد السلطان مصطفى بن أحمد قبل استقلال علي بك بتاريخ 1171ه الأولى فضية والثانية نحاسية.
شكل 1-25: عبد الحميد الأول.
شكل 1-26: نقود السلطان مصطفى بن أحمد.
شكل 1-27: نقود السلطان مصطفى.
وبوفاة علي بك عاد وادي النيل إلى ما كان عليه قبله تابعا لأملاك الدولة العلية، وعادت أحكامه إلى مشايخ البلد والكشاف الذين جعلوا تلك المناصب وسيلة لاختلاس أموال الناس وحقوق الدولة. وكان علي بك قد جعل لكل هذه المظالم حدا وأصلح الشئون حتى علقت الآمال باعتزاز مصر ورفع شأنها فلم تبق المنية عليه.
نعم، إن مصر بعد وفاته عادت إلى كنف الدولة العلية لكنها بالحقيقة لم تفدها شيئا؛ لأنها كانت في الحالة الأولى طعمة لرجل محب للإصلاح مخلص بمقاصده وإن كانت بمعزل عن سيادة الدولة، وأصبحت في الثانية طعمة لثلاثين رجلا كل منهم يسعى في ابتلاعها لا يتفقون إلا على كره الدولة التي هم تحت حمايتها. أما السلطان عبد الحميد فلم يكن يرسل إليها من الولاة إلا من كان اسما بلا مسمى كما كان شأنهم قبل ظهور علي. فكان الباشا من هؤلاء آلة يديرها البكوات كيف شاءوا، ولم يكن لديه من الأعمال إلا مخابرة القسطنطينية سرا بما كان يقع بين هؤلاء البكوات من الخلاف، وما كانوا يتداعون إليه من الخصام. وواجباته المهمة أن يستلم الجزية من الحكومة المصرية، ويرسلها إلى الأستانة إذا تمكن من قبضها. (18-1) أبو طبق وعزل الباشوات
فكانت ولاية مصر منصبا يستحيي العقلاء من قبوله؛ لأنهم كانوا يعتبرونها منفى استحقه الباشا أو الوزير الذي يرسل إليها، وكان يعلم قبل خروجه من الأستانة أنه إذا لم يكن راضيا بما يرضاه شيخ البلد لا يلبث أن يصله منه رسالة ينقلها ناقل يقال له الأوطه باشي وفيها الأمر بعزله أمرا لا مرد له ولا مجال للمدافعة بعده. وكيفية ذلك أن شيخ البلد ورجاله إذا رأوا في تصرف الباشا ما يوجب الشك اجتمعوا اجتماعا عموميا في الديوان، وقرروا عزله وكتبوا بذلك أمرا يسلمونه إلى الأوطه باشي ليوصله إلى الباشا فيحمله ويسير على حمار؛ (لأن القانون لا يسمح له بركوب الخيل أو البغال) وبين يديه فرمان العزل، فإذا مر في الأسواق على هذه الصورة علم الناس أنه ساع في أمر هام فيه عزل فيهرولون وراءه. ولا يزال سائرا في عرض الطرق قائدا لتلك الجماهير نحو القلعة. ومن واجبات أي جندي لقيه في تلك الحال أن يرافقه اتقاء ما يخشى حدوثه عند وصوله إلى القلعة.
فإذا وصل القلعة يدخل على الباشا ثم يجثو أمامه باحترام ووقار، وعندما ينهض يطوي السجادة التي كان جاثيا عليها، وينادي بأعلى صوته: «انزل يا باشا.» وعند طي السجادة والتلفظ بهذه العبارة تسقط كل حقوق ذلك الباشا، ولا يعود له أقل سلطة على الجنود التي كانت قبل بضع دقائق تنتظر إشارته. وتصير تحت أوامر الأوطه باشي، وكانوا يسمون الأوطه باشي أبا طبق؛ لأنه كان يلبس على رأسه قبعة مثل الطبق والباشا يقف ممتثلا يسمع تلاوة الفرمان، سواء كان منطوقه بعزله أو بقتله فلا يسعه إلا الطاعة التامة. على مثل ذلك كانت معاملة باشوات مصر؛ فإنهم كانوا عرضة لأوامر العزل التي إذا لم تكن من الأستانة كانت من مصر.
شكل 1-28: أبو طبق في موكبه.
فلما مات علي بك اختلف أعداؤه في القاهرة على الاجتزاء من انتصاراتهم، فكان كل منهم يظن لنفسه الحق بالتمتع بأثمار الانتصار كغيره أو أكثر؛ فاختلفت الأحزاب من بينهم. أما من بقي من رجال علي فلم يجدوا مكانا فيه راحة لهم، وكانوا في عكا عند الشيخ ضاهر على ما تقدم، فتقهقر أبو الذهب لأنه كان يحب الانتقام حبا يفوق التصديق، وقد آلى على نفسه ألا يبقي على أحد من رجال علي.
أما الشيخ ضاهر أمير عكا فلم يعد يطيب له السكون بعد أن خسر ابنه في سبيل نصرة علي بك، فثارت في خاطره بواعث الانتقام. ولكن أبا الذهب لم يعد يستطيع صبرا على ذلك، فاسترحم من الباب العالي أن يؤذن له بالمسير لإخضاع سوريا ولاسيما عكا، واتهم أميرها الشيخ ضاهرا بالعصيان وأنه ساع ضد الدولة. فأجاب الباب العالي بفرمان يثبته في مشيخة البلد مع لقب باشا ورتبة والي القاهرة مكافأة لما أتاه من كسر شوكة علي وأحزابه، وأذن له أن يتتبع ذلك الشيخ العاصي. فلما وصل الفرمان إلى أبي الذهب كاد يطير من شدة الفرح، وأعد جيشا تحت قيادته، واستخلف في مصر إسماعيل بك وعهد حكومة مدينة القاهرة إلى إبراهيم بك. وسار في جيشه إلى سوريا، ولم تنته سنة 1189ه حتى دخل فلسطين. وكان لشدة عجبه بما أوتيه من الألقاب والرتب وما وعده به الباب العالي من المساعدات لا يزيد إلا كبرا حتى جعل خيمته التي يستريح فيها من أثمن ما يمكن وزينها أبدع زينة. فمر بخان يونس فالرملة ولم يلاق مقاومة. أما يافا فكان عليها الشيخ كريم صهر الشيخ ضاهر، فدافعت قليلا ثم فتحت عنوة فدخلها رجال أبي الذهب عنوة، وقتلوا القسم الأعظم من سكانها رجالا ونساء شيوخا وأطفالا.
فبلغت تلك الفواحش مسامع الشيخ ضاهر وهو في عكا فخاف أن يصيبه ما أصابها، ففر بعائلته وبمن هاجر إليه من المصريين ولم يترك في المدينة إلا ابنه عليا، ولما علم هذا باقتراب جيوش أبي الذهب أخلى القلعة وانسحب منها لاعتقاده أنه إذا حاول الدفاع إنما يحاول عبثا. فوصلها أبو الذهب وأبوابها مفتوحة فدخلها ولم يبق عليها. وفي هذه المدينة انتهت فظائع هذا الرجل؛ لأنه بينما كان عازما على العود إلى مصر أصبح القوم فوجدوه ميتا في خيمته، ولم يعرفوا القاتل رغم ما اتخذوه من الاحتياطات، وما كان لديهم من القرائن الكثيرة. فقال بعضهم إنه أصيب بنقطة وهي داء السكتة، وقال آخرون إنه مات مقتولا بيد عدو فاتك، والله أعلم.
وبعد موت أبي الذهب عادت الجيوش المصرية تحت قيادة مراد بك إلى مصر ومعهم جثة رئيسهم، فدفنوها بالقرب من مدفن علي بك. ومات أبو الذهب بعد موت علي بك بسنتين ولقب «بالخائن». (18-2) مشيخة إسماعيل بك
وتولى مشيخة البلد بعده إسماعيل بك ولم يبق غيره من رجال إبراهيم كخيا. وهو من الذين نالوا البكوية بواسطة علي بك، وكان لا يزال على دعوته وإنما انضم إلى أبي الذهب خوفا. وقلبه لم يفتر لاهجا بالمدافعة عن رئيسه؛ لأنه لم يأت نحوه إلا ما يستدعي نصرته، فضلا عن أنهما من طائفة واحدة.
فلما استلم زمام الأحكام نسج على منوال علي بك فبعث إلى رجال حزبه الذين كانوا لا يزالون في سوريا، فاستقدمهم إليه وأقرهم في أماكنهم وطيب خاطرهم استعدادا لمقاومة مراد وإبراهيم مناظريه على مشيخة البلد. وكانا قد اتحدا على خلع إسماعيل بك مطلبا أولا وطرد حسن بك الجداوي صديق إسماعيل بك، فلم يفوزا، لكنهما تمكنا من احتلال القلعة، فاتحد إسماعيل بك وحسن بك وأخرجاهما منها ففرا إلى الصعيد. ثم جمعا حزبا كبيرا واستعدا لقتال إسماعيل فبعث جيوشا لتخمد أنفاسهما فعادت على أعقابها وفاز الأميران . فاضطر إسماعيل بك إلى مغادرة القطر المصري فيمم الأستانة. أما حسن بك فقبض عليه ونفي إلى جدة بحرا فاحتال في أثناء الطريق فأرضى رئيس المركب الذي نقله فأنزله في القصير على سواحل القلزم، ومن هناك قطع الصحراء غربا حتى أتى الصعيد فاستكن في أعلاه. (18-3) مراد بك وإبراهيم بك
فلما خلا الجو لمراد بك وإبراهيم بك اقتسما الأحكام، فتعين الأول أميرا للحج والثاني شيخا للبلد، ورقيا كثيرين من مماليكهما إلى رتبة البكوية وقلداهم مصالح البلاد، وكانت الأحكام في عهدهما كما كانت في أيام أسلافهما من المظالم والاستبداد. وبلغهما بعد مدة أن إسماعيل بك عاد من الأستانة وجاء حلوان فبعثا إليه فرقة من المماليك فتكت بكل من كان معه من عائلته ورجاله. أما هو فتمكن من النجاة باختبائه في بعض الكهوف ثلاثة أيام. ثم خرج طالبا الشلال، واجتمع هناك بصديقه حسن بك الجداوي، وسارا معا وأويا إلى الجنادل في السودان.
فاختلف مراد بك وإبراهيم بك على إرسال حملة للقبض على الهاربين، فارتأى أحدهما وجوب التجنيد وخالفه الآخر؛ حتى آل الأمر إلى الخصام وخروج إبراهيم بك مغتاظا من القاهرة إلى المنيا في الصعيد. فأرسل إليه مراد بك بعض الاختيارية يسكنون من غضبه فأرضوه وأعادوه إلى مركزه في القاهرة. إلا أن العلاقات الودية ظلت متكدرة بين الاثنين، ولم تمض مدة حتى خرج مراد بك إلى المنيا غيظا من زميله لأنه اتحد مع خمسة من بيت عدوهما القديم، وهم البكوات عثمان الشرقاوي وأيوب الصغير وسليمان وإبراهيم الصغير ومصطفى الصغير.
ولبث مراد بك بعيدا عن القاهرة خمسة أشهر وإبراهيم يظن أنه لا يلبث أن يسكن غضبه ويعود إليه، فلما استبطأه أرسل إليه الاختيارية كما فعل ذاك معه. فأبى مراد بك ورد الاختيارية خائبين. ثم جند جندا من أتباعه المماليك وسار على الضفة الغربية للنيل حتى أتى الجيزة مقابل مصر القديمة وعسكر هناك. وهم بقطع النيل، فعلم إبراهيم بك بذلك، فجند في الجهة المقابلة على البر الشرقي ليمنعه من المرور، ولبث الجانبان على تلك الحال ثمانية عشر يوما لا يتحاربان إلا على سبيل المناوشة بإطلاق مدفع ومدفعين ولم يقتل إلا رجل أو فرس. فمل مراد بك من تلك الحال فعاد إلى المينا.
شكل 1-29: مراد بك.
أما إبراهيم بك فكان كثير الرغبة في مصالحة زميله، فأنفذ إليه بعد خمسة أشهر من خروجه وفدا ثانيا من كبار البلاد ومشايخها يطلبون إليه الرجوع إلى القاهرة، فوافقهم لكنه اشترط عليهم أن يسلموه الخمسة البكوات المتقدم ذكرهم حال وصوله إلى القاهرة. فقبلوا بذلك الشرط فنزل معهم فعلم أولئك البكوات سرا من إبراهيم بك بما اشترطه مراد بك، فخرجوا من القاهرة نحو القليوبية على نية الشخوص إلى الصعيد عن طريق الأهرام. فاتصل ذلك بمراد بك فجعل عند الجسر الأسود قرب الأهرام عصابة من العربان تترصد مرورهم، ولم يستطع صبرا على ذلك فقطع النيل ببعض رجاله فالتقى بالمنهزمين عند رأس الخليج فتلاحموا، فجرح مراد بك ونجا أولئك فلاقاهم العربان عند الجسر الأسود فأسروهم وجاءوا بهم إلى مراد بك، فنفاهم إلى المنصورة وفرسكور ودمياط تفريقا لكلمتهم، وبعد مدة يسيرة عادوا واجتمعوا في آخر سنة 1197، واتفقوا أن يفروا إلى الصعيد ويجمعوا إليهم عصابة يقاومون بها عدوهم، ولم يباشروا ذلك حتى توسط شيخ جامع الأزهر في أمرهم وحصل لهم العفو من مراد بك، فصفح عنهم وأعادهم إلى القاهرة بكل إكرام وأعاد إليهم رتبهم وامتيازاتهم. (18-4) حملة عثمانية لحرب المماليك
مضى بعد ذلك ثلاث سنوات على إبراهيم بك ومراد بك وهما على وفاق وسكينة يقتسمان إيراد البلاد بينهما بالسواء، لا يقدمون عنه حسابا أو إذا قدموه كان حبرا على ورق. فوشى بهما محمد باشا والي مصر إذ ذاك إلى السلطان وبما كانا فيه من الاستئثار بمالية البلاد. فأمر السلطان عبد الحميد سنة 1199ه أن يرسل إلى مصر جيش لإيقافهما عند حدهما. فسار الجيش في عمارة بقيادة حسن قبطان باشا فوصلت الإسكندرية في 25 شعبان سنة 1200ه، فخاف البكوات خوفا شديدا واجتمعوا اجتماعا عاما في الديوان وتباحثوا في ما يجب إجراؤه. فكثر اللغط واختلفت المقاصد والآراء فلم يقروا على شيء، وأخيرا ارتأوا طلب توسط محمد باشا، ولما عرضوا عليه رأيهم رفض. فطلبوا من الشيخ أحمد العريشي شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد المهدي - الذي تعين في زمن الفرنساوية كاتم سر الديوان الخصوصي كما سيجيء - وغيرهما أن يسيروا إلى رشيد، ويستعطفوا القبطان باشا.
وترى في شكل
1-30
صورة ختم الشيخ المهدي وتوقيعه الرسمي وفيه لقبه كما يكتبه بيده.
شكل 1-30: ختم محمد المهدي وإمضاؤه.
فركبوا من بولاق في زورق فاخر وما زالوا حتى بلغوا رشيدا، فلاقاهم القبطان باشا بما يليق من الاحترام. أما هم فلعلمهم أن الأميرين إبراهيم ومرادا لا يثبتان على رأي خافوا إذا طلبوا لهما العفو وحصلوا عليه أن ينكث ذانك فتكون الملامة عليهم. فقال الشيخ العروسي: «يا مولانا أن رعية مصر ضعفاء وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس.»
فقال الباشا: «لا تخشوا بأسا فإن أول ما أوصاني به مولانا السلطان هو قوله: «إن الرعية وديعة الله عندي وأنا أستودعك ما أودعنيه الله تعالى».»
فدعوا له بطول العمر ثم قال لهم: «كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران يسومونكم سوء العذاب لماذا لا تخرجونهما من بلادكم؟»
فأجابه أحدهم بقوله: «يا سلطانم، هؤلاء عصبة شديدو البأس لا نقوى على دفعهم.» فطيب خاطرهم ووعدهم بالحماية. وبالحقيقة إن هذا الوقد تصرف بالحكمة؛ لأنهم لم يكادوا يخرجون من حضرة القبطان حتى سمعوا بقدوم مراد بك ومعه عشرة من البكوات وبعض الكشاف والمماليك. ثم شاع أنهم نزلوا في الرحمانية عند منشأ الترعة المحمودية الإسكندرانية. وسبب ذلك أن مراد بك بعدما أرسل الوفد خطر له الدفاع بالسيف، فجمع إليه ذوي شوراه وفاوضهم فأقروا على الدفاع، وأن يسير مراد لذلك ويبقى إبراهيم للمحافظة على القاهرة.
فسار مراد بمن معه ونزلوا في الرحمانية كما قدمنا، فلاقتهم الجنود العثمانية وجرت بينهما واقعة لم تطل إلا يسيرا، فانذعرت جنود المماليك من قنابل العثمانيين التي كانت تتدافع بين حوافر خيلهم فتشتت شملهم وفاز العثمانيون. ففر مراد بك ومن معه حتى أتوا القاهرة فاجتمعوا بإبراهيم بك وخرجوا جميعا إلى الصعيد ومكثوا ينتظرون هجمات العثمانيين. فلما رأى محمد باشا الوالي خلو القاهرة من المماليك جمع إليه الوجاقات، ونزل بهم من القلعة لاستقبال الجنود العثمانية.
ففي 5 شوال سنة 1200ه دخل حسن باشا القاهرة بعد أن أخربت جيوشه كل ما أمروا به من المدن والقرى ونهبوها، ولولاه لم يبقوا على شيء أصلا. لكنه كان يمنعهم من ذلك بالقوة وقتل منهم كثيرين عبرة للباقين، فكفت الأيدي فسكنت الناس، فلما وصل القاهرة نزل في بيت إبراهيم بك عند قصر العيني على النيل. ثم عرض أمتعة البكوات المنهزمين للمزاد العمومي وفي جملتها حريمهم وأولادهم ومماليكهم، فاسترحم المشايخ أن يخرج الأولاد والنساء الحوامل من معرض البيع؛ لأن ذلك فضلا عن مخالفته للعواطف الإنسانية فهو مغضب لله.
شكل 1-31: الشيخ أبو الأنوار السادات.
فانتهرهم القبطان باشا قائلا: «سأكتب إلى الأستانة بأنكم تعارضون في بيع أمتعة أعداء جلالة السلطان.» فأجابه الشيخ السادات قائلا: «قد أرسلت إلينا لمعاقبة شخصين مجرمين، وليس لهتك شرائعنا والطعن في عاداتنا فاكتب إلى الأستانة ما شئت.»
فعند ذلك أمر الباشا باستثناء المحظيات الحوامل من البيع. وبعد أن بيعت سائر الأمتعة عكف حسن باشا على إصلاح الإدارة، فأصلحها على ما يوافق الإرادة الشاهانية، وكان قد استقدم إسماعيل بك وحسن بك الجداوي من الصعيد، فأرسلهما في جيش بقيادة عابدين باشا ودرويش باشا قائدي الحملة العثمانية التي جاءت مصر عن طريق البر (فضلا عن العمارة البحرية المتقدم ذكرها)، وسار في تلك الحملة أيضا نحو ألف مقاتل من رجال الشام تحت قيادة أمير كبير من أمراء شين أغلي، فاجتمعت هذه الحملة وسارت نحو الصعيد لمحاربة مراد بك ورجاله.
فحصلت هناك واقعة عظيمة شفت عن عدة قتلى من الجانبين، وانهزم مراد بك ورجاله إلى الشلالات ورجعت الجنود العثمانية ظافرة إلى القاهرة. ثم جاءت الأوامر الشاهانية بعزل محمد باشا وتولية عابدين باشا مكانه.
وهنا تنتهي مهمة حسن قبطان باشا فاستدعي إلى الأستانة بسبب الحرب مع روسيا. ولكن مصر لم تنج من البكوات، وكانوا لا يزالون في مصر العليا كما رأيت. والمسيحيون يشكون من معاملة حسن باشا بأنه أخذ متاعهم ، وباعه على مشهد من الناس فضلا عن الإهانة التي سامهم إياها، وعلى الخصوص المعلم إبراهيم الجوهري أمين احتساب مصر؛ فإنهم قبضوا على امرأته وأجبروها أن تخبرهم بمخابئ زوجها من النقود فأخبرتهم فاستخرجوها وأخذوها. ولما برح حسن باشا القاهرة أقام عليها إسماعيل بك شيخ البلد فعهد هذا إلى صديقه القديم حسن بك الجداوي إمارة الحج، واتفقا معا على اقتسام الإيراد.
وفي سنة 1203ه توفي السلطان عبد الحميد الأول.
شكل 1-32: نقود السلطان عبد الحميد الأول.
شكل 1-33: نقود السلطان عبد الحميد الأول.
وترى في الشكلين
1-32
و
1-33
صورتي النقود الذهبية التي ضربت على عهد السلطان عبد الحميد الأول بن أحمد في القاهرة بتاريخ 1187ه الأولى تدعى نصف زر محبوب والثانية فندقلي. (19) سلطنة سليم الثالث (من سنة 1203-1213ه/1781-1798م)
فبويع السلطان سليم الثالث بن مصطفى، فأقر إسماعيل بك في مركزه فتعاطى الأحكام بدراية وحكمة إلى سنة 1205ه، وفي هذه السنة طرأ على الديار المصرية، ولا سيما القاهرة وباء شديد الوطأة لم تقاس مثله قبله؛ حتى بلغ عدد الموتى به نحو الألف في اليوم بالقاهرة وحدها، وتقلب على حكومتها في يوم واحد ثلاثة حكام؛ وسبب ذلك أن إسماعيل بك أصيب بالوباء فأقيم آخر مكانه فآخر حتى فني كل من كان من بيت إسماعيل بك إلا واحدا يدعى عثمان بك الطبل. ولا يزال هذا الوباء مشهورا بفتكه ويعرف بطاعون إسماعيل. فتولى عثمان بك الطبل المذكور مشيخة البلد ولم يكن قادرا على إدارة الأعمال التي عهدت إليه، فاستدعى إبراهيم بك ومراد بك فدخلا القاهرة في 21 ذي القعدة من تلك السنة، ففر حسن بك الجداوي إلى مصر العليا قانطا.
شكل 1-34: السلطان سليم الثالث.
فاستلم إبراهيم ومراد أزمة الأحكام وجعلا يعيشان فيها، وكانا يتناوبان مشيخة البلد وإمارة الحج سنويا بعد أن أفنيا كل من كان على غير دعوتهما فصفا الجو لهما. أما قلباهما فكانا لا يخلوان من الضغائن المتبادلة لما طبع عليه كل منهما من حب الأثرة، وقد اختلفا في الطباع والمناقب: كان مراد بك شديد البطش مقداما لا يهاب الموت، وكان إبراهيم بك أكبر سنا وأكثر اختبارا، ربعا ضخم القامة حسن الطلعة حاد البصر، وكان يتربص لمراد محاذرا بطشه؛ لئلا يطلبه للنزال، ولولا ذلك لم يرض معه بالاجتزاء من الدخل اجتزاء سويا. وكان لا يعارضه في ما يأتيه من الاستبداد ووضع الضرائب وسلب أموال الناس؛ لأنه شريكه في الأرباح الناتجة من ذلك. وكان في إبراهيم رياء يظهر غير ما يضمر إذا استصرخ وعد مع العزم على الأخلاف. وكان جبانا فإذا أراد أمرا لا يتظاهر به وإنما يسعى إليه بالدسائس والمكائد.
أما مراد بك فلم يكن يعرف المكر وإنما كان يسعى في أغراضه بالقوة والحزم، وكان طويل القامة عضلي البنية شديد البأس، يقطع عنق الثور بضربة من سيفه، وعلى وجهه ملامح الأسود، فإذا غضب يهابه ويخاف منه كل من يراه حتى أحب أصدقائه (انظر شكل
1-29 ). وكان كريم النفس لا يبيت على غيظ، حر الضمير لا ينكر الحق ولو كان عليه، مخلصا لأصحابه مقيما على قوله. وكان طمعه بمقدار سخائه وحبه لذاته بمقدار حرية مباديه. وكان سريع الغضب شديده لا يراعي في حال غضبه أمرا من الأمور، وربما فتك بمصلحة نفسه أو أضر بشخصه.
شكل 1-35: ختم مراد بك وختم إبراهيم بك.
وترى في شكل
1-35
صورة كل من ختمي مراد بك وإبراهيم بك محفورة على شكل جميل.
وألم بالبلاد بعد عود هذين الأميرين إلى مصر جوع هائل ويقال إنه حصل من كثرة ما ضبطاه من الحبوب في مصر العليا طمعا بالكسب. ثم ألغيا النظامات التي وضعها حسن باشا قبطان وأبدلاها بما يوافق مطامعهما الشخصية. فكثرت تعديات مماليكهما وعلى الخصوص تعديات أحدهم محمد الألفي
4
فثار الأهلون ثورة عامة لم يسعهما معها إلا توقيف تلك الأجراءات وقتيا، فخمدت الثورة فعادا إلى ما كانا عليه فعاد الناس إلى الاضطراب، وكسدت سوق التجارة لقلة الأمنية. (19-1) نسخة قديمة من القرآن
يحكى أن مراد بك أظهر يوما أنه عازم على تجديد الملابس والأمتعة العسكرية، وطلب ما يقوم بنفقاتها ففرض على الإسرائيليين مبلغا كبيرا أعانة لهذا المشروع فاجتمع رؤساؤهم وتخابروا في ماذا يصنعون لينجوا من هذه الضريبة، فأقروا على أن ينفذوا إليه اثنين من كبرائهم يسعيان في ما ينجيهم من هذه الضريبة، فسارا ولما مثلا بين يدي مراد بك قالا له: «أيها الأمير إننا فقراء ولو بعنا ممتلكاتنا ونساءنا وأولادنا وأنفسنا لا نجمع عشر ما تطلبه منا. فإذا أعفيتنا من هذه الضريبة التي يستحيل علينا دفعها نطلعك على مخبأة تكفيك مؤنة هذه المطالب، وهذه المخبأة لا يعلم بها أحد سوانا، وقد تنوقل هذا السر في عائلتنا حتى وصل إلينا ونحن نوصله لأولادنا عندما تحضرنا الوفاة.»
فلما سمع كلمة «مخبأة» فتح أذنيه وقاطعهما قائلا: «هلم بنا لنرى تلك المخبأة؛ فإني إذا رأيتكم صادقين أعفيكم وطائفتكم من كل ضريبة. هلم بنا إلى المخبأة أين هي؟» فأجابا: «إن هذه المخبأة أيها الأمير في جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة جعلها ذلك الفاتح هناك في صندوق من حديد في دهليز لا يعرف مقره إلا نحن.»
فتأكد مراد بك أنهما يتكلمان الصدق فصرفهما. ثم سار في اليوم التالي مظهرا للصيد في البرية فمر بجامع عمرو، فدخله كأنه يريد الصلاة ثم نظر إلى الجامع، فإذا به قد تداعت أركانه فالتفت إلى شيخه قائلا: «بما أن الله قد أدخلني هذا المسجد المبارك وجب علي أن أسعى في إصلاحه؛ لكي يذكر اسمي في الصلاة مع اسم مؤسسه الفاتح عمرو بن العاص، وغدا - إن شاء الله - أرسل إليكم الفعلة يباشرون العمل.»
وفي اليوم التالي أرسل الفعلة بمراقبة أحد ثقاته، وبدلا من أن يبدأوا بهدم القسم المتساقط من الجامع بدأوا بالقسم القائم، وبعد بضع ساعات جاء مراد بك بنفسه فرآهم قد وصلوا إلى دهليز فيه صندوق من الحديد، فتحقق ما قاله له الإسرائيليان وكانا بين الجماهير، فأمر فأخرج الصندوق ثم أمر بفتحه فإذا هو ملآن رقوقا عليها آيات بالقلم الكوفين ثم علموا بذلك أنه القرآن الشريف.
شكل 1-36: كلمات من فاتحة القرآن الشريف.
وترى في شكل
1-36
رسم كلمات من فاتحة القرآن مثالا لنوع كتابته الكوفية. وكان يظن أنه كتب في أيام عمرو بن العاص.
فلما رأى الإسرائيليان ذلك فرا من بين الجماهير. أما مراد فاستشاط غيظا ولما عاد إلى القاهرة ضاعف الضريبة على الإسرائيليين، وأصر إلا أن يدفعوها حالا، واستعمل الكرباج لحثهم على ذلك. أما تلك الرقوق الثمينة فألقيت في الدهليز بغير اعتناء وتركت هناك عرضة للشمس والماء، ففسد بعضها ولما كانت الحملة الفرنساوية التقط ما بقي منها المسيو مارسل مدير مطبوعات تلك الحملة، وحفظها عنده في متحفه الخصوصي. وفي المكتبة الخديوية نسخة من القرآن يقال إنها وجدت في جامع عمرو فلا يبعد أن تكون هي التي التقطها مارسل. وهي من أقدم نسخ القرآن الموجودة في العالم اليوم، والغالب أنها كتبت في أوائل القرن الثاني للهجرة.
وعاد مراد بك ورفيقه إلى ما كانا عليه من اختلاس أموال الأهلين وأموال الأجانب بالضرائب الفاحشة. وضربا على التجار الأجانب في الإسكندرية والقاهرة ورشيد ضرائب ما أنزل الله بها من سلطان، فرفعوا شكواهم إلى قناصلهم فلم تكن النتيجة إلا زيادة الاضطهاد. أما توسط الباشا في مثل هذه الأمور فكان عديم الفائدة على الإطلاق، فرفع المتظلمون شكواهم إلى الأستانة فكان جوابهم الصمت، ولم يزدد مراد بك إلا عتوا وعسفا، ولم يكن يبالي بما يقوله القائلون أو يتظلم منه المتظلمون من سائر ساكني القطر. كل ذلك جرى على عهد السلطان سليم بن مصطفى وهو من أكثر السلاطين رغبة في الإصلاح ولكنه غلب على أمره.
وترى في الشكلين
1-37
و
1-38
صور نقود السلطان سليم مضروبة بتاريخ سنة 1203ه.
شكل 1-37: نقود السلطان سليم بن مصطفى.
شكل 1-38: نقود السلطان سليم بن مصطفى.
الفصل الثاني
الحملة الفرنساوية
تمهيد
شكل 2-1: نابوليون بونابرت.
قد رأيت ما كان من انغماس مراد بك ورفيقه في المظالم واختلاس الأموال بغير الحق. وكيف أنهما تطرقا بتصرفهما هذا إلى الأجانب القاطنين في هذا القطر تحت حماية دولهم؛ فإنهما لم يكونا يراعيان حرمة ولا ذمة. وكان أولئك الأجانب يتحملون تلك التعديات بالصبر الجميل لأنهم رفعوا شكواهم إلى دولهم مرارا فأوعزت إلى المظالم أن يرعوي فلم يرعو. وما زال الحال كذلك حتى جاء نابوليون بونابرت الرجل العظيم برجاله لافتتاح هذه الديار. وقبل الخوض في تفاصيل تلك الحملة نشرح للقارئ أولا: ما الداعي الذي حمل الفرنساويين إلى تجريدها؟ ثانيا: كيف كانت مصر عند وصول تلك الحملة إليها؟ (1) لماذا جرد الفرنساويون إلى مصر
لما قتل الفرنساويون ملكهم لويس السادس عشر وتخلصوا من الحكم الاستبدادي أقاموا عليهم نوعا من الحكومة دعوها «الإدارة»، وهي عبارة عن لجنة مؤلفة من خمسة أعضاء يسمون كلا منهم «مديرا»، وذلك سنة 1795 للميلاد ( 1210ه)، ثم جعلوا يحملون على ممالك الأرض يفتحونها بهمة كبير قوادهم الرجل العظيم بونابرت، فحاربوا النمسا ثم إيطاليا فغيرها ولم يبق في سبيلهم إلا دولة إنكلترا واقفة لهم بالمرصاد وهي على جانب عظيم من القوة ولا سيما في البحار. فتباحثت إدارة فرنسا بذلك مرارا لكنها لم تستطع مناهضة تلك الدولة؛ لما كانت تعلمه من قوتها ومناعة جانبها.
وكان بونابرت قد مر في البحر المتوسط وضم قسما عظيما من شواطئه إلى فرنسا، فطمع بمصر وقد أعجبه شأنها وما فيها من الخيرات وما بها من التعزيز لدولته والإرهاب لإنكلترا. إلا أن الإدارة لم تكن على بينة من الأمر فعرض بونابرت رأيه هذا عليها وشرح لها شرحا مستوفيا كيف كان هذا الوادي منذ القدم منشأ لخيرات العالم المتمدن ، ثم أمسى موضوعا لمطامع الدول العظيمة، وشاغلا لرجال الفتوح من الإسكندر إلى الأيام الأخيرة ثم قال مخاطبا الإدارة:
إن مصر أيها السادة أكثر بقاع الأرض خصبا. كانت أهراء لرومية قديما وللقسطنطينية الآن. وفيها الحنطة والأرز وسائر أنواع البقول والسكر والنيلة والقطن والسنا والخيار شنبر والنطرون والكتان والقنب، وفيها صنوف الماشية والطيور الداجنة، وقد اشتهرت على الخصوص بحسن حميرها وقوة جمالها. نعم إن مواد الاشتعال والزيت والبن نادرة فيها لكن ذلك مستدرك؛ لأن الشرق لا يستغني عن هذا الوادي وهو مركز متوسط بين أفريقيا وآسيا. فالقوافل تحط رحالها في القاهرة كما ترسو المراكب عند الشواطئ بعد سفر طويل. وهذه القوافل مؤلفة من مئات وأحيانا ألوف من الجمال قادمة من بلاد العرب أو سوريا وسواحل المغرب أو الحبشة أو أواسط أفريقيا أو من رأس الرجاء الصالح أو السنغال، تحمل أنواع التجارة من الخشب والفحم والزيت والتبغ والبن والأثمار، ومن الرقيق والتبر والعاج والريش والصمغ والأطياب والعطور والشالات وكل محاصيل الهند، فتبيعها في مصر وتأخذ بدلا منها أحمالا من مصنوعات أوروبا.
فما برحت مصر أيها السادة منذ القدم موصلا تجاريا بين أوروبا والشرق، وهذه تجارتنا مع الهند قد كانت قبل اكتشاف رأس الرجا الصالح تأتينا عن طريق مصر، ترسو السفن عند برنيس من سواحل البحر الأحمر، ومنها تنقل السلع على الجمال في الصحراء 24 مرحلة إلى طيبة (الأقصر)، ومنها في النيل إلى مصر وتتوزع فيها، ومنها تنقل إلى أوروبا. وكانت تنقل أحيانا إلى القصير في البحر الأحمر، ومنها إلى السويس ثم على الجمال إلى منف ومنها إلينا. وإذا أغضينا عن أهمية مصر بالنسبة لتجارة الهند، فإن لها أهمية عظمى بالنظر لتجارتها الخصوصية.
فإذا فتحنا هذه البلاد واعتنينا بإدارتها خمسين سنة فقط يبلغ عدد سكانها أضعاف أضعاف ما هو عليه الآن. كان سكان هذا الوادي في الأزمنة الخالية بين 12 و15 مليونا، وهم الآن لا يبلغون ربع هذا القدر لسوء الإدارة. فضلا عما تقدمه مصر لمعاملنا من حاصلاتها، وما نبيعه فيها وفي جوارها من مصنوعات بلادنا. فما هي مستعمراتنا بالنسبة إلى هذه البلاد الخصبة الشاسعة الأطراف؟ هلم إليها فنستغل من أرزها وسكرها وقطنها كما فعل غيرنا، وهي تغنينا عن حاصلات أميركا وتكفينا مئونة الارتباط معها.
ولا يخفى عليكم أيضا أننا إذا ثبتنا قدمنا في مصر لا تبقى إنكلترا طويلا في الهند، أو نجعل على سواحل البحر الأحمر حاميات نقيمها في معاقل منيعة نذخر فيها نتاج ذلك القطر ونحول التجارة الهندية إليه. ولو فرضنا بقاءها عن طريق رأس الرجا الصالح كما هي الآن فإننا نقيم بيننا وبينها بابا للمنافسة ونشق ترعة بين السويس والنيل، ولا شك إذا فعلنا ذلك أننا نحبط مساعي إنكلترا جملة؛ لأن التجارة تتحول إلينا. أما هذه الترعة فقد كانت محفورة منذ القدم ولا يصعب علينا إعادة حفرها. فإذا فتحنا مصر لا يقتصر نفعها لنا مثل نفع سائر المستعمرات العظيمة، لكنا نعرقل مساعي إنكلترا بها فنكتفي مؤنة مقاومتها. هذا إذا لم نذهب بها إلى الحضيض.
فترددت الإدارة بقبول مشروعه لكنها ما زال يستحث أعضاءها حتى اشتد الجدال بينه وبينهم، فرأى فيهم إصرارا على مقاومته فعرض بذكر استقالته فنهضوا إليه وأوقفوه وأعادوا النظر في ما عرضه، ووافقوه على رأيه بشرط أن يكون ذلك سرا؛ لئلا تتصل مقاصدهم بمسامع إنكلترا فتسعى ضدهم. فانحصر هذا المشروع بين بونابرت والخمسة المديرين فقط، حتى الكاتب الذي كتب الأمر بإعداد الحملة لم يكن يفهم حقيقته؛ لأنه أمر أن يكتبه بصورة مبهمة في 5 مارس سنة 1798.
ومن مقتضى هذه الأوامر السرية أن تكون هذه الحملة مؤلفة من أربعين ألف مقاتل، عليهم أربعون قائدا يختارهم بونابرت، وطائفة من رجال العلم لا يقل عددهم عن المائة بين مهندسين وجغرافيين وطبيعيين وكيماويين ولغويين وفلكيين ونحو ذلك العدد من سائر الصناع. وعمارة بحرية بقيادة الأميرال برويس، يضاف إليها المراكب الراسية عند طولون. وأن يقبض في مدة عشرة أيام من الخزينة مليون وخمسمائة ألف فرنك فضلا عن ثلاثة ملايين من خزينة بارن، وأن يتصرف بهذه المبالغ حسب حكمته والأوامر السرية المعطاة له.
فبذل بونابرت جهده لتعزيز هذه الحملة والإسراع في إعدادها. فشاعت الأقاويل عن هذه الإعدادات وكثرت الظنون، فقال بعضهم إنها حملة تعدها فرنسا لمحاربة إنكلترا، وقال آخرون إنها تفعل ذلك لافتتاح مدن جديدة في آسيا وأفريقيا، وقال آخرون غير ذلك.
وبونابرت لم يأل جهدا في إعداد المهمات وترتيب أمور الحملة، فجعل المراكب المعدة لنقل الجند أربعمائة مركب تسير في أربع فرق من أماكن مختلفة: الفرقة الأولى تسير من طولون، والثانية من جينوا، والثالثة من شيفيتافكيا، والرابعة من جاكسيو، ثم تجتمع وتتحد وتسير إلى مصر. وأن تنقل على هذه المراكب أيضا مطبعة عربية كانت في البروباغندا برومية مع ما يلزمها من العمال. وعلى أنقاض هذه المطبعة أقيمت مطبعة بولاق الأميرية. ونلقوا أيضا كل ما يلزم من الأدوات الكيمية والطبيعية والرياضية، وانضم إلى طائفة العلماء كثير من مشاهير علماء فرنسا وصناعهم متطوعين ومثل ذلك القواد. فكأن فرنسا بجملتها تاقت إلى مرافقة هذا القائد العظيم، فانضم إلى حملته كثير من أبطالها وعلمائها وصناعها بقلب واحد. وهم لا يعلمون إلى أين تذهب بهم الأقدار.
أما الجيوش فجعل فيهم ألفين وخمسمائة من الفرسان وألفا من الطبجية والمهندسين، ومن بقي (من الأربعين ألفا) من المشاة، وكان من جملة القواد الذين رافقوا تلك الحملة: كلابر وديزه ورينير وبون ومينو وهم قواد الخمس الفرق من المشاة. وكان مورات قائدا للفرسان وكافرللي قائدا لفرقة المهندسين ودومارتين على الطبجية.
هذا من قبيل الحملة البرية، أما الحملة البحرية فكانت مؤلفة:
أولا:
من 15 مركبا حربيا من جملتها «الشرق» محمولها مائة وعشرون مدفعا، ومركبان محمول الواحد منهما ثمانون مدفعا، وعشرة مراكب محمول الواحدة منها 74 مدفعا. واثنان محمول كل منهما 64.
ثانيا:
من أربع عشرة مدرعة في بعضها أربعون مدفعا، وفي بعضها 36 وفيها إبريقان.
ثالثا:
من 72 مركبا حربيا صغارا على أشكال مختلفة. هذه هي الحملة البحرية، وهي كما رأيت أكثر من مائة قطعة ومعها سبعمائة مركب لنقل العساكر البرية ومهماتهم وخيولهم وأسلحتهم بقيادة برويس، وبلغ عدد الملاحين نحو عشرة آلاف.
أما الحملة العلمية المرافقة لتلك الحملة العسكرية، فكانت مؤلفة من فرق لكل من العلوم أو الصنائع، وجملة أعضائها مائة، فيهم فرقة للهندسة وأخرى للفلك، وفرق أخرى للميكانيكيات وللكيميا والمعادن والحيوان والنبات. ومثل ذلك للجراحة والطب والاقتصاد السياسي والإنشاء والجغرافيا وعلم الآثار والبناء والتصوير والرسم والنقش والحفر والموسيقى ... إلخ. وقد اختير لهذه الفنون أشهر من اشتغل بها، ومعهم المطبعة المتقدم ذكرها وعدة مترجمين. وجميع هذه المعدات كانت على أهبة السفر في 20 أبريل سنة 1798؛ أي بعد صدور الأمر ببضعة أسابيع. ومن الغريب أنه مع تعداد الرجال الذين ساعدوا في تنفيذ أوامر الإدارة وفيهم القواد العظام ورجال العلم والصناع، لم ينكشف لأحد منهم حقيقة المقصود من هذه الحملة إلا لتاليران، وهو الرجل السياسي الذي أرسلته الإدارة إلى الأستانة لمخابرة الباب العالي بشأنها وطلب مصادقته على تجريدها.
وفي 9 مايو سنة 1798م وصل بونابرت إلى طولون، والجند في انتظاره كأنهم على جمر الغضا، فخطب فيهم فزادهم حماسة ورغبة في الحرب. وفي 19 منه ودع بونابرت امرأته وركب على الدارعة «الشرق»، وهي أكبر دوارع الأسطول ومعه أركان حربه كأنهم ذاهبون إلى نزهة أو غنيمة باردة. وأقبلت سائر المراكب من النقط الأخرى حتى اتحدت وعددها جميعا يزيد على الخمسمائة، فسارت تخترق عباب البحر وعليها خمسون ألف نسمة. وفي 9 يونيو سنة 1798 وصلوا إلى مالطة، ومنها ساروا يطلبون الإسكندرية.
فأوجست إنكتلرا خيفة من هذه الحملة فأنفذت نلسون أحد كبار قوادها البحريين في أسطول، وعهدت إليه أن يقتص آثار الأسطول الفرنساوي في البحر المتوسط، وأن يكون ساهرا على إجراءاته، وأن يقاومه إذا رأى منه مسا لحقوق إنكلترا، فسار نلسون فطاف البحر المتوسط، ثم تنبأ أن الأسطول الفرنساوي لا يقصد إلا مصر أو سوريا فسار نحوهما. فبلغ ذلك بونابرت فأمر الأسطول أن يقيم غربي الإسكندرية ببضعة مراحل، وأن يكون دائما في استعداد للدفاع. (2) حالة مصر عند قدوم الحملة الفرنساوية
لم يكن في وادي النيل إذ ذاك أكثر من ثلاثة ملايين من السكان يتألفون من ثلاث طوائف كبرى؛ وهم أولا: الأقباط سكان مصر الأصليون لا يزيدون عن مائتي ألف نفس، ثانيا: العرب الذين افتتحوها، ثالثا: الأتراك وفيهم المماليك، وشرذمات من طوائف أخرى.
والباشا هو الحاكم المرسل من الأستانة لتأييد سلطة السلطان، كان يقيم في قلعة الجبل في القاهرة، لا فائدة من وجوده هناك إلا إثبات سلطة جلالة السلطان على مصر، ويقوم ذلك بالخطبة له في الصلاة وضرب النقود باسمه. أما المماليك فكانوا أخلاطا من الأتراك والشراكسة والكرج، وجميع ثروة البلاد وإدارتها في أيديهم. على أنهم مع ذلك لم يكن لهم في البلاد عصبية؛ لأنهم لم يكونوا يتوارثون الحكم إلا نادرا. وإنما كان يتولى منهم من يمتاز بالقوة أو الاحتيال أو المحسوبية وما شاكل. وقلما ارتقوا منصة الحكم بالحكمة والدراية وحسن السياسة؛ ولذلك كانت أحكامهم عرضة للفساد وداعية للخلل. وكان مقرهم في بهو كبير مختص بهم في قلعة الجبل، وفيها إصطبلات كبيرة لخيلهم ومخازن لأسلحتهم ومعداتهم. أما مساكنهم الخصوصية فكانت غالبا في حي قيسون وحي بركة الفيل ودرب الحبانية في أجمل ما يكون من البناء مرصفة بالرخام والفسيفساء، وفيها الرياش من المخمل المزركش بالحرير. وفي بعضها حدائق غناء تزينها السراري الجميلات من نساء الكرج وغيرهن.
أما الجنود فكانوا لا يزيد عددهم على الثمانمائة أو الألف من المماليك الأشداء، وقلما يكونون على شيء من الفنون الحربية وأكثرهم من الفرسان، أما المشاة فقليلون بينهم. فإذا امتطى المملوك صهوة جواده تقلد القربينة بمنكبيه والطبنجات في منطقته والسيف على يساره وهراوة في قربوزة وقضيبا من الفولاذ أمام أنفه ممتدا من جبهته إلى ذقنه. وقد يتفق أن يتمرن أحدهم على الحركات العسكرية، أما الجماعات فلا يعرفون شيئا عن المربعات أو الخطوط الحربية وإنما كانوا يتقنون الفروسية. وفي يوم قدوم الفرنساويين إلى مصر كان على الأحكام إبراهيم بك ومراد بك كما مر بك؛ الأول شيخ البلد والثاني أمير الحج، وبأيديهما الحل والعقد. وكان إبراهيم بك مشهورا بالغنى والطمع والاحتيال، وكان مراد يفوقه إقداما وحزما وفيه كرم وسخاء. وكلاهما لم يؤيدا سلطتهما إلا بالقتل والنهب والاحتيال، وقد اتفقا على اقتسام إيراد البلاد.
أما العرب فمنهم فئة العلماء والفقهاء وفي أيديهم إدارة المعابد والتكيات، وهم في الغالب من عائلات قديمة متصلة بالصحابة أو غيرهم من أصحاب البيت، وكانت معيشتهم غالبا في ترف ورخاء، وإن لم يبلغوا في ذلك مبلغ البكوات المماليك. وكانوا محترمين لدى الأهلين احتراما دينيا وأدبيا. أما نفوذهم السياسي فكان ضائعا في جانب استبداد المماليك.
وكانت التجارة رائجة في مصر وأصحابها من ثقات العرب وأصحاب الأمانة؛ ولذلك قلت بينهم التفاليس. وكانت فرضة القاهرة بولاق وفيها كانت ترسو المراكب حاملة البضائع على اختلاف الأنواع قادمة من أقطار شتى من العالم. ومن بولاق تحمل إلى الخانات أو الوكالات كخان السبع قاعات وخان التركماني وتباع فيها بالإجمال. أما البيع بالمفردات فكان في الأسواق إلى شمال المدينة من باب زويلة إلى الباب الذي يشرف على الصحراء.
أما جباية جمع الخراج فكانت موكولة إلى فئتين من المصريين هما المسلمون والأقباط. فمن المسلمين كان الروزنامجية وعندهم تقاويم الأرضين وسجلات الأملاك، وكانوا ممتازين عن سائر الأهلين ومحافظين على أنسابهم، لا يتزوجون إلا من بنات أكفائهم، وكانوا على جانب من الثروة ولهم عقارات واسعة يضرب بهم المثل في ذلك. أما الأقباط فكانوا يقتصرون على ضبط الحسابات في القبض والصرف كسائر الحساب إلا فيما ندر.
وكانت مساكن الأقباط في القاهرة شمالي المدينة وغربيها فيما كان يعرف بباب المقس، حيث ثمن الأزبكية الآن وفي باب البحر؛ ولذلك دعي بعض أحيائها بحارة النصارى، وأكثرهم من متوسطي الثروة. أما أصحاب المصارف والمداينون والصيارف فكانوا من اليهود، ويقيمون عائلات كثيرة في بيت واحد بحارة اليهود ويضطهدهم المماليك اضطهادا شديدا.
أما الأجانب في القاهرة فأكثرهم من الفرنساويين، وكانوا يلبسون اللباس العربي ويتكلمون اللغة العربية جيدا، ويقيمون في جبهة الموسكي، وكانوا يتزاوجون مع المسيحيين من السوريين، وهؤلاء كانوا يقيمون غالبا في درب الجنينة. وكان في وادي النيل جماعة كبيرة من السوريين يقيمون غالبا في السواحل، وفي المدن الكبيرة مثل دمياط ورشيد وأسيوط يتعاطون التجارة، إما ببضائع أوروبا أو بحاصلات السودان من العاج والريش والصمغ أو ببضائع بلاد أخرى. أما علاقة مصر مع الدول الأجنبية في ذلك العهد فكانت قاصرة على التجارة. والبندقية «فنيس» أمتن علاقة معها من سائر الأمم، ولها قنصل مقيم في الإسكندرية فضلا عن علاقات أخرى مع تجار فرنسا وإنكلترا.
هذا ملخص حالة مصر عند قدوم الفرنساويين إليها. (3) فتح الفرنساويين مصر (من سنة 1213-1216ه/1798-1801م)
مر بك في الفصل السابق أن الأسطولين الفرنساوي والإنكليزي سارا في البحر المتوسط قاصدين شواطئ الدلتا.
ففي يوم الأحد الواقع في 11 محرم سنة 1213ه ظهر في ميناء الإسكندرية أسطول مؤلف من خمسة وعشرين مركبا إنكليزيا. وكان متسلم الإسكندرية «حاكمها» السيد محمد كريم أحد أعيان الوطنيين. فلما علم بقدوم الأسطول جعل يراقب حركاته وسكناته، وأهل المدينة يتساءلون فيما بينهم عن أمره، وبعد قليل اقترب من الثغر قارب فيه عشرة من الإفرنج طلبوا مقابلة الحاكم، فجيء بهم إلى السيد محمد كريم وهو في مجلسه، وحوله رجال حكومته فسألهم عما جاءوا من أجله فقالوا: «إن ما ترونه في هذا البحر أسطول إنكليزي جاء للتفتيش عن عمارة فرنساوية عظيمة خرجت مؤخرا تريد جهة من الجهات، فربما داهمتكم فلا تقوون على دفعها فنكون لكم نصراء عليها.» فظن السيد محمد كريم ذلك مكيدة فأغلظ لهم بالقول، فقالوا: «إننا نرسو في هذا البحر نحافظ عليه لا نطلب منكم إلا المدد بالماء والزاد بثمنه.»
فأجابوهم: «إن هذه البلاد بلاد السلطان ولا يد للفرنساويين فيها، فإذا جاءونا لا نبالي بهم فاذهبوا أنتم عنا.» فعادوا ثم أقلعت المراكب تخترق عباب البحر. أما السيد محمد كريم فأنفذ إلى مراد بك في القاهرة حال وصول الأسطول يخبره بما كان، وأرسل إلى كاشف البحيرة يأمره بجمع العربان وأن يأتي بهم للمحافظة على الثغر. فلما اتصل ذلك بمسامع الأمراء والبكوات لم يكترثوا به وقالوا: «لا نبالي بمن تحدثه نفسه بمداهمتنا، وإننا ندوسه تحت حوافر خيولنا.» أما الشعب فاضطرب وخاف. ثم جاء خبر آخر بإقلاع الإنكليز فسكن الجأش.
وفي يوم الإثنين في 18 منه وصلت ثغر الإسكندرية العمارة الفرنساوية، فأرسلت أحد قواربها تطلب القنصل، فمانع السيد محمد كريم في أول الأمر بتسليمه. ثم أذن له فنزل حتى أتى الدارعة التي عليها بونابرت، فسأله عن حال المدينة فأخبره بما كان من أمر الأسطول الإنكليزي، وأن الأهلين في يقظة واستعداد للدفاع جهادا في سبيل الدين. (3-1) تدابير المماليك لرد الفرنساويين
وكانت حامية الإسكندرية لا تزيد على خمسمائة من الإنكشارية، معظمهم يتعاطون التجارة أو يشتغلون بالصناعة، وكانوا مع ذلك في استعداد للدفاع. وكتب السيد محمد كريم إلى مراد بك وإبراهيم بك في القاهرة بما جرى إلى أن قال: «إن العمارة التي ظهرت في هذا اليوم لا يعرف أولها من آخرها.» فلما تلا مراد بك الرسالة استشاط غيظا ورمى بالكتاب إلى الأرض. ثم ركب جواده قاصدا إبراهيم بك في سراي قصر العيني على ضفة النيل المطلة على جزيرة الروضة. فلما اجتمعا قررا عقد جمعية عمومية فبعثا إلى كبراء البلاد ورجال الدولة، وفيهم بكير باشا الوالي، فاجتمعوا اجتماعا حافلا، وتباحثوا في ما جاءهم من الأنباء الأخيرة. فقال مراد بك وهو ينظر إلى بكير باشا شزرا: «لا ريب أن الفرنساويين لا يجسرون على القدوم إلى مصر من تلقاء أنفسهم، فلعلهم جاءوا بأمر من الباب العالي ... ولكن الله قادر على أن ينصرنا على الاثنين.»
فأجابه بكير باشا: «إن هذا الكلام لا يليق صدوره منك، وكيف يخال لك أن الباب العالي يسلم بدخول أمة غريبة إلى بلاده! دع عنك ذلك وهلم إلى سيفك ورجلك لدفع العدو الذي داهمك.» وبعد المفاوضة أقروا على المواد الآتية: (1)
أن يسير مراد بك في فرقة من الفرسان على الضفة الغربية لفرع رشيد من النيل نحو الإسكندرية لإيقاف الفرنساويين عن التقدم. (2)
أن يعسكر إبراهيم بك بمن يبقى من الجند على الضفة الشرقية عند بولاق لحماية القاهرة. (3)
أن يرسل بكير باشا إلى الأستانة يستمد الباب العالي «بالترياق من العراق»، ثم شاع في اسواق القاهرة خبر قدوم الفرنساويين فكثر الهرج وازداد الاضطهاد على المسيحيين. وعبثا حاول إبراهيم بك وبكير باشا إقناع المسلمين أن هؤلاء المسيحيين من جملة رعايا الدولة العلية. (3-2) فتح الإسكندرية
أما بونابرت فبعد أن استوعب كلام القنصل أقر على النزول إلى البر حالا، فاعترضه الأميرال برويس بما يحول دون ذلك من بعد المسافة وصعوبة المسلك، فأصر على النزول، وكانت قيادة القوتين البحرية والبرية بيده، فوافقه برويس مكرها فسار بالمراكب إلى جهة العجمي وبرج مرابوت على مسافة قصيرة جدا من الإسكندرية غربا. وقضوا النهار بطوله يستعدون للنزول. وفي الساعة العاشرة مساء باشروا النزول بالسرعة الممكنة. وما زالوا مجدين في ذلك إلى الساعة الأولى بعد نصف الليل، وقد نزل منهم أربعة آلاف وثلاثمائة رجل، فنزل بونابرت - وكانت الليلة مقمرة - فنام نحو ساعتين على الرمال. ثم أرسل طلائعه وسار بمن بقي مشاة مستترين بجنح الليل ومستنيرين بالقمر، وفي الصباح التقى بونابرت بقبائل من عرب البحيرة «ولد علي» تحت قيادة أميرهم فتبادلوا طلقات قليلة . ثم فر العربان وتقدم بونابرت برجاله حتى أشرفوا على الإسكندرية يستدلون على مكانها بعمود السواري.
ثم وقف بونابرت على مرتفع أشرف منه على الإسكندرية فرآها وفيها المآذن والمنائر تناطح السحاب. فجعل رجاله فرقا بين الواحدة والأخرى مرمى رصاص، وخطب فيهم، وحرضهم أن يتجنبوا إهراق الدماء ما استطاعوا إلى حجبها سبيلا، فهاجم الفرنساويون المدينة ودخلوها عنوة، وقد أصيب الجنرال كلابر برصاصة في رأسه لم تمته فاستلمت الجنود الفرنساوية الأسوار، وفرت الحامية المصرية تطلب ملجأ في الأبراج القديمة، وسقط الجنرال مينو عن أحد الأسوار التي استلمها هو فجرحت فخذه. أما الجنرال مرمون فدخل المدينة من بابها بعد أن حطمه بالفئوس، وخرق باقي الجيش الأسوار ودخلوا منها؛ لأنها لم تكن متينة البناء.
ثم أرسل بونابرت أحد ضباط جيشه إلى سكان المدينة يخبرهم أنهم في مأمن على أرواحهم وأموالهم، وأن الفرنساويين لم يأتوا لمحاربتهم وإنما جاءوا لمحاربة المماليك.
أما السيد محمد كريم والعساكر والأتراك ففروا إلى حصن فرعون، فاضطر الأهلون إلى التسليم قهرا، فدخل بونابرت ورجاله الأسواق، وبلغ ذلك السيد محمد كريم فجاء بمن معه وسلم سلاحه، وفعل مثل ذلك المشايخ والعلماء فأكرمهم بونابرت إكراما خصوصيا. ثم التفت إلى السيد كريم قائلا: «قد أخذت سلاحك بالسيف وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير؛ لأني أخذتك بعد أن دافعت عن نفسك ما استطعت. ولكن الشجاعة حليفة الشرف، ها إني أعيد إليك سيفك على أمل أن تكون مساعدا أمينا للجمهورية الفرنساوية، كما كنت للحكومة السابقة على عتوها وظلمها.» ثم سأله إذا كان يرغب في معاضدة مساعيهم، وهي تأييد سلطة الباب العالي وقمع المماليك. فأجاب بالإيجاب فأقره على الإسكندرية تحت مناظرة الجنرال كلابر، وكان قد اضطر إلى البقاء في الإسكندرية بسبب الجرح الذي أصابه.
ثم أباح بونابرت للمسلمين المحافظة على معتقداتهم وصلواتهم كما كانوا قبلا. وجرد الأهلين من السلاح، وأمرهم أن يجعلوا على صدورهم الجوكار وهو علامة مصنوعة من الجوخ أو الحرير مستديرة بقدر الريال، مؤلفة من ثلاثة قطع كحلية وبيضاء وحمراء توضع بعضها فوق بعض بحيث تظهر الألوان الثلاثة؛ شارة العلم الفرنساوي ذي الثلاثة الألوان. (3-3) منشور بونابرت إلى المصريين
ولما رسخت قدم الفرنساويين في الإسكندرية نزل للبر بعض رجال الحملة العلمية، ومعهم المطبعة العربية، وجعلوا ينقبون في آثار الإسكندرية البنائية والجيولوجية. ثم أمر بونابرت أن تنزل جميع المهمات العسكرية من خيول وأسلحة ومدافع وغيرها إلى البر سريعا، وأن يطبع منشور بالعربية يفرق في البلاد، فكتب وطبع، وهذا نصه بالحرف الواحد:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك في ملكه. من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية والمساواة السر عسكر الكبير بونابرت أمير الجيوش، يعرف أهل مصر جميعهم أن السناجق الذين يتولون مصر منذ زمن مديد يعاملون الملة الفرنساوية بالاحتقار والاعتداء، وقد حضرت الآن ساعة عقوبتهم، وا حسرتاه! إنه منذ أيام وعصور هؤلاء المماليك المجلوبون من بلاد الأباظة والكرج يفسدون في أحسن أقاليم الكرة الأرضية، ولقد حتم رب العالمين القادر على كل شيء بانقضاء دولتهم.
فيا أيها المصريون، وقد يقال لكم إنني ما نزلت هذه الجهة إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا لإخوانكم إنني ما قدمت إلا لآخذ بحقكم من الظالمين، وإنني أكثر من المماليك عبادة لله - سبحانه وتعالى - واحتراما لنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
وللقرآن العظيم. وقولوا لهم أيضا إن جميع الناس شرع عند الله، وإن الذي يميز بعضهم عن بعض هو العقل والفضائل والعلوم. وأي شيء في المماليك يميزهم عن غيرهم ويستوجب أن يكون لهم وحدهم كل ما تجلب به الحياة الدنيا. فحيثما تكون أرض مخصبة فهي للمماليك، ومثل ذلك أحسن الجواري وأكرم الخيل وأجمل المساكن. فإن كانوا قد أخذوا الأرض المصرية التزاما، فليظهروا لنا الحجة التي كتبها لهم الله. ولكن رب العالمين رءوف على الناس، وبعونه تعالى من اليوم فصاعدا لا يستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية؛ فالعقلاء والفضلاء والعلماء بينهم يفوض إليهم تدبير الأمور والمهام، وبذلك تصلح حال الأمة كلها في الأراضي المصرية، كالمدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر الواسع الذي أضاعه طمع المماليك وظلمهم.
فيا أيها القضاة والمشايخ والأئمة ويا أيها الشربجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم إن الفرنساويين هم أيضا مسلمون مخلصون. وإثباتا لذلك قد نزلوا رومية الكبرى، وأخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة المسلمين، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكفاليرية الذين كانوا يزعمون أن الله - تعالى - يطلب منهم محاربة المسلمين. ومع ذلك فإن الفرنساويين في كل وقت أحباء حضرة سلطان العثمانيين وأعداء أعدائه - أيد الله ملكه - وبعكسهم المماليك؛ فإنهم خرجوا عن طاعة السلطان غير ممتثلين لأوامره، ولم يطيعوه إلا عن طمع في قلوبهم كمين.
فطوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فتصلح حالهم وترفع مراتبهم، وطوبى للذين يقعدون في أماكنهم غير مائلين لأحد الفريقين المتحاربين. لكن الويل ثم الويل للذين يتحدون مع المماليك، ويساعدونهم في الحرب علينا، فلا يجدون طريق الخلاص ولا يبقى لهم أثر.
المادة الأولى:
جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة على مسافة ثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها العسكر الفرنساوي يجب أن ترسل للصاري عسكر بعض وكلاء من عندها؛ لكي يعرفوا المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا العلم الفرنساوي الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
المادة الثانية:
كل قرية تقوم على العساكر الفرنساوية تحرق بالنار.
المادة الثالثة:
كل قرية تطيع العساكر الفرنساوية يجب عليها أن تنصب العلم الفرنساوي، كذلك علم سلطان العثمانيين محبنا دام بقاؤه.
المادة الرابعة:
على المشايخ في كل بلد أن يختموا حالا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك خاصة المماليك، وعليهم الاجتهاد الزائد لكي لا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة:
يجب على المشايخ والقضاة والأئمة أن يلازموا وظائفهم، وعلى كل واحد من أهل البلد أن يبقى في مسكنه مطمئنا، كذلك تقدم الصلاة في الجوامع على العادة. وعلى المصريين جميعا أن يشكروا فضل الله سبحانه وتعالى على انقراض المماليك قائلين بصوت عال أدام الله إجلال سلطان العثمانيين. أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي. لعن المماليك وأصلح حال الأمة المصرية.
تحريرا في معسكر الإسكندرية في 13 شهر مسدور من السنة السابعة من الجمهورية الفرنساوية؛ يعني أواخر شهر محرم سنة 1213ه. ا.ه. (3-4) زحف بونابرت على القاهرة
وأمر بتوزيع هذا المنشور في البلاد المصرية. ثم فكر في أمر التوجه إلى القاهرة وإخضاع سائر القطر. وكان من الإسكندرية إلى القاهرة طريقان: الواحد يمر بدمنهور وهو طريق الصحراء على البر الغربي، والثاني طريق رشيد في النيل. فرأى الطريق الثاني أصعب مسلكا عليه لأن رشيد كانت لا تزال في حوزة المماليك، فأقر أن يسير عن طريق دمنهور في الصحراء، وكان قد أنفذ الجنرال ديزه عند استلام الإسكندرية؛ ليسير في ذلك الطريق، وأرسل عمارة بحرية لتحتل رشيد ثم تتقدم في النيل لملاقاته في الرحمانية.
وفي 24 محرم سنة 1213ه/7 يوليو سنة 1798م برح بونابرت الإسكندرية في الساعة الخامسة مساء اتقاء الحر تاركا كلابر فيها. وما زال سائرا بحملته إلى منتصف الليل، فنزلوا للراحة فرقدوا ساعتين ثم نهضوا، وما زالوا يواصلون السير ليلا ونهارا وقد قاسوا عذابا شديدا من قلة الماء حتى وصلوا دمنهور، فوجدوا خيرات كثيرة وماء غزيرا فمكثوا هناك يومين وليلتين. ثم شخصوا إلى الرحمانية في صباح 28 محرم سنة 1213ه/11 يوليو سنة 1798م.
وفي اليوم الثاني من سيرهم لاقتهم شرذمة من الفرسان المماليك، فجرت بين الفريقين مناوشة شفت عن انهزام المماليك، وقد قتل منهم نحو خمسين فارسا. فواصل بونابرت سيره حتى وصل الرحمانية وقابل النيل، فتواثب العساكر على مائه كأنهم ذئاب خاطفة فشربوا وتركوا خيولهم للمرعى. وعسكر بونابرت ومن معه طلبا للاستراحة على أثر ما قاسوه من مشاق السفر والعطش، ريثما تصلهم العمارة البحرية التي بعثوها إلى رشيد. وبعد ليلتين من مكوثهم هناك أتت العمارة وقد استولت على رشيد وجعلت فيها حامية تحفظها. وكانت الجيوش قد استراحت فتأهبت للرحيل إلى القاهرة، فسارت المشاة والفرسان على الضفة الغربية حذاء النيل، وإلى يسارها العمارة سائرة في النيل، وما زالوا يجدون السير حتى أتوا محلة سلامة عند المساء، فلم يمكنهم استطلاع حالة العدو تلك الليلة. (3-5) خطة مراد بك في الدفاع
أما ما كان من أمر مراد بك فلما عهد إليه المسير إلى الإسكندرية كما تقدم جمع إليه فرسانه، وقبل خروجهم من القاهرة صاروا يصادرون الناس ويأخذون ما يحتاجون إليه بلا ثمن. ثم سار بهم إلى الجسر الأسود في البر الغربي، فمكث يومين ريثما تكامل العسكر وسناجقه، وفيهم علي باشا الطرابلسي وناصيف باشا، وكانا من أخصائه المقيمين معه في الجيزة. وأخذ معه كثيرا من المدافع والبارود. وجعل الرجالة - وهم أسراب من الألداشات والغليونجية والأروام والمغاربة - حملة بحرية تسير في النيل على الغلايين الصغار التي أنشأها هو.
ولما برح الجسر الأسود أرسل إلى مصر بإشارة علي باشا الطرابلسي يأمر باصطناع سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة، طولها مائة وثلاثين ذراعا تنصب بعرض البوغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر؛ لتمنع مراكب الفرنساويين من المرور، وأن يشاد عندها جسر من المراكب عليها المتاريس والمدافع؛ ظنا منه أن الفرنساويين لا يناهضون المصريين في البر، ولا بد من قدومهم بحرا، وأنهم يطاولونهم ويصابرونهم في القتال حتى تأتيهم النجدات. وما زال مراد بك سائرا فيمن معه على ضفة النيل الغربية وإلى يمينه الغلايين وفيها من ذكرنا من الرجال قاصدا الجيوش الفرنساوية، فوصل إلى قرية شبرايس وعسكر هناك بفرسانه، وأرسل عمارته لملاقاة عمارة الفرنساويين فالتقت بها على مسافة قصيرة من منية سلامة، وقد تجاوزت جنود البر بسبب الريح الشديدة التي طلعت عليها ذلك اليوم. (3-6) التقاء الجيشين
فبغت الفرنساويون لذلك الاتفاق فأطلقوا نارهم، فأجابهم المماليك وكان على قيادة العمارة المصرية علي باشا الطرابلسي المتقدم ذكره، فاحتدمت الحرب بين الفريقين وكادت تدور الدائرة على الفرنساويين، وقد يئسوا لدخول عدة من مراكبهم في حوزة المماليك، فأرسل بيريه قائد العمارة الفرنساوية رسولا يوصل الخبر إلى بونابرت ليسرع إلى إمدادهم. ثم اتفق أن إحدى قنابل الفرنساويين أصابت المركب الذي فيه ذخائر المماليك فأحرقتها وتطايرت أجزاؤها في الفضاء، فانذعر المماليك وخابت آمالهم. ثم وصل بونابرت بمن معه فحمد الاتفاق الذي نجى عمارتهم، وأمر أن تجعل عساكره مربعات منتظمة لملاقاة المماليك في البر أيضا، فالتقى الفريقان، وبعد الأخذ والرد عاد المماليك على أعقابهم يطلبون النجاة، وفر كل من كان في القرى المجاورة، فدخلها الفرنساويون فلم يجدوا فيها أحدا، فواصلوا السير حتى أتوا وردان، فعسكروا للاستراحة ثم بلغهم أن مراد بك ورجاله تحصنوا في إمبابة مقابل القاهرة.
وفي 7 صفر سنة 1213ه خرج بونابرت من وردان بجيشه قاصدا القاهرة، وما مشى يسيرا حتى ظهرت له الأهرام العظيمة وراء الأفق. وما زال أهل القاهرة منذ سفر مراد بك لملاقاة الفرنساويين في اضطراب يجتمع علماؤهم وفقهاؤهم في الجامع الأزهر، يقدمون الصلوات والتضرعات إلى الله أن ينصره على أعدائه، ومثل ذلك كان يفعل القراء وتلامذة المدارس. أما باقي الأهلين فكانوا في اضطراب عظيم ولا سيما عندما كانوا يسمعون بتقهقر المماليك. (3-7) معركة إمبابة
أما إبراهيم فكان معسكرا في بولاق كما تقدم. فلما بلغه تقهقر مراد بك من شبرايس بمدافعه خابر رجال حكومته، فأقروا على بناء الطوابي عليها المدافع من بولاق إلى شوبرا تعزيزا للقاهرة. أما سكان القاهرة فمن يسكن جأشهم وقد وقع في قلوبهم الرعب؟ وكان مراد بك قد تحصن في إمبابة على أن يقابل الفرنساويين هذه المرة بالمدافع وليس بالفرسان كما فعل في شبرايس. وفي صباح يوم السبت في 8 صفر بلغ الفرنساويون الجسر الأسود ثم أم دينار، وفي صباح 8 منه (21 يوليو) غادر الفرنساويون أم دينار ونزلوا على ميلين من إمبابة في حقل من البطيخ. فكان النيل عن يسارهم والأهرام وسلسلة جبال ليبيا عن يمينهم، وإمبابة أمامهم وفيها مراد وجنوده، وعليهم الألبسة والدروع من الحديد المصقول تتلألأ في أشعة الشمس. وألوان ملابسهم تزيدها رونقا وأصوات خيولهم قد ملأت الفضاء.
ونظر بونابرت إلى معسكر العدو فرآه حصينا، وفي مقدمته أربعون مدفعا معدة لإطلاق القنابل على الفرنساويين عند أول حركة يتحركونها نحوهم. فالتفت إلى رجاله وأشار إلى الأهرام قائلا: «اعلموا أن خمسين جيلا من الناس تنظر إليكم من قمم هذه الأهرام وتراقب حركاتكم، تنظر ما يئول إليه أمركم مع هؤلاء المماليك.»
شكل 2-2: الجيوش الفرنساوية بجوار الأهرام.
وترى فى شكل
2-2
الجيوش الفرنساوية بجوار أهرام الجيزة.
ثم أمر فرقة الجنرال ديزه أن تتقدم نحو اليمين والفرق الأخرى نحو اليسار تجنبا لنيران تلك المدافع. فأدرك مراد بك مرادهم من هذه الحركات فأمر أيوب بك الدفتردار أن يطلق القنابل على فرقة الجنرال ديزه ويوقفها عن المسير. فوقفت على شكل مربع تنتظر هجوم المماليك، فهجم أيوب بك هجمة الأسود وتبعته السناجق بالسيوف، فلاقاه مربع ديزه بنار كالصواعق المتساقطة فلم ينفك أيوب بك هاجما، وهو ينادي بأعلى صوته: «ويل لكم أيها الكفار الملاعين! قد ساقتكم كبرياؤكم إلى أرضنا، مهلا إننا سنملأ القبور بأجسادكم، ونجعل هذا اليوم يوما تذكره أعقابكم من بعدكم. أما نحن فإذا مات أحدنا فإنه يذهب شهيدا إلى النعيم، والذي يبقى حيا فله السعادة إلى آخر أيامه.»
هجمت الفرق الفرنساوية من على اليسار، واشتد القتال وما زالت الحرب سجالا حتى تقهقر المماليك، وقتل أيوب بك وفر مراد بك بمن بقي من رجاله قاصدا الصعيد، واستولى الفرنساويون على إمبابة. (3-8) خوف أهل القاهرة
فلما اتصلت تلك الأخبار بالقاهرة ضجت العامة وكثرت الغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح منادين: «يا رب يا لطيف! يا رجال الله!» كأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، والعقلاء منهم ينادونهم أن يتركوا ذلك الصياح قائلين: «إن الصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب، وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ والنباح.» فكانوا لا يسمعون ولا يرجعون .
ثم ركبت طائفة من الأمراء والأجناد من المعسكر الشرقي في بولاق، وفيهم إبراهيم بك، وشرعوا في التعدية إمدادا لمراد فتزاحموا على المعادي؛ لأن التعدية من محل واحد والمراكب قليلة، فلم يصلوا إلى البر الثاني حتى وقعت الهزيمة على المحاربين وريح النكباء يشتد هبوبها، وأمواج البحر في قوة اضطرابها، والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين، فلم يستطع أحدهم أن يفتح عينيه من شدة الغبار. وكان ذلك من أعظم أسباب الهزيمة حتى خيل للناس أن الأرض زلزلت والسماء ساقطعة عليها. والهزيمة مع ذلك متواصلة حتى انهزم إبراهيم بك وبكير باشا. وجعل أهالي المدينة يأخذون ما خف حمله وغلا ثمنه ويفرون من وجه الموت جنوبا وشرقا إلى الصعيد أو إلى السويس وبلبيس. أما إبراهيم بك فسار نحو الشرق. كل ذلك ظنا منهم أن الفرنساويين قد عدوا إلى البر الشرقي، ولا سيما عندما رأوا الدخان يتصاعد من جهة بولاق، وقيل لهم إن الفرنساويين قد أحرقوها وجاءوا ليحرقوا المدينة وينهبوا ويفتكوا. (3-9) وفد العلماء إلى بونابرت
ولما أصبح القوم تبين لهم أن الفرنساويين لا يزالون في البر الغربي، فاجتمع المشايخ والعلماء في الأزهر وتشاوروا في ما يفعلونه، وأقروا على مخابرة الفرنساوية للتفاهم في ما يئول إليه أمرهم. فبعثوا وفدا ينوب عنهم في ذلك، فاغتنم بونابرت تلك الفرصة وأجابهم بخطاب فحواه: «إننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يعاملون الفرنساوية بالذل والاحتقار، وأخذ مال التجار ومال السلطان. ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه، وقتلنا بعضهم وأسرنا آخرين، ونحن في طلبهم حتى لا يبقى أحد منهم بالقطر المصري. وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المراتب والرعية، فيكونون مطمئنين في مساكنهم.»
ثم قال: «فليأت إلينا المشايخ لنؤلف لهم ديوانا ننتخبه من عشرة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور.»
فلما عاد الوفد إلى المشايخ وبلغوهم ما قاله بونابرت اطمأنوا، وركب جماعة منهم إلى معسكر بونابرت في الجيزة، فتلقاهم بالترحاب وطمأنهم، وطلب إليهم أن يستدعوا كبارهم ليؤلف منهم ديوانا. (4) الديوان العمومي
ثم دخل بونابرت القاهرة وجمع المشايخ، وطلب إليهم أن ينتخبوا منهم عشرة أشخاص فوقع الانتخاب على الأسماء الآتية:
الشيخ عبد الله الشرقاوي.
الشيخ موسى السرسي.
الشيخ خليل البكري.
الشيخ مصطفى الدمنهوري.
الشيخ مصطفى الصاوي.
الشيخ أحمد العريشي.
الشيخ سليمان الفيومي.
الشيخ يوسف الشبرخيتي.
الشيخ محمد المهدي الكبير.
الشيخ محمد الدواخلي.
هؤلاء العشرة هم أعضاء الديوان الوطني. وبعد أن تم انتخابهم انتخبوا رئيسا عليهم منهم بالقرعة، فوقع الانتخاب على الشيخ عبد الله الشرقاوي.
واحتفل بونابرت بافتتاح الديوان وبالغ في إكرام أعضائه، وأمر بعض المصورين فصوروهم كل واحد على حدة. ولا تزال هذه الصور محفوظة في معرض فرسايل، وترى فيما يلي نسخا من بعضها. وهو أول ديوان وطني تألف بمصر، لم ينتخبه الشعب؛ لأن الشعب لم يكن له ذكر، ولكن العلماء انتخبوه وهم نواب الشعب بحكم العرف، فكان ذلك فاتحة السلطة النيابية الانتخابية.
شكل 2-3: الشيخ عبد الله الشرقاوي.
شكل 2-4: السيد خليل البكري.
شكل 2-5: الشيخ محمد المهدي الكبير.
شكل 2-6: الشيخ سليمان الفيومي.
وأعضاء هذا المجلس هم خيرة علماء مصر في ذلك العصر؛ فالشيخ عبد الله الشرقاوي هو ابن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي، ولد سنة 1150ه وتربى بالقرين ثم نقل إلى الأزهر، وقرأ على أعلم مشايخ عصره في الأزهر وغيره، وله مؤلفات إسلامية مفيدة، منها الحاشية على التحرير، ومتن العقائد وشرحها، وشروح ومختصرات كثيرة في الفقه واللغة والتاريخ. وكان في صباه في قلة من العيش ثم اتسعت حاله بالهدايا التي كانت تأتيه من بعض التجار. ولما مات الشيخ العروسي تولى بعده مشيخة الجامع الأزهر، ووقع بينه وبين والي مصر اختلاف وتغاضبا حينا ثم تصالحا بشرط أن يلزم الشرقاوي داره، فلما جاء بونابرت إلى مصر سنة 1213ه، وألف الديوان الذي نحن في صدده جعله رئيسا عليه. واكتسب في أيام الفرنساويين مالا كثيرة، فاتسعت عليه الدنيا فاشترى الأبنية والقصور والحمامات والحوانيت حتى توفي سنة 1227ه.
والسيد خليل البكري من سلالة أبي بكر الصديق، وتولى نقابة الأشراف بمصر ومشيخة السجادة. وتأيد منصبه بها بعد مجيء بونابرت فاستولى على أوقافها، وانتخبوه من جملة أعضاء الديوان كما رأيت . وكان وافر الحرمة مقبول الشفاعة عندهم، فكان أمراء المماليك الهاربون يوسطونه لدى الفرنساوية في العفو عنهم. ولما خرج الفرنساويون عادت نقابة الأشراف إلى السيد عمر مكرم. وتوفي سنة 1223ه.
والشيخ المهدي الكبير يختلف في نسبه عن سائر أولئك العلماء، فقد ولد قبطيا وأبوه اسمه أبيفانيوس فضل الله. ولما ولد سمي هبة الله، وكان أبوه كاتبا في بيت سليمان كاشف أو مباشرا لأموره، ولما ترعرع هبة الله أعجب به الكاشف، وأحب أن يجعله من ضمن مماليكه، ولم يكن له ميل إلى العسكرية، فأدخله في مصاف طلبة الأزهر، ولم يكن يقبل فيه غير المسلمين، فاعتنق الإسلام وسمي محمد المهدي، وكان ذكيا فما زال يرتقي حتى صار من كبار العلماء والفقهاء، ودرس في الأزهر وألف كتبا كثيرة ونال حظا من الوجهاء، واتسعت حاله ونال الإقطاعات والهدايا من الكشاف وغيرهم، فبنى الدور واقتنى الخدم وشارك في التجارات حتى أصبح من أهل الثروة. ولما دخلت الفرنساوية مصر قربوه وسايرهم في أغراضهم، ووثقوا بقوله؛ فكان موضع ثقتهم، الواسطة العظمى بينهم وبين الناس حتى لقبوه كاتم السر، ولما رتبوا الديوان انتخب من أعضائه، وصار إليه النفوذ الأكبر، وله تاريخ طويل لا محل له هنا.
والشيخ سليمان الفيومي أصله من الفيوم. أتى إلى مصر وهو رقيق الحال وتلقى العلم في الأزهر، وتقرب من الأمراء المماليك لحسن إنشاده وقراءة الأشعار. وتقرب من بعض الأمراء البرقوقية وتعرف إلى الآغوات، وتوسط بهم إلى التوكل بالقضايا والدعاوى، واكتسب الأموال الطائلة وتحسنت حاله فتجمل بالملابس وركب البغال، وتعين أستاذا في الأزهر برواق الفيمة، وكان للأمراء المماليك ثقة فيه فأنفذوه بمهمة خصوصية إلى الأستانة. ولما عاد إلى مصر توالت عليه الهدايا من الأمراء والأعيان وغيرهم فاتسعت حاله، وصار منزله ملجأ للناس على اختلاف الطبقات. ولما دخلت الفرنساوية مصر وهرب الأمراء جاءت نساؤهم إلى دار الشيخ الفيومي ووسطوه، فدافع عنهن لدى الفرنساوية وتوسط في العفو عن بعض رجالهن، وكان في جملة من تعينوا في الديوان كما رأيت. (5) الديوان الخصوصي
على أن الفرنساويين شعروا أن هذا الديوان لا يمثل كل عناصر الأمة وطبقاتها، فعمدوا إلى تشكيل مجلس عام يؤلف من الطوائف القاطنة في مصر على اختلاف عناصرها وطبقاتها ومذاهبها. ومتى اجتمعوا ينتخبون من بينهم ديوانا يسمى الديوان الخصوصي أو الديوان الديمومي؛ أي يشتغل دائما والديوان الآخر يجتمع عند الاقتضاء. فنشروا منشورا على أهل القطر طلبوا فيه إلى أعيان البلاد من المشايخ والتجار وأهل الوجاهة من كل الطوائف والملل أن يحضروا إلى دار الحكومة. فجاء كثيرون وانتخبوا منهم ستين شخصا ممن ثبتت لهم صفة تميزهم عن العامة بالعلم أو الثروة أو غيرهما، وهذه أسماؤهم باعتبار طوائفهم:
مشايخ وعلماء:
السيد البكري، السيد الدمرداشي، السيد حسين رفاعي، الشيخ عبد الله الشرقاوي، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفى الصاوي، الشيخ موسى السرسي، الشيخ محمد الأمير، الشيخ سليمان الفيومي، الشيخ أحمد العريشي، الشيخ إبراهيم بن المفتي، الشيخ صالح الحنبلي، الشيخ محمد الدواخلي، الشيخ مصطفى الدمنهوري.
وجاقلية:
محمد آغا شوربجي فلاح، علي كخيا المجدلي، خليل آغا شوربجي فلاح، أحمد ذو الفقار أوطه باشي فلاح.
إنكشارية:
يوسف شوربجي باش جاويش توزنكجيان، يوسف شوربجي باش جاويش جمليان، مصطفى أفندي شراكسة، أمير سليم شرابي.
عرب:
مصطفى أفندي عاصي، مصطفى كخيا باش اختيار، حسن شوربجي بركاوي.
تجار الغورية:
الحاج محمد الأشوبي شيخ الغورية، الحاج محمد أبو النصر، الحاج سيد شيخ المغاربة.
تجار البهار:
الحاج أحمد محرم، الحاج أحمد المحروقي، إبراهيم أفندي، قاضي البهار الحاج حسين جار إبراهيم، المعلم ميخائيل كحيل، المعلم يوسف فرحات، الحاج أحمد حسين.
تجار البضائع التركية:
السيد أحمد العقاد المحروقي، الحاج مصطفى شيخ العقادين، الحاج أحمد القازانجي.
تجار العطور:
السيد محمد شيخ العطارين.
تجار السكر:
درويش عبد القاهر البغدادلي، إبراهيم قرموط، محمد همشري.
تجار النحاس:
السيد مصطفى مصباح. الحاج حسين النحاس.
صياغ وجوهرجية:
الحاج سالم الجوهرجي، محمد البغدادلي.
تجار ورق:
علي بن الحاج خليل الوراق.
تجار أقمشة:
الحاج إبراهيم المصري، علي الصلانجي شيخ القماحين.
تجار صابون:
السيد أحمد زرو، سيد يوسف فخر الدين.
تجار دخان وأقمشة سورية:
أحمد نظام.
مشايخ الأقسام:
شيخ جزاري الحسينية، شيخ العطوف.
الأقباط:
المعلم لطف الله المصري، المعلم إبراهيم جر العايط، المعلم إبراهيم مقار، إبراهيم كاتب الصرة.
الفرنساويون:
دلمار، وكاف، وبوديف.
هؤلاء أعضاء المجلس العام أو الديوان العام وهو منتخب من أعيان البلاد. وقد أصدروا بتعيينه أمرا رسميا مؤرخا في رجب سنة 1213ه، واشترطوا في ذلك الأمر أن يكون في الديوان المذكور مندوب فرنساوي اسمه جلوتيه، ومندوب مسلم اسمه ذو الفقار كخيا، وأن يجتمعوا في يوم عينه في الأمر المومأ إليه؛ لينتخبوا منهم ديوانا مؤلفا من 14 عضوا يسمى «الديوان الخصوصي»، ويكون الانتخاب بالقرعة وبالأكثرية المطلقة. وعين لاجتماع الديوان الكبير ثلاثة أيام متوالية ثم لا يجتمع إلا عند الحاجة. ومتى تم انتخاب الديوان الخصوصي يصادق عليه السر عسكر (بونابرت). ثم ينتخب له رئيس يوالي اجتماعاته كل يوم لمساعدة الحكومة في النظر في مصلحة الوطنيين. ويعين له كاتب وترجمان ومحضر وعشرة حجاب يقومون بخدمته. وختم الأمر بتعيين رواتب أعضاء المجلس الخصوصي وأتباعهم، وهي مائة ريال في الشهر للرئيس وثمانون ريالا لكل عضو. وللمحضر 60 بارة في اليوم وللحاجب 40 بارة.
فاجتمع الديوان العام المشار إليه، وانتخب من أعضائه 14 عضوا يتألف منهم الديوان الخصوصي وهو غير الذي تقدم ذكره. فإن هذا لم يكن فيه من المشايخ إلا الشرقاوي والمهدي والصاوي والبكري والفيومي، وباقي الأعضاء من سائر الطوائف على هذه الصورة: من التجار المحروقي وأحمد محرم، ومن النصارى القبط لطف الله المصري، ومن السوريين يوسف فرحات ومخائيل كحيل، ومن الإنكليز «رواحة»، ومن الفرنساويين بودني وموس. فهو مجلس وطني مختلط تشكل من نواب يمثلون أهم العناصر التي تتألف منها الأمة المصرية، بعضهم من الوطنيين الأصليين المسلمين والأقباط، والبعض الآخر من الجالية السورية والإفرنجية. فهو كثير الشبه بالمجلس النيابي الذي أشار اللورد كرومر بتشكيله من العناصر التي تتألف منها الأمة المصرية الآن، وجعل ذلك شرطا لاستقلالها ونجاحها.
شكل 2-7: الديوان الخصوصي: أول مجلس شوري وطني في مصر أنشأه بونابرت سنة 1798.
ولما تم تأليف المجلس الخصوصي على هذه الصورة كتب بونابرت بذلك مناشير علقوها في الأسواق، ضمنها التهديد المشوب بالتزلف مثل سائر منشوراته بمصر. وقد صوروا هذا الديوان في إحدى جلساته، وفيه بونابرت قاعدا على دكة والعلم الفرنساوي بجانبه، وقد قعد الأعضاء بين يديه وفيهم الكاتب والترجمان والمحضر، وبعض الحجاب كما ترى في شكل
2-7 .
وأخذ الديوان المذكور يوالي اجتماعاته، ولا يبرم بونابرت أمرا مهما بمصر إلا شاوره وأخذ رأيه فيه، وإنما كان شغله بالأكثر النظر في المسائل الوطنية. فالديوان الخصوصي هذا خطوة أخرى نحو السلطة النيابية في مصر؛ لأنه منتخب من وجهاء البلاد من كل الطوائف، وإذا لم تشترك العامة في انتخابه فالانتخاب حتى في الحكومات الدستورية اليوم يتم بالحقيقة على أيدي الوجهاء والخاصة الذين تنتخبهم العامة.
وشكل الفرنساوية مجلسا آخر أو ديوانا سموه محكمة القضايا مؤلفا من 12 عضوا: ستة من الأقباط وستة من التجار المسلمين، وجلعوا قاضيه الأكبر أو رئيسه المعلم ملطي القبطي، وفوضوا إليه النظر في القضايا التي تقع بين التجار والعامة، وفي المواريث ونحوها؛ فهو شبيه بمحكمة أهلية مختلطة. وكانت تلك القضايا تنظر إلى ذلك الحين في المحاكم الشرعية. فكان بونابرت أول من أسس المحاكم النظامية بمصر. (6) نزول الفرنساويين القاهرة
وفي يوم الثلاثاء 11 صفر عدت الجيوش الفرنساوية إلى القاهرة، ونزل بونابرت في بيت محمد بك الألفي وأخذت العساكر الذين دخلوا القاهرة من الفرنساويين يعاملون الباعة باللين ويبتاعون ما يحتاجون إليه، ويدفعون فيه ثمنا غاليا فأحبتهم الناس وارتاحوا إليهم.
ثم أخذت العساكر الفرنساوية تعدي للبر الشرقي شيئا فشيئا حتى كثر عددهم في القاهرة، فامتلأت منهم الأسواق وسكنوا في البيوت، ولكنهم لم يشوشوا على أحد، وكانوا يأخذون ما يحتاجون إليه بزيادة في الثمن، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوا الحنطة بترابها، وكثرت باعة المأكولات، وفتح الأروام عدة حوانيت لبيع الأشربة وحانات وقهوات، وفتح بعض الإفرنج المتوطنين بيوتا لصنع الأطعمة والأشربة على النمط الأفرنجي كأي لوكاندات إفرنجية، ولم يكن ذلك معروفا في مصر إلى ذلك العهد؛ ولذلك وصفها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي كأنها شيء جديد دخل عليهم فقال: «وفتحوا بيوتا لصنع الأطعمة والأشربة على طرائقهم في بلادهم، وجعلوا على أبوابها علامات يعرفونها بينهم، فإذا مرت طائفة تريد الأكل بذلك المكان دخلوه، وهو يشتمل على عدة مجالس بين دون وعال ووسط، وعلى كل مجلس علامة ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل. وفي تلك المجالس موائد من الخشب عليها الطعام وحولها الكراسي، فيجلسون إليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم، فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه، ثم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.»
وفي اليوم السبت 15 صفر سنة 1213 اجتمع الديوان المتقدم ذكره، وتباحث في احتياجه إلى النقود فقرر استدانة خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى والقبط والسوريين والإفرنج، وأخذوا في تحصيلها، وقرروا أن ينادى في الأسواق أن من أخذ شيئا من نهب البيوت عليه أن يحضر به إلى بيت القائمقام، وإن لم يفعل وظهر بعد ذلك يشتد عقابه. وأن ينادى على نساء الأمراء والبكوات بالأمان، وأن يسكن بيوتهن وإن كان عندهن شيء من أمتعة أزواجهن يصالحن على أنفسهن. فجاء كثيرات منهن وصالحن ودفعن مبالغ عظيمة.
وفي يوم الأحد في 16 منه طلب بونابرت الخيول والجمال والأسلحة، فجمعوا شيئا كثيرا منها، وكذلك الأبقار والثيران وأشاعوا التفتيش وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره، وأخرجوا ما وجدوه فيها من الأسلحة، وأخرجوا كثيرا من الخبايا والودائع بواسطة البنائين والمهندسين والخدم الذين يعرفون بيوت أسيادهم. فكانوا يطلعونهم على أماكن الخبايا ومواضع المدافن تقربا من الفرنساويين. وفي ذلك اليوم قبضوا على شيخ الجعيدية «الرعاع»، ورموه بالرصاص ببركة الأزبكية مع رفيق له، ثم قبضوا على آخرين في الرميلة، فخاف الناس وصار يأتي الذين عندهم منهوبات ويقدمونها للديوان.
وفي يوم الثلاثاء 18 منه طلبوا أهل الحرف والتجار وضربوا عليهم مالا على سبيل القرض لم يستطيعوا دفعه، فأمهلوهم ستين يوما لدفعه فاستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني، واستشفعوا المشايخ فتكلموا بأمرهم أمام الديوان، فلطف المطلوب إلى نصفه ووسعوا لهم في الأجل. وكان بكل عطفة أو حارة من عطف القاهرة وحاراتها باب كبير مصفح بالحديد يقفل ليلا. فأمر بونابرت بنزع أبواب الدروب والعطف والحارات، واستمروا في ذلك عدة أيام فخاف الناس وكثرت ظنونهم في المقصود من تلك الأعمال. فظن بعضهم أن الفرنساويين عازمون على قتل المسلمين وهم في صلاة الجمعة، وقال آخرون غير ذلك. وكان في القاهرة دار لضرب النقود تضربها باسم السلطان، فأمر بونابرت أن يستمر الضرب كما كان، وعهد ذلك إلى أحد رجاله. وكان في نيته إنشاء بريد (بوسطة) بين مصر والإسكندرية لكنه لم يستطع ذلك لكثرة الأخطار التي تحيط برسل البريد في أثناء الطريق.
وفي 20 منه وردت إلى الديوان كتب من قافلة الحج بالعقبة، فذهب أرباب الديوان إلى السر عسكر بونابرت وأعلموه بذلك، وطلبوا منه أمانا لأمير الحج فامتنع؛ لئلا يكون في كثرة من الحجاج فيحدث ما يكدر الراحة. وقال: «لا أعطيه ذلك إلا إذا جاء في قلة ولا يدخل معه المماليك.» فقالوا: «ومن يخفر الحجاج؟» قال: «أنا أرسل لهم من عساكري أربعة آلاف يوصلونهم إلى مصر.» فكتبوا إلى أمير الحج كتابا لطيفا، وأوعزوا إليه أن يحضر بمن معه إلى الدار الحمراء، وأنه متى وصل إلى هناك يدبرون ما فيه الخير. فلم يصله ذلك الكتاب حتى خابره إبراهيم بك - وكان في بلبيس - يطلب إليه أن يوافيه إلى هناك حالا. فسار إلى بلبيس فعلم بونابرت بإقامة إبراهيم بك في بلبيس، فأرسل إليه فرقة من جيوشه تحت قيادة الجنرال لاكلارك، فسار وعسكر في الخانقاه وراء المطرية، ومكث هناك يومين ولم يصادف أقل مقاومة.
وفي اليوم الثالث هجم عليه وعلى رجاله قبائل من العرب بينهم عدد كبير من المماليك، وبعد محاربة شديد تقهقرت الجيوش الفرنساوية نحو القاهرة لعجز خيولهم، فعلم الجنرال مورات بذلك فاستمد بونابرت فأمده، فاجتمعت الجيوش الفرنساوية ثانية إلى الخانقاه، وتبعهم بونابرت بنفسه خيفة أن يكونوا في ارتباك فينكسروا وتعود العائدة عليهم، فاتحدت جميع الجيوش الفرنساوية في الخانقاه، وساروا جميعا في أثر العربان والمماليك حتى الصالحية، وهناك كان إبراهيم بك بمن معه ثم علموا أنه ترك الصالحية فارا نحو سوريا ملتجئا إلى الجزار في عكا، وانضم كثيرون من رجاله إلى عسكر الفرنساويين وسلمت الصالحية بمن فيها. (7) واقعة أبي قير
فلما رأى بونابرت ذلك أسرع بالعود إلى القاهرة. وبينما هو في الطريق قابله رسول بكتاب مفضوض فتلاه، فإذا به خبر قدوم عمارة تلسون الإنكليزية إلى الإسكندرية وحصول واقعة كبيرة في أبي قير شفت عن تحطم العمارة الفرنساوية برمتها. فانذعر لذلك الخبر ولكنه تجلد وقال لأركان حربه وكان قد فض الكتاب وتلاه قبله: «دع هذا الخبر في سرك الآن لنرى ماذا يأتي به الغد.»
وتفصيل تلك الواقعة أن نلسون بعد أن برح الإسكندرية علم بقدوم الفرنساويين إليها ودخولهم القطر المصري، فعاد بعمارته ثم جاء الإسكندرية في 19 صفر سنة 1213ه/أول أغسطس سنة 1798م، وكانت العمارة الفرنساوية راسية في جون أبي قير على خط واحد مستقيم من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي تحت قيادة الأميرال برويس، وكانت قد أرسلت في ذلك الصباح خمسة وعشرين نفرا من كل دراعة من دوارعها إلى البر لخفر الفعلة المرسلين لاحتفار الآبار. فلما استكشفوا العمارة الإنكليزية نادوا بالرجال أن يعودوا إلى المراكب.
ثم تداول الأميرال برويس مع ضباطه في كيف يقابلون العمارة الإنكليزية، فأشاروا عليه أن يخرج من الجون ويستقبلها في ظهر البحر فأصر على بقائه في مكانه؛ لأن عدد رجاله لا يسمح له بقبول مشورتهم، فبقيت العمارة في الجون بانتظار الإنكليز.
شكل 2-8: الأمير نلسون.
أما نلسون فكان مذ علم باحتلال الفرنساويين مصر وهو يعمل فكرته في كيفية ملاقاتهم. فلما صار على مشهد من عمارتهم فكر في أحسن أسلوب يأخذهم به، فأقر على أن يرسل قسما من مراكبه يدخل بين سفن الفرنساويين والبر، والقسم الآخر يأتيهم من الأمام، فيجعلهم هدفا لنارين حاميتين، وكان عالما بما يحيط بهذا العمل من الخطر لكنه كان ممن يستسهلون الصعب. فسارت بعض مراكبه من وراء الفرنساويين بينهم وبين البر، وتقدمت بقية المراكب من الأمام، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأ نلسون بإطلاق المدافع فأجابه الفرنساويون بنار مثل ناره. وبعد 12 دقيقة انكسرت دارعة فرنساوية، ثم انكسرت دارعتان أخريان ولم يأت العشاء حتى استولى الإنكليز على عدة دوارع فرنساوية غير التي كسرت.
وكان الأميرال برويس على الدارعة «الشرق» ذات المائة والعشرين مدفعا وعليها نحو ألف رجل. وكان نلسون من الجهة الأخرى على إحدى دوارعه يراقب حركات الفرنساويين، ويعطي الأوامر، فأصابته رصاصة في جبهته فوق إحدى عينيه فتدلى الجلد حتى غشي بصره فرفعه بيده غير مبال، وهو ينظر إلى ما يكون من حركات الدوارع، وكان بجانبه أحد ضباطه فأمسكه بيده فانتبه كأنه كان في غفلة، وناداه قائلا: «قد قتلت فأرجو أن تذكرني أمام امرأتي.»
وحملوه إلى غرفته وأحاط به الأطباء وبعد أن كشفوا عن جروحه، طيبوا خاطره وطمأنوه أن الجرح لا يؤذن بالخطر السريع، أما هو فلم يكن ينتظر الشفاء ولكنه مع ذلك لم يشغل عن إصدار الأوامر إلى ضباط الدوارع، وكان يتتبع حركاتها وهو على فراشه. ثم ضمدوا جرحه وهو يخاطب كاتب سره أن يكتب حالا لنظارة البحرية في لندن عن هذه المعركة. فلم يستطع أحد من الحضور أن يمسك القلم من شد التأثر، فأخذ نلسون قلما وكتب ما أوتيه من النصر.
أما الأميرال برويس فأصيب أولا ببعض الجراح، ثم أصابته قنبلة قطعت أحشاءه فسقط على الأرض فأرادوا حمله إلى أسفل الدارعة، فأشار أن يتركوه يفارق الحياة على ظهرها فتركوه. وبعد العشاء بيسير أصاب «الشرق» الدارعة الفرنساوية العظيمة احتراق تطرق إلى جارتها، فبلغ ذلك الأميرال نلسون فطلب أن يحملوه إلى ظهر دراعته ليشاهد ذلك فحملوه. فلما رأى تلك المشاهد تأثر منها كثيرا، فأمر أن يسير أحد الضباط في سرب من العساكر لمساعدة الفرنساويين في إنقاذ الدارعة «الشرق» من الحريق، ولم ينج من رجالتها إلا القليل. واشتد الحريق حتى رآه أهل الإسكندرية ورشيد. وما زال الإطلاق متواصلا والاضطراب متسلطا إلى ظهيرة اليوم التالي، وقد فاز الإنكليز فوزا مبينا.
وكان كلابر ورجاله في الإسكندرية بأثناء المعركة في خوف واضطراب، وكانوا جميعا تحت السلاح. وفي الصباح وردت لهم الأخبار بانكسار العمارة الفرنساوية. ثم جاءت مكاتبات أخرى أن أسرى الفرنساويين وجرحاهم محفوظون بكل إكرام عند الإنكليز، وفي نية نلسون أن يبعث بهم إلى البر يقيمون في المستشفيات تحت معاينة بعض أطبائه. فلما وصل خبر انكسار الفرنساويين إلى رشيد والإسكندرية خاف الفرنساويون وانحط قدرهم في أعين الوطنيين. واضطر الرشيديون منهم إلى مواصلة المخابرة مع الإسكندرانيين، فأقاموا قافلة تنقل البرد وفيها الكتب والرسائل والأخبار لأجل المفاوضة في أمر الدفاع إذا أراد الإنكليز محاربتهم. فكتب كلابر إلى بونابرت بواقعة الحال وما انتهت إليه العمارة الفرنساوية، فوصله الكتاب في أثناء عوده من الصالحية كما مر بك. أما العمارة الإنكليزية فأقلعت عن الإسكندرية.
فسار بونابرت حتى أتى بلبيس فرأى ضباطه وأركان حربه على المائدة صباحا، فرحين بانتصارهم على المماليك في الصالحية لا يعلمون بشيء من واقعة أبي قير فقال لهم ضاحكا: «افرحوا ولتنشرح صدوركم واجتهدوا أن تعتادوا على هواء هذا الإقليم، فإننا أصبحنا لا مراكب لدينا تنقلنا إلى أوروبا.» فاضطربت قلوبهم عند ذلك فطلب إليهم أن لا يذيعوا الخبر، ثم ساروا حتى وصلوا القاهرة مساء الخميس 4 ربيع أول. (8) فتح الخليج والمولد النبوي
وفي اليوم التالي كان يوم وفاء النيل (13 مسرى)، فأمر بونابرت أن يحتفل بفتح الخليج كالعادة فزينوا عدة غلايين (مراكب)، ونادوا في الناس الخروج للنزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم. وأرسل بونابرت دعوة رسمية إلى كخيا الباشا وإلى القاضي وأرباب الديوان وأصحاب الشورى وأرباب المناصب وغيرهم للحضور في صبحها، وركب هو معهم في موكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره إلى قنطرة السد، وكسروا الجسر بحضورهم، وأطلقوا المدافع إطلاقا متواليا، وأحرقوا النفوط حتى جرى الماء في الخليج، ثم ركب وهم معه حتى أتى إلى داره. أما أهل المدينة فلم يخرج منهم تلك الليلة للنزهة في المراكب كالعادة إلا الافرنج والسوريون والقبط وقليلون غيرهم.
ثم جاء المولد النبوي ولم يكن في نية العلماء الاحتفال به، فاستفهم بونابرت عن سبب ذلك فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال، وتعطل الأمور وعدم إمكانهم القيام بما يقتضيه ذلك الاحتفال من النفقات. فقال: لا بد من الاحتفال كالعادة. ودفع في الحال ثلاثمائة ريال فرنساوي، وأمر بتعليق قناديل وأحمال وتعاليق، واجتمع الفرنساويون يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم وأرسل بونابرت طبلخانته الكبرى (الموسيقى) إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها طول الليل والنهار بالبركة تحت داره، وأحرقوا في أثناء الليل نفوطا وشواريخ كثيرة. وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة، وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلى النقيب.
ثم جاء يوم احتفال الفرنساويين بجمهوريتهم للسنة السابعة، فاحتفلوا به غاية الاحتفال، وشخصوا فيه معركة إمبابة وانكسار المماليك، ونصبوا شجرة الحرية فدهش منها الوطنيون، ولم يكونوا يفهمون المقصود بها. ثم أرسل بونابرت مندوبا ينصب العلم الفرنساوي ذي الثلاثة الألوان على قمة أحد الأهرام العظمى، وحفروا هناك أسماء الضباط الذين قتلوا في واقعة إمبابة. (9) قتل السيد محمد كريم
قد تقدم أن السيد محمد كريم بقي في الإسكندرية كما كان فيها قبل مجيء الفرنساويين. وقبل واقعة أبي قير بيسير عثر الفرنساويين على كتاب مرسل من محمد كريم المذكور إلى مراد بك، يتواطأ معه على تسليم الإسكندرية. فاستحضر إلى القاهرة فحكم عليه أن يدفع ثلاثمائة ألف فرنك غرامة على خيانته، وأنه إذا لم يدفع المبلغ في خمسة أيام يقطع رأسه. فقال له التراجمة: «أنت رجل غني فافد نفسك بهذا المبلغ.» فتبسم وقال: «لا لا أدفع شيئا؛ لأني إذا قدر لي الموت لا يدفع الدفع مقدورا، وإذا قدرت لي الحياة فأنا حي بلا دفع.» ثم استحضر وسئل عن تلك الخيانة فأنكر فأبرزوا له الكتاب فأفحم، فأرسله بونابرت إلى شيخ البلد فطلب العلماء من بونابرت أن يعفو عنه فأطلعهم على كتابه وأصر على قتله وما انفك حتى أذاقه الموت، وطوف رأسه بالمدينة مكتوبا فيه: «هذا جزاء الخائن.» (10) الشارة الفرنساوية أو الجوكار
وفي 20 منه استدعى بونابرت مشايخ القاهرة وعلماءها إلى بيته، فلما استقر بهم الجلوس خرج ثم عاد وبيده طيالة ملونة بثلاثة ألوان كل طيلسان ثلاثة عروض: أبيض وأحمر وكحلي، فوضع واحدا منها على كتف الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان. فرمى به إلى الأرض واستعفى، وتغير مزاجه وأخذ منه الغيظ مأخذا عظيما. فقال الترجمان الذي كان مرافقا لبونابرت: «يا مشايخ، ما بالكم لا تزالون في نفرة من حضرة الصاوي عسكر، فقد صرتم من أحبائه وهو يقصد بإلباسكم هذه الطيالسة تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته؛ فإنكم إذا تميزتم بها عظمتكم العساكر وأكثرت من احترامكم.» فقالوا: «لكن قدرنا ينحط عند الله وعند إخواننا المسلمين.» فاغتاظ بونابرت وانتهر الشرقاوي قائلا: «إن مثلك لا يصلح للرئاسة.» فنهض بقية الجماعة وجعلوا يلطفون من غضب بونابرت، ويطلبون إليه أن يعفيهم مما أراد فقال: «إن لم يكن هذا فلا بد من وضع الجوكار في صدوركم.» وهي العلامة التي يقال لها: الوردة وقد تقدم ذكرها فقالوا: «نستمهلك ريثما نتروى في الأمر.» وانصرفوا.
ثم استدعى بونابرت الشيخ السادات إليه فحضر فلاطفه في القول، وأعرب له عن محبته له - كل ذلك بواسطة الترجمان - ثم ناوله خاتما من الألماس هدية، وطلب إليه أن يحضر في اليوم التالي فحضر. فأتى له بجوكار وعلقه بفرجينه فسكت ولما انصرف نزعه. وفي ذلك اليوم نودي بالمدينة بوجوب نقل هذه العلامة، وأنها هي علامة الطاعة والمحبة، فأنف الناس على أن بعضهم علم أنها لا تخل بالدين وخاف العقاب فوضعها. وفي العصر نادوا بعدم إعطائها إلا لبعض الأعيان، أما الباقون فيضعونها إذا جاءوا لمقابلة رسمية. (11) سياسة نابوليون في مصر
ومن الغريب أن بونابرت مع رغبته في الاستيلاء على مصر وسهره على ذلك لم يحسن التصرف كما يجب. فقد رأيناه يصرح باحترامه الديانة الإسلامية وتأمين الأهلين على عاداتهم وأديانهم وأرزاقهم وأعراضهم. وأظهر تقربه من المصريين حتى قيل إنه كان يتزيا بزيهم في الاحتفالات الوطنية، فيلبس القفطان والجبة والعمامة - وهو لباس أمراء الشرق أو سلاطينه - وقد مثله بعضهم بصورة نقلناها في شكل
2-9
عن كتاب نوابغ الأقباط ومشاهيرهم - كل ذلك يوجب الثناء عليه، إلا أننا لا نرى وجبها يصوب ادعاءه الإسلام، ادعاء لم يصدقه أحد من المصريين، ولم يزدد الناس بسببه إلا حذرا من الفرنساويين؛ لأنهم لم يدعوا غير دينهم إلا تقربا منهم لغرض في نفوسهم يحاولون نيله.
شكل 2-9: بونابرت بلباسه الشرقي.
على أنه لو ادعى تلك الدعوى ثم تظاهر بما يثبتها لكان خيرا، لكننا رأيناه من الجهة الأخرى يأمر بالمساواة في الإرث بين الأنثى والذكر أمرا يخالف نص القرآن مخالفة صريحة كما لا يخفى، وقد تجاهل العادات الشرقية وأراد أن يجعل الشعب المصري بعد ما قاساه في أيام المماليك أن يسير على خطوات الشعب الفرنساوي بعاداته وشرائعه وأزيائه. فكانت العساكر الفرنساوية تدخل بيوت الهوانم اللواتي لم يجسر الباشا أن يدخلها - وكان السبب في ذلك أن بونابرت أجاز لرجاله الدخول في بيوت النساء للتفتيش عن أسلحة أو مخبآت أو أمور أخرى - ولا يخفى ما في ذلك من تنفير القلوب، وكل منا يعلم أن الشرقي أشد حرصا على عرضه منه على حياته. ناهيك بما كان يأتيه الجند الفرنساوي من الفواحش التي تأباها النفوس الشرقية.
على أننا لا ننكر على هذا الرجل العظيم ما أدخله بواسطة هذه الحملة من الإصلاح في أحوال الأمة المصرية صحيا وأدبيا وشرعيا، ولكننا لا نعجب بعد أن علمنا من سوء تصرفه إذا رأينا الأهلين بعيدين عن الإخلاص له، رغم قرب الشعب المصري من الطاعة والانقياد. ولا غرو بعد هذا إذا رأيناهم يشتفون بمصائبه، ويترقبون فرصة لشق عصا الطاعة وتفضيل سلطة المماليك على تمكنها من العسف والظلم؛ لأنهم شركاؤهم بالدين وهو أكبر رابط بين المشارقة. وقد خدع بونابرت بقبول العلماء الاجتماع في ديوان تحت حمايته، وما علم أن قبولهم ذلك وغيره من مثله إنما جرى رغم إرادتهم، وامتثالا لقول القائل: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»
ومن الأمور المغايرة التي أتاها الفرنساويون، واستوجبوا من أجلها نفور الناس زيادة الضرائب والشدة في تحصيلها، واستحداث القوانين على الموتى، والضرائب على المواريث وعلى المسافرين من بلد إلى آخر فتعطى لهم تذكرة مرور بثمنها، وإباحة بيع المسكر في الشوارع، وهدم بعض الجوامع والمنائر، وتخريب بعض الترب باسم الإصلاحات الصحية، وبناء القلاع والاستحكامات على التلال خارج القاهرة، وقطع أرزاق الأوقاف عن أهلها وتسليمها لغير المسلمين. (11-1) منشور آخر
وفي خاتمة الجميع وردت العلماء والمشايخ تحارير سرية من إبراهيم بك وأحمد باشا الجزار حاكم عكا في 3 ربيع آخر، مآلها أن السلطان قد أرسل قوة عسكرية ستصلهم قريبا لإنقاذهم من نير الفرنساويين. علم بونابرت بذلك، فجمع العلماء والفقهاء وأعيان البلاد، وخاطبهم يحاول إقناعهم أن خطابات المماليك لهم كاذبة.
وفي 18 ربيع آخر استكتب بونابرت المشايخ كتابا أرسل منه نسخة لجلالة السلطان، ونسخة لشريف مكة، وطبعوا منها عدة نسخ ألصقوها بالشوارع جعله عن لسان المشايخ، يتكلمون عن أعمال الفرنساويين بمصر، ومفاده:
إن الفرنساويين قد قاتلوا المماليك وهزموهم، وإنهم إنما أتوا مصر وتكبدوا ما تكبدوه في سبيل حبهم للباب العالي؛ لأنهم من أخصاء جلالة مولانا السلطان وأعداء أعدائه، وأن السكة والخطبة لا تزالان باسمه، وشعائر الإسلام قائمة على ما كانت عليه، وأنهم هم أنفسهم مسلمون يحترمون النبي والقرآن الشريف، وأنهم أوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم وأركبوا الماشي منهم، وأطعموا الجائع، وسقوا الظمآن، واعتنوا بإقامة الزينة يوم جبر البحر استجلابا لسرور المؤمنين، وأنفقوا أموالا برسم الصدقة على الفقراء، واعتنوا كذلك بالمولد النبوي، وأنفقوا المال في شأن انتظامه وعلو شأنه، وأنهم قد اتفقوا رأيا على لبس الجناب الأكرم مصطفى آغا كخيا بكير باشا والي مصر حالا، وأنهم (المشايخ) استحسنوا ذلك لبقاء علاقة الدولة العلية، وأنهم مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين. وقد أمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام.
وأرسلوا من هذا المنشور نسخة إلى أحمد باشا الجزار والي عكا وأخرى إلى والي سوريا. (11-2) ثورة أهل القاهرة
وفي أول جمادى الأولى سنة 1213ه/21 أكتوبر (ت1) سنة 1798جاء إلى الشيخ البكري جم غفير من أولاد المكاتب والفقهاء والعميان والمؤذنين، وأرباب الوظائف والمستحقين من خدمة الأوقاف، وشكوا من قطع مرتباتهم وخبزهم؛ لأن الأوقاف تعطل إيرادها، واستولى على نظارتها غير المسلمين؛ فوعدهم أنه إذا قدموا شكواهم إلى الديوان يساعدهم في تحصيل حقوقهم.
وفي اليوم التالي اجتمع المشايخ في الجامع الأزهر وأرسلوا القراء يطوفون الأسواق ينادون قائلين: «فليذهب كل من يوحد الله إلى الجامع الأزهر، هذا هو يوم الجهاد في محاربة الكفار وأخذ الثأر.» فعج الناس وأقفلوا حوانيتهم وتقلدوا أسلحتهم وكانوا قد خبئوها في أماكن معلومة، وساروا نحو الجامع أفواجا يزاحم بعضهم بعضا ، وفي مقدمتهم السيد بدر وبعض رعاع الحسينية ينادون بأعلى أصواتهم: «نصر الله دين الإسلام.» وساروا توا إلى بيت قاضي العسكر فوجدوا هناك كثيرين آخرين ممن سبقوهم على شاكلتهم. فخاف القاضي وأغلق بابه، وأوقف حجابه فضربوهم وحاول هو الهرب فأمسكوه. وكان قد توجه القسم الأعظم من الجماهير إلى الجامع الأزهر. ثم سارت فرقة منهم إلى بيت الجنرال كافارلي، وفيه بعض الأدوات فنهبوه وأخربوه ولم يكن الجنرال فيه.
وكان الجنرال ديبوي قائمقام القاهرة مقيما عند بركة الفيل، وشاهد في الصباح بعض الجماهير مارين في الأسواق، فلم يعبأ بحركاتهم، وعند الظهيرة رأى الجماهير تعاظمت والأسواق ازدحمت، فركب في جماعة وأسرع إلى بيت الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان بقرب الغورية فلم يجده، فسار نحو بيت القاضي وهو يرى الجماهير تزداد والأصوات تتعاظم، فمر بين القصرين فرأى جمهورا كبيرا أوقفه عن المسير، فكلمهم بواسطة الترجمان فلم يسمعوا، فأمر رجاله بالهجوم عليهم فرماه بعض الناس من أحد الشبابيك على عنقه بحربة مشدودة برأس عمود، فقطعت له وعاء دمويا كبيرا وكانت القاضية عليه.
وتعاظمت الجماهير على الخصوص بجوار الجامع الأزهر، أما أهالي مصر القديمة وخط بركة الفيل فلم يتجرءوا على ذلك، وكانت الجيوش الفرنساوية على غير استعداد لمثل هذه الثورة، وحصونهم على سفح المقطم والربى خارج القاهرة خالية من الجنود، فلم يكونوا يستطيعون تهديد المدينة. وجعل الثائرون يطوفون الأسواق يقتلون المسيحيين على اختلاف نزعاتهم بين الإفرنج وأقباط وسوريين ويونانيين وينهبون مساكنهم. (11-3) دفاع الفرنساويين
فلما اتصل ذلك ببونابرت ركب في 30 من دواليله، وسار إلى أكثر الأماكن تعرضا للنهب والسلب، فانتعشت جنوده بوجوده فعهد قيادة المدينة إلى الجنرال بون، وفرق الطبجية عند مجتمعات الثائرين. وأصبح القوم في اليوم التالي وإذا بسفح المقطم والربى خارج القاهرة مرصعة بالمدافع، وقد أرسل بونابرت وفدا إلى المشايخ يطلب إليهم أن يوقفوا الرعاع عن التجمهر فلم يفعلوا. وفي الساعة التاسعة (إفرنجية) من الصباح بلغ بونابرت أن بعض العربان قادمون إلى القاهرة يريدون الدخول إليها من باب النصر، فبعث أركان حربه سالكوسكي لينظر في أمر ذلك فبينما كان مارا عند باب العدوي هجم عليه بعض الثائرين وقتلوه، وكان بونابرت يحبه فأسف عليه كثيرا.
وهم في ذلك وصل الجنرال كلابر بجيشه من الإسكندرية بعدما شفي من جراحه، فاشتد أزر الجنود الفرنساوية وتألفوا للمحاربة بقلب واحد، فقبضوا على جمهور عظيم من الثائرين بجهة الأزبكية. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أطلقت المدافع من الحصون خارج القاهرة على خط الجامع الأزهر بؤرة الثورة، وفيه زعماؤها، وما زال الضرب إلى المساء، فاضطرب الناس ووقع في قلوبهم الرعب فأجمع المشايخ على التسليم، فركبوا خيولهم وساروا إلى بونابرت يطلبون الأمان، فوبخهم على ما أتوه من سفك الدماء، ثم أمنهم وأوقف الضرب. أما سكان خط الحسين ومعظمهم من الجزارين فلم ينفكوا عن الضرب حتى فرغت جعبهم من البارود فهدءوا. (11-4) دخول الجامع الأزهر
فدخلت الجنود الفرنساوية وأخذوا في تسكين الناس وتفريق الجموع، وفرقوا الخيالة في الأسواق للخفر فأدخلوا خيولهم إلى الجامع الأزهر وكسروا قناديله، ومحوا بعض ما كان مكتوبا عليه من الآيات القرآنية. وفي يوم الثلاثاء 4 جمادى الأولى خرج المسلمون للصلاة في الجامع الأزهر فإذا بالخيول تعج فيه عجيجا. وفي صباح الأربعاء 5 منه بعث المشايخ إلى بونابرت يلتمسون إخراج الخيول من الجامع، فسألهم عن زعماء الثورة ومنشطيها فلم يجيبوه فرفض طلبهم. ثم تداخل محمد الجوهري من أعيان القاهرة وفضلائها في الأمر، وكان ممن لازموا الحياد فوافقه بونابرت على إخراج الخيالة من الجامع على أن يجعل في ذلك الخط خفرا من سبعين رجلا. ثم جاء السوريون واليونانيون الذين نهبت بيوتهم بسبب الثورة إلى بونابرت وشكوا إليه خسائرهم. فعكف على الاقتصاص من زعماء الثورة. فجعل يقبض على من تقع عليهم الشبهة رجالا ونساء حتى قتل منهم 12 شيخا دفعة واحدة، وجعل جثثهم في أكياس ألقاها في النيل، وعزم من ذلك الحين على الصرامة في معاملته المصريين، فمنع المشايخ من المباحثة في الديوان وحصر شغلهم في نشر المنشورات على الشعب لأجل تسكين الثورة فسكن روع الشعب حسب الظاهر. (11-5) فرمان السلطان
وفي ليلة السبت 24 جمادى الأولى جاء إلى القاهرة هجان بكتابات من أحمد باشا الجزار، وفيها فرمان عليه الطغراء العثمانية وكتابات أخرى من بكير باشا وإبراهيم بك وجميعها معنونة باسم مصطفى بك، فلما تناولها وقرأها لم يسعه من خوفه إلا أن يسلمها إلى بونابرت، فترجمت له، وهاك ترجمتها بعد الاستهلال: «إن الفرنساويين أبادهم الله وغشي أعلامهم غشاء العار؛ لأنهم كفار معاندون لا يؤمنون برسالة النبي
صلى الله عليه وسلم
ويسخرون بجميع الأديان، ويجحدون البعث وما قدره الله فيه من الثواب والعقاب، وهم يعتقدون أن الصدفة العمياء هي المتسلطة على الحياة والموت، وأن النفس مادة وأن الأجسام بعد انحلالها في الأرض لا تعود إلى الحياة ثانية، ولا يلحقها حساب ولا دينونة؛ وبناء على هذا الاعتقاد قد وضعوا أيديهم على هياكلهم، وطردوا منها قسسهم ورهبانهم، وعندهم أن الكتب المنزلة خزعبلات وأكاذيب ملفقة، وأن القرآن والتوراة والإنجيل خرافات، وأن موسى وعيسى ومحمدا رجال مثل سائر الرجال، وأن الناس جميعا خلقوا سواء لا شيء يميز بعضهم من بعض. وأن كلا منهم يعتقد بما يخطر له، وعلى هذه المعتقدات قد بنوا جميع أعمالهم ووضعوا شرائع جهنمية، وقد اهتزت أوروبا لإجراءاتهم هذه وسفكت في سبيل ذلك دماء غزيرة. وأنتم تعلمون ما يأمركم به الدين الإسلامي الحنيف، فعليكم الانتباه لملافاة ما يبثونه بينكم؛ لأن غرضهم هدم مكة والمدينة وأورشليم وذبح من فيها من الأطفال واقتسام تركاتهم وأراضيهم، أما من يبقى منهم حيا فيجبرونهم على اتباع مباديهم، وتعلم لغتهم فيذهب الإسلام من الأرض. فافهموا إذن ما تكون النتيجة إذا لم ينهض كل واحد لنصرة الإسلام، ويجاهد ضد هؤلاء المعطلين فانتبهوا إذن إلى الشراك التي نصبت لكم، والأسد لا يكترث بالثعالب كثر عددها أو قل ... إلخ.» (11-6) منشور آخر لأهل مصر
فلما فهم بونابرت فحوى هذا الفرمان اجتهد أن يغرس في أذهان المشايخ أنها فتن قد سعى بها أعداء الدولة والدين، وما زال حتى استكتبهم منشورا أمضوه وفرقوه في البلاد، وهذا نصه بالحرف الواحد:
نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد. نعرف أهل مصر قاطبة أنه حصل بعض الخلل في مدينة المحروسة من طرف الجعيدية وأشرار الناس فحركوا الشرور بين الرعية، وعسكر الفرنساويين بعد أن كانوا أصحابا وأحبابا، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهب بعض البيوت، ولكن بلطف الله سكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية؛ لأنه رجل كامل العقل ذو رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلت كامل أهل مصر، فعليكم أن لا تثيروا الفتن ولا تطيعوا المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا مع الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يفتكرون بالعواقب؛ لكي تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله - سبحانه وتعالى - يؤتي ملكه من يشاء ويحكم من يريد. ونخبركم أن كل من تسببوا في إثارة هذه الفتنة قتلوا عن آخرهم وأراح الله منهم البلاد والعباد، ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم والدين النصيحة، والسلام.
وهذا المنشور ممضى من علماء مصر كافة، طبعوه بالمطبعة التي أتت بها الحملة كما تقدم. (11-7) نصيحة العلماء
ثم شاع بين الأهالي أمر الفرمان الذي ورد من جلالة السلطان فاضطربوا، فأصدر المشايخ والعلماء منشورا يبرئون به الفرنساويين مما جاء بحقهم في ذلك الفرمان ونصه حرفيا:
نصيحة من علماء الإسلام بمصر. نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين ويا سكان الأرياف من العربان والفلاحين، أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة من المكاتبات والمخاطبات إلى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات، وادعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه بالكذب والبهتان. وسبب ذلك أنه حصل لهم الغم الشديد والكرب الزائد، واغتاظوا غيظا شديدا من علماء مصر ورعاياها، حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم وأن يتركوا عيالهم وأوطانهم، فأرادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساويين لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية؛ وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية. ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بأنها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهارا مع آغوات معينين. ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الإفرنجية دائما يحبون المسلمين وملتهم، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، وهم أصحاب لمولانا السلطان قائمون بنصرته وأصدقاء ملازمون له لمودته وعشرته ومعونته، يحبون من والاه ويبغضون من عاداه. ولذلك بين الفرنساويين والموسكو غاية العداوة الشديدة؛ ومن أجل هذا يعاونون حضرة السلطان على أخذ بلاد الموسكو إن شاء الله ولا يبقون منهم بقية، فننصحكم يا أهالي الأقاليم المصرية أن لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية، ولا تعارضوا العسكر الفرنساوي بشيء من أنواع الأذية؛ فيحصل لكم الضرر والهلاك والبلية. ولا تسمعوا كلام المفسدين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وإلا فتصبحون على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين؛ لتكونوا في أوطانكم سالمين وعلى عيالكم وأموالكم آمنين مطمئنين. لأن حضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابرته اتفق معنا على أنه لا ينازع أحدا في دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام، ويرفع عن الرعية سائر المظالم، ويقتصر على أخذ الخراج ويزيل ما أحدثته الظلمة من المغارم، فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد وارجعوا إلى مولاكم ملك الممالك وخالق العباد. فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم.» عليه أفضل الصلاة، والسلام ختام.
ولصقوا نسخا من هذين المنشورين في أسواق القاهرة، وفرقوا منها في سائر بلاد القطر. (12) إصلاحات الفرنساويين بمصر
وأقام بونابرت على القاهرة الجنرال استنك عوضا عن ديبوي الذي تقدم أنه قتل، ثم عمد إلى مداخل القطر المصري الإسكندرية ورشيد ودمياط، فحصنها تحصينا منيعا، وجعل في القاهرة وضواحيها استحكامات تمنع ثورة الأهالي مرة أخرى. وأنشأ في القاهرة مطاحن هواء ومطاحن ماء؛ لأجل طحن الحنطة، وأقام في الروضة مستشفى (أسبيتالية) يسع خمسمائة مريض.
وأقام مطاحن ومستشفيات أيضا في الإسكندرية ورشيد ودمياط. وأنشئ في القاهرة إذ ذاك مدرسة لتعليم أولاد الفرنساويين المولودين في مصر وجريدتان فرنساويتان الواحدة تدعى «دكاد إجبسيان» والأخرى «كوريه ديجيبت»، ومرسح للتشخيص ومعامل للأقفال والأسلحة والنجارة. ومعامل للمدافع وتوابعها وآلات الهندسة والورق والأقمشة وسائر احتياجات البلاد. واستحدث فيها أيضا أماكن للهو وحدائق للنزهة، وأنشأ مجمعا علميا مصريا «إنستيتي ديجيبت»، وبالنتيجة إن الجيش الفرنساوي لم يكن ينقصه من داعيات الراحة إلا البريد.
وكان بونابرت لا يغفل عن شيء يرى فيه راحة جيشه ورفاهية البلاد. فسكنت الأحوال مدة شهرين تمكن الفرنساويون في أثنائها من إجراء بعض الإصلاح في المدينة، فردموا ما جاور بركة الأزبكية والأماكن المجاورة لمسكن بونابرت فجعلوها رحبة واسعة. وجددوا قنطرة المغربي وبنوا جسرا ممتدا من الأزبكية إلى بولاق، حيث ينقسم إلى فرعين: يسير أحدهما إلى طريق أبي العلاء والآخر إلى جهة التبانة وضفة النيل، وجعلوا بجانبي ذلك الجسر خندقين، وغرسوا على جانبيه أشجارا وسيسبانا، وأحدثوا طريقا آخر بين باب الحديد وباب العدوي، عند المكان المعروف بالشيخ شعيب، ومهدوا جسرا آخر من هناك إلى خارج الحسينية، وأزالوا ما يتخلل ذلك من الأبنية، وهدموا الأبنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس ومهدوا الأرض بينهما. فعلوا ذلك كله ولم يسخروا أحدا بل كانوا يدفعون الأجور فوق الاستحقاق. وجعلوا جامع الظاهر خارج الحسينية على طريق العباسية قلعة ومنارته برجا فصار يعرف بقلعة الظاهر.
شكل 2-10: جرجس الجوهري أحد رؤساء القبط وكتابهم في زمن الفرنساوية (نقلت هذه الصورة بالفوتوغراف عن رسم له بباريس لكنها أخذت من موقف منحرف فظهرت كما ترى).
وبنوا أماكن للأرصاد الفلكية والرياضيات والنقش والرسم والتصوير في حارة الناصرية، حيث الدرب الجديد، ورمموا ما فيه من بيوت الأمراء واستخدموها لتلك الغاية، وجعلوا بيت حسن كاشف جركس في تلك الخطة مكتبة للمطالعة يحضرها من يريد المطالعة منهم في أوقات معينة من النهار، وإذا دخلها أحد الوطنيين رحبوا به، وإذا أراد التفرج أطلعوه على ما أراد أو المطالعة سلموه ما أراد من الكتب، ولا سيما التي تدهش البسطاء بما فيها من الرسوم البديعة، وفي جملتها رسم للنبي ورسوم أخرى للخلفاء الراشدين وغيرهم من الأئمة والأماكن المهمة. وكان في مكتبتهم هذه كتب كثيرة عربية. وأفردوا للاشتغال بكل علم دارا ولا سيما الكيميا؛ فإنهم خصصوا معملا كبيرا للتقطير والتصعيد واستحضار الخلاصات وسائر الأعمال العقارية، وكانوا يجرون أمام الأهالي بعض التجارب الكيماوية التي تدهش غير العارفين بنواميس الكيمياء، وقد ذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بعض تلك التجارب وأظهر دهشته منها. وأفردوا أيضا أماكن للتجارة والصناعة وطواحين هوائية واستخدموا العربات. وقرروا إطلاق مدفع كل يوم عند الزوال. (12-1) منشور بونابرت عن تجديد الديوان
وفي 16 رجب سنة 1213ه/25 ديسمبر (ك1) سنة 1798م أمر بونابرت بترتيب الديوان على نظام جديد كما تقدم في الكلام عن هذا الديوان عند إنشائه، وكتب بذلك منشورا أرسله إلى الأعيان وألصق منه نسخا في الأسواق ونصه:
من بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية خطابا إلى جميع أهل مصر الخاص والعام. نعلمكم أن بعض الناس الضالي العقول الخالين من المعرفة وإدراك العواقب، أوقعوا الفتنة سابقا بين أهل مصر فأهلكهم الله بسبب فعلهم، ونيتهم القبيحة، والباري - سبحانه وتعالى - أمرني بالشفقة والرحمة للعباد فامتثلت أمره وصرت رحيما بكم شفوقا عليكم. ولكن كان حصل عندي غيظ وغم شديد بسبب تحريك هذه الفتنة بينكم، ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وإصلاح أحوالكم من مدة شهرين، والآن توجه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان؛ لأن حسن أحوالكم ومعاملتكم في المدة المذكورة أنسيانا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقا.
فيا أيها العلماء والأشراف أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني، إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره، فلا يجد مخلصا ولا ملجأ ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من يد الله لمعارضته مقاديره سبحانه وتعالى. والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة. وأعلموا أيضا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي. وقدر في الأزل أن أجيء من أرض المغرب إلى أرض مصر لإهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أمرت به. ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه. وأعلموا أيضا أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور أخرى تقع في المستقبل وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يختلف. وإذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعا إلى صفاء النية وإخلاص الطوية؛ فإن منهم من يمتنع من لعني وإظهار عداوتي خوفا من سلاحي وشدة سطوتي. ولم يعلم أن الله مطلع على السرائر يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والذي يفعل ذلك يكون معارضا لأحكام الله ومنافقا، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب. واعلموا أيضا أني قادر على إظهار ما في نفس كل منكم؛ لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد نظري إليه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده، ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم عيانا، ويتضح أن ما فعلته وحكمت به هو حكم إلهي لا يرد. وأن اجتهاد الإنسان بغاية جهده لا يمنعه من قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي، فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة، والسلام. (12-2) ترعة السويس
وفي ذلك اليوم (16 رجب) برح بونابرت القاهرة في سرب من رجال معيته وبعض المهندسين قاصدا برزخ السويس، لاستطلاع آثار الترعة التي حفرت قديما بين البحر المتوسط والنيل، فوصل السويس في 18 منه، وفي 21 منه قطع البحر الأحمر إلى آبار موسى، فجعل يتأمل ويتذكر ما قيل عنها من المعجزات. وفي ذلك اليوم عاد بمن معه قاصدا السويس خوضا في البحر مثلما فعل موسى، فأخطئوا الطريق حتى كادت المياه تغمر خيولهم، وبعد المشقة وصلوا السويس في أوائل الليل، وفي الصباح التالي أتم بونابرت استكشافه وبرح السويس قاصدا القاهرة، فمر ببلبيس فاستولى عليها وسار منها حتى أتى القاهرة في 25 منه (في 3 يناير سنة 1799).
وفي يوم وصوله لاقاه الجنرال كلابر قادما من الإسكندرية، ومعه كتب وجرائد واردة من فرنسا وغيرها تنبئ بتغير الباب العالي على الجمهورية الفرنساوية لافتتاحها مصر واستقلالها بأحكامها.
فلندع بونابرت يطالع كتبه وجرائده، ولنلتفت إلى الجنرال ديزه وحملته إلى الصعيد بعد واقعة إمبابة. (12-3) حملة ديزه في الصعيد
لما عدى الجيش الفرنساوي البر الشرقي، ودخل القاهرة بعد واقعة إمبابة، عهد بونابرت إلى الجنرال ديزه أن يسير جنوبا لتعقب المماليك وإخضاع الصعيد. فسار في 16 محرم سنة 1213ه حتى أتى بني سويف فلاقاه مراد بك برجاله، وطال الحرب بينهما وكثر الأخذ والرد، وانتهت الوقائع بتقهقر المماليك وإمعانهم في داخلية الصعيد.
وفي 13 جمادى الأخرى برح الجنرال ديزه بني سويف، فأتى المنيا في 18 منه وتربص هناك ينتظر الدوارع القادمة على النيل لنجدته، فتأخر وصولها بسبب الريح المعاكسة لسيرها. ثم سار من المنيا وما زال يتعقب مراد بك وأتباعه حتى أتى أسوان في البر الغربي فعسكر هناك. وكان كلما مر بأثر من الآثار المصرية القديمة حفر عليه اسمه وأسماء المدن التي افتتحها. وقد شاهدنا مثل هذه الكتابة على جانبي باب من أبواب هيكل الكرنك بجوار الأقصر.
واستطلع ديزه أخبار العدو في أسوان، فعلم أنه معسكر فوق الشلال الأول بمسافة قصيرة، فاحتل جزيرة فيلوي وحصن أسوان لدفع المماليك إذا قدموا إليها؛ لأنه لم ير فائدة من تتبعهم إلى ما وراء ذلك، وقد حفر على صخر فوق الشلال جميع فتوحه على مثل ما تقدم. وهناك آخر ما وصله الفرنساويون في حملة بونابرت. ولم يكد يتم ديزه تحصين أسوان حتى سمع باحتلال ألفي بك جهات طيبة فعاد إليه وحاربه وهزمه. فأذعنت الصعيد وهدأت أحوالها. (13) حملة بونابرت على سوريا
أما بونابرت فإنه علم من مطالعة تلك الجرائد ومن قرائن أخرى أن الدولة العلية تسعى في استرجاع مصر من الفرنساويين، وقد بعثت بمنشورات رسمية إلى سائر بلادها طعنا بالجمهورية الفرنساوية، وأمرت أحمد باشا الجزار والي عكا أن يبعث جيشا لاحتلال العريش ففعل. فبعث إليه بونابرت أن يخلي تلك المدينة لأنها من حدود مصر فلم يطعه، فأمر بإعداد حملة يسير بها ليس للمدافعة عن مصر فقط بل لافتتاح سوريا أيضا. فأعد حملة من اثني عشر ألفا بينها ألف ومائتان من الطبجية، وسار قاصدا سوريا بعد أن عهد بقيادة القاهرة إلى الجنرال دوغا، وبقيادة الصعيد إلى الجنرال ديزه، وقيادة الإسكندرية إلى الجنرال مرمرون، وأمر بتحصين دمياط. وجعل في تلك الحملة بعض مشايخ القاهرة ليستعين بنفوذهم الديني. وفي 21 شعبان أصدر منشورا مطبوعا فرقه في الناس، وهاك نصه بالحرف الواحد:
الحمد لله وحده. هذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الأنام، وعلماء الإسلام والوجاقات والتجار الفخام.
نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة صاري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكامل عن كل الناس والرعية بسبب ما حصل من أراذل الناس أهل البلد والجعيدية من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية، وعفا عفوا شاملا وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد آغا بالأزبكية، ورتبه مع أربعة عشر شخصا أصحاب معرفة وإتقان، انتخبوا بالقرعة من 60 رجلا حصل انتخابهم بموجب فرمان؛ وذلك لأجل قضاء مصالح الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام، وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام. كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره ومزيد حبه لمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم حتى كبيرهم. ورتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم، وقد اقتص من عسكره الذين أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري، وقتل منهم اثنين في قره ميدان، وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام؛ لأن الخيانة ليست من عادة الفرنساويين خصوصا مع النساء الأرامل، فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله إلا كل خسيس. وقبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس؛ لأنه بلغه أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس. ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من المظالم، ومراده رفع الظلم عن كامل الخلق، ودائما يفكر في فتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف أجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز، وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطرق، وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق. فاشتغلوا في أمر دينكم وأسباب دنياكم واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم، وعليكم بالرضى بقضاء الله وحسن الاستقامة؛ لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة. رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم. ومن كان له حاجة فليأت الديوان بقلب سليم إلا من كان له دعوى شرعية فيتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية بخط السكرية، والسلام على أفضل الرسل إلى الدوام. (14) فتح العريش وغزة
وفي 25 شعبان/أول فبراير (شباط) سنة 1899م سار الجنرال كلابر والجنرال رينر في مقدمة الحملة نحو العريش، وفي 5 رمضان أو 10 فبراير (شباط) سافر بونابرت بمن بقي منها. وكان على العريش قاسم بك من قبل الجزار، وقد عسكر خارج المدينة. ففي صباح 8 منه كانت مقدمة الفرنساويين على مقربة من معسكر قاسم، وفي المساء هاجموه بغتة فقتلوه وشتتوا جيشه، واستولوا على الذخائر والمهمات وساروا نحو المدينة. أما بونابرت فوصل الصالحية في 7 منه، وفي 11 منه وصل المسعودية، فطلعت ريح شديدة نسفت عليه وعلى رجاله الرمال أحمالا، وكانت المياه قليلة، فعطشت العساكر عطشا عظيما، فعسكر هناك وبعث الخبراء يستطلعون خطوات كلابر وجهة مسيره، فعادوا وأخبروه فنهض، وما زال حتى أتى العريش في 12 رمضان، فرأى كلابر قد حاصرها وامتنع عليه فتحها لقلة الطبجية ونفاد المؤن. فلما وصل بونابرت أرسل إلى حامية العريش كتابا يطلب إليهم التسليم ويهددهم، فسلموا بعد بضعة أيام فدخل الفرنساويون العريش، وأمنوا أهلها على حياتهم وقبضوا على خمسة كشاف كانوا هناك من قبل المماليك، وأرسلوهم إلى القاهرة تحت الحجز، ثم جعلوا في العريش حامية، وساروا إلى غزة فاستولوا عليها بغير قتال، وجعلوا فيها حامية وديوانا وطنيا لتنظيم الأحوال. (15) فتح يافا وقتل حاميتها
وفي 23 رمضان سنة 1213ه/28 فبراير (شباط) سنة 1799م ساروا إلى يافا، فلما وصلوها أمر بونابرت الجنرال كلابر أن يتقدم في فرقته إلى عكا ففعل. وكانت حامية يافا أخلاطا من الأتراك والمغاربة والأرناءوط والأكراد، فلم ير بونابرت محاصرتها فأمر بالهجوم عليها في 27 منه/4 مارس (آذار). فهجم الفرنساويون عليها وما زالوا حتى خرقوا الأسوار ودخلوها، ففرت الحامية فتتبعوها وقد تحصنت في بعض الخانات الكبيرة فألحوا عليها فقال الأرناءوط ومنهم تتألف معظم الحامية: «نحن نسلم لكم أنفسنا إذا أمنتمونا على حياتنا.» وكان على قيادة الهاجمين من الفرنساويين أحد أركان حرب بونابرت، فوعدهم بالأمان فسلموا فقادهم موثقين وعددهم نحو أربعة آلاف حتى أتى بهم المعسكر الفرنساوي، فلما رآهم بونابرت قال للقادم إليه: «ما هذه الجماهير؟» قال: «هي حامية هذه المدينة قد سلمت وجئنا بها إليك.» قال: «ماذا تريدون أن أفعل بهذا العدد؟ أعندكم زاد يكفيهم أو مراكب تنقلهم إلى مصر أو فرنسا؟ وإذا أرسلناهم في البر فمن يتولى خفارتهم؟» فأجابه قائلا: «إننا قد قبلنا تسليمهم حجبا للدماء.» فقال بونابرت: «نعم يجب أن تفعلوا ذلك ولكن مع الأطفال والنساء والشيوخ، وليس مع مثل هذا القدر من الرجال الأشداء المجندين.» ثم أمرهم بالجلوس مكتوفي الأيدي أمام المعسكر، وفي اليوم التالي فرقوا فيهم شيئا من البقسماط الجاف والماء.
ثم عقد بونابرت مجلسا في خيمته للمفاوضة في ماذا يجب أن يفعل بهؤلاء الأسرى، وبعد الاجتماع عدة جلسات لم يقروا على شيء، فانزعج بونابرت لكثرة التردد في الأمر، وبعد التفكير والتأمل رأى أنه لا يستطيع استبقاءهم معه؛ لعدم وجود ما يكفيهم من الزاد ولا إرسالهم إلى مصر لعدم استغنائه عن رجال يسيرون لخفارتهم، ولا إطلاق سبيلهم لئلا يرتدوا عليه فأقر على إعدامهم. وفي 4 شوال/10 مارس (آذار) سنة 99 بعد الظهيرة قادوهم موثقين إلى صحراء رملية خارج يافا، ثم جعلوهم فرقا ساقوا كلا منها إلى ناحية وقتلوا الجميع بالرصاص قتلا ما أنزل الله به من سلطان. فلما بلغت هذه الفعلة مسامع الجزار ورجاله في عكا أصروا على الدفاع إلى آخر نسمة من حياتهم؛ لئلا يصيبهم إذا سلموا ما أصاب أولئك. (15-1) منشور بونابرت بفتح يافا
ولما استلم بونابرت يافا أمر بترميم حصونها، وبعث إلى الإسكندرية يأمر العمارة الباقية هناك أن توافيه إلى يافا. ثم فشا الطاعون في يافا وضواحيها لفساد الهواء من الجثث التي ملأت تلك الجهات. وكتب بونابرت إلى جند بيت المقدس يطلب إليهم التسليم، فأجابوا أنهم تابعون لولاية عكا وحالما تسلم عكا يسلمون. ثم كتب إلى القاهرة منشورا باستيلائه على يافا، وكان قد أرسل مثل هذا المنشور عندما استولى على العريش وغزة، ولنذكر هنا منشوره من يافا فقط على سبيل النموذج، وفيه تفصيل ما تقدم عن فتح يافا وهاك نصه بالحرف الواحد:
بسم الله الرحمن الرحيم. سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد. هذه صورة تمليك الله - سبحانه وتعالى - جمهور الفرنساويين لبندر يافا من الأقطار الشامية. نعرف أهل مصر وأقاليمها أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث وعشرين شهر رمضان، ووصلوا الرملة في 25 منه في أمن واطمئنان، وشاهدوا عسكر أحمد باشا الجزار هاربين بسرعة قائلين: الفرار الفرار! ووجدوا في الرملة ومدينة اللد مقدارا كبيرا من مخازن البقسماط والشعير، ووجدوا أيضا 1500 قربة مجهزة جهزها الجزار ليسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين، ومراده التوجه إليها مع العربان الأشرار من سفح الجبل، ولكن تقادير الله تفسد المكر والحيل. وما كان قصده سوى سفك الدماء مثل عادته في أهل الشام، وناهيكم ما هو مشهور عنه من التجبر والظلم والجور؛ فإنه تربية المماليك الظلمة المصريين، وفاته أن الأمر لله وكل شيء بقضائه وتدبيره.
وفي السادس والعشرين حلت طلائع الفرنساويين ببندر يافا من الأراضي الشامية، وأحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية، وأرسلوا إلى حكمها وكيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل بهم وبعسكرهم الدمار، لكنه لخشونة عقله وفساد رأيه وسوء تدبيره لم يرد. وفي ذلك اليوم - أي 26 من شهر رمضان - تكامل العسكر الفرنساوي على محاصرة يافا، وانقسم ثلاث فرق توجهت فرقة منهن على طريق عكا على مسافة أربع ساعات من يافا، وفي 27 أمر حضرة صاري عسكر الكبير بحفر خنادق حول السور لعمل متاريس متينة، واستحكامات حصينة؛ إذ عرف أن سور يافا ملآن بالمدافع الكثيرة مشحون بعساكر الجزار الوفيرة.
وفي 29 ناهز حفر الخنادق النهاية، وصار على مسافة 150 خطوة في السور، فأمر صاري عسكر أن تنصب المدافع على المتاريس، وأن توضع أهوان القنابر بإحكام، وأمر بنصب مدافع أخرى بجانب البحر لمنع الصلة بين عسكر البر، والمراكب التي أعدها عسكر الجزار في المينا للهرب والفرار. ولما رأى عسكر الجزار المحاصرون في القلعة أن عديد الفرنساويين قليل غرهم الطمع، فخرجوا إليهم من القلعة مسرعين؛ ظنا منهم أنهم يغلبون على الفرنساويين، فهجم عليهم الفرنسيس وقتلوا منهم كثيرين وأجبروهم على الدخول إلى القلعة ثانية.
وفي يوم الخميس غاية شهر رمضان أشفق حضرة صاري عسكر، وخاف على أهل يافا إذا دخلت عساكره بالقهر والقوة، فأرسل إليهم مع رسول خطابا هذا مضمونه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. باسم الله الرحمن الرحيم. من حضرة صاري عسكر برتيه كتخدا العسكر الفرنساوي إلى حضرة حاكم يافا، نخبركم أن حضرة صاري عسكر الكبير بونابرته أمرنا أن نعرفكم في هذا الكتاب أن سبب مجيئه إلى هذا الطرف هو إخراج عسكر الجزار فقط من هذا البلد؛ لأنه تعدى بإرسال عسكره إلى العريش ومرابطته فيها، والحال أنها إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا، فلا تجوز له الإقامة بالعريش؛ لأنها ليست من أرضه فقد تعدى على ملك غيره، ونعرفكم يا أهل يافا أننا حصرنا بندركم من جميع أطرافه وجهاته، وضيقنا عليه بآلات الحرب والحصار والمدافع الكثيرة والكلل والقنابر، وفي برهة ساعتين يخرب سوركم وتبطل آلات حربكم. ونخبركم أن حضرة صاري عسكر لمزيد رحمته وحنوه خاف عليكم من سطوة عساكره المحاربين. فإنهم إذا دخلوا عليكم بالقوة والقهر أهلكوكم جميعا؛ ولذلك أمرنا أن نرسل إليكم هذا الخطاب تأمينا لأهل البلد ولا سيما الضعفاء والفقراء والغرباء، وأن نؤخر ضرب المدافع وإطلاق القنابر ساعة واحدة، وإني لكم لمن الناصحين، وهذا آخر خطاب بيننا.»
فجعلوا جوابنا حبس الرسول مخالفين بذلك الشريعة المطهرة المحمدية والقوانين الحربية. فتميز صاري عسكر من الغيظ، وهاج واشتد غضبه وأمر بإطلاق المدافع والقنابر. ولم يمض إلا اليسير حتى خرست مدافع يافا، وانقلب عسكر الجزار في وبال وخسران، وعند الظهر انخرق سور يافا، وارتج له القوم ونقب من الجهة التي ضربت منها المدافع، ولا مرد لقضاء الله ولا مدافع. وفي الحال أمر حضرة صاري عسكر بالهجوم، وفي أقل من ساعة ملكت العساكر الفرنساوية جميع البندر والأبراج، ودار السيف في المحاربين، وحمي الوطيس وكثر القتل.
وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الصفح الجميل من حضرة صاري عسكر الكبير. ورق قلبه - لا سيما على من كان في يافا من أهل مصر - فأعطاهم الأمان وأمرهم بالعود إلى الأوطان. وكذلك أمر أهل دمشق وحلب بالرجوع إلى بلادهم؛ ليعرفوا مقدار رحمته ومزيد رأفته. وقتل في هذه الواقعة أكثر من 4000 من عسكر الجزار بالسيف. أما الفرنساويون فلم يقتل منهم إلا القليل، وسبب ذلك أن سلوكهم إلى القلعة كان في طريقة أمينة خافية عن العيون، وأخذوا ذخائر كثيرة وأموالا غزيرة واستولوا على المراكب التي في المينا، ووجدوا في القلعة نيفا وثمانين مدفعا، وقد فات الجزار وعساكره أن آلات الحرب لا تدفع مقادير الله. فاستقيموا عباده وارضوا بقضاء الله ولا تعترضوا على أحكام الله، وعليكم بتقوى الله واعلموا أن الملك لله يؤتيه من يشاء، والسلام عليكم ورحمة الله. (16) حصار عكا
ثم سار بونابرت برجاله قاصدا عكا تاركا في يافا حامية كافية، فقابله في الطريق بعض العصاة من المماليك، فحصلت بينهما مناوشات شفت عن فرار المماليك، فواصل السير حتى أتى سفح الكرمل، وإذا بعكا قد تحصنت تحصنا منيعا بهمة واليها أحمد باشا الجزار، وهو الرجل الوحيد الذي كان يعتمد على الباب العالي في حماية سوريا.
شكل 2-11: مدينة عكا.
فعبروا النهر وعسكروا في البر الآخر. وفي 2 شوال صعد بونابرت إلى رابية، وجعل يتأمل حصون عكا بالنظارة المكبرة، ثم أمر أن يسير بعض العساكر إلى المدينة، وكانت في مياهها عمارة إنكليزية بقيادة السير سدني سميث قد زادت الجزار تمسكا بالدفاع. ففي اليوم التالي استطلعوا الحصون واستكشفوا قوات العدو. وفي 4 شوال/20 مارس (آذار) بدءوا بالمحاربة، وكانت الدوارع الإنكليزية تساعد الجزار من البحر، وقد أظهر هذا الرجل بسالة عظيمة، لكنه اضطر أخيرا إلى استنجاد قوات صيدا ودمشق وحلب.
أما بونابرت فأبقى الحصار على عكا وحول شكيمة فتوحاته نحو جهات أخرى من سوريا، فأرسل فرقا استولت على صفد وصور وطبريا وأماكن أخرى، وأتوا منها بمؤن كثيرة . وبعد يسير وصلت الدوارع الفرنساوية من الإسكندرية ومعها المدافع والمؤن. وفي 4 ذي القعدة سنة 1213ه/9 أبريل (نيسان) سنة 1799م قتل الجنرال كافارلي.
وفي 5 ذي الحجة/9 مايو (أيار) وهو اليوم الخمسون لحصار عكا أقر بونابرت على الهجوم النهائي، فهجموا عليها هجمة اليأس بقلوب لا تهاب الموت، ولم تكن عكا لتقف في طريقهم لولا العمارة الإنكليزية، وهي التي أخرت الفتح بدفاعها عنها بالبر والبحر، ثم جاءتهم نجدة من الأستانة تحت قيادة حسن بك فازداد المدافعون قوة، ومضى ذلك اليوم ولم ينل الفرنساويون شيئا. وفي اليوم التالي هجموا هجمة أخرى لم ينالوا منها إلا التقهقر؛ لأنهم لاقوا مقاومة عنيفة قتل فيها الجنرال بون، فيئس بونابرت لحبوط مساعيه وفشل حملته السورية، على أنه كان يتعزى بما سبق استيلاؤه عليه من المدن والقرى السورية، إلا أن تلك الأماكن حالما سمعت بما ألم بجيشه من الفشل انحازت إلى الباب العالي هربا من العقاب. وزد على ذلك أن السير سدني سميث كتب منشورات وزعها على المشايخ والأمراء في لبنان يدعوهم إلى الاتحاد مع الباب العالي، وأرسل إلى سراة المسيحيين أيضا صورة منشور بونابرت الذي يقول فيه إنه هد أركان الديانة المسيحية، فامتنع اللبنانيون عن توريد الخمر والبارود للفرنساويين، فأصبح بونابرت في حالة اليأس الشديد لا يدري ماذا يصنع وقد خابت آماله. فكتب إلى ديوان مصر أنه قد هدم أسوار عكا، وأخرب بيوتها بالقنابل وجرح واليها الجزار، وأنه سيبرحها بعد ثلاثة أيام عائدا إلى مصر، ومتى جاءها يقتص من الباغين. ثم استقدم حاميات صفد وطبرية وغيرها. (17) رجوع حملة بونابرت إلى مصر
وفي 21 ذي الحجة/23 مايو (أيار) أمر بونابرت بالمسير إلى مصر بكل رجاله وفيهم الجرحى، فقاسوا عذابا مرا من العطش وفشا فيهم الوباء فزادهم عناء، فأمر بونابرت أن يسير الرجال الأصحاء على أقدامهم، وأن تعطى الخيول والجمال للمرضى والجرحى. وزادهم شقاء أن العمارة الإنكليزية كانت تتعقبهم في البحر والعربان يتعرضون لهم في البر والجنود العثمانية تسوقهم من وراءهم. أما هم فكانوا يخربون كل ما يمرون به من المدن والقرى. وفي 6 ذي الحجة أو 2 يونيو (حزيران) وصلوا العريش فأمر بونابرت بتحصينها تحصينا منيعا، واشتد عليهم القيظ، وكان في الماء الذي يشربونه علق يمتص الدم، فكان يعلق بحلقهم عند الشرب فيعذبهم عذابا أليما.
ثم واصلوا المسير إلى القاهرة رغم الحر والوباء حتى وصلوها، فخرج المشايخ والأعيان إلى خارج المدينة لاستقبالهم، فدخلوها ولم يصدقوا أنهم تخلصوا من حملة سوريا، ومما مروا به من الصحاري الحارة. فأخذ بونابرت في تنظيم العساكر وتطبيب الجرحى وإعادة النظام واكتساب ثقة الأهلين، ولم يكد يفعل حتى بلغه تقدم المماليك من جهة الصعيد. وسبب ذلك أن مراد بك كان في أعلى الصعيد فبلغه قدوم حملة عثمانية لإخراج الفرنساويين من مصر، فجمع إليه رجاله وسار ببعضهم على الضفة الغربية للنيل، وأرسل البعض الآخر على الضفة الشرقية للاتحاد مع إبراهيم بك القادم من جهة سوريا، فعلم بونابرت بذلك فأنفذ جندا على كل من الضفتين لمحاربة الفرقتين فالتقى جند الضفة الشرقية بفرقة إبراهيم بك وراء المقطم فشتتها وأخذ أمتعتها، والتقى جند الضفة الغربية وفيه بونابرت بمراد بك في الجيزة فانتشبت الحرب فانكسر المماليك، وتشتت شملهم فعادوت الجنود الفرنساوية ظافرة. (18) حملة عثمانية لإخراج الفرنساويين من مصر
وفي 6 محرم سنة 1214ه/15 يوليو (تموز) سنة 1799م، وردت لبونابرت رسالة من الجنرال مرمون في الإسكندرية تنبئه بمجيء الحملة العثمانية، ونزولها أبي قير في 11 الجاري؛ فانزعج بونابرت من هذا الخبر، فأمر بإعداد حملة تسير إلى الإسكندرية، وبعث إلى الحصون في رشيد ودمياط أن تكون على يقظة واستعداد.
وسبب قدوم الحملة العثمانية أن الباب العالي بعث إلى الفرنساويين مرارا يقيم الحجة على استقلالهم بأحكام مصر، ويطلب إليهم الانسحاب منها، ولم يكن الجواب إلا المماطلة، وكانت إنكلترا في الوقت عينه تستحث الباب العالي على هذه المطاليب، وأخيرا اتفقت معه أن يرسل كل منهما عمارة إلى أبي قير، حيث تتحد العمارتان وتخرجان الفرنساويين من مصر بالقوة. فسارت العمارة العثمانية تحت أميرالية باترونا بك وعليها ثمانية آلاف من الجنود البرية بقيادة مصطفى باشا سر عسكر، ومعهم حسن بك ورجاله، وسارت العمارة الإنكليزية بأميرالية السير سدني سميث المتقدم ذكره، والتقت العمارتان في أبي قير واتحدتا، فأسرع الجنرال مرمون إلى إعلام بونابرت.
فبرح بونابرت القاهرة برا ثاني يوم وصول الرسالة صباحا، فسار من الجيزة إلى الرحمانية، ومن هناك كتب إلى القاهرة كتابا يضرب به على وتر الدين، حيث يقول: «إن بين الذين قدموا للمحاربة رجالا روسيين لا يؤمنون بإله واحد، وإنما يعبدون آلهة ثلاثة.» ثم برح الرحمانية فوصل الإسكندرية في 24 محرم/23 يوليو (تموز) فلاقاه مرمون فعنفه لغفلته عن حصن أبي قير حتى احتله العثمانيون، وفي اليوم التالي استكشف استحكامات العدو، ثم سار برجاله نحو أبي قير فإذا بالجنود العثمانية تحت قيادة مصطفى باشا على مسافة ميل ونصف وراء أبي قير، ومنهم نحو ألف رجل في حصن على رابية من الرمال في اليمين بجوار الشاطئ، وجماعة آخرون في اليسار في حصن على رابية أخرى، وهاتان الرابيتان بمثابة جناحي الجيش.
فهاجم بونابرت أولا الرابية اليمنى ففر من كان فيها إلى قرية وراء قلب الجيش، فأرسل كوكبة من الفرسان لملاقاة الفارين، وفعل مثل ذلك بالرابية اليسرى، ثم هجم على قلب الجيش فتقهقرت الجنود العثمانية إلى طابية كانوا قد جعلوها وراءهم، فتشجع الفرنساويون وتعقبوا الهاربين، لكنهم لم يسيروا يسيرا حتى سمعوا دوي المدافع الإنكليزية ووزيز قنابلها فارتدوا إلى الوراء. فارتد العثمانيون عليهم وتعقبوهم حتى كادوا يظفرون بهم، لكنهم شغلوا بتقطيع رءوس القتلى فاغتنم أحد قواد الفرنساويين فرصة تغافلهم، وسار في فرقته عن اليسار قاصدا الطابية الخلفية، وسار قائد آخر من اليمين فدخلا الطابية، وقطعا على العثمانيين خط الرجوع، وأسرع أحدهما «الجنرال مورات» بنفسه للقبض على مصطفى باشا في خيمته، فأطلق عليه الباشا عيارا ناريا فلم يعبأ به وهجم عليه بسيفه، فقطع إصبعيه وأمر اثنين من رجاله فأوثقاه وأرسلاه إلى معسكر الفرنساويين. وأخذت العساكر الفرنساوية بالنهب فلم يغادروا في معسكر العثمانيين شيئا من المؤن والذخائر. وفر من بقي من العثمانيين إلى البحر في قوارب أرسلها لهم السير سدني إلا بعض الحامية في حصن أقاموه هناك، فهجم عليه الفرنساويون وبعد دفاع سبعة أيام هدموه وأسروا من كان فيه، فشاع خبر انتصار الفرنساويين في القطر المصري فعظموا في عيون الأهلين. (19) عود بونابرت إلى فرنسا
ثم ورد لبونابرت من فرنسا رسائل منبئة باضطرابهم هناك، وبثقل اليد عليهم، وفيه إلحاح كلي عليه أن يسير حالا إلى فرنسا بعد أن يجعل في مصر حامية منتظمة، فكتم الأمر ولم يكاشف به أحدا إلا الأميرال غانتوم؛ لأنه لم يرد بدا من مكاشفته لكي يعد له دارعتين تنقلانه ومعيته إلى فرنسا. ولكي لا يجعل للمصريين شبهة بمقاصده عاد إلى القاهرة بما يلزم من احتفال النصر، فوصلها في 13 صفر فخرج الأعيان لملاقاته بالموسيقى.
وبعد قليل نزل إلى الإسكندرية مظهرا التجول في الوجه البحري، فلما وصل الإسكندرية كتب إلى الجنرال كلابر - وكان على مديرية الغربية - يوليه القيادة العامة على مصر، ويبين له وجوب المحافظة على الاحتلال لئلا تأتي دولة أخرى تحتل هذا القطر بعد أن بذلوا فيه ما بذلوه من المال والرجال، ووعده بنجدة يبعث بها إليه حال وصوله إلى فرنسا، وأخبره أخيرا عن الداعي الذي حمله على هذه السرعة. وكتب كتابا آخر إلى عساكره يشجعهم على الثبات والصبر، وكتابا إلى علماء مصر ومشايخها يطلب إليهم أن يعتبروا الجنرال كلابر مكانه، جاعلا السبب في سفره أنه ذاهب لقهر من بقي من أعدائه في أوروبا؛ لأنه إن لم يفعل ذلك لا يطمئن باله على مصر، ويعدهم أنه لا يغيب عنهم أكثر من ثلاثة أشهر، وأرسل هذه الكتب معا إلى كلابر، وأوصاه أن يطلع أصحابها عليها في الوقت المناسب.
ثم بعث يستقدم الجنرال مينو إليه، فجاءه حالا وهو على أهبة السفر في 25 صفر/22 أغسطس (آب) فعهد إليه قيادة الإسكندرية ورشيد والبحيرة، وسلمه كتب كلابر وأوصاه أن يوصلها إليه حالا. ثم ركب جواده وسار مساء بمن معه إلى جهة مرابوت أو العجمي، وكان الأميرال غانتوم ودارعتاه بانتظاره هناك، وفي الساعة العاشرة من تلك الليلة نزل بمن معه إلى البحر. وفي صباح اليوم التالي ودعوا سواحل الدلتا وأقلعوا قاصدين فرنسا.
أما أهل الإسكندرية - ولا سيما الخفر خارج المدينة - فإنهم شاهدوا في ذلك الصباح غبارا عجاجا بجهة حصن العجمي، فخافوا أن تكون كتيبة من العربان قادمة على المدينة، ثم تبين لهم أنها خيول مسرجة ولا راكب عليها، فسألوا لمن هذه الخيول فقيل لهم إنها الخيول التي نقلت بونابرت ومعيته إلى البحر، وقد سافر إلى فرنسا. فانذعر القوم لتلك الأخبار، وكادوا لا يصدقونها حتى بلغهم مينو رسميا ما عهد إليه بونابرت قبل ذهابه.
ثم أرسل مينو الأوامر والكتب التي بيده إلى كلابر، فوصلته وهو في رشيد قادما لمقابلة بونابرت، فذهب إلى القاهرة وبلغ المشايخ والعلماء ما أمره به بونابرت وتلا عليهم كتابه إليهم وهؤلاء بلغوا الأهلين، وهكذا ذاع خبر بونابرت في سائر القطر. وكان كلابر بالحقيقة أولى من سائر قواد تلك الحملة بذلك المنصب؛ لأنه كان أفضلهم حزما وعقلا وهيبة وأنفة وبسالة.
شكل 2-12: الجنرال كلابر.
فقد ظهر لك مما تقدم أن الحملة الفرنساوية لم يكن القصد منها غير الاحتلال الدائم. ذلك كان قصد بونابرت، أما كلابر فلم يكن ذلك رأيه وإنما كان ينظر إلى مصر نظره إلى بلاد لا تصلح لسكنى الفرنساويين لما بينها وبين بلادهم من اختلاف الهواء والعادات والأخلاق، فضلا عن أنه لم يكن يرى إمكان استمرار الحال على ما تركها بونابرت؛ ولذلك بادر عند استلامه أزمة القيادة إلى إطلاع فرنسا على حالة مصر عند خروج بونابرت، فكتب إليها يقول:
رأي كلابر بمصر
قد سافر بونابرت إلى فرنسا في الفروكتيدور السادس بدون أن يعلن أحدا، لكنه أرسل إلي كتابا وآخر للصدر الأعظم أرسله إلى الأستانة، مع علمه أنه وصل إلى دمشق. أما أعداؤنا الآن فليسوا المماليك فقط وإنما هم ثلاث دول عظمى: الباب العالي وإنكلترا وروسيا. أما جنودنا فقد أصبحوا نصف ما كانوا يوم قدومهم إلى مصر مبعثرين في أنحاء القطر من العريش والإسكندرية إلى أسوان. أما معداتهم فغير كافية لهم؛ لأن معامل الأسلحة والبارود معطلة. ومثل ذلك الألبسة فقد أصبحت رجالنا لاحتياجهم إلى الألبسة معرضين لأوبئة البلاد. وزد على ذلك أننا خسرنا 12 مليونا من الفرنكات بسبب تضمين الضرائب غير الاعتيادية بأمر بونابرت. نعم إن المماليك تشتتوا لكنهم لم يبيدوا. هذا مراد بك ما انفك في مصر العليا في كثرة من الرجال يمكنه بهم أن يشغل قسما من جنودنا لمدة طويلة. وهذا الصدر الأعظم جاء بحملة عثمانية لمناهضتنا، وقد سار من دمشق إلى عكا. أما حصوننا واستحكاماتنا فلا تزيدنا قوة. إن حصن العريش لا يدفع مهاجما والإسكندرية أشبه بمعسكر محاط بزريبة. فأفضل ما يمكنني إجراؤه والحالة هذه مخابرة الباب العالي؛ لعلنا نصل إلى وفاق فيه خير لنا. وقد علمت الآن أن عمارة عثمانية رست أمام دمياط. (19-1) حملة أخرى لإخراج الفرنساويين
إلا أن كلابر مع ذلك لم يتقاعد عن تنظيم الأحوال واكتساب ثقة الأهلين، وجمع العوائد والمكوس لدفع مرتبات الجند، على حين أنه لم يكن ممن يريدون احتلال مصر أو استعمارها، بل كان يفضل الانسحاب منها على شروط لا يكون فيها عار على دولته، ولكن الأحوال لم تنله ما نواه؛ لأن الدولة العلية عادت إلى استخراج هذا القطر السعيد من أيدي الفرنساويين بالقوة، فأرسلت الصدر الأعظم يوسف باشا بنفسه إلى دمشق يجند جندا عظيما يسير به عن طريق البر إلى القاهرة، وجندا آخر يسير بحرا في عمارة السير سدني سميث باتفاق مع إنكلترا لمطاولة الفرنساويين من جهة البحر؛ ليسهل على حملة البر المسير في داخلية القطر. فسار جند البحر إلى دمياط ونزل في قلعة قديمة شرقي البوغاز، فأخرجتهم منها الجنود الفرنساوية.
أما الصدر الأعظم يوسف باشا فقدم يافا بحملته، ثم جعل يتخابر مع كلابر في رفاق ينتهون إليه، فانتهت المخابرة بمؤتمر عقد في العريش مؤلف من الصدر الأعظم من العثمانيين والجنرال ديزه والمسيو بوسيلك من الفرنساويين، أقر على معاهدة صلح أمضيت في 12 جمادى الآخرة سنة 1214ه/3 ديسمبر (ك1) سنة 1799م.
غير أن هذه المعاهدة لم يطل بقاؤها؛ لأن العثمانيين خرقوها بمهاجمتهم العريش في 2 رجب أو 23 ديسمبر (ك1)، وهي تحت قيادة الكولونيل كازال، وكان من البسالة على جانب عظيم، فأحب الأهلون التسليم، فأبى وأصر على الدفاع إلى آخر نسمة من حياته، ولم تكن العريش من المناعة على شيء فدخلها العثمانيون واستولوا عليها، فاتصل ذلك بالجنرال كلابر فاغتاظ جدا، وكتب إلى السير سدني يعنفه مع علمه ببراءته. (19-2) معاهدة الصلح
فعادت المخابرات وعقد مؤتمر ثان في 4 شعبان سنة 1214ه /24 يناير (ك2) سنة 1800م في العريش مؤلف من ديزه وبوسيلك من الفرنساويين واثنين من العثمانيين، وأقروا على معاهدة عرفت بمعادة العريش مقتضاها انسحاب الفرنساويين بمؤنهم وذخائرهم عن طريق رشيد والإسكندرية وأبي قير إلى فرنسا انسحابا قانونيا بكل ما لديهم.
فسر كلابر لتلك المعاهدة لاعتقاده أن انسحابه على هذه الصورة لا يمس شرف دولته. ولما شاع خبر تلك المعاهدة بمصر فرح الأهلون عموما، وكذلك الجنود الفرنساوية؛ لأنهم لم يكونوا راضين بالمقام في بلاد تخالف بلادهم إقليما وأخلاقا ومعيشة، فضلا عما كانوا يقاسونه من عصيان الأهلين وسفك الدماء. فضرب كلابر على البلاد ضريبة غير اعتيادية مقدارها ثلاثة آلاف كيس لنفقات الجيش في نقل المهمات، وصدرت الأوامر بالتأهب للرحيل. فباع الفرنساويون كل ما يصعب حمله من متاعهم، وبعث كلابر إلى الجنود المتفرقة في جهات الصعيد بالقدوم إلى مصر. واطمأن المماليك الذين كانوا قد فروا من وجه الفرنساويين، فعادوا إلى القاهرة بنسائهم وأولادهم. ثم نهض الصدر الأعظم بجيشه نحو القاهرة، حتى إذا أتى بلبيس سار علماء مصر ومشايخها بإذن من كلابر لملاقاته، وتقديم واجب العبودية لجلالة السلطان، فسر الصدر الأعظم بهم وخلع عليهم. (19-3) نقض المعاهدة
وبينما الحال كذلك ورد للجنرال كلابر كتاب من السير سدني، مآله نقض معاهدة العريش وتعريبه ملخصا:
سيدي، اعلم حضرتكم أني قد تشرفت بأوامر شاهانية تمنع عقد أية معاهدة مع الجيوش الفرنساوية التي هي تحت قيادتكم في مصر وسوريا، إلا إذا سلموا أنفسهم وسلاحهم كما يفعل أسراء الحرب مع التخلي عن كل المراكب والمؤن التي لهم في الإسكندرية.
على أن السير سدني نفسه لم يكن يرى إلا البقاء على المعاهدة، لكن دولته حملت الباب العالي على إصدار هذه الأوامر. وقد كتب السير سدني إلى دولته يظهر رأيه، ويبين أوجه الخطأ التي أتتها بذلك النقض ولم تحصل نتيجة. أما كلابر فاستشاط غضبا لذلك ولم يكن جوابه إلا الحرب، فأسرع إلى احتلال الطوابي على الروابي خارج القاهرة، وتعزيزها بما يلزم من العدة والرجال. وكان يوسف باشا قد أصبح على مقربة من القاهرة ومعه الجيوش العثمانية، فكتب إلى المشايخ والعلماء يستحثهم على إخراج الفرنساويين من بلادهم.
فعقد الجنرال كلابر مؤتمرا حربيا قال فيه: «إن الدولة العثمانية قد سهلت انسحابنا فوقف الإنكليز في طريقنا فعلينا محاربتهم.» ثم بعث إلى الصدر الأعظم بعزمه على الحرب وحشد جيشه خارج القاهرة، وكانت مقدمة الجنود العثمانية بقيادة ناصيف باشا أحد قواد الحملة معسكره في المطرية، النيل إلى يمينها والصحراء إلى يسارها، ووراء ذلك الخانقاه وفيها باقي الجيش بقيادة يوسف باشا، وعددهم نحو من أربعين ألفا أو تزيد، وانضم إليهم الإنكشارية والمماليك تحت قيادة إبراهيم بك. فالتقى كلابر بمقدمة العثمانيين فتقهقرت بعد الدفاع الحسن، وفر ناصف باشا وبعض المماليك لجهة القاهرة فقدم كلابر برجاله، فظهر له عن بعد غبار عجاج في سهل بين قريتين وهما سرياقوس إلى اليسار والمرج إلى اليمين، ثم انقشع الغبار عن الجنود العثمانية قادمة من الخانقاة لملاقاة الفرنساويين، فالتقى الفريقان وانتشبت الحرب فدافعت الجنود العثمانية دفاعا حسنا معهودا بالرجال العثمانيين، إلا أنهم اضطروا أخيرا إلى التقهقر نحو الخانقاة، فتبعهم الفرنساويون فخرجوا منها، وما زالوا حتى تجاوزوا الصالحية فوصلها كلابر، فرآها خالية فاستولى على ما كان فيها. (19-4) ثورة أهل القاهرة
أما أهل القاهرة فلما علموا بمسير كلابر إلى المطرية ثاروا على من بقي في مصر من الفرنساويين، وبعد الظهيرة أتاهم ناصيف باشا ومعه جماعة من المماليك المتقدم ذكرهم، وقالوا إنهم غلبوا الفرنساويين وجاءوا لاستلام المدينة باسم جلالة السلطان. فأمر ناصيف باشا أن يقتلوا من بقي في مصر من المسيحيين رغم كونهم من رعايا الدولة العلية. أما العساكر الفرنساويون الباقون في القاهرة فكانوا يدافعون بالأمر الممكن. وطالت المذبحة في أحياء المسيحيين من الأقباط والسوريين والإفرنج، إلى أن جاء عثمان بك أحد ضباط العثمانيين إلى ناصيف باشا قائلا: «ليس من العدالة أن تهرقوا دماء رعايا الدولة العلية؛ فإن ذلك مخالف للإرادة السنية.» وبث رجاله في المدينة لإيقاف القتل.
ثم تمكن الفرنساويون من احتلال القلعة وباقي الطوابي، ولبثوا ينتظرون ما يكون من ناصيف باشا، فهجم عليهم فأطلقوا عليه وعلى رجاله نارا أرجعتهم إلى أماكنهم حتى لم يبق منهم في الأزبكية رجل واحد، واستمر إطلاق النار على المدينة من القلعة، وباقي الطوابي إلى منتصف الليل، فوقع الرعب في قلوب الأهلين، وهم المشايخ بالفرار فأمسكتهم الرعية قهرا. وكان في بعض بيوت المدينة مدافع فأخرجها الأهلون ورتبوها على هيئة بطارية أحاطوها بطابية، وحظروا على الناس الخروج من تلك الطابية، ولم يكن عندهم قنابل، فاستخدموا عيار الموازين عوضا عنها. وبعد مضي يومين على تلك الحال أنبئ ناصيف باشا بقدوم جند فرنساوي من جهة المطرية لنجدة حامية القاهرة، فبعث إليهم سرية من الفرسان فلم ينالوا منهم مأربا فوصل الفرنساويون منادين بانتصارهم في مواقعهم مع العثمانيين. وكانت المدينة برمتها مأربا فوصل الفرنساويون منادين بانتصارهم في مواقعهم مع العثمانيين. وكانت المدينة برمتها في يد الوطنيين فعجز الفرنساويون عن الدخول إليها، ثم جاءت نجدة أخرى ولم يستطيعوا إخماد الثورة. ثم جاء الجنرال كلابر وقد كادت مؤت حيوشه في القاهرة تنفد، وخرج جميع المسيحيين من الأقباط والسوريين فارين من على السور طالبين الالتجاء إلى معسكر الفرنساويين، ثم تضايق الأهلون لقلة الماء؛ لأن الفرنساويين قطعوه عنهم.
وفي 27 شوال أو 14 أبريل (نيسان) طلب كلابر إلى سكان بولاق أن يسلموا، فأجابوا أنهم تابعون للمدينة بما يلحق بها، فأطلق عليهم قنابل لا تزال بعض آثارها باقية إلى هذه الغاية، فسقطت البيوت ودخل الفرنساويون بولاق ولم يبقوا عليها نهبا وقتلا، فلما تأتى ذلك لكلابر عرج نحو المدينة بالمدافع والحراريق، وكانت ليلة ليلاء ممطرة اختلطت فيها أصوات المدافع بقصف الرعد وشرارها بلمع البرق، وهجمت العساكر على المدينة خائضين في الأوحال يثبون من حائط إلى آخر بين البيوت التي هدمتها مدافعهم، وفي أيديهم خرق مبتلة بالزيت مشتعلة يرمونها ذات اليمين وذات اليسار لإحراق المدينة، فعلا الصياح من النساء والأطفال خوفا من النيران، حتى كانوا يلقون بأنفسهم عن الجدران والسطوح تخلصا من اللهيب.
فهم ناصيف باشا بالفرار فتتبعوه فدخل بيتا لبعض ذويه واختفى. فأمر كلابر أن ينادى في الناس: «وما النصر إلا من عند الله، وهو - سبحانه وتعالى - قد أمر الظافرين بالرفق، وعليه فإن الصاري عسكر يعفو عن أهل القاهرة وسائر البلاد المصرية عموما، ولو اتحدوا مع الأتراك فليرجع كل إلى شأنه.» فكف الناس عن القتال وهدأت الأحوال، فبعث كلابر أن تنظف الأسواق وترفع الجثث وأمر أن تنور المدينة ثلاثة أيام احتفالا بالنصر، ودعا إليه العلماء والمشايخ، وأعد لهم وليمة حافلة، وبعد يومين جمعهم في مجلسه، وأخذ يعنفهم على ما أتوه من الخيانة، فأجابه الشيخ المهدي: «إننا لم نأت خيانة، أما اتحادنا مع العثمانيين فكان بأمر منك.» وحجر كلابر على خمسة عشر شيخا لم يتركهم حتى أخذ منهم غرامة مقدارها 12 مليونا من الفرنكات، وسكنت بعد ذلك الأحوال واطمأنت القلوب.
ثم علم مراد بك بما حل بالمدينة وما كان من نصرة الفرنساويين، فأحب الانحياز إلى الجانب الأقوى، فجاء إلى ضواحي القاهرة وكتب إلى كلابر، ثم اجتمع معه وتفاوضا، فتعاهدا على الاتحاد وتهاديا هدايا فاخرة، فولاه مصر العليا مكافأة لصداقته. (20) مقتل كلابر
فاطمأن كلابر من قبيل مصر بعد اتحاده مع المماليك، وعظم في عيون الأهلين وسكن في بيت مراد بك في الجيزة، وأمر بترميم الأماكن التي هدمت بسبب تلك الثورة، وفي جملتها ديوان الجيش غربي الأزبكية في أول شارع بولاق إلى اليمين. وفي 14 يونيو (حزيران) سنة 1800م دعي كلابر إلى غداء عند أركان حربه الجنرال داماس في منزله قرب ديوان الجيش. فبعد مناولة الطعام خرج كلابر والموسيو بروتين مهندس الحملة يتمشيان في رواق (ممشى) موصل بين بيت الجنرال داماس والديوان نحو الساعة الثانية بعد الظهر. فبينما كانا يتحادثان وثب رجل من آخر الرواق عليه ثوب خلق وفي يده خنجر طعن به صدر الجنرال كلابر، فنادى الحرس وهجم بروتين على الرجل فنال منه مثلما نال من كلابر فسقط بروتين على الأرض، فتركه ذلك الشقي وعاد إلى كلابر وطعنه ثانية وثالثة حتى أجهز عليه، ثم سمع ضجة ففر إلى حديقة بالقرب من ذلك المكان، واختبأ وراء الحائط فلما أتى الخفر لم يروا إلا ذينك الرجلين يخبطان بدمهما، فحملاهما إلى البيت وأتوا لهما بالطبيب فمات كلابر حالا أما بروتين فبقي تحت المعالجة.
ونودي في المدينة بالقبض على ذلك الفاعل حيثما وجد، وكان بروتين قد أفهمهم شيئا عن ملابسه وشكله. وبعد يسير جيء برجل عليه لباس رث وأوقفوه أمام بروتين فعرفه وقال: هذا هو الجاني. ثم قرر آخرون أنهم رأوه منذ بضعة أيام يتردد بين البيوت ويختلط بخدمة الديوان.
شكل 2-13: سليمان الحلبي قاتل الجنرار كلابر.
وبعد استنطاقه بسبل مختلفة وجد أن اسمه سليمان الحلبي، التقى به أحد آغوات الإنكشارية في بيت المقدس، وكان قد ذهب الإنكشاري إليها للتفتيش عن رجل يقدم على قتل كلابر. فخاطب سليمان الحلبي بذلك، فأجاب على شرط أن ينجي أباه في حلب من ضرائب فادحة يطلبها منه والي تلك الولاية، فجاء به إلى غزة وهناك أتاه بكتب توصية من آغا غزة لعلماء الأزهر. فبرح سليمان غزة في 8 مايو فوصل القاهرة في 14، فنزل في بيت مصطفى أفندي ليلة ثم تمشى إلى بعض العلماء فأبوا مشاركته بالجناية.
أما هو فلم ينفك حتى اغتنم تلك الفرصة وفعل ما فعل، فاستدعي المشايخ المتهمون وهم ثلاثة، وبالاستفهام منهم أجابوا أنهم لم يروا الرجل ولم يعرفوه قبل تلك الساعة. ثم عين الجنرال مينو لجنة لفحص القضية فحكمت بإعدام المشايخ الثلاثة؛ لأنهم عرفوا عزم القاتل على القتل ولم يخبروا عنه. أما القاتل فحكم عليه بالإعدام على الخازوق لكنهم أوقفوا تنفيذ الحكم لبعد دفن الفقيد. فشيعوا جنازته باحترام واحتفال ولما واروه التراب جاءوا بالجانين وأعدموهم. (21) الجنرال مينو
وأقاموا على القيادة العامة بدلا من كلابر الجنرال مينو، وكان ممن يرغبون في البقاء بمصر، فأسلم ودعا نفسه عبد الله وولد له غلام دعاه سليمان. ثم ظهر من تصرفه بالأحكام أنه ليس على شيء من الهمة والدراية فسخر به الفرنساويون وكرهوه.
شكل 2-14: الجنرال مينو.
وكان ديوان القاهرة مؤلفا من طائفتي المسلمين والمسيحيين فجعله من المسلمين فقط.
وهذه أسماء المشايخ الذين تألف منهم الديوان بأمر الجنرال مينو، وهم تسعة مع من يلحقهم: الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان، والشيخ المهدي كاتب السر، والشيخ الأمير، والشيخ الصاوي وكاتبه، والشيخ موسى السرسي، والشيخ خليل البكري، والسيد علي الرشيدي نسيب ساري عسكر، والشيخ الفيومي، والقاضي الشيخ إسماعيل الزرقاوي، وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسماعيل الخشاب، والشيخ علي كاتب عربي، وقاسم أفندي كاتب إفرنجي ، وترجمان كبير القس رفائيل، وترجمان صغير إلياس فخر الشامي، والوكيل الكمثاري فوريه ويقال له مدبر سياسة الأحكام الشرعية، ومقدم وخمسة قواسة.
وأخذ مينو جانب المسلمين فعهد إليهم جباية الخراج بعد أن كانت في أيدي الأقباط. على أن ذلك كله لم يغير شيئا من كره الوطنيين لتلك الأمة الأعجمية التي جاءت لامتلاك بلادهم، ومن جملة ما جرهم إلى ذلك أنه أعلن حماية فرنسا على مصر. وأن مصر قد أصبحت مستعمرة فرنساوية. وشق ذلك على قواد الحملة فجاءوا إليه بصفة رسمية وبلغوه أن الجيش الفرنساوي غير راض عن هذه البدع، وأن الجمهورية الفرنساوية لا تقصد بحملتها على مصر ما قد صرح به هو، فلم يجبهم بشيء وإنما وعدهم أنه سينظر في ما قالوا.
وكانت إنكلترا لا تنفك عن السعي في إخراج الفرنساويين من مصر؛ صيانة لمصالحها في الهند على الخصوص. فأعدت عمارة بحرية مؤلفة من 175 مركبا وخمسة عشر ألفا من الرجال، وأرسلتها إلى مصر بقيادة السير رلف أبركرومبي فسار إليها ودخل جون أبي قير في 2 مارس (آذار) سنة 1801م، فشاهد آثار العمارة الفرنساوية التي حطمتها عمارة نلسون. وفي 7 منه نزل السير رلف المذكور في قارب لاستكشاف الشاطئ؛ ليختار محلا ينزل فيه الجيش. وفي 9 منه شرعت الجنود الإنكليزية بالنزول إلى البر، فأطلق عليهم من الرمل عدة قنابل، من طابية تحصن فيها متسلم الإسكندرية بألف وخمسمائة رجل. أما الإنكليز فلم يكترثوا بذلك بل استمروا على النزول بسرعة، والقنابل تتساقط حول قواربهم حتى امتلكوا البر ولم يلحقهم إلا ضرر يسير.
ثم شخصوا إلى الإسكندرية فلاقاهم الفرنساويون بأربعة آلاف وخمسمائة مقاتل وفيهم حامية الرحمانية. وانتشبت الحرب بين الطرفين طول ذلك النهار ولم يظهر أحد منهما. وكانت خسائر الفرنساويين خمسمائة رجل والإنكليز ألفا ومائة. ومما أعاق الإنكليز قلة فرسانهم فعسكروا بجوار الإسكندرية، وبنوا الطوابي والخنادق وحفروا آبارا لاستخراج الماء. أما القاهرة فكانت على عهدك بها لفساد سياسة مينو. وفي 4 مارس وصلته الأخبار بوصول العمارة الإنكليزية إلى أبي قير، فبدلا من الإسراع في النجدة جعل يتوهم أوهاما لا طائل تحتها. وبعد اللتيا والتي بعث فرقة إلى بلبيس وأخرى إلى دمياط وأخرى إلى أبي قير برا وأخرى في النيل. (21-1) مجيء الإنكليز إلى مصر
وفي 11 منه جاءته الأخبار باحتلال الإنكليز أبا قير وهجومهم على الإسكندرية، فارتبك في أمره فجمع إليه مشايخ الديوان، وقال إنه ذاهب إلى السواحل وقد استخلف الجنرال بيليارد مكانه، وزعم أن سبب ذهابه قدوم بعض المالطية والإيطاليين إلى أبي قير، ثم استقدم الفرقة التي أرسلها إلى بلبيس، وأمر من بقي من الجيش في مصر أن يسيروا إلى الرحمانية. فبرح مينو القاهرة في 12 منه، لكنه لم يصل الإسكندرية إلا في 19 منه، وقد تحصن الإنكليز تحصنا لا يقوى هو على مقاومته، فاستشار قواده فأشاروا عليه بالهجوم على ذلك الحصن الأيمن؛ لأنه أقوى حصونهم لكنه لم يجسر على ذلك نهارا فهجم ليلا فلم ينجح.
وفي اليوم التالي 21 مارس (آذار) أمر أن تهجم الجيوش كلها دفعة واحدة باكرا بلا ضرب النفير، وكان الإنكليز في يقظة تامة؛ ففي الساعة الثالثة بعد نصف الليل سمعوا دوي المدافع عن يسارهم، فوجهوا نيرانهم نحوها، ثم سمعوا مثلها عن يمينهم فأجابوا بمثلها، وبعد معركة كبيرة تقهقر الفرنساويون مجانبة، ففهم أبركرومبي غرضهم من ذلك فعزز ميمنة معسكره واتخذ قيادتها بنفسه، فأصيب بجرح قتال ألقاه على الصعيد، فقدم السير سدني سميث وأنهضه، وما زالت الحرب قائمة حتى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وقد قتل كثير من الضباط الفرنساويين. فأمر الجنرال مينو بالراحة فعادت رجاله وعدد قتلاهم وجرحاهم نحو ألفين، أما خسائر الإنكليز فكانت 240 قتيلا و1250 جريحا من جملتهم السير رلف أبركرومبي فنقلوه إلى إحدى الدوارع، فعاش بضعة أيام وتوفي، فتحولت قيادة العمارة إلى الجنرال هتشنسون.
وفي 25 مارس (آذار) جاءت الإنكليز نجدة عثمانية بقيادة حسين قبطان باشا. فرأى الجنرال هتشنسون أن يبعث أربعة آلاف من الجنود العثمانيين وفرقتين من الإنكليز وثمانية مدافع بقيادة الكولونل سبنسر لاحتلال رشيد. فاتصل ذلك بالجنرال مينو فأرسل أركان حربه لاستطلاع قوة تلك التجريدة، فقدرها أقل مما هي كثيرا فاستخف بها فلم ينجد رشيدا.
أما الكولونل سبنسر فما زال سائرا حتى أتى رشيدا فدخلها بسلام، ولما استقر بها بعث الطبجية بمدافعهم لضرب حصن جوليان، وفيه حامية من الفرنساويين فضيقوا عليهم حتى سلموا، فأمنوهم ثم أخرجوهم من الحصن. فاتصل ذلك بحامية الرحمانية فاستمدت الجنرال بيليارد في القاهرة، فأجاب معتذرا بعدم إمكانه الاستغناء عمن لديه من الجنود، فبعثت إلى مينو في الإسكندرية فأمدها بما استطاع. (21-2) نجدة العثمانيين للانكليز
فأصبحت الجيوش الفرنساوية بذلك أقساما متفرقة لا تقوى على دفاع: الجنرال بيليارد بالقاهرة في خمسة آلاف يتأهب لدفاع الجيوش العثمانية القادمة بطريق الصحراء بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا. وحامية الرحمانية لما بلغها سقوط رشيد خارت قواها. والجنرال مينو كان محاصرا في الإسكندرية لا يبدي حراكا، وقد ضايقه الإنكليز بقطع الجسر الفاصل بين الملاحة وبحيرة مريوط، وزد على ذلك أنهم قطعوا المياه عن الإسكندرية، فلم يبق عنده إلا مياه الصهاريج.
أما الجنود العثمانية والإنكليزية فبعد أن احتلوا رشيدا صعدوا في النيل في 8 مايو (أيار) حتى أتوا العطف فاستلموها، ثم ساروا إلى الرحمانية واستولوا عليها أيضا، ففرت الجنود الفرنساوية إلى القاهرة، وأعلموا بيليارد بما كان فأمر بعقد مجلس حربي للمفاوضة بالدفاع النهائي؛ لأن العدو تكاثر عليهم: هتشنسون من الجهة الواحدة، والصدر الأعظم يوسف باشا من الجهة الأخرى، وكان قد استولى على دمياط وسار قاصدا القاهرة في ثلاثين ألف مقاتل حتى عسكر في بلبيس في 11 مايو (أيار). أما مراد بك فبعد محالفته الفرنساويين على ما تقدم توفي، وتولى مكانه على الصعيد عثمان بك البرديسي، فلما علم هذا بقدوم العثمانيين والإنكليز نقض المحالفة.
فلما اجتمع المجلس الحربي تفاوضوا في جميع ذلك، فرأوا أن الجيوش الفرنساوية الموجودة في القاهرة - وفي جملتها حامية الرحمانية - لا تزيد على اثني عشر ألفا نصفهم جرحى ومرضى، وليس لديهم من المال إلا اليسير. فلم ير بيليارد لحل هذا المشكل إلا وجهين: إما أن يسير بما لديه من الجند في النيل لملاقاة مينو فيتكاتفان على الدفاع أو أن يسير إلى دمياط. ولم ير بدا على الحالين من إخلاء القاهرة، وكان يفضل المسير إلى دمياط لأنها تصلح للحصار إذا طال. وفيها من الحاصلات ما يقوم باحتياجات جيشه، وهو في الحالين عالم بعجزه عن مناهضة عدوه.
ثم حدثته نفسه أن يلاقي الجنود العثمانية والإنكليزية جميعا عند اقترابهم من القاهرة. فخرج في خمسة آلاف في 16 مايو (أيار) متمثلا بكلابر، وعسكر في نقاب، فوصلت إليه مقدمة جيوش يوسف باشا فلم يستطع الوقوف أمامها فعاد إلى القاهرة. (22) انسحاب الفرنساويين من مصر
وفي 23 مايو وصل هتشنسون إلى طرامة فقطع ترعة منوف، وسار بنفسه إلى معسكر يوسف باشا وفاوضه في الطريقة التي يجب اتخاذها لإتمام مشروعهم، فأقروا على طريقة. ثم عاد هتشنسون إلى طريقه وسار في رجاله على فرع النيل الغربي حتى أتى الجيزة في 30 منه، وواصل يوسف باشا سيره من الجهة الأخرى فانحصر بيليارد في القاهرة لا يستطيع حراكا، فعقد مجلسا حربيا أقر فيه على تسليم المدينة والانسحاب نحو الإسكندرية أو دمياط، فبعث إلى معسكر الإنكليز مندوبا بشأن ذلك، وبعد المخابرة تقرر أن تنسحب الجيوش الفرنساوية الموجودة في القاهرة انسحابا قانونيا بما لديهم من المهمات والأسلحة إلى فرنسا، وأن يكون ذلك على نفقة الإنكليز، وكتب بذلك معاهدة أمضيت في 25 يونيو (حزيران) سنة 1801، وتثبتت في 26 منه على أن تنفذ بعد 15 يوما.
ففي 10 يوليو (تموز)/4 ربيع أول سنة 1216ه، برح بيليارد القاهرة ومعه 13734 من العساكر والضباط قاصدين رشيدا، على أن يسافروا منها إلى فرنسا، فانذهل هتشنسون لما أوتيه من الفوز العظيم، وكاد لا يصدق به حتى 7 أغسطس (آب) عندما علم بركوب الجيوش الفرنساوية راجعين إلى بلادهم.
أما مينو فكان في الإسكندرية ومعه عشرة آلاف مقاتل، فتفاوض مع من كان باقيا لديه من القواد فأصروا على المخابرة، وفي 2 نوفمبر من تلك السنة عقدوا معاهدة الانسحاب وانسحبوا في أثناء ذلك الشهر مثل انسحاب بيليارد. وإذا أمعنت النظر رأيت هذه المعاهدة ومعاهدة العريش التي عقدت في 24 يناير (ك2) سنة 1800م شيئا واحدا، ولم تكن نتيجة ذلك التأخير إلا سفك الدماء.
وكانت الحكومة الإنكليزية قد أمرت الجنرال برد أن يقدم من الهند في 6 آلاف من الجنود الهندية المنظمة إلى مصر؛ إمدادا لأبركرومبي في البر، فجاء إلى القصير على سواحل البحر الأحمر، ومنها سار في الصحراء إلى قنا ثم نزل إلى القاهرة، فوصلها بعد التوقيع على الانسحاب فنزل إلى الإسكندرية وحضر انسحاب مينو وجماعته.
هذه هي الحملة الفرنساوية فتأمل كيف كانت نهايتها، وكيف أنها بعد قضاء ثلاث سنوات ونيف كلها حروب ومقاومات عادت بخفي حنين. وقد ذكر الجبرتي في حوادث سنة 1215ه ما أحدثه الفرنساويون من العماير وغيرها، وما غيروه أو أخربوه فليراجعها من شاء. (23) من انسحاب الفرنساويين إلى ولاية محمد علي باشا (من سنة 1216-1220ه/1801-1805م)
فبعد انسحاب الفرنساويين استلم يوسف باشا الصدر الأعظم زمام الأحكام في القاهرة باسم جلالة السلطان بمساعدة الجنرال هتشنسون، وكان حسين قبطان باشا أميرال العمارة العثمانية لا يزال في أبي قير والإسكندرية بعد سفر مينو. أما الإنكليز فلم يكن غرضهم إلا تثبيت سلطة الباب العالي والانسحاب، فجعلوا معسكرهم في مصر القديمة. وكان المماليك لا يزالون يحاولون التسلط، ولم تزل بقية منهم بقيادة اثنين من كبارهم، وهما عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي وكان معسكرهم في الجيزة. (23-1) الكيد بالمماليك ولم ينجح
فأخذ القائدان العثمانيان يوسف باشا وحسين قبطان باشا يدبران مكيدة تذهب بمن بقي من المماليك، فاتفقا على أن يدعو قبطان باشا بعض أمرائهم إلى حفلة يعدها لهم في أبي قير، وأن يهجم يوسف باشا على من بقي منهم في الجيزة فيأتيان على إهلاكهم. فبعث قبطان باشا إلى بعض أمراء المماليك يدعوهم إلى وليمة وقال إنه أعدها لهم في معسكره بأبي قير، وأن غرضه من ذلك الاجتماع المفاوضة معهم فيما يجب اتخاذه من الوسائل لإصلاح البلاد. فأجابوا دعوته وهم في ريب من مقاصده، على أنهم لم يكونوا يستطيعون رفض الدعوة خيفة أن يجعلوا للقوتين العثمانية والإنكليزية بابا للارتياب بمقاصدهم.
فلما وصلوا أبا قير رحب بهم حسين باشا ودعاهم إلى النزول معه في قاربه الخصوصي ليسيروا معا إلى القومندان الإنكليزي على إحدى الدوارع للمفاوضة معه ببعض الشئون. فركبوا حتى صاروا على مسافة من البر، فالتقوا بقارب آت من الدوارع قال من فيه إن لديهم كتبا باسم قبطان باشا ومخابرات أخرى مهمة. فوثب القبطان عند ذلك إلى القارب الآخر وأمره أن يسير، فسار وبقي المماليك وحدهم فأوجسوا خيفة ثم سمعوا إطلاق المدافع عليهم من قارب العثمانيين، فتأكدوا أنها مكيدة فحاولوا الرجوع إلى البر ولم يصلوه حتى قتل عثمان بك الطمبورجي وثلاثة آخرون وجرح عثمان بك البرديسي واثنان آخران. وفي نحو ذلك الوقت أرسل يوسف باشا في القاهرة فرقة من رجاله يهاجمون المماليك في الجيزة، فوثبوا عليهم وأحرقوا بيوتهم، فالتجأ كبارهم إلى الإنكليز فحموهم رغم إصرار يوسف باشا على طلبهم.
ثم انسحبت الجيوش الإنكليزية من مصر بأمر الأميرال كيت، وبقيت مصر يتنازعها الجنود العثمانية والمماليك. وكان يوسف باشا في القاهرة نائبا عن الباب العالي. ولم يكن بد من تولية وال عثماني يقوم بأعباء الولاية، فسعى يوسف باشا بمساعدة حسين قبطان باشا في تولية خسرو باشا كخيا حسين قبطان باشا، فكتبا بذلك إلى الأستانة، فأجاب الباب العالي طلبهما وبعث لهما الفرمان المؤذن بذلك. (23-2) ولاية خسرو باشا
فتولى خسرو باشا على مصر في 12 جمادى الأولى سنة 1216ه، ولم يكن ينقصه لاستتباب الراحة إلا إبادة من بقي من المماليك. وكانوا مع ما ألم بهم منذ قدوم الفرنساويين لا يزالون قادرين على المقاومة؛ نظرا لمعرفتهم بأحوال البلاد وأحزابها. وبعد وفاة مراد بك واعتزال إبراهيم بك عن الأعمال أصبحوا تحت قيادة عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي كما تقدم، وقد دانت لهم مصر العليا. فناهضهم خسرو باشا فلم ينجح، ولم يكن إذ ذاك في سلطة الباب العالي إلا القاهرة والإسكندرية وما بينهما.
ولم يستطع خسرو باشا تحصيل ما يقوم بدفع مرتبات العساكر، فثاروا في 2 مايو سنة 1803م، وأحاطوا بالخزندار وحبسوه في بيته. فأمر خسرو باشا أن تطلق عليهم المدافع حتى علت الضوضاء واشتد الخصام، فتوسط طاهر باشا أركان حرب خسرو باشا في صرف ذلك المشكل، فلم يوافقه خسرو على قصده واتهمه باتحاده مع العصاة. فاغتاظ طاهر باشا وأخذ جانب العصاة، وأمرهم أن يهدموا الأسوار، فخاف الباشا ولم ير إلا الفرار بحريمه وحاشيته على ضفة النيل الشرقية نحو المنصورة. ثم سار منها إلى دمياط وحاصر هناك. فاغتنم طاهر باشا تلك الفرصة وجمع إليه القضاة وأرباب الديوان، فأقروه على مصر بصفة قائمقاما مؤقتا لبينما ترد الإرادة السنية بتولية من يتولى عوضا من خسرو باشا.
ففي 25 مايو (أيار) سنة 1803م لاقى طاهر باشا من القوة العسكرية ما لاقاه خسرو باشا؛ وذلك أن اثنين من الآغوات وهما: موسى وإسماعيل تشكيا إليه من تأخر الرواتب، فانتهرهم فأغلظوا له فاشتد الخصام فجردا السيف وقطعا رأسه ورمياه من الشباك، وانتهى الخصام باحتراق القصر.
فأصبحت مصر بغير وال يدير أعمالها. وفي هذه الفرصة تأتى لذلك الرجل العظيم محمد علي باشا أرومة العائلة الخديوية إظهار ما اختص به من البسالة وعلو الهمة، وما جعله الله فيه من الفضائل التي قدر له أن يبثها في هذا القطر السعيد.
الفصل الثالث
الأسرة المحمدية العلوية (من سنة 1805 ولا
تزال)
شكل 3-1: محمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية بمصر. (1) محمد علي باشا (من سنة 1805-1848م) (1-1) صبوته وشبيبته
انظر إلى خارطة بلاد الروملي في سواحلها الجنوبية على مسافة 320 كليومترا من الأستانة غربا؛ تر قرية اسمها قواله لا يزيد عدد سكانها على الثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية في أواسط القرن الماضي رجل اسمه إبراهيم آغا كان متوليا خفارة الطرق، ولد له سبعة عشر ولدا لم يعش منهم إلا واحد. وفي سنة 1773 توفي هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسنه أربع سنوات واسمه محمد علي.
فأصبح الغلام يتيما ليس له من يعوله إلا عما اسمه طوسون آغا، وكان متسلما على قواله، فجاء به إلى بيته شفقة عليه. غير أن المنية عاجلت طوسون فقتل بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيما قاصرا وليس من ينظر إليه.
وكان لوالده صديق يعرف بجربتجي براوسطة، فشفق على الغلام وجاء به إليه وعني بتربيته مع أولاده. غير أن ذلك لم ينسه حاله من اليتم فكان يشعر بالذل وضعة النفس. ويروى عنه بعد أن ارتقى ذروة المجد، واعتلى منصة الأحكام أنه كان يحدث عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:
ولد لأبي سبعة عشر ولدا لم يعش منهم سواي، فكان يحبني كثيرا ولا تغفل عينه عن حراستي كيفما توجهت. ثم توفاه الله فأصبحت يتيما قاصرا، وأبدل عزي بذل، وكثيرا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري، وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعس بعد أن فقد والديه!» فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل. فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهمة غريبة، حتى كان يمر علي أحيانا يومان ساعيا لا آكل ولا أنام إلا شيئا يسيرا. وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرا فتركني رفاقي وحدي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، فجعلت أجاهد في الماء وسعي، تتقاذفني الأمواج وتستقبلني الصخور حتى تهشمت يداي - وكانتا لا تزالان يانعتين - وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالما، وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسما من مملكتي.
ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قواله اسمه المسيو ليون، وكان من كبار التجار محبا للفضيلة، وحالما رأى محمد علي للمرة الأولى أشفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة فكان يقدم له كثيرا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه، حتى ألفه محمد علي كثيرا. وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر، واستخدمه أفرادا منهم في مصلحة البلاد. ويقال: إنه - رحمه الله - بعث سنة 1820 إلى الموسيو ليون المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنا في ضيافته، فأجاب دعوته ولكنه مات قبل قدومه، فأسف عليه محمد علي كثيرا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
قلنا: إنه ربي في صبوته ببيت جربتجي براوسطة وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشده انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه، فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقاه إلى رتبة بلوك باشي وزوجه إحدى أزواج قرابته، وكانت مطلقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة، وعلى الخصوص في صنف التبغ؛ لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده. وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه. وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛ ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة 1801 حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا. فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة حسين قبطان باشا، وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر كما تقدم. (1-2) ارتقاؤه منصة الأحكام
وكان محمد علي في جند القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا بن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).
فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بيكباشي.
ثم تغلب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين، وجعلوا يهتمون في تأييد سلطة الباب العالي فيها.
وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون، فنزلوا الإسكندرية ريثما يقيمون في القطر المصري واليا عثمانيا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.
فأقاموا محمد خسروا باشا المتقدم ذكره، وكان في الأصل من مماليك حسين قبطان باشا، وهو الذي سعى له في هذه الولاية. فجاء القاهرة وقاص الذين كانوا فيها من محالفي الفرنساوية. وكان في يده أوامر سرية بإعدام المماليك بأي وسيلة كانت، فبعث إلى محاربتهم وكانوا في الصعيد، فتضايقوا ولم يروا وسيلة إلا الالتجاء إلى فرنسا، فكتبوا إليها يستنجدونها متعهدين بإجراء كل ما تطلبه منه؛ فلم يسعدهم الحظ بمساعدتها. (أ) محمد علي وخسرو باشا
أما الحملة التي بعثها خسرو باشا إلى الصعيد، فإنها عادت ولم تأت بفائدة، ثم حاربهم مرارا في أماكن مختلفة. وفي جملتها واقعة بعث إليها حملة من جنده، وكان محمد علي قد ترقى إلى رتبة سرششمة وصار قائدا لأربعة آلاف من الألبانيين، فأمره أن يسير في رجاله مددا لتلك الحملة، فسارت الحملة وحاربت المماليك وانكسرت قبل وصول محمد علي ورجاله. فنسب قائدها انكساره إلى تأخر محمد علي عن المجيء وأبلغ ذلك لخسرو باشا. وكان هذا حاقدا على محمد علي، فاستقبل ذلك البلاغ بالصدق وأقر على إعدامه سرا. وكتب إليه أن يوافيه في منتصف الليل للمخابرة ببعض الشئون، فأدرك محمد علي مراده ولم يجب الدعوة.
ولم ير وسيلة لنجاته من مكيدته وعدوانه إلا بالالتجاء إلى المماليك، فانحاز إليهم وأخذ في مخابرتهم سرا وجهرا، فتمكنوا بذلك التحالف من إخراج خسرو باشا من القاهرة قهرا. ففر إلى دمياط وأقاموا مكانه طاهر باشا. ولما قتل طاهر احتل محمد علي القلعة برجاله، فقام أحمد باشا والي الشرطة إذ ذاك يطلب الولاية، فأخرجه المماليك من القاهرة ذليلا، ثم اتحد الجميع وساروا لمحاربة خسرو باشا في دمياط، فأسروه وجاءوا به إلى القاهرة وحجروا عليه في القلعة.
أما الباب العالي فلما بلغه ما حصل في مصر بعث إليهم واليا اسمه علي باشا الجزائرلي، فلم يصل القاهرة إلا بعد شق الأنفس ، ولما وصلها عمد إلى الكيد بالمماليك ومحمد علي فعادت العائدة عليه. (ب) الألفي والبرديسي
وكان الألفي والبرديسي زعيما المماليك يتنازعات السلطة. وكان الألفي قد سار إلى إنكلترا يطلب مساعدتها على رفيقه للاستئثار بالسيادة. فلما عاد من سفرته اغتنم محمد علي تلك الفرصة، وأوغر صدر مناظره البرديسي عليه فنصب له مكيدة لم يقع فيها ولكنه فر إلى الصعيد. فظن البرديسي أن جو القاهرة قد خلا له، ولكن محمد علي كان له بالمرصاد فحرك الألبانيين عليه، وأوعز إليهم أن يثيروا ويطالبوا بمرتباتهم، فقاموا وهددوا البرديسي بالأذى إذا لم يدفع إليهم المتأخرات. فضرب على أهل القاهرة أموالا واستبد في تحصيلها بقساوة، فثاروا جميعا عليه فاضطر إلى مغادرة القاهرة ولم يعد يرجع إليها. وكل ذلك سنة 1804.
فلما فر الأميران لم يبق في القاهرة من رجال السلطة إلا محمد علي وقد فرغت حاجته إلى المماليك بعد أن كاد لهم كيدا وشتت شملهم، فرأى أن يستعين بالأهلين في نيل ما تتوق إليه نفسه من المطالب، فجمع إليه العلماء والمشايخ وتفاوضوا في إخلاء سبيل خسرو باشا، فأقروا على ذلك وأن يعود إلى منصبه فأعادوه ولكنه لم يمكث فيه إلا يوما واحدا، ثم أخرجوه من القاهرة إلى رشيد ومنها إلى الأستانة. وكل ذلك بمساعي محمد علي وحسن درايته وإتقان سياسته. (ج) خورشيد باشا
ثم تظاهر أن الأمور لا تستقيم في مصر إلا بتنصيب وال عثماني حر، وأشار بتنصيب خورشيد باشا وكان في الإسكندرية. فوافقه العلماء والمشايخ في ذلك على أن يكون هو نائبا عنه في الأحكام بصفة قائمقام، وبعثوا إلى الباب العالي يخبرونه بذلك، ويسترحمونه بتثبيت انتخابهم فأجيب طلبهم بفرمان مؤرخ في مارس سنة 1804 هذا نصه:
إننا كنا صفحنا ورضينا عن الأمراء المصرلية (المماليك) على موجب الشروط التي شرطناها عليهم بشفاعة علي باشا والصدر الأعظم، فخانوا العهود ونقضوا الشروط، وطغوا وبغوا وظلموا، وقتلوا الحجاج وغدروا علي باشا المولى عليهم (يريد علي باشا الجزائرلي) وقتلوه ونهبوا أمواله ومتاعه، فوجهنا عليهم العساكر في ثمانين مركبا حربية، وكذلك أحمد باشا الجزار بعساكر برية للانتقام منهم ومن العسكر الموالين لهم، فورد الخبر بقيام العساكر عليهم، ومحاربتهم لهم وقتلهم وإخراجهم، فعند ذلك رضينا6 عن العسكر لجبرهم ما وقع منهم من الخلل الأول، وصفحنا عنهم صفحا كليا وأطلقنا لهم السفر والإقامة متى شاءوا وأينما أرادوا من غير حرج عليهم، وولينا حضرة أحمد باشا خورشيد كامل الديار المصرية؛ لما علمنا فيه من حسن التدبير والسياسة ووفور العقل إلخ.
شكل 3-2: أرناءوط محمد علي.
ثم جرت بعد ذلك وقائع كثيرة بين محمد علي والمماليك في أماكن مختلفة من القطر، فأصبحوا بعد ما قاسوه من الحروب المتواترة مدة سنين على غير ما كانوا عليه من النفوذ قبلا، وأصبحت قوتهم لا تزيد عن خمسة أو ستة آلاف من الفرسان وكانت ماليتهم آخذة في الانحطاط.
وكانت العساكر مؤلفة من الألبانيين (الأرناءوط) وهؤلاء قضوا تحت قيادة محمد علي مدة طويلة وكانوا يحبونه، فشق ذلك على خورشيد باشا وصار يخاف هؤلاء الألبانيين، فاستقدم إليه جندا من الدلاة (المغاربة)، فوصلوا مصر في أول سنة 1220ه. وكان محمد علي يوم وصولهم في جهات الصعيد يحارب المماليك، فبلغه أن أحمد باشا خورشيد استقدم هؤلاء الدلاة يستعين بهم على الأرناءوط، فعاد إلى القاهرة برجاله مظهرا طلب العلوفة، ولولا ذلك لمنعه الدلاة من الدخول إليها. أما خورشيد فأوجس خيفة من قدومه فجعل يراقب حركاته. أما الدلاة فانتشروا في البلاد ينهبون ويقتلون، ويصادرون الناس ويأخذون أموالهم، فاشتكوا إلى خورشيد باشا أولا وثانيا وثالثا، وهو يعدهم بكف هؤلاء ثم يخلف ولا تزيد الأحوال إلا اضطرابا، فشق ذلك خصوصا على علماء البلاد ومشايخها، وكرهوا خورشيد باشا كرها شديدا، وصاروا يتوقعون تلخهم منه وعلم هو بذلك فلم يزدد إلا فجورا. (د) الإجماع على تولية محمد علي
وفي 2 صفر سنة 1220 ورد لمحمد علي باشا خط شريف بولاية جدة، فألبسه خورشيد باشا الفروة والقاووق المختصين بهذه الرتبة، وقد توسم قرب تخلصه منه، فخرج محمد علي باشا يريد الذهاب إلى جدة، وفي نفسه أن لا يخرج من مصر، فقامت العساكر وطالبوه بالعلوفة فقال: «هذا هو الباشا طالبوه بها.» وسار إلى منزله في الأزبكية - قرب أوتيل شبرد - وهو ينثر الذهب على الناس فازدادوا له حبا ولخورشيد باشا كرها.
وبعد ثلاثة أيام - لا ندري ما دار في أثنائها بينه وبين علماء البلاد ومشايخها - سار المشايخ والعلماء جميعا إلى محمد علي في منزله، ينادون بصوت واحد: «لا نقبل خورشيد باشا واليا علينا.» فقال: «ومن تريدون إذن؟» قالوا: «لا نريد أحدا سواك.» فامتنع أولا وجعل يرغبهم في خورشيد ويحملهم على الإذعان والسكنية، وهم لا يزدادون إلا إصرارا على طلبهم، فوافقهم فأحضروا له الكرك والقفطان وألبسوه إياهما، وبعثوا إلى خورشيد أن ينزل من القلعة فأبى فحاصروه فيها، وكتبوا إلى الباب العالي بذلك فورد الفرمان بولاية محمد علي في 11 ربيع آخر سنة 1220ه/9 يوليو (تموز) 1805، وعزل خورشد باشا فخرج هذا من القلعة بأمر من الأستانة، وغادر البلاد وفي نفسه من الغيظ على محمد علي ما ليس وراءه غاية. (ه) الألفي ومحمد علي
وكان المماليك لا يزالون منتشرين في جهات القطر يحكمون ويستبدون، وكان الألفي مقيما في الصعيد، وقد التف حوله جمهور من المماليك، وحالما علم بتولية محمد علي باشا نزل بفرسانه طالبا خلعه، وتخابر مع خورشيد باشا ليساعده في غرضه، وتعهد أنه إذا فعل ذلك يعيد الأحكام ليده، ويكون بعد ذلك خاضعا لأوامر الدولة العثمانية ضاربا بسيفها، هذا إذا كانت تخلع محمد علي باشا. وخابر من الجهة الثانية دولة إنكلترا ووعدها أنها إذا عضدت مشروعه هذا يكون مستعدا أن يسلمها أبواب القطر المصري حالا. فعلم بذلك قنصل فرنسا فعرقل مسعاه، فعكف على مصالحة محمد علي باشا على شيء يرضى به الاثنان، فحصلت المخابرات فلم يتفقا، فعاد الألفي إلى مسعاه ثانية بواسطة سفير إنكلترا في مصر، فطلب هذا إلى الباب العالي بالنيابة عن دولته إرجاع سلطة المماليك إلى البلاد، وتعهد بأمانة الألفي وخضوعه لأوامر الدولة. فقبل الباب العالي بذلك فأصدر عفوا عاما عن المماليك باسم أميرهم الكبير الألفي، فوصله في غرة ربيع آخر سنة 1221ه، وفي 14 الشهر المذكور وصل القاهرة خبر قدوم عمارة عثمانية تقل موسى باشا مرسلا من قبل الباب العالي واليا على مصر، ومعه عدة من العساكر المنظمة على النظام الجديد، وخط شريف إلى محمد علي باشا أن ينتقل إلى ولاية سلانيك، وأن يرجع المماليك المصرية إلى مراكزهم في الإمارات والأحكام. (و) سعي محمد علي وحزمه
فخاف محمد علي من حبوط المسعى، فأخذ الأمر بالحزم والحكمة فرأى أن أحزاب المشايخ والعلماء جميعها معه، وانضم إليهم بعض المماليك الذين كانوا في الأصل من الجيش الفرنساوي، وظلوا في مصر بعد سفر الحملة لعدم إمكانهم مرافقتها، واعتنقوا الديانة الإسلامية وانضموا إلى المماليك، فاستكتبهم كتابا إلى الباب العالي يطلبون فيه استبقاء محمد علي باشا، وإرجاع موسى باشا ويبينون الأسباب الموجبة لذلك. فكتبوه وأمضوه وأرسلوا منه نسخة إلى الأستانة، وأخرى إلى قبطان باشا قائد العمارة التي أتت بموسى باشا. فأجابهم القبطان أن ما قدموه من الأعذار غير مقبول ولا بد من خروج محمد علي باشا من مصر حالا. وكان لسفير فرنسا في الأستانة رغبة شديدة في بقاء محمد علي باشا على مصر لما علم من عزم الألفي على تسليم البلاد للدولة الإنكليزية، فسعى جهده مع قبطان باشا في بقاء محمد علي باشا، وعلم بعد ذلك أن المماليك لم ينفكوا منذ وجودهم في مصر عثرة في سبيل حقوق الدولة، وأنهم منقسمون فيما بينهم لا يتفقون على أمر.
فرأى طلب أهل البلاد أقرب إلى الصواب فكتب إليهم أن يعيدوا طلبهم، وأن يبعثوا الطلب مع ابن محمد علي باشا. فكتبوه وأرسلوه مع ابنه إبراهيم بك على يد قبطان باشا. وفي 5 شعبان سنة 1221 برحت العمارة العثمانية الإسكندرية، وعليها قبطان باشا وموسى باشا وإبراهيم بك.
وفي أواخر شعبان/نوفمبر (ت2) سنة 1806م، وردت الأوامر الشاهانية بتثبيت محمد علي باشا على ولاية مصر، مع الإيعاز إليه أن لا يتعرض للمماليك بعد ذلك لصدور العفو عنهم قبلا. وفي الشهر التالي مات عثمان البرديسي. وفي 19 ذي القعدة سنة 1221ه/يناير (ك2) سنة 1807م توفي محمد الألفي. وهما زعيما أحزاب المماليك، فولوا عليهم شاهين بك رئيسا، إلا أنهم مع ذلك لم تعد تقوم لهم قائمة وقد خلا الجو لمحمد علي باشا. (ى) مقاومة الإنكليز لمحمد علي
ثم إن الحكومة الإنكليزية اعتبرت تثبيت محمد علي مخلا بنفوذها ومضرا بمصالحها، فجردت حملة من ثمانية آلاف مقاتل تحت قيادة الجنرال فرازر لإرجاع سلطة المماليك، وكانوا قد تبعثروا في البلاد، فوصل الإنكليز الإسكندرية في 9 محرم سنة 1222ه/17 مارس (آذار) سنة 1807م مظهرين حماية القطر من الفرنساوية، فاستولوا على المدينة في 21 محرم، وظلوا فيها ستة أشهر لا يستطيعون انتقالا إلى ما وراءها. وكانوا قد أرسلوا فرقة منهم إلى رشيد فمزقتها سيوف الأرناءوط كل ممزق، وفي يوم الخميس 5 جمادى الآخرة سنة 1223ه استقال السلطان مصطفى، وسنه 23 سنة، فبويع السلطان محمود بن عبد الحميد (محمود الثاني).
شكل 3-3: السلطان محمود الثاني.
وفي 13 رجب سنة 1222ه/14 سبتمبر (أيلول) سنة 1807 انسحبت الجيوش الإنكليزية باتفاق صلح مع القطر، فاستتبت القوة لمحمد علي باشا، وقد رضي جلالة السلطان عنه ودخلت الإسكندرية في ولايته. ثم سعى بعضهم في المصالحة بينه وبين المماليك فتمت بقدوم شاهين بك إلى مصر بالهدايا الثمينة. فأكرمه محمد علي وبنى له قصرا نفيسا لسكناه في الجيزة. ثم تبادلوا الزيارات وكل علائق المودة، وهكذا فعل سائر المماليك. (1-3) أعماله الحربية (أ) الحملة على الوهابيين
فلما رسخت قدم محمد علي باشا في مصر أخذ في تسليم مصالح حكومته إلى من يثق بهم من ذوي قرباه؛ لأنه كان شديد المحبة لعائلته، ولا شك أن أزره اشتد بهم. ثم استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب، فأرسل السلطان محمود يعهد إلى محمد علي باشا أمر إخضاعهم وتخليص البلاد من أيديهم.
شكل 3-4: زعيم الوهابيين.
والوهابيون طائفة من المسلمين تذهب إلى إغفال الكتب الدينية الإسلامية إلا القرآن والحديث. زعيمها الأول محمد بن عبد الوهاب ولد في العيينة من إقليم العارض من نجد سنة 1106ه/1696، وكان أبوه شيخا فقيها، فربي في حجره على المذهب الحنبلي ثم انتقل لإتمام دروسه في البصرة وهم بزيارة مكة والمدينة وعاد إلى بلده. ثم تزوج في الحريملة بالعارض، وأقام فيها واشتهر بين قومه بالتقوى وصدق التدين. وأنحى عليهم باللائمة لتقاعدهم عن الفروض الدينية، وإهمالهم قواعد الدين الأساسية، وبالغ في تعنيفهم حتى تآمر بعضهم على قتله، وتربصوا له في مكمن، فأدرك غرضهم ففر إلى بلده العيينة، وأخذ يجتذب الأحزاب إليه من أهله وأبناء قبيلته بالوعظ والمراسلة والإقناع، فالتف حوله جماعة من الأنصار في بلدته وما يحيط بها من البلاد.
وجاءته امرأة عاهرة تلتمس التوبة على يده فردها أولا وثانيا. فجاءته ثالثة فاستغرب أمرها وسأل القوم إذا كانت مجنونة فقالوا: إنها في كمال عقلها لكنها شردت عن طريق التقوى وتريد الرجوع إليها. فحكم عليها بالإعدام لأن ضميرها لم يوبخها يوم ارتكبت تلك الرذائل. وعلم بهذا الحكم الجائر أمير الحسا فبعث إلى شيخ العيينة أن يقتل محمد بن عبد الوهاب أو ينفيه. فأمر بإخراجه من بلده على أن يدس له من يقتله.
وبلغ نفيه مسامع بعض أتباعه في الدرعية من إقليم العارض المذكور، وأميرهم يدعى محمد بن سعود، فتقدموا إليه أن يأذن باستقدامه إليهم، فأذن لهم بذلك، فبعثوا إلى شيخ العيينة أن يوجهه إليهم. فبعثه في خفارة فارس أسر إليه أن يقتله غيلة في أثناء الطريق. فهم الفارس أن ينفذ ذلك الأمر مرارا وهو يؤجله، واتفق أنه هم بالعمل أخيرا وهو على مقربة من الوفد الذي أرسله ابن سعود لاستقبال ذلك المنفي. ولم يكد الفارس يطعنه حتى جاء أولئك للدفاع عنه وقد كاد يقتل.
فدخل محمد بن عبد الوهاب الدرعية فأحسن ابن سعود وفادته إكراما لأتباعه، ووعد بحمايته ممن يناوئه، وأذن له في نشر تعاليمه. ففعل ونفوذه يزداد وأنصاره يتكاثرون وشهرته تتسع. فأخذ يكاتب مشايخ القبائل يدعوهم إلى نبذ الرذائل والرجوع إلى الكتاب والسنة، وأنهم إذا لم يفعلوا حمل عليهم بأهل درعية جهادا في سبيل الحق. فأذعن له كثيرون وقاومه آخرون، فمن وافقه انتقل إليه في درعية. فتزايد أنصاره فيها وفي غيرها من إقليم العارض، وأكثرهم في العيينة وحريملة ودرعية والعمارية والمنفوحة.
تعاليم الوهابية
وأساس مذهب ابن عبد الوهاب أنه لا يعرف إلا الله ولا يتوسل إلى سواه، وأهم تعاليمه: (1)
الصلاة خمس مرات في اليوم. (2)
الصوم في رمضان. (3)
الامتناع عن المسكرات. (4)
منع البغاء. (5)
منع الميسر والسحر. (6)
تفريق جزء من مائة من الأموال زكاة على الفقراء. (7)
التشديد في عقاب شهادة الزور. (8)
إبطال الربا. (9)
الحج مرة على الأقل. (10)
منع التدخين. (11)
منع الرجال من لبس الحرير أو التزين لأنه من شأن النساء. (12)
هدم المزارات وقباب الأولياء لأنها من ظواهر الوثنية وتشغل الناس عن مخاطبة الله رأسا.
هذه خلاصة تعاليم محمد بن عبد الوهاب أخذ ينشرها بالإقناع والموعظة ومحمد بن سعود ينشر معها نفوذه وسلطانه في نجد. فعارضه أهل الرياض من ذلك الإقليم بقيادة أميرهم دهيم بن دواس، وحمل برجاله على المنفوحة فعادوا خائبين. فتشدد ابن سعود وشيخه ابن عبد الوهاب وتمكنا من الثبات في الدعوة. فتزوج ابن سعود ابنة محمد بن عبد الوهاب فولدت عبد العزيز فخلف أباه عند موته سنة 1765، وكان الوهابيون قد تكاثروا وصاروا جندا كبيرا فحمل بهم على أطراف جزيرة العرب.
وكان عبد العزيز شجاعا حازما شديد البطش مع تقوى وورع، فغدره رجل من فارس بطعنة خنجر وهو يصلي فقتله سنة 1803، فخلفه ابنه سعود وكان قد تعود الحرب من صغره، فقاد بعض رجال أبيه وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره. ثم ما زال يقود الجند في الحروب حتى هدد الدولة العثمانية في الشام والعراق. وكان جميل الخلقة عاقلا حكيما، وقد قام في اعتقاد العرب أنه لا يلبث أن ينشر هذا المذهب في العالم كله فحاموا حوله. فخافت الدولة العثمانية بطشه فجندت إليه حملة بقيادة سليمان باشا فقهرها، ثم حمل بعشرين ألف مقاتل على كربلاء وفيها قبور أئمة الشيعة وصاح برجاله: «اقتلوا هؤلاء الكفار الذين يشركون بالله.» فأخذوا في هدم المزارات كلها من قبر الحسين إلى أقل الأبنية. فلم يتركوا حجرا على حجر، واستولوا على ما كان هناك من التحف والأموال، واستعانوا بها على أمورهم.
وفي السنة التالية فتحوا مكة ودخل سعود الكعبة رسميا في 27 أبريل سنة 1803 واستولى على ما فيها من التحف، وشدد في نشر تعاليمه هناك. فبطل التدخين وكف الناس عن تعاطي المسكرات وعكفوا على الصلوات. وبادر سعود فكتب إلى السلطان سليم الثالث وهو يومئذ على العرش العثماني كتابا هذا معناه:
من سعود إلى سليم: أما بعد فقد دخلت مكة في الرابع من المحرم سنة 1218ه وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقا، وثبت القاضي الذي وليته أنت طبقا للشرع الإسلامي، فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء إلى هذا البلد المقدس بالمحمل والطبول والزمور؛ فإن ذلك ليس من الدين في شيء. وعليك رحمة الله وبركاته.
ولم تمض تلك السنة حتى دخلت المدينة في حوزة الوهابيين وأجرى سعود فيها إصلاحه الديني، فهدم قبة القبر النبوي، ونزع الستائر التي كانت هناك. وأخذ في نشر سياداته على بلاد العرب، فأصبحت حدود مملكته سنة 1809 من الشمال صحراء سوريا ومن الجنوب بحر العرب ومن الشرق خليج العجم ومن الغرب البحر الأحمر، وقد استفحل أمرهم ولم ير الباب العالي بدا من تكليف بطل مصر ومحيي معالمها رحمه الله.
فأجاب محمد علي مطيعا، وجعل يجمع القوات اللازمة لتلك الحملة لكنه فكر في أمر المماليك، فخشي إذا سارت الحملة أن لا تكون البلاد في مأمن منهم، فيجمعوا كلمتهم ويعودوا إلى ما كانوا عليه من القلاقل، فعمد إلى إهلاكهم قبل مسير الحملة. لكنه في الوقت نفسه أخذ في إعداد المهمات، فجند أربعة آلاف مقاتل تحت قيادة ابنه طوسون باشا، ثم طلب إلى الباب العالي أن يبعث إلى السويس بالأخشاب لبناء المراكب اللازمة لنقل الجند ومعدات الحرب، فأرسل إليه ما طلب فابتنى ثمانية عشر مركبا وأعدها عند السويس في انتظار الحملة.
مذبحة المماليك
أما المماليك فكانوا قد يئسوا من الاستقلال بالأحكام، بعد أن رأوا ما حل بسلفائهم وما عليه محمد علي باشا من العزيمة، فكفوا عن مطامعهم واكتفوا بالتمتع بأرزاقهم وممتلكاتهم في حالة سلمية. فقطن بعضهم الصعيد وبعضهم القاهرة وتشتتوا في أنحاء القطر. وكان شاهين بك - وهو الذي تولى رئاستهم بعد وفاة الألفي - قد أذعن لمحمد علي باشا كما تقدم. فأقطعه أرضا بين الجيزة وبني سويف والفيوم فأوى إليها. وفي محرم سنة 1226ه/فبراير (شباط) سنة 1811م سار قواد الحملة من القاهرة، وعسكروا في قبة العزب في الصحراء ينتظرون سائر الحملة ومعها طوسون باشا. وتعين يوم الجمعة لوداع طوسون والاحتفال بخروجه ورجاله إلى قبة العزب، فأعلن ذلك في المدينة، ودعي كل الأعيان لحضور ذلك الاحتفال، وفي جملتهم المماليك، وطلب إليهم أن يكونوا بالملابس الرسمية.
ففي يوم الجمعة 5 صفر سنة 1226ه/أول مارس (آذار) سنة 1811م احتشد الناس إلى القلعة، وجاء شاهين بك في رجاله، فاستقبلهم الباشا في قصره بكل ترحاب. ثم قدمت لهم القهوة وغيرها، ولما تكامل الجمع وجاءت الساعة أمر محمد علي بالمسير، فسار الموكب وكل في مكانه منه جاعلين المماليك إلى الوراء يكتنفهم الفرسان والمشاة. حتى إذا اقتربوا من باب العزب من أبواب القلعة في مضيق بين هذا الباب والحوش العالي، أمر محمد علي فأغلقت الأبواب وأشار إلى الألبانيين (الأرناءوط)، فهجموا على المماليك بغتة، فانذعر أولئك وحاولوا الفرار تسلقا على الصخور، ولكنهم لم يفوزوا؛ لأن الألبانيين كانوا أكثر تعودا على تسلقها. واقتحم المشاة المماليك من ورائهم بالرصاص، فطلب هؤلاء الفرار بخيولهم من طرق أخرى، فلم يستطيعوا لصعوبة المسلم على الخيول، ولما ضويق عليهم ترجل بعضهم وفروا سعيا على أقدامهم والسيوف في أيديهم، فتداركتهم الجنود بالبنادق من الشبابيك فقتل شاهين بك أمام ديوان صلاح الدين. وحاول بعضهم الالتجاء إلى الحريم أو إلى طوسون باشا بدون فائدة. ثم نودي في المدينة أن كل من يظفر بأحد المماليك في أي محل كان يأتي به إلى كخيا بك، فكانوا يقبضون عليهم ويأتون بهم إليه أفواجا وهو يقتلهم.
شكل 3-5: أمين بك (المملوك الشارد).
وكان عدد المماليك المدعوين إلى الوليمة أربعمائة، فلم ينج منهم إلا اثنان؛ أحدهما: أحمد بك زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير، كان غائبا بناحية موش. والثاني: أمين بك، أتى القلعة متأخرا فرأى الموكب سائرا نحو باب العزب فوقف خارج الباب ينتظر خروج الموكب. ثم لما أقفلت الأبواب بغتة وسمع إطلاق النار أدرك المكيدة، فهمز جواده وطلب الصحراء قاصدا سوريا. والمتناقل على الألسنة أن أمين بك هذا كان داخل القلعة فعندما حصلت المعركة همز جواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقتل جواده وسلم هو، وقد صوروا تلك الإشاعة في الرسم (شكل
3-5 ) والأقرب للحقيقة أن هذه الإشاعة مختلقة أو مبالغ فيها. ثم نودي في الأسواق أن شاهين بك زعيم المماليك قتل فخافت الناس ثم طافت العساكر في المدينة ينهبون بيوت المماليك ويأخذون حريمهم وجواريهم وعلا الصياح.
وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة وطوسون معه، وطاف المدينة يأمر الناس بإيقاف النهب وقتل كل من حاول ذلك، ولكنه حرض على قبض من يظفرون به من المماليك في سائر أنحاء القطر، فكانوا يأتون بهم أفواجا يسوقونهم كالغنم إلى الذبح. فبلغ عدد من قتل من البكوات 23 بيكا. وفي اليوم التالي نزل طوسون باشا إلى الأسواق في فرقة من الجند لتسكين القلوب وإيقاف النهب. أما الجثث التي كانت في القلعة فاحتفروا لها حفرا جعلوا فوقها التراب وصرح محمد علي باشا بحماية نساء المماليك ولم يسمح بتزويجهن إلا إلى رجاله.
عود إلى الوهابيين
ولما خلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين، فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل. فأجابه شاكرا ووعد بالمساعدة.
أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت البحر من السويس حتى أتت ينبع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة فتملكوا ينبع وساروا منها إلى صفر، وفيها معسكر الوهابيين، وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر سعود ورجاله أولا، ثم ارتدوا على الجيوش المصرية فانهزموا وتركوا مؤنهم وذخائرهم وجمالهم وعادوا إلى ينبع. فعلم محمد علي باشا بذلك فجند جندا كبيرا مددا لابنه، فاشتد أزر طوسون وجمع إليه القوتين، وسار حتى أتى المدينة فأطلق عليها القنابل فهدم بعض السور ثم دخلها وأثخن في حاميتها حتى سلمت فكف السيف عنها. فانتشر خبر افتتاح المدينة في سائر الحجاز فخاف الوهابيون وفرح أعداؤهم ولا سيما الشريف غالب. وقد كان في جدة لا يدري ماذا يكون من أمر تلك الحملة، فلما علم بانتصارها كاد يطير من الفرح.
وأجلى الوهابيون عن مكة خوفا من أهلها، فجاءها طوسون واحتلها، وكتب إلى أبيه ففرح فرحا لا مزيد عليه لما آتاه الله من النصر على يد ابنه نصرا لم يتأت لغيره من القواد العثمانيين. وجيء إليه بقائد حامية المدينة من الوهابيين، فأرسله في خفر إلى الأستانة فقتلوه حال وصوله إليها. أما من بقي من دعاة الوهابيين فكانوا لا يزالون في أمن خارج مكة تحت قيادة كبيرهم سعود.
فلما جاء صيف سنة 1813 / سنة 1228ه علموا أن جنود طوسون لا يحتملون حر تلك البلاد، وأنهم إذا ناهضوهم إذ ذاك ربما تغلبوا عليهم، فجندوا وساروا إلى تربة شرقي مكة، فحاربوها واستولوا عليها ثم ساروا إلى المدينة وهددوها بعد أن استولوا على كل ما بين هاتين المدينتين من القرى والمدن. فاتصل الخبر بمحمد علي فلم ير بدا من ذهابه بنفسه لنصرة الجنود المصرية، وقد أصبحت مصر في مأمن من المماليك وغيرهم، فسار في جند عظيم حتى أتى جدة فنزلها في 30 شعبان سنة 1228ه/28 أغسطس (آب) سنة 1813م، فلاقاه الشيخ غالب شريف مكة ورحب به. وبعد أن أدى فروض الحج رأى أن الشريف ليس ممن يعول عليهم في الدفاع، فعمد إلى خلعه بطريقة تضمن حقن الدماء ففاز، ثم وضع يده على ممتلكاته، وبعث به وبعائلته إلى القاهرة، ومنها إلى سالونيك فعاش فيها أربع سنوات ومات.
أما الوهابيون فمات قائدهم سعود في درعية في 26 ربيع آخر سنة 1229ه/17 أبريل (نيسان) سنة 1814م، فانحطت سطوتهم فأقاموا عليهم ابنه عبد الله، ولم يكن كفؤا فحصلت بينه وبين الجنود المصرية مناوشات كثيرة لم تأت بنتيجة. وفي 28 محرم سنة 1230ه/10 يناير (ك2) سنة 1815م حصلت معركة كبيرة بين جنود محمد علي والوهابيين تحت قيادة فيصل أخي عبد الله، شفت عن انتصار المصريين. فتقدم طوسون إلى نجد إلا أنه اضطر أخيرا إلى التوقف لقلة المؤن وهو لم يبلغ درعية.
ثم اقتضت الأحوال عود محمد علي إلى مصر، فعاد وقد فتح طريق الحرمين ولكنه لم يبد جميع الوهابيين. فوصل القاهرة في 4 رجب سنة 1230ه، فاهتم بتدريب الجند على نظام جند أوروبا، وهو أول من فعل ذلك في مصر فأصدر أمرا عاليا في شعبان سنة 1230ه مؤداه أن الجنود المصرية ستدرب على النظام الحديث وهو النظام الفرنساوي، فعظم على الجهادية ولا سيما الأرناءوط الامتثال إلى هذه الأوامر، فرأى أن يدخل هذا النظام أولا بين الجنود الوطنية؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من هؤلاء الألبانيين، ومن كان من شاكلتهم، وسنعود إلى ذلك.
وفي أثناء ذلك عاد طوسون باشا من الحجاز، فخرج الناس لملاقاته بالاحتفال والإكرام، ثم نزل الإسكندرية حيث كان أبوه مقيما فوجد امرأته قد وضعت في أثناء غيابه غلاما دعته عباسا. وبعد يسير أصيب طوسون بألم شديد في رأسه وحمى لم يعش بعدها إلا قليلا، واختلفت الروايات في أسباب موته وكيفيته ومكانه، ولكنهم اتفقوا أن موته كان شديد الوطأة على أبيه. ونقلت جثة طوسون باشا إلى القاهرة، ودفنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.
وبعد قليل عاد محمد علي إلى روعه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين؛ خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأن يتأهب متى قدم للمسير إلى الأستانة. فأجابه يعتذر عن الشخوص وقال: «إن تلك الأموال قد تفرقت على عهد أبيه.» وأرسل له هدايا فاخرة فأرجع إليه محمد علي تلك الهدايا وأوسعه تهديدا. ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم باشا، وكان باسلا مقداما وقائدا مجربا لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة صارمة.
وفي 10 شوال سنة 1231ه سار إبراهيم باشا بحملته من القاهرة في النيل إلى قنا، ومنها في الصحراء إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرا إلى ينبع ثم إلى المدينة، وتربص هناك بجميع قواته يستعد لهجوم شديد امتثالا لمشورة أبيه. فالتف حوله عصبة جديدة من القبائل المتحابة، ولما تكاملت قواته أقام الحرب سجالا، وما زال بين هجوم ودفاع حتى فاز، وقبض على زعيم الوهابيين عبد الله فأوصله إلى أبيه، فوصل القاهرة في 18 محرم سنة 1233ه فأذن له بالمثول بين يدي الباشا وتقبيل يديه، فرحب به كثيرا لأنه كان يعجب بشجاعة الوهابيين، ثم سأله ما ظنه بإبراهيم فأجابه قائلا: «إنه قد قام بما عليه ونحن قمنا بما علينا وهكذا أراد الله.» وفي 20 محرم أرسل إلى الأستانة وطافوا به في أسواقها ثلاثة أيام ثم قتلوه. وخلع السلطان على إبراهيم باشا خلعة شرف مكافأة له وسماه واليا على مكة. فاتصلت هذه الأخبار بدرعية فخاف أهلها فهدموا المدينة وفروا من وجه الموت، فاحتلتها الجنود الظافرة وانتهى أمر الوهابيين. أما محمد علي باشا فإنه نال من إنعام السلطان لقب خان مكافأة لإخلاصه وبسالته، وهو لقب لم يمنح لأحد من وزراء الدولة إلا حاكم القرم.
شكل 3-6: إبراهيم باشا بلباسه العسكري. (ب) فتح السودان
ولما انتهى هذا الرجل الخطير من حروبه في بلاد العرب، فكر في فتح السودان على أمل أن يلاقي فيها الكنوز الثمينة من مناجم الذهب بجوار البحر الأزرق، ناهيك بما هنالك من المحصولات والواردات العجيبة من الصمغ والريش والعاج والرقيق وغير ذلك. فجند خمسة آلاف من الجند النظامي وبعض العربان وثمانية مدافع، وجعل الجميع تحت قيادة إسماعيل باشا أحد أولاده. فسارت الحملة من القاهرة في شعبان عام 1235ه/يونيو (حزيران) 1820م في النيل، فقطعت الشلال الأول فالثاني فالثالث حتى السادس، فأتت شندي والمتمة وقد أخضعت كل ما مرت به من القرى والبلدان بدون مقاومة. ومن شندي سارت إلى سنار على البحر الأزرق وراء الخرطوم.
ولم يكن من القبائل التي يعتد بها هناك إلا الشائقية فقاوموا قليلا ثم سلموا، ودخلت سنار وكوردوفان في أمراك مصر. فسار إسماعيل باشا في جنوده إلى فزغل، وهناك ظن نفسه اكتشف معادن الذهب. ثم فشا في رجاله الوباء فمات منهم كثيرون وأتته نجدة من ثلاثة آلاف رجل بقيادة صهره أحمد بك الدفتردار، فاشتد أزره فأقام صهره هذا على كردوفان وسار في جيش إلى المتمة على البر الغربي من النيل، ثم عدى إلى شندي في البر الشرقي لجباية المال وجمع الرجال. فاستدعى إليه ملكها واسمه النمر وقال له: «أريد منك أن تأتي إلي قبل خمسة أيام بملء قاربي هذا من الذهب، وألفين من العساكر.» فجعل ذلك الملك يستعطف إسماعيل باشا ليتنازل عن ذلك القدر، فقبل منه أخيرا عوضا عن الذهب مبلغ عشرين ألف ريال من الفضة.
فأجابه إلى ما أراد ولكنه لم يكن يستطيع جمعها في تلك المدة، فطلب إليه تطويل الأجل، فضربه إسماعيل بالشبق (الغليون) على وجهه قائلا: «لا، إن كنت لا تدفع المال فورا ليس لك غير الخازوق جزاء.» فسكت الملك النمر وقد أضمر له الشر وصمم على الانتقام، فطيب خاطره ووعده بإتمام ما يريد. وفي تلك الليلة جعل يرسل التبن الجاف أحمالا إلى معسكر إسماعيل علفا للجمال، ولكنه أقامه حول المعسكر كأنه يريد إشعاله. وفي المساء أتى إلى إسماعيل في سرب من الأهلين ينفخون بالمزمار ويرقصون رقصة خاصة بهم. فطرب إسماعيل وضباطه لذلك، ثم أخذ عدد المتفرجين من الوطنيين يتزايد شيئا فشيئا حتى أصبح كل أهل المدينة هناك. فلما تكامل العدد أمرهم ملكهم بالهجوم فجهموا بغتة على إسماعيل ورجاله، ثم داروا بالنيران على التبن فأشعلوه فمات إسماعيل باشا وكثيرون ممن كانوا معه بين قتل وحرق. وفي اليوم التالي أتموا على الباقين وساقوا سلبهم إلى المدينة.
فاتصل الخبر بأحمد بك الدفتردار فاشتعل غيظا، وأقسم أنه لا يقبل أقل من عشرين ألف رأس انتقاما لإسماعيل، فنزل بجشيه القليل حتى أنفذ قسمه فقتل ذلك العدد من الرجال متفننا في طرق قتلهم على أساليب مختلفة. فهدأت الأحوال بعد ذلك وهكذا تم افتتاح السودان. وما زال أحمد بك الدفتردار على حكومة سنار وكردوفان إلى عام 1240ه/عام 1824م ثم أبدل برستم بك. (ج ) حرب المورا
وفي عام 1239ه أرسل محمد علي باشا بأمر الباب العالي حملة مصرية تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا لمحاربة المورا في بلاد اليونان، فسار وحارب، وأظهرت العمارة المصرية في تلك الحروب شجاعة الأبطال، ولولا اتحاد الدول مثنى وثلاث على الجنود العثمانية والمصرية، لما قامت لليونان قائمة في تلك الحرب، ولكننا نقول إن إبراهيم باشا عاد عود الظافرين بعد أن بذل في سبيل ذلك عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف مقاتل. (د) فتح سوريا
ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا لافتتاح عكا لأسباب ترجع إلى مطامع محمد علي في توسيع مملكته وإنشاء دولة مستقلة. وأما البواعث الظاهرة لتلك الحملة، فهي أن الأمير بشيرا الشهابي الكبير أمير لبنان جاء مصر سنة 1821 يلتمس من محمد علي التوسط لدى الباب العالي في العفو عن عبد الله باشا والي عكا؛ لأن الدولة كانت تحب محمد علي باشا وتعد خاطره على أثر ما أوتيه من النصر في حرب الوهابيين بعد أن تعبت هي في قهرهم.
وكان محمد علي باشا إذ ذاك في شاغل من أمر الحرب في المورا، وكانت الدولة قد بعثت إليه أن يجند جندا لمحاربتها، فلما جاءه الأمير بشير مستنجدا طيب خاطره ووعده بالمساعدة، وكتب إلى الباب العالي بذلك وأسكن الأمير في بني سويف ريثما يرد الجواب، وشدد في طلب العفو تشديدا كبيرا؛ لأنه كان راغبا في امتلاك قلب الأمير ولسانه؛ ليكون له عونا في ما نواه من فتح الشام.
ولبث الأمير في مصر حتى وردت الأوامر بالعفو عن عبد الله باشا فحملها شاكرا، بعد أن تداول مع محمد علي باشا سرا بشئون كثيرة تعود إلى مقاصد الباشا في بر الشام. وسار الأمير من مصر إلى عكا بكل إكرام مصحوبا بسلاحدار الباشا حاملا الفرمان بالعفو، فوصلوا عكا فسر عبد الله باشا بفوزه. ولكن الجنود العثمانية في الشام طلبت النفقات المعينة في مثل هذا الصلح، ولم يكن عند عبد الله باشا نقود، وكان الأمير قد جاء بنحو نصف القدر اللازم من محمد علي، فضرب عبد الله باشا الباقي على المقاطعات وأخذ بعضها من الأمير.
وجرت حوادث كثيرة انتهت بالتباعد بين الأمير وعبد الله باشا. وكان محمد علي لما جاءه الأمير بشير بواسطة العفو عن عبد الله باشا أسر إليه عزمه على فتح الشام، وطلب نصرته فوعده سرا ولبث ينتظر فرصة أو حجة. وكان يظن أن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه، ولكنه رأى من عبد الله باشا اعوجاجا عن غرضه. والغالب أن عبد الله كان طامعا بمثل مطامع محمد علي، فلما علم بما نواه هذا صار يحاذره.
شكل 3-7: الأمير بشير الشهابي الكبير.
وأدرك محمد علي ذلك فعزم على اختباره والتعويل على تنفيذ مقاصده بالقوة، فبعث إلى الأمير بشير أن يبعث إليه بجانب من الأخشاب التي يحتاج إليها في بناء المراكب. فباشر الأمير إجابة طلبه فمنعه عبد الله باشا، فشق ذلك على محمد علي واعتبره بظاهر الأمر مخالفا لأوامر الدولة العثمانية؛ لأن تلك المراكب إنما هي للحكومة السنية، فجرد لمقاصته حملة بقيادة ولده إبراهيم باشا.
جرد محمد علي باشا عام 1247ه/1831م حملة في البر والبحر، فأرسل البيادة والطبجية عن طريق العريش برا، وسار إبراهيم باشا في رجاله بحرا. أما حملة البر فاستولت على غزة ويافا بغير شديد مقاومة. ثم وصل إبراهيم باشا إلى يافا وسار في جيشه إلى عكا فوصلها في 21 جمادى الأولى سنة 1247ه، فحاصرها برا وبحرا إلى 26 ذي القعدة منها فهجم عليها هجمة نهائية شفت عن تسليمها. ثم سار قاصدا دمشق فأخضعها ولم تدافع إلا يسيرا، وبرحها إلى حمص حيث كانت تنتظره الجنود العثمانية تحت قيادة محمد باشا والي طرابلس، فوصلها في 8 يوليو (تموز) سنة 1832م، وبعد الأخذ والرد استولى إبراهيم باشا على حمص، فخافت سوريا سطوة هذا القائد العظيم فسلمت له حلب وغيرها من مدن سوريا. فتغير وجه المسألة باعتبار الباب العالي فبعث حسين باشا السر عسكر بجيش عثماني لإيقاف إبراهيم باشا عند حده، فجاء وعسكر في إسكندرونة فلاقاه إبراهيم باشا وحاربه وانتصر عليه، ولم يعد يلقى بعد ذلك مقاومة تستحق الذكر . ثم تقدم في آسيا الصغرى تاركا طورس وراءه، وكان الباب العالي قد أرسل رشيد باشا في جيش لملاقاته ، فجند إبراهيم باشا جندا كبيرا من البلاد التي افتتحها، وسار نحو الأستانة لملاقاة رشيد باشا، فالتقى الجيشان في ديسمبر (ك1) سنة 1832م في قونية جنوبي آسيا الصغرى، فتقهقر رشيد باشا برجاله، واخترق إبراهيم أسيا الصغرى حتى هدد الأستانة.
فتوسطت الدول وفي مقدمتهن الدولة الروسية، فأنفذت إلى مصر البرنس مورافيف لمخاطبة محمد علي باشا بذلك وتهديده، فبعث إلى إبراهيم باشا أن يتوقف عن المسير. ثم عقدت بمساعي الدول معاهدة من مقتضاها أن تكون سوريا قسما من مملكة مصر وإبراهيم باشا حاكما عليها وجابيا لخراج أدنه. وقد تم ذلك الوفاق في 24 ذي القعدة سنة 1248 / 14 مايو (أيار) سنة 1833م، وهو المدعو وفاق كوتاهيا. فعاد إبراهيم باشا إلى سوريا، واهتم بتدبير أحكامها وجعل مقامه أولا في أنطاكية، وابتنى فيها قصرا وقشلاقات وولى إسماعيل بك على حلب وأحمد منكلي باشا على أدنه وطرسوس، أما الإجراءات العسكرية فلم يكن يسوغ لأحد سواه أن يتولاها.
وكان إبراهيم باشا سائرا بالأحكام بكل دراية وحكمة خشية سوء العقبى، إلا أنه مع ذلك لم ينج من ثورة ظهرت في ضواحي السلط والكرك في أواخر سنة 1249ه (منتصف عام 1834م)، وامتدت إلى أورشليم وبعد الأخذ والرد اضطر إبراهيم باشا إلى المحاصرة في أورشليم؛ لأنها ذات أسوار منيعة ثم امتدت الثورة إلى السامرة وجبال نابلس.
وفي 16 يونيو (حزيران) منها هجم المسلمون على صفد، وفيها جماهير من اليهود فهدموا منازلهم وقتلوا رجالهم وفتكوا بنسائهم، وأصبحت تلك المدينة في حوزتهم، ثم أجروا مثل هذه التعديات على المسيحيين في الناصرة وبيت لحم وأورشليم، ولكنهم لم يتمكنوا مما تمكنوه بصفد. ويقال بالجملة إن سوريا أصبحت بسبب ذلك شعلة ثوروية، فاتصل الخبر بمحمد علي باشا فبرح الإسكندرية إلى يافا، فتقرب منه وجهاء البلاد وسراتها، ثم عمدت الجيوش المصرية إلى قمع الثائرين، فتشتت العصاة إلا النابلسيين فإنهم قاوموا طويلا لكنهم أذعنوا أخيرا. ثم هاجم المصريون السلط والكرك وهدموهما. وبعد قليل عادت الثورة إلى جبال النصيرية ، فاعترض أهلها فرقة من الجند كانت سائرة من اللاذقية إلى حلب وأعادوها إلى حيث أتت. فأرسل المصريون سبعة آلاف مقاتل اتحدوا بثمانية آلاف من الدروز والمارونيين بقيادة الأمير خليل بن الأمير بشير أمير لبنان، وسار الجميع إلى النصيرية وأخضعوهم. ثم سعى إبراهيم باشا في تجريد السوريين من السلاح خوفا من عودهم إلى الثورة، ففعل لكنه لم يستطع تجريد اللبنانيين. وكان الأمير بشير وإبراهيم باشا على وفاق تام كأنهما خلقا ليتحدا.
وبعد أن أتم إبراهيم باشا جمع سلاح السوريين بمساعدة الأمير بشير هجم برجاله على أهالي الشوف والمتن من لبنان، وجمعوا ما استطاعوا من الأسلحة، وحملوا كل ما جمعوه منها إلى عكا، وكانوا يصطنعون منها نعالا لخيولهم. فاستتبت الراحة في سوريا وأذعنت البلاد. إلا أن محمد علي باشا لم يقف عند هذا الحد فأحب استخدامها لتوسيع دائرة حكمه، فجعل يجمع منها الرجال والخيل بطرق قهرية فغضب الباب العالي فعقد مجلسا في يناير سنة 1839 للنظر في مقاصد المصريين، فأقر المجلس على تجريد حملة من ثمانين ألف مقاتل منهم خمسة وعشرون ألفا من الباشبوزق طبقا لإرادة السلطان محمود، وأن تسير تحت قيادة حافظ باشا لمحاربة المصريين.
وكان محمد علي باشا قد سار إلى السودان تاركا القاهرة بقيادة حفيده عباس باشا. فلما عاد علم بإعدادات الباب العالي فانذعر لها فكتب إلى ابنه يستحثه، فأخذ إبراهيم في الاستعداد للدفاع فحشد جيوشه في حلب لدفع الجنود العثمانية القادمة برا. ثم علم أن معظم الأهلين راغبون في دولتهم الأصلية ومستعدون للتسليم، وعلى الخصوص الدروز تحت قيادة شبلي العريان أحد أبطالهم المعدودين. فحصلت مواقع شديدة بين الجيوش العثمانية والجيوش المصرية في تزيب انتهت بانهزام الأولى إلى مرعش. وكان السلطان محمود قد أرسل عمارة بحرية لمحاربة المصريين، فجاءت الإسكندرية فأصابها ما أصاب الحملة البرية، ولكنه توفي قبل بلوغه خبر تلك الوقائع فخلفه السلطان عبد المجيد سنة 1839.
شكل 3-8: نقود السلطان محمود الثاني.
ثم توالت الحوادث إلى 15 يوليو (تموز) سنة 1840م، فانعقدت معاهدة لندرا تقضي باعتبار محمد علي باشا من تابعي الدولة العثمانية. إلا أن ذلك لم يكن ليوقفه عن مقاصده ولديه إذ ذاك نحو 146 ألفا من الجنود النظامية و22 ألفا من الباشبوزق منها 130 تحت قيادة ابنه إبراهيم في سوريا، والباقون متفرقون في الحجاز وسنار وكريد ومصر. ولكنه علم بعد ذلك أن هذه القوات قليلة في جانب ما يلزمه لإتمام مشروعه، فجعل يضم إليها تلامذة المدارس حتى استخدم المرضى والجرحى. ثم عمد إلى إنشاء خفر وطني احتياطا، ولكنه لم ينجح به كل النجاح، على أنه مع ذلك لما عرضت عليه معاهدة لندرا لم يصادق عليها، فعرض عليه أن يأخذ ولاية عكا ترضية له ويضمها إلى مصر وينسحب من سوريا فرفض أيضا. (ه) خروج إبراهيم باشا من سوريا
وبعد ذلك بيسير جاءت الجيوش الإنكليزية إلى صيدا وفر إبراهيم إلى الجبل. وكان الكومودور نابيه قد سار في عمارة بحرية إنكليزية لمحاصرة بيروت، وكانت تحت قيادة سليمان باشا الفرنساوي وقد حصنها تحصينا منيعا ومعه فرقتان من الجند. ولكن لسوء الحظ جاءته الأنباء أن إبراهيم قتل وتشتت رجاله، فخاف سليمان ورأى أن لا بد له من تأكيد حقيقة ذلك الخبر، حتى إذا تحقق موت إبراهيم يضم إليه ما بقي من الجيوش للمدافعة، فبرح بيروت بعد أن جعل عليها صادق بك أحد أميرالايات الفرقتين. أما هذا فلما رأى نفسه منفردا في بيروت خاف وترك المدينة وفر، فاستولى عليها الإنكليز، ثم اتصل به من سليمان أن إبراهيم باشا لا يزال حيا، ويأمره بالثبات أمام العدو ريثما يحضر. فخاف صادق بك الوقوع في شر أعماله فانضم إلى الإنكليز هو ورجاله. ثم سار نابيه من بيروت إلى عكا وحاصرها، ففر إسماعيل بك ومن فيها من الرجال وسلمت المدينة.
ثم سار نابيه إلى الإسكندرية بست سفن وعرض على محمد علي باشا الصلح فقبل، وعقدوا معاهدة وقع عليها الطرفان، ولما أرادوا تثبيتها مانعت الدول في ذلك وبقيت الأمور على حالها حتى دارت المخابرات بين الباب العالي ومحمد علي باشا، فأراد السلطان إرضاء محمد علي فأعطاه أن تكون ولاية مصر وراثية لنسله بشرط أن يكون لجلالة السلطان الحق المطلق أن يختار من عائلة محمد علي من يريد لتوليتها. فتردد محمد علي في بادئ الرأي. ثم أمر جيوشه أن تنسحب من سوريا وكان عددها عند ذهابها إليها مائة وثلاثين ألفا، فلم يرجع منها إلا خمسون ألفا وقد أخذ التعب منهم مأخذا عظيما، فلم ير بدا من قبول أنعام السلطان. فبعث إلى الباب العالي بذلك فأرسل إليه خطا شريفا بتاريخ 13 فبراير سنة 1841م بتثبيته على مصر مع حقوق الوراثة لأعقابه، وأن يكون لجلالة السلطان أن يختار منهم من يريد لهذا المنصب هذا نصه:
فرمان ولاية محمد علي على مصر
رأينا بسرور ما عرضتموه من البراهين على خضوعكم، وتأكيد أمانتكم وصدق عبوديتكم لذاتنا الشاهانية ولمصلحة بابنا العالي. فطول اختباركم وما لكم من الدراية بأحوال البلاد المسلمة إدارتها لكم من مدة مديدة لا يتركان لنا ريبا بأنكم قادرون بما تبدونه من الغيرة والحكمة في إدارة شئون ولايتكم على الحصول من لدنا الشاهاني على حقوق جديدة من تعطفاتنا الملوكية وثقتنا بكم. فتقدرون في الوقت نفسه إحساناتنا إليكم قدرها، وتجتهدون ببث هذه المزايا التي امتزتم بها في أولادكم. وبمناسبة ذلك صممنا على تثبيتكم في الحكومة المصرية المبينة حدودها في الخريطة المرسومة لكم من لدن صدرنا الأعظم، ومنحناكم فضلا عن ذلك ولاية مصر بطريق التوارث بالشروط الآتي بيانها: متى خلا منصب الولاية المصرية تعهد الولاية إلى من تنتخبه سدتنا الملوكية من أولادكم الذكور، وتجري هذه الطريقة نفسها بحق أولاده وهلم جرا. وإذا انقرضت ذريتكم الذكور لا يكون لأولاد نساء عائلتكم الذكور حق أيا كان في الولاية وإرثها. ومن وقع عليه من أولادكم الانتخاب لولاية مصر بالإرث بعدكم يجب عليه الحضور إلى الأستانة لتقليده الولاية المذكورة. على أن حق التوارث الممنوح لوالي مصر لا يمنحه رتبة ولا لقبا أعلى من رتبة سائر الوزراء ولقبهم، ولا حقا في التقدم عليهم، بل يعامل بذات معاملة زملائه. وجميع أحكام خطنا الشريف الهمايوني الصادر عن كلخانة وكافة القوانين الإدارية الجاري العمل بها أو تلك التي سيجرى العمل بموجبها في ممالكنا العثمانية، وجميع العهود المعقودة أو التي ستعقد في مستقبل الأيام بين الباب العالي والدول المتحابة يتبع الإجراء على مقتضاها جميعها في ولاية مصر أيضا. وكل ما هو مفروض على المصريين من الأموال والضرائب يجري تحصيله باسمنا الملوكي. ولكيلا يكون أهالي مصر وهم من بعض رعايا بابنا العالي معرضين للمضار والأموال والضرائب غير القانونية، يجب أن تنظم تلك الأموال والضرائب المذكورة بما يوافق حالة ترتيبها في سائر المماليك العثمانية وربع الإيرادات الناتجة من الرسوم الجمركية، ومن باقي الضرائب التي تتحصل في الديار المصرية يتحصل بتمامه ولا يخصم منه شيء، ويؤدى إلى خزينة بابنا العالي العامرة والثلاث الأرباع الباقية تبقى لولايتكم لتقوم بنفقات التحصيل والإدارة المدنية والجهادية، وبنفقات الوالي وبأثمان الغلال الملزمة مصر بتقديمها سنويا إلى البلاد المقدسة مكة والمدينة. ويبقى هذا الخراج مستمرا دفعه من الحكومة المصرية بطريقة تأديته المشروحة مدة خمس سنوات، تبتدي من عام 1257ه - أي من يوم 12 فبراير سنة 1841 - ومن الممكن ترتيب حالة أخرى بشأنهم في مستقبل الأيام تكون أكثر موافقة لحالة مصر المستقبلة ونوع الظروف التي ربما تجد عليها. ولما كان من واجبات بابنا العالي الوقوف على مقدار الإيرادات السنوية، والطرق المستعملة في تحصيل العشور وباقي الضرائب، وكان الوقوف على هذه الأحوال يستلزم تعيين لجنة مراقبة وملاحظة في تلك الولاية، فينظر في ذلك فيما بعد ويجري ما يوافق إرادتنا السلطانية. ولما كان من اللزوم أن يعين بابنا العالي ترتيبا لسك النقود لما في ذلك من الأهمية، بحيث لا يعود يحدث فيها خلاف لا من جهة العيار ولا من جهة القيمة، اقتضت إرادتي السنية أن تكون النقود الذهبية والفضية الجائز لحكومة مصر، ضربها باسمنا الشاهاني معادلة للنقود المضروبة في ضربخاناتنا العامرة بالأستانة، سواء كان من قبيل عيارها أو من قبيل هيئتها وطرزها.
ويكفي أن يكون لمصر في أوقات السلم ثمانية عشر ألف نفر من الجند للمحافظة في داخلية مصر، ولا يجوز أن تتعدى ولايتكم هذا العدد. ولكن حيث إن قوات مصر العسكرية معدة لخدمة الباب العالي كسائر قوات المملكة العثمانية، فيسوغ أن يزاد هذا العدد في زمن الحرب بما يرى موافقا في ذلك الحين. على أنه بحسب القاعدة الجديدة المتبعة في كافة ممالكنا بشأن الخدمة العسكرية، بعد أن تخدم الجند مدة خمس سنوات يستبدلون بسواهم من العساكر الجديدة. فهذه القاعدة يجب اتباعها أيضا في مصر بحيث ينتخب من العساكر الجديدة الموجودة في الخدمة حالا عشرون ألف رجل ليبتدئوا الخدمة، فيحفظ منها ثمانية عشر ألفا في مصر، وترسل الألفان لها لأداء مدة خدمتهم. وحيث إن خمس العشرين ألف رجل واجب استبدالهم سنويا، فيؤخذ سنويا من مصر أربعة آلاف رجل حسب القاعدة المقررة من نظام العسكرية، حيث سحب القرعة بشرط أن تستعمل في ذلك مواجب الإنسانية والنزاهة والسرعة اللازمة، فيبقى في مصر ثلاثة آلاف وستمائة من الجنود الجديدة والأربعمائة يرسلون إلى هنا، ومن أتم مدة خدمته من الجنود المرسلة إلى هذا الطرف ومن الجنود الباقية في مصر يرجعون إلى مساكنهم، ولا يسوغ طلبهم للخدمة مرة ثانية. ومع كون مناخ مصر ربما يستلزم أقمشة خلاف الأقمشة المستعملة لملبوسات العساكر، فلا بأس من ذلك فقط يجب أن لا تختلف هيئة الملابس والعلامات التمييزية ورايات الجنود المصرية عن مثلها من ملابس ورايات باقي الجنود العثمانية. وكذا ملابس الضابطات وعلامات امتيازهم، وملابس الملاحين وعساكر البحرية المصرية ورايات سفنها، يجب أن تكون مماثلة لملابس ورايات وعلامات رجالنا وسفننا. وللحكومة المصرية أن تعين ضباطا برية وبحرية حتى رتبة الملازم، أما ما كان أعلى من هذه الرتبة فالتعيين إليها راجع لإرادتنا الشاهانية. ولا يسوغ لوالي مصر أن ينشئ من الآن فصاعدا سفنا حربية إلا بإذننا الخصوصي. وحيث إن الامتياز المعطى بوراثة ولاية مصر خاضع للشروط الموضحة أعلاه، ففي عدم تنفيذ أحد هذه الشروط موجب لإبطال هذا الامتياز وإلغائه للحال. وبناء على ذلك قد أصدرنا خطنا هذا الشريف الملوكي؛ كي تقدروا أنتم وأولادكم قدر إحساننا الشاهاني فتعتنوا كل الاعتناء بإتمام الشروط المقررة فيه، وتحملوا أهالي مصر من كل فعل إكراهي، وتكفلوا أمنيتهم وسعادتهم مع التحذر من مخالفة أوامرنا الملوكية، وإخبار بابنا العالي عن كل المسائل المهمة المتعلقة بالبلاد المعهودة ولايتها لكم. ا.ه.
فرمان ولايته على السودان
ثم صدر فرمان آخر يثبت ولايته على النوبة ودارفور وكردوفان وسنار هذا نصه:
إن سدتنا الملوكية كما توضح في فرماننا السلطاني السابق قد ثبتتكم على ولاية مصر بطريق التوارث بشروط معلومة وحدود معينة. وقد قلدتكم فضلا عن ولاية مصر ولاية مقاطعات النوبة والدارفور وكوردوفان وجميع توابعها وملحقاتها الخارجة عن حدود مصر، ولكن بغير حق التوارث. فبقوة الاختبار والحكمة التي امتزتم بهما تقومون بإدارة هاته المقاطعات وترتيب شئونها بما يوافق عدالتنا، وتوفير الأسباب الآيلة لسعادة الأهلين وترسلون في كل سنة قائمة إلى بابنا العالي حاوية بيان الإيرادات السنوية جميعها. وحيث إنه يحدث من وقت لآخر أن تهجم الجنود على قرايا المقاطعات المذكورة، فيأسرون الفتيان من ذكور وإناث، ويبقونهم في قبضة يديهم لقاء رواتبهم، وحيث إن هذه الأمور مما تفضي معها الحال ليس فقط لانقراض أهالي تلك البلاد وخرابها، بل إنها أمور مخالفة للشريعة الحقة المقدسة، وكلا هاتين الحالتين ليست أقل فظاعة من أمر آخر كثير الوقوع وهو تشويه الرجال ليقوموا بحراسة الحريم، ذلك مما ليس ينطبق على إرادتنا السنية مع مناقضته كل المناقضة لمبادئ العدل والإنسانية المنتشرة من يوم جلوسنا المأنوس على عرش السلطنة السنية. فعليكم مداركة هذه الأمور بما ينبغي من الاعتناء لمنع حدوثها في المستقبل، ولا يبرح عن بالكم أن فيما عدا بعض أشخاص توجهوا إلى مصر على أسطولنا الملوكي قد عفوت عن جميع الضابطات والعساكر، وسائر المأمورين الموجودين في مصر. نعم بموجب فرماننا السلطاني السابق أن تسمية الضابطان المصرية لما فوق رتبة المعاون تستلزم العرض عنها لأعتابنا الملوكية إلا أنه لا بأس من إرسال بيان بأسماء من رقيتم من ضباط جنودكم إلى بابنا العالي؛ كي ترسل لهم الفرمانات المؤذنة بتثبيتهم في رتبهم، هذا ما نطقت به إرادتنا السامية، فعليكم الإسراع في الإجراء على مقتضاها. ا.ه.
فأصبحت حكومته بعد ذينك الفرمانين محصورة في مصر والسودان. وبمقتضى ذلك تنازل محمد علي باشا عن عشرة آلاف من جنود سوريا، فلم يبق عنده إلا ثمانية عشر ألفا بين مشاة وفرسان وغيرهم. فاضطر إذ ذاك إلى الاقتصاد لإصلاح مالية البلاد، فأوقف كثيرا من المدارس العمومية التي كان قد خصص مبالغ معلومة للنفقة، ومن ضمنها مدرسة شبرا الزراعية وأبدل الأساتذة الأوروباويين لما بقي من المدارس بأساتذة أتراك أو وطنيين، وسار من ذلك الحين في خطة الإصلاح قانعا بما قسم له من البلدان فعمل على إرضاء جلالة السلطان، فأنفذ إلى جلالته ابنه سعيد باشا لتقديم فروض العبودية. (1-4) أواخر أيامه
ثم أصيب إبراهيم باشا بانحراف في صحته، فسار إلى أوروبا لقضاء فصل الصيف سنة 1845 فأصاب ترحابا عظيما في سائر الممالك الأوروبية ولا سيما في فرنسا وإنكلترا، وعاد إلى مصر في أواخر صيف عام 1846م وكان والده قد توجه قبل وصوله بيسير إلى الأستانة بدعوة رسمية ليقدم عبوديته لجلالة السلطان فوصلها في 19 يوليو (تموز) عام 1846م، ونزل في سراي رضا باشا، ثم تشرف بالمثول بين يدي جلالة السلطان فرحب به. ولما أراد تقبيل الأعتاب الشاهانية أمسكه جلالته وأجلسه بجانبه ومكثا ساعة يتحادثان. ثم انصرف شاكرا وزار عدوه القديم خسرو باشا وتصافيا. وفي 17 أغسطس من تلك السنة برح الأستانة قاصدا قواله مسقط رأسه فأقام فيها عدة أبنية لتعليم الفقراء وإعانة الضعفاء والمساكين، ثم برحها إلى الإسكندرية فقوبل بالأنوار وسار منها إلى القاهرة، فتقاطر إليه المهنئون من الأصدقاء أفواجا، فكان يستقبلهم وعلى صدره الطغراء الشاهانية تتلألأ كالشمس.
وفي منتصف عام 1848 توعك مزاج محمد علي باشا، وازدادت فيه ظواهر الخرف فلم يعد ثم بد من تولية إبراهيم باشا، فتوجه هذا إلى إلى الأستانة في أغسطس من تلك السنة؛ لأجل تثبيته على ولاية مصر خلفا لأبيه، فثبته السلطان بنفسه فعاد لمعاطاة الأحكام. ثم راجعه العياء واشتد عليه بغتة، ففارق هذا العالم في 10 نوفمبر عام 1848م، وبعد وفاته بإحدى عشرة ساعة دفن في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي بالقاهرة.
وكان عباس باشا غائبا في مكة فاستقدم حالا لاستلام زمام الأحكام، فوصل القاهرة في 24 ديسبمر بعد أن قضى فروض الحج، ولم يكن ثم اعتراض على توليته فجاء الفرمان الشاهاني من الأستانة مؤذنا بذلك فتولى الأمور.
كل ذلك ومحمد علي باشا في الإسكندرية، وقد أخذ منه المرض مأخذا عظيما، وما زال يهزل جسدا وعقلا إلى 2 أغسطس عام 1849م، فتوفي ولم يستغرب الناس وفاته؛ لأنه مكث في حالة النزاع مدة طويلة. وفي 3 منه تقاطر الناس من الأعيان والقناصل إلى سراي رأس التين في الإسكندرية لحضور مشهد ذلك الرجل العظيم. فإذا هو في قاعة الاستقبال في تابوت تغطيه شيلان الكشمير، وعلى صدره سيفه والقرآن الكريم، وعلى رأسه طربوشه الجهادي أحمر تونسي، وحوله العلماء في الملابس الرسمية يتلون القرآن بأنغام التجويد. وكان سعيد باشا أكبر من وجد في الإسكندرية من عائلة الفقيد، فكانت توجه نحوه خطابات التعزية. ونقلت جثة الفقيد ودفنت في جامعه في القلعة ولا تزال هناك إلى الآن. (1-5) إصلاحاته
استولى محمد علي على مصر وهي في معظم الخراب والفساد سياسيا وتجاريا وزراعيا وأدبيا، فأخذ على نفسه إصلاح شئونها وبذل في ذلك من الجهد والعناية ما ليس وراءه غاية، وقد فاز بما أراد فأحيا الديار المصرية وأنعشها وأنماها من سائر الوجوه حتى أصبحت تجاري ممالك أوروبا؛ ولذلك لقبه كتاب عصره بموجد الديار المصرية يريدون أنه أوجدها من العدم، وهذه أهم إصلاحاته: (أ) الإصلاح الإداري
وأول شيء باشره من الإصلاح مسح الأرضين والانتفاع بزرعها وتوزيعها. وتفصيل ذلك أن الديار المصرية كانت منقسمة من حيث ملكها إلى قسمين؛ أحدهما: الأرضون التي كاد يكون لواضع اليد عليها الحق في ملكها ملكا مطلقا، وكانت معفاة من الضرائب. والقسم الثاني: التي لم يكن لزارعها إلا حق التمتع بريعها، وهي الأرض التي كان عليها الضريبة الخراجية. أما نفس العقار في هذين القسمين فكان ملك بيت المال أو الحكومة أو السلطان.
هذا كان شأن الأرضين المصرية قبل الفتح العثماني وبعده إلى القرن السابع عشر، حينما استأثر الأمراء المماليك بالقوة والسلطة، واختل نظام الأرضين، وصار الناس يهاجرون، فأهملت الأشغال العمومية، وقل ريع الأرض فأصبحت الحكومة في عجز كلي عن استحصال النقود فالتجأت إلى تلزيم الخراج؛ وذلك أن الحكام كانوا يضمنون خراج النواحي والبلاد لأناس، وكان ذلك الضمان أو الالتزام يقرر إما بالمزايدة أو بالاتفاق بين الملتزم من جهة والرزنامة بالنيابة عن الحكومة من جهة أخرى. حتى إذا تم الأمر أعطت الرزنامة للملتزم تقسيطا؛ أي عقد تلزيم يصدق عليه شيخ البلد وهو كبير أمراء المماليك.
فإذا دفع الملتزم الضريبة يعطى له حق التصرف في تحصيل المال الذي عجله، وعلى فوائده التي كان يقرر سعرها هو بنفسه كما يريد. وكانت الحكومة تتعهد بمساعدته في التحصيل، وتجعل له في مقابل ما ينفقه ويكابده في ذلك التحصيل بقاعا غير التي التزمها معفاة من كل ضريبة تعرف بالأواسي. أما الفلاحون فلم يكونوا يملكون أرضا قط، على أن الملتزمين أنفسهم كانت تنزع منهم الالتزامات إذا تصدى لهم من كان أكثر صولة منهم وأشد بطشا. ولا يخفى ما كان ينجم عن هذا التصرف من الاختلال وضياع الحقوق والأتعاب.
فلما استقام الأمر لمحمد علي باشا أمر بمسح كل أرض مصر المزروعة، ثم قسمها إلى مديريات والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواح، وعين فيها من يقوم بإدارة أمورها وآخرين لجباية الضرائب، وأبطل الالتزامات جملة ووزع أرض كل ناحية بين أهل تلك الناحية نفسها بحيث يصيب كل فلاح قادر على الشغل جانبا من الأرض بقدر جانب الآخر، فبلغ نصيب كل فلاح ثلاثة أفدنة وبعضهم أربعة أو خمسة، وجعل لمشايخ البلاد جانبا من الأرض أعفاه من الضريبة في مقابل نفقات ضيافة جباة الأموال الأميرية الذين كانوا يمرون في بلادهم، وما كانت الحكومة تكلفهم به من المهام، ودعا تلك العطايا مسموح المشايخ، أو مسموح المبسطة، وهي تقابل الأواسي المتقدم ذكرها.
ثم رأى - رحمه الله - أن الفلاح لا يستطيع من نفسه أمرا يكفل إخراجه مما هو فيه من الضيق الذي تراكم عليه بمرور الأجيال، وكان قد انتهى من أعماله الحربية ولم يعد ثم حاجة إلى بقاء ضباط الجهادية منقطعين إلى وظائفهم العسكرية مع رواتبهم جارية عليهم في حالة السلم، وأن ليس من التدبير والحكمة أن يتناولوا معيناتهم وهم عطل من الأعمال. ورأى من الجهة الثانية أن الفلاح يحتاج إلى مرشد يهديه إلى الطرق اللازمة لاستقامة أمره، ووازع يدفعه إلى النهوض بواجباته. وعلم أيضا أن المرء مهما كان صادقا في خدمة الحكومة يشتغل لنفسه أكثر مما يشتغل لغيره، فارتأى أن يعهد بأمر البلاد من حيث الزراعة إلى أولئك الضباط، ففوض إليهم تعميرها وإصلاحها بأنفسهم، ولم يحرم الفلاح مع ذلك من ثمرة أتعابه، بل جعل لهذه الطريقة التي اعتمدها أصولا وقوانين تقضي بأن لا تعطى الأطيان للمتعهد ما دامت رائجة ومقتدرة على أداء ما عليها من الأموال في أوقاتها. أما الأطيان غير الرائجة فتحال إلى عهدته باختيار أربابها وهو يتعهد بأداء المال المطلوب للحكومة، وبهذه الواسطة نشطت الزراعة وتحسنت تحسنا عظيما، وما زالت تلك الأرضين في يد المتعهدين إلى أيام المغفور له عباس باشا وهو الذي استردها.
مساحة الأرض الزراعية في أيامه
كانت الأرض الزراعية في عهد المماليك لا تزيد على مليون فدان وبعض المليون، فلما تولى محمد علي مسحها سنة 1813 وأعطاها إلى الفلاحين كما تقدم، وأخذت مساحة ما يزرع منها يزداد حتى بلغت سنة 1821 نحو مليوني فدان متفرقة في المديريات على هذه الصورة، نقلا عن فيلكس منجن في كتابه المنشور سنة 1823:
محافظة
فدان
منوف
194150
غربية
225960
البحيرة
100792
الشرقية
161204
المنصورة (الدقهلية)
155860
القليوبية
80000
الجيزة
85900
الفيوم
70200
الأطفيحية
55000
بني سويف
166460
المنيا
148340
أسيوط
178584
جرجا
190400
إسنا
143990
الجملة
1956840
ثم أخذت مساحة الأرض الزراعية تتسع تدريجا بالأسباب التي اتخذها محمد علي من تحريض الناس على الزراعة وتسهيل الري، حتى بلغ ما احتفره من الترع نحو أربعين ترعة بين كبيرة وصغيرة مجموع مكعبها جميعا 104366667 مترا مكعبا، ناهيك بما بذله من العناية في إنشاء الجسور والقناطر والسدود وغيرها. فلا عجب إذا بلغت مساحة الأطيان المزروعة التي كانت تأخذ عليها الحكومة الأموال حوالي سنة 1840 ضعفي ما كانت عليه قبل بضع عشرة سنة، وإليك تفصيل ذلك عن كتاب الدكتور كلوت بك:
محافظة
فدان
منوف
300000
الغربية
450000
البحيرة
245000
الشرقية
360000
المنصورة
320000
القليوبية
290000
الجيزة
254000
الفيوم
124000
بني مزار
148200
بني سويف
139400
المنيا
152800
الفشن
161000
أسيوط وجرجا وإسنا
846826
الجملة
3791226
وبمقابلة مساحة أطيان كل مديرية على حدة بين ما كانت عليه سنة 1821، وما صارت إليه سنة 1840 يتضح لك مقدار ذلك النجاح.
ومن أعماله الإدارية إنشاء الدواوين ومنها ديوان المعاونة، وفائدته النظر في ما يعرض من الدواوين الأخرى والمديريات وسائر الجهات. ثم الديوان الخديوي، وكان يقوم بإشغال ديواني الداخلية والخارجية والضابطة. ثم ديوان الأشغال وديوان المبيعات وديوان الفردة، ثم أنشأ بعد ذلك ديوان الخارجية خاصة وديوان العسكرية، ثم الخزانة المالية وما يتعلق بها وديوان الأوقاف وديوان المعامل وديوان التفتيش والحقانية والترسخانة والأبنية وديوان المدارس. وجميع ذلك أو معظمه عهد بإدارة أعماله إلى مديرين ورؤساء من أبناء هذا القطر، وكلها ترجع بأحاكمها إلى ديوان المعاونة.
ثم أنشأ مجالس للقضاء وما يقتضي لها من القوانين والأحكام، ورتب البريد يحمل على يد السعاة برا وبالسفن بحرا. وأنشأ ما يقوم مقام التلغراف الآن من الإشارات بواسطة أبنية مرتفعة ممتدة على خط واحد بين المدن الكبيرة بين البناء والآخر مسافة تكفي لفهم الإشارة لا يزال بعضها منها قائما أثرا لهمة ذلك الرجل.
وأنشأ لتأييد السلم وتوطيد الأمن فرقة الضابطة، وفرقهم في أنحاء البلاد فأمن الناس غائلات السبل ولا سيما الأوروبيون فإنهم كانوا يقاسون في أثناء تجوالهم في القطر إهانات ومشاق جسيمة، فأصبحت السبل في مأمن وتسهلت الصلات التجارية على الخصوص بين إنكلترا والهند على طريق البحر الأحمر، فاستعاضوا بها عن طريق رأي الرجاء الصالح في أمور كثيرة. (ب) الإصلاح الزراعي
ولم تقف إصلاحاته عند هذا الحد، ولكنه رأى خصب التربة المصرية وإمكان استخدامها لغير أنواع المزروعات المعروفة بمصر، فجاء إليها بالقطن البذار (التقاوي) الأميركي، وجاء بنبات النيلة من جهات الهند وبنبات الأفيون من آسيا الصغرى. وجاء بغير ذلك من أنواع المغروسات المفيدة، وجاء بأناس عالمين بكيفية زراعتها واستغلالها. وأكثر من غرس الحدائق والأشجار في القاهرة وضواحيها تلطيفا لحرارة الهواء واستزادة للغيث، من جملة ذلك مغارس الليمون في شبرا، والحدائق في الروضة وحديقة الأزبكية، فقد كان في مكانها قبل أيامه بركة كبيرة يتصل إليها الماء من النيل أيام فيضانه، وكان الناس يأتون إليها في المواسم والأعياد في قوارب عليها الأنوار وسائر الزخارف، فاحتفر محمد علي حولها ترعة ينصرف إليها الماء فظهرت أرض البركة، فجعل حول هذه الترعة صفوفا من الأشجار تحيط ببقعة كلها غرس طيب. أما الحديقة التي نراها الآن فهي من آثار الخديوي الأسبق إسماعيل باشا.
شكل 3-9: القناطر الخيرية.
شكل 3-10: لينان باشا مهندس القناطر الخيرية.
ومن آثاره الزراعية السدود التي أقامها في أبي قير وترعة الفرعونية وأشتوم الديبة وأشتوم الجميل وغيرها. وأنشأ كثيرا من الجسور والترع ونظر في تطهيرها، وأنشأ الترع الصيفية لإنماء الزراعة الصيفية، وأبدل الخول بالمهندسين في أعمال الري، وبعث كثيرا من أبناء البلاد إلى أوروبا لدرس فن الزراعة وإتقانه؛ ليخدموا بلادهم به.
ومن مشروعاته الخطيرة من هذا القبيل القناطر الخيرية القائمة عند رأس الدلتا، والسبب في بنائها أنه رأى النيل لما يصل إلى رأس الدلتا ينفصل إلى فرعين هما فرعا رشيد ودمياط أو الفرع الغربي والشرقي، ورأى أن الغربي أكبرهما ويمر في بقاع معظمها لا يصلح للزراعة، فيذهب كثير من مائه هدرا، والشرقي يخترق أرضين واسعة الأرجاء حسنة التربة، فإذا كانت أيام التحاريق لا يبقى من مائه ما يكفي للري، فأراد اتخاذ وسيلة ينتفع بها بما يزيد من ماء الفرع الغربي بإضافته إلى الشرقي. ورأى الصعيد في زمن التحاريق يشح فيه الماء لارتفاع أرضه، وقد لا يرتوي جيدا إلا في زمن الفيضان فأقر على بناء القناطر على عرض الفرعين عند أول تفرعهما عند رأس الدلتا، وأن يجعل لهذه القناطر أبوابا من الحديد تغلق وتفتح عند الاقتضاء، فإذا أقفل قناطر هذا الفرع انصرف جانب من الماء المنحدر إليه إلى الفرع الآخر، فيستطيع صرف المياه كيف شاء، وإذا كان الفيضان قليلا يقفل قناطر الفرعين جملة، فيرتفع الماء في الصعيد فيروي أرضيه، ثم لا ينصرف منه إلا ما يلزم لري الوجه البحري فإذا كانت أيام التحاريق تفتح القناطر، فتفيض المياه والأرض في حاجة إليها.
فباشر هذا العمل الخطير ولم يضع الحجر الأول منه إلا عام 1251ه/1835م، ولم ينثن عن عزمه حتى أتم بناءه بدراية لينان بك المهندس الفرنساوي. غير أن ذلك المشروع لم يأت بالفائدة المطلوبة تماما بما يتعلق بارتفاع الماء في الصعيد، ولكن الحكومة جعلت همها في السنين الأخيرة إصلاح ما هو فاسد منها وسد ما فيه من الخلل. (ج) الإصلاح العسكري
كانت القوة العسكرية في مصر لما تولاها محمد علي أخلاطا من الألبانيين (الأرناءوط) والدلاة (المغاربة) والإنكشارية، ومن جرى مجراهم ونظامهم الحربي النظام القديم الذي كان متبعا في الأزمنة السالفة عند الدولة العلية قبل القرن الماضي. فرأى - رحمه الله - أن يدربهم على النظام الفرنساوي الذي اتبعه بونابرت في غزواته وأخذته عنه دول أوروبا. فحاول ذلك مرارا فعظم على رجاله ولا سيما الأرناءوط وعصوا أوامره فيه؛ لأنهم اعتبروا ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ولما ألح عليهم ثاروا وتجمهروا إلى القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى من الدراية والحزم أن يعاملهم بالحسنى، فأجابهم إلى ما أرادوا، وأخذ يدخل ذلك النظام رويدا رويدا بالحيلة، فانتخب فتيانا كان قد قبض عليهم في جملة ما قبضه من أموال المماليك الذين ذبحهم، وكان قد جعل أولئك الفتيان من حراسه واستبقى صغارهم في القلعة يتربون فيها على جاري العادة من تربية الغلمان المماليك في ذلك العهد استعدادا للخدمة العسكرية أو غيرها. فكانوا يحفظونهم القرآن ويعلمونهم الخط واللغة التركية والرياضة البدنية.
فلما عزم على تنظيم الجند انتخب أكبر أولئك المماليك، وأرسلهم إلى الصعيد يتعلمون النظام العسكري الحديث على أساتذة من الإفرنج. وعلم أن هؤلاء التلاميذ لا يلبثون أن يصيروا جندا فتفرغ أماكنهم من تلك المدرسة، فأنشأ في قصر العيني بمصر القديمة سنة 1825 مدرسة إعدادية سماها المدرسة التجهيزية الحربية، أدخل فيها نحو 500 غلام بعضهم من صغار المماليك، والبعض الآخر من أبناء الأتراك والأكراد والألبانيين والأرمن واليونان وغيرهم ممن كانوا في خدمته وليس فيهم وطني. فكانوا يعلمونهم القرآن والنحو وآداب اللغة التركية والفارسية والعربية. وأما لغة التعليم فهي التركية. ونظرا لأنهم ينوون إدخالهم المدرسة الحربية فكانوا يعلمونهم مبادئ الحساب والهندسة والجبر والرسم واللغة الإيطالية؛ لأن أكثر أساتذة المدرسة الحربية كانوا يومئذ من الإيطاليين.
واستبطأ محمد علي ثمار هذه المدرسة لرغبته في سرعة تنظيم الجند، فأوفد جماعة من أولئك المماليك إلى ليفورن وميلان وفلورنسا ورومية لدرس الحركات العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة وغيرها من الفنون الحربية. أشار عليه بذلك الأساتذة الإيطاليان. ثم أرسل غلمانا آخرين إلى إنكلترا لدرس الميكانيكيات، وسلك الأبحر، ونواميس السائلات. ولما تحقق فوزه بتنظيم الجند أحس بحاجته إلى مدرسة طبية تخرج الأطباء لمعالجة الجند، فأنشأها سنة 1825 واختار تلامذتها من الوطنيين أبناء الأرياف أو تلامذة الأزهر خلافا للمدرستين التجهيزية والحربية وسيأتي ذكرها.
وتعجيلا لثمار سعيه في إعداد الجند المنظم وأطبائه أوفد سنة 1826 أربعين من تلامذة المدرستين التجهيزية والطبية إلى فرنسا لإتقان الفنون الحربية والطب والإدارة الملكية والعسكرية، وغير ذلك مما يحتاج إليه في إدارة حكومته، ويفتقر فيه إلى استخدام الإفرنج؛ لاقتصار الوطنيين إلى ذلك الحين على درس العلوم الأزهرية، وهي يومئذ قاصرة على العلوم الدينية واللسانية. وأنشأ مدرسة للطبجية وجعل في القاهرة معامل لسكب المدافع، واصطناع سائر حاجيات الجند.
والفضل في تدريب الجند على النظام الجديد راجع لقائد من قواد الفرنساويين اسمه الجنرال «سيف»، ولكنه أسلم ودعا نفسه سليمان باشا، وقد خدم الحكومة المصرية خدمات صادقة في حروبها ببر الشام وغيرها.
شكل 3-11: سليمان باشا الفرنساوي.
وأصله من ليون في فرنسا، ولد سنة 1787، وسمي يوسف سيف، وكان أبوه متوسط الحال يتعاطى الصناعة، فلما بلغ يوسف أشده أراد والده أن يستعين به في أعماله، ولكن الغلام كان يشعر بأنه أرفع من ذلك المكان فضلا عن ميله الفطري إلى التنقل، فلم يستطع المواظبة، فشق ذلك على أبيه فتوعده إذا لم يثابر على العمل بأن يدخله في سلك الملاحة عقابا له، فكان ذلك موجبا لسروره، فأدخله في مهنة البحرية سنة 1799، وهو لم يتم السنة الثالثة عشرة من عمره، فأعجبه جوب البحار وركوب الأخطار في سفن كانت إلى ذلك العهد تسير بلا بخار. حتى كانت حروب ترافلغار سنة 1805 بين الأسطول الإنكليزي بقيادة الأميرال نلسون الشهير والأساطيل المتحدة لدول فرنسا وإسبانيا تحت قيادة الأميرال فيلينوف وأميرالين إسبانيين. وكان الفوز للإنكليز، لكن صاحب الترجمة أظهر على صغر سنه أعمالا تدل على استعداده للشئون الحربية. وكان المنتظر أن ينال في مقابل ذلك مكافأة تستحق الذكر، فاتفق أنه تخاصم وأحد رؤسائه، وكان سيف عنيفا خشنا فجرتهما المعاتبة إلى المضاربة فبدا الضابط فضرب سيف ضربة جرحته، فلم يستطع صبرا على ذلك فهم بالضابط وما زال يضربه حتى قيل: كفى! فقبض عليه فحوكم فحكم عليه بالإعدام وهو حكم عسكري لا مرد له.
ولكن العناية سخرت له رجلا من الأشراف اسمه الكونت بول دي سيغور يقال إن سيف كان قد أنقذه من الموت مرة فذكر له هذا الجميل، فلما علم بالحكم عليه توسط في أمره، فأنقذه وأرسله إلى الجيش الفرنساوي الذي كان إذ ذاك في إيطاليا.
ولما شبت الحرب بين فرنسا والنمسا كان سيف في جملة الأسرى عند النمساويين، وبقي مغتربا عامين حتى إذا كانت حملة نابوليون الشهيرة على روسيا سنة 1802، فكان سيف في جملة جندها، وأظهر في أثناء وقائعها الهائلة بسالة أوجبت التفات نابوليون الخصوصي، حتى أراد أن يقلده نشان اللجيون دونور فدعاه إليه بهذا الشأن، فآنس منه استخفافا فحنق عليه وحرمه من ذلك الشرف. على أنه ما لبث أن رقي في الرتب العسكرية حتى بلغ رتبة كولونيل (أميرالاي) بعد رجوع تلك الحملة السيئة الحظ.
ثم كانت الوقائع المشهورة التي قضت على رجل فرنسا (نابليون) بالأسر والنفي، فقضي على الكولونيل سيف بالخروج من الجندية والانقطاع إلى التجارة التماسا للتعيش، ولكن أنى للجندي المحارب أن يساوم امرأة أو غلاما على مبيع سلعة فيبح صوته قبل إتمام المبايعة! وخصوصا صاحب الترجمة؛ فقد كان قليل الصبر على مثل ذلك، فأنفت نفسه التجارة ولم يفلح فيها. وسمع في أثناء ذلك أن شاه العجم في حاجة إلى ضباط حاذقين في تدريب الجند، فكتب إلى صديقه الكونت دي سيغور المتقدم ذكره يلتمس كتاب توصية منه إلى الشاه ، فنصح له الكونت أن يتوجه إلى محمد علي باشا بمصر.
فجاء مصر سنة 1819 ومعه كتاب توصية فأحسن محمد علي باشا مقابلته، وكلفه بالبحث في جهات السودان عن معادن فحم الحجر، ولكنه لم يعثر على شيء منه فعاد إلى القاهرة واتفق وصوله إليها يوم الاحتفال بغلبة الجنود المصرية على الوهابية.
وكان محمد علي قد شاهد الجنود الفرنساوية بمصر وأعجبه نظامها، وكانت الجنود المصرية عبارة عن فرق أو وجاقات وفيهم الأرناءوط والإنكشارية والمغاربة ونحوهم، ولكل من هذه الفرق قائد فإذا نزلوا ساحة الوغى ركب كل جواده، واستل حسامه أو بندقيته أو رمحه وهجم على ما يتراءى له.
ففاوض محمد علي الكولونيل سيف في تنظيم الجند فرغبه فيه، فعهد إليه تأليف الجند على هذه الصورة وتدريبه على الحركات العسكرية. وقد حارب سليمان باشا تحت علم الحكومة المصرية في المورة وسوريا وغيرهما، وتوفي بمصر سنة 1860.
وبنى محمد علي في الإسكندرية ترسانة أتى إليها بالسفن والدوارع من مرسيليا والبندقية، وأقام فيها مدرسة جاء إليها بالأستانة من فرنسا وإنكلترا، وبنى حول الإسكندرية حصنا منيعا وحصونا أخرى في أماكن أخرى. (د) الإصلاح التجاري
ولما أصلح الزراعة وكثرت حاصلات البلاد وجه التفاته إلى تنشيط التجارة، فأراد إنشاء مينا أمين تأوي إليه السفن التجارية، فلم تعجبه رشيد ولا دمياط لخشونة مرساهما، فاختار الإسكندرية فاحتفر ترعتها الموصلة بينها وبين النيل، ودعاها ترعة المحمودية نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فكثر نقل البضائع فيها بين الإسكندرية وداخل القطر، فاكتسبت الإسكندرية بذلك أهمية كبرى وتقاطر إليها التجار من أماكن مختلفة من أوروبا وغيرها، وأقيمت فيها البنايات الكبيرة على النمط الإفرنجي، ووجدت فيها الفنادق والنزل للغرباء. وأصلح مرفأ بولاق وغيره، ووسع للأجانب في الاستيطان والاتجار، فاتسعت التجارة وكثرت العلائق، وعاد كل ذلك بالنفع الجزيل. وتوطيدا لأعماله هذه أنشأ مجلسا تجاريا مؤلفا من الوطنيين والأجانب للحكم في القضايا التجارية.
حاصلات البلاد
قد رأيت أن محمد علي عهد بالأطيان المهملة إلى رجاله ليزرعوها ويستغلوها، فاشتغل هو في تصريف حاصلاتها، فاحتكر غلات هذا القطر ومصنوعاته، وتولى بيعها رأسا للتجار السوريين والإفرنج واليونان والأرمن. وكان يلاحظ سعر السوق ويهتم به مثل اهتمام سائر التجار في الأسعار. وكثيرا ما كان يربح الأرباح الفاحشة وقد يخسر تبعا لحال السوق. وكان يبيع البضاعة تسليم الإسكندرية فينقلها هو على نفقته في أثناء الفيضان على السفن. وكان له في بولاق وكالات لخزن الأقطان والسكر والكتان والحناء التي ترد من الأرياف، وعلى تلك المخازن وكلاء لا يسلمون منها شيئا إلا بأمر الباشا. وكان يتجر أيضا بالتبر والعاج وغيرهما من واردات السودان وأصناف أخرى كثيرة. ناهيك بأرباح الجمارك وما يرد على مصر من تجارات أخرى. وكان يدون أرباحه من هذه التجارة في دفاتر حكومته. وإليك ميزانية الحكومة المصرية لسنة 1821، وفيها أصناف التجارات ومقدار أرباحها وكيفية الإنفاق منها وغير ذلك:
ميزانية الحكومة المصرية لسنة 1821.
الدخل
كيس
قرش
مال الميري
132308
131
أرباح الاتجار بالقطن والشمع والسكر والكتان والنيلة والعسل والحناء وماء الورد وبزر الكتان والسمسم والقرطم وغيره
21000
أرباح المنسوجات الحريرية والقطنية
21000
أرباح من مبيع الجلود
8000
أرباح من مبيع الحصر
1200
أرباح من مبيع الرز
13714
250
أرباح من مبيع النطرون
600
أرباح من مبيع الصودا
900
أرباح من مبيع ملح النشادر
280
أرباح من مبيع القصب (خيوط الذهب)
450
أرباح جمرك السويس
5000
أرباح جمرك القصير.
18
عوائد بضائع سنار
200
عوائد تجارة دارفور في أسيوط
260
عوائد تجارة دارفور في مصر القديمة
500
عوائد تجارة دارفور في بولاق
3000
عوائد تجارة دارفور في دمياط
3600
عوائد تجارة دارفور في ترعة المحمودية
500
عوائد تجارة دارفور في الإسكندرية
2500
عوائد تجارة دارفور على النقود
3500
ضمان الملح والمشروبات
5000
ضمان المذبح
370
ضمان عوائد التمغة
750
ضمان السنا
120
أثمان الأسماك في المنزلة
800
ضرائب بيع الأسماك بمصر وبولاق
150
ضرائب بيع الحيوانات في إمبابة والرميلة
50
ضرائب على الرقاصات والمشعوذين وغيرهم
300
عوائد التوارث
400
عوائد المعديات
600
أجرة نقل البضائع
400
قبالة المشروبات بالصعيد
350
عوائد الأسواق والوكالات في الصعيد وغيرها
1400
عوائد النخيل
10000
عوائد إدخال الحبوب للقاهرة
720
جملة الدخل
239940
381
الخارج
كيس
نفقات الجند
100000
المرسل إلى الأستانة
12000
على المعامل وأجرة العمال
15000
أجرة الموظفين الملكيين
16000
نفقات على الملتزمين
6000
نفقات الجوامع والمدارس إلخ
1800
مرتبات الملتزمين
1200
نفقات بيت محمد علي باشا وأولاده
24000
هدايا من المشايخ للعربان إلخ
10000
نفقات الحج
1700
نفقات الكسوة
300
نفقات على وادي الطملات للغرس وغيره
1400
جملة الخارج
189400
شكل 3-12: بوغوص بك أعوان محمد علي في المسائل المالية.
وكان ينفق الباقي في بناء الثكنات والمعامل والمنازل وغيرها. ولمعرفة حقيقة قيمة هذه المبالغ ينبغي تحويلها إلى الفرنكات والكيس يومئذ عبارة عن 150 فرنكا، فيكون دخل الحكومة المصرية سنة 1821 نحو 36000000 فرنك نحو ثلثها من الأرباح التجارية. ونشر الدكتور كلوت بك ميزانية كهذه عن سنة 1833 كان مجموع الدخل فيها 62778750 فرنكا منها نحو 15000000 فرنك من التجارة. وبلغ الخارج 49951500 فرنك ثلثها لنفقات الجيش.
ومن أعوان محمد علي في المسائل المالية والتجارية بوغوص بك الأرمني المتوفى سنة 1844، وقد ترجمناه في الجزء الأول من تراجم مشاهير الشرق الطبعة الثانية. (ه) الإصلاحات الصناعية
أما الإصلاحات الصناعية فكثيرة ولكن لم يبق منها إلى الآن إلا آثار بالية مع ما توخاه - رحمه الله - من إنشاء المعامل، واستجلاب الصناع من أقطار أوروبا؛ فإنه أنشأ في هذا القطر معامل عديدة لمعالجة القطن والنيلة واصطناع الطرابيش التونسية والورق والغزل وأنواع الأقمشة من الحرير والكتان والقطن والصوف في سائر جهات القطر، ومعامل الأسلحة على أنواعها وغيرها. أما سبب حبوط معظم تلك المعامل فعائد إلى عدم وجود معادن الفحم الحجري في القطر المصري. (و) الإصلاحات الصحية
رأى ذلك الرجل العظيم أن البلاد في احتياج كلي لهذه الإصلاحات لانتشار التدجيل والتطبيب بالكتابة والحجابة وما شاكل فاستقدم أحد مشاهير الأطباء الفرنساويين واسمه الدكتور كلوت (ثم صار كلوت بك) وإليه ينسب شارع كلوت بك في القاهرة. فأنشأ المدارس الطبية والمستشفيات، وفي مقدمتها المدرسة الطبية في قصر العيني (وكان هذا القصر قبلا مسكنا لإبراهيم بك الكبير من أمراء المماليك)، يدرس فيها الطب والجراحة، ومدرسة أخرى في فن القوابل ومستشفى كبيرا في أبي زعبل (قرب المطرية)، وأنشأ مجلسا صحيا ومدرسة بيطرية، ورتب مستشفيات وأطباء للعساكر وأخرى للأهالي، وعين أطباء لمراقبة الأحوال الصحية في المديريات، وكان معوله في تلك الإصلاحات على الدكتور كلوت بك.
وهو فرنساوي الأصل واسمه الأصلي أنطون برطلمي كلوت، ولد في غرينوبل بفرنسا سنة 1793م من أبوين فقيرين، وربي في شظف من العيش وضيق ذات اليد، وكان على صغره ولعا بتشريح الحشرات ودرس طبائعها. وتوفي والده سنة 1811م بعد أن نزح إلى برينون، وكان له صديق اسمه الدكتور سابيه، فلما عاين ما في الغلام من المواهب على حاله من الفقر جعله مساعدا له يرافقه في أعمال الطبية ويتمرن في الجراحة، وكان كلوت يطالع ذلك العلم بنفسه ساعات الفراغ، حتى قرأ كتاب الجراحة تأليف «لافه»، ثم رأى أن برينول لصغرها لا تفي بما تجمع إليه نفسه ولا تروي مطامعه، فنزح إلى مرسيليا رغم إرادة والدته التي كانت كثيرة التعلق بولدها؛ هذا لأنه كان وحيدا لها، ولكنه أصر على عزمه وضغط على عواطفه طلبا للعلى وسعيا وراء العلم، وهو لا يملك إلا بعض الدريهمات وشيئا من الثياب، على أنه لم يلاق في مرسيليا إلا الخيبة، فحدثته نفسه أن يسافر في سفينة جراحا لبحارتها، ويتحمل مشاق الأسفار وأخطارها سدا لعوزه وهو في التاسعة عشرة من سنه، فلم يقبله ربانها وكان ذلك لحسن حظ المترجم؛ لأن السفينة غرقت في ذلك السفر.
شكل 3-13: كلوت بك مؤسس الإصلاحات الطبية بمصر.
فاضطره العوز لتعاطي مهنة الحلاقة فصار يختلف إلى حلاق يعالج بالفصد والجراحة الصغرى. ثم عاد إلى بلده ودخل المستشفى بعد عناء وتكرار الالتماس وأكب على الدرس والمطالعة، حتى نبغ بين أقرانه، وفي سنة 1820 نال شهادة الدكتورية. فعاد إلى مرسيليا وعين طبيبا ثانيا بمستشفى الصدقة، ومستشارا جراحيا بمستشفى الأيتام فنم به بعض ذوي الحسد فأقيل من منصبه، ولكنه لم يسع في الانتقام بل تضاعفت همته في العمل.
وفي سنة 1825 اجتمع به الموسيو تورنو وكان تاجرا فرنساويا من نزالة مصر، بعث به المغفور له محمد علي باشا لاختيار من يليق بمنصب طبيب لجيشه، فحبب إليه المسير إلى مصر في ذلك المنصب، فقدم عن طيب خاطر فرأى أمامه بابا واسعا للعمل لما علمت من حاجة البلاد إلى الإصلاح الطبي، فأخذ يعمل ليله ونهاره مفكرا في الوسائل المؤدية إلى المراد . وكان محمد علي باشا يركن إليه ويثق برأيه ويجيب مطاليبه، فأسس أولا مجلسا صحيا ليستعين بأعضائه على الإجراء والتنفيذ وبث الوصايا الصحية، فرتبه على مثال المجالس الصحية الفرنساوية، ولإتمام النظام العسكري أنشأ المستشفيات العسكرية ومصلحة الصحة البحرية. ولا يخفى أن المستشفيات تحتاج إلى عملة من الأطباء والتومرجية وغيرهم، ولم يكن في مصر شيء من ذلك فاضطر أن يعلم كلا من هؤلاء واجباته من التطبيب وملاحظة المرضى وغير ذلك. وأشهر المستشفيات التي بنيت بناء على إشارته مستشفى أبي زعبل، وأنشأ في المستشفى بستانا للنبات.
شكل 3-14: محمد علي باشا البقلي الجراح الشهير أحد تلامذة الإرسالية.
وفي نحو 1826م أسس المدرسة الطبية في تلك القرية أيضا أراد بذلك أن لا يقتصر الطب على الجيش، بل يتعلمه أبناء البلاد حتى يفيدوا أبناء جلدتهم بتطبيبهم وتعليمهم، وكان في السنين الأولى من تأسيس هذه المدرسة هو وحده يلقي الدروس بواسطة المترجمين تسهيلا لفهمها؛ فترجمت كتب عديدة إذ ذاك وفي جملتها قاموس نستين الطبي وغيره من كتب الطب والجراحة والعلوم الطبيعية. ومما كان عقبة في طريق التشريح العملي أن تشريح جثث الموتى كان أمرا منكرا في عيون المشارقة، فبذل كلوت جهده حتى أبيح له التشريح سرا على أن ذلك لم ينجه من غضب الأهالي عليه، حتى إن أحدهم جاءه يريد قتله خلسة بخنجر ولكنه لم يفز.
وفي سنة 1832 سار الدكتور كلوت بك في 12 تلميذا من تلاميذ مدرسته هذه لامتحانهم في باريس، فامتحنتهم الجمعية الطبية العلمية فحازوا استحسانها، وأظهروا كل نجابة وذكاء وبراعة. وهاك أسماء هؤلاء التلاميذ:
أحمد الرشيدي.
حسين الهيهاوي.
حسن الرشيدي.
عيسوي النحراوي.
محمد منصور.
مصطفى السبكي.
إبراهيم النبراوي.
محمد الشباسي.
محمد السكري.
محمد علي البقلي.
محمد الشافعي.
أحمد بخيت.
وقد كان نجاح هؤلاء المصريين في امتحانهم موجبا لسرور أستاذهم كلوت بك سرورا زائدا؛ لأنهم سيكونون له عونا في نشر الفوائد الطبية والوصايا الصحية في هذه الديار، وقد نبغ منهم غير واحد بالتأليف والتطبيب والجراحة وغيرها، وترجمنا بعضهم في الهلال أو مشاهير الشرق.
وفي سنة 1837 نقلت المدرسة الطبية من أبي زعبل إلى القاهرة وهي المعروفة بمدرسة قصر العيني. ثم أنشأ فيها فرعا لدرس فن القبالة يتعلمها النساء؛ لأن عوائد المشارقة لا تسمح بولادة النساء على أيدي أطباء من الرجال، وأنشأ لهن مستشفى خاصا بهن، وكان لهذه الخدمة فائدة عظمى؛ خصوصا لأن النساء لمبالغتهن في التحجب لا يؤذن للطبيب بمساعدتهن في الولادة ولا الكشف عليهن في تشخيص بعض الأمراض، فكم كان يموت منهن لنقص المعالجة. (ى) الإصلاحات العلمية
أما الإصلاحات العلمية فلا تقل أهمية عما تقدم؛ لأنه ألف مجلسا للمعارف العمومية قصد به تعليم خدمة الحكومة الملكيين والجهاديين، ما يؤهلهم للقيام بمهام أعمالهم وفتح مدارس كثيرة لتعليم الشبان من أهل البلاد، وبعث بعضا منهم إلى أوروبا لإتقان الدروس على مثال الإرساليات العلمية بعد ذلك. وبلغ عدد التلامذة الذين أرسلوا إلى أوروبا في زمن محمد علي 319 تلميذا أنفق عليهم 224000 جنيه.
وكان غرضه من الإرساليات على الغالب تخريج شبان في الفنون العسكرية والاقتصاد والميكانيكيات والطب والتعدين والترجمة. وقد نشرنا أسماء تلامذة إحدى الإرساليات ومواطنهم، والغرض من تعليمهم في السنة 15 من الهلال (صحيفة 220).
شكل 3-15: مختار بك أول ناظر للمعارف بمصر.
وكانت المدارس المصرية في أول أمرها تابعة للعسكرية، فاغتنم رجوع جماعة من طلبة إحدى الإرساليات من أوروبا سنة 1836 وأنشأ مجلسا خاصا بالمدارس سماه ديوان المدارس برئاسة مختار بك أحد الطلبة القادمين من أوروبا، وهاك أسماء أعضاء ذلك المجلس:
كلوت بك.
رفاعة بك.
كياني بك.
بيومي أفندي.
أرتين بك (والد يعقوب باشا أرتين).
لامبر.
هكيكيان بك.
هامون.
وارين بك.
دوزول (سكرتير).
فترى أن بعض هؤلاء الأعضاء من أبناء المصريين والأرمن، ممن تخرجوا في مدرسة باريس والبعض الآخر من الفرنساويين. فلا غرو إذا ساروا في التعليم على طرق فرنساوية ونشطوا اللغة الفرنساوية. وكان من جملة ما حملوه معهم من أوروبا أو تولد فيهم بعد الاطلاع على تواريخ الأمم أن ينشئوا في مصر دولة إسلامية عربية، تقابل الدولة الإسلامية التركية، وكانت الحرب قائمة بينهما في الشام وما وراءها.
فلما تألف ديوان المدارس وتحقق أعضاؤه حاجة الجيش إلى ضباط لم يروا مندوحة عن الاستعانة بالوطنيين، فاستأذنوا محمد علي في الإكثار من المصريين في المدارس، وكانوا إلى ذلك الحين لم يدخلوا منهم إلا عددا قليلا فأذن لهم. فأنشئوا مدارس ابتدائية وثانوية في أنحاء القطر المصري على نمط المدارس الفرنساوية وهذه العلوم التي كانوا يعلمونها فيها:
القرآن.
الخط.
اللغة العربية.
اللغة التركية.
اللغة الفرنساوية.
مبادئ الحساب.
مبادئ التاريخ.
مبادئ الجغرافيا.
الرسم.
ونظرا لتغلب العنصر العربي في هذه المدارس جعلوا التعليم كله في اللغة العربية، واستقدموا لها الأساتذة في بادئ الرأي من تلامذة الأزهر لتعليم القرآن واللغة، واستعانوا بالمتقاعدين من ضباط الجيش القديم المتخرجين في أوروبا لتعليم مبادئ العلوم ثم نشأت طائفة من الأساتذة المبرزين في العلم، على أن روح الأزهر ظلت سائدة عليها كلها مدة طويلة.
ولم تمض بضع سنوات حتى أصبحت المدارس التابعة للديوان المذكور سبعين مدرسة منها 16 مدرسة كبرى وهي:
مدرسة الموسيقى العسكرية
تأسست سنة 1824
المدرسة الحربية في قصر العيني
تأسست سنة 1825
مدرسة الطب والصيدلة
تأسست سنة 1827
مدرسة الكيمياء العملية
تأسست سنة 1829
مدرسة المشاة
تأسست سنة 1831
مدرسة الفرسان
تأسست سنة 1831
مدرسة الطبجية
تأسست سنة 1831
مدرسة البحرية
تأسست سنة 1831
مدرسة طب الحيوان
تأسست سنة 1831
مدرسة التعدين
تأسست سنة 1834
مدرسة الهندسة
تأسست سنة 1834
مدرسة الزراعة
تأسست سنة 1837
مدرس الولادة
تأسست سنة 1837
مدرسة الإدارة الملكية والحسابات
تأسست سنة 1837
مدرسة الألسن والترجمة
تأسست سنة 1837
مدرسة الصنائع والفنون
تأسست سنة 1839
شكل 3-16: رفاعة بك أول ناظر لمدرسة الألسن والترجمة.
وبلغ عدد التلامذة في المدارس كلها نحو 9000 تلميذ تنفق الحكومة على تعليمهم ولبسهم وطعامهم وسكنهم.
والسبب في مكابدتها الإنفاق عليهم أن معظمهم في الأصل من غلمان المماليك، فهم ملك الحكومة وهي بالطبع مكلفة بإعالتهم، فلما استكثرت الحكومة من التلامذة الوطنيين عاملتهم تلك المعاملة، فجعلت تعليمهم مجانا. ولم يكن لها بد من ذلك؛ لأنهم كانوا يدخلون تلك المدارس رغم إرادتهم وهم يكرهون التعليم فيها كما كانوا يكرهون الجندية. وظل ذلك شأن التعليم بمصر إلى آخر أيام محمد علي سنة 1848.
المدرسة المصرية في باريس
ولما أفضت ولاية مصر إلى ابنه إبراهيم توقع الناس تغييرا في التعليم؛ لأنه كان قد أعد إصلاحا مهما على أثر رحلته في أوروبا. ولكن الأجل عاجله قبل مباشرة العمل، وكان ديوان المدارس قد نظر منذ تأسيسه سنة 1836 في التعليم العالي وقرر عجز مصر عن القيام به لسببين؛ الأول: خلوها من أساتذة قادرين على تدريس العلوم العالية، والثاني: خلو اللغة العربية من الكتب اللازمة لهذه العلوم. ولهذين السببين قررت الحكومة الاستمرار على إرسال التلامذة إلى أوروبا للتخرج بالعوم العالية. ولكنها أصبحت لا ترسل غير النجباء المتخرجين من المدارس الكبرى. ولم يكن بد للتلامذة المشار إليهم من معرفة لغة البلاد التي سيتمون علمهم في مدرستها، فأنشئوا لهذه الغاية مدرسة مصرية في باريس يديرها رجل مصري اسمه اسطفان بك، معه وكيل أرمني اسمه خليل أفندي جراكيان. وأما الأساتذة فعينتهم نظارة الحربية الفرنساوية من ضباط جندها.
فأرسلت الحكومة المصرية إلى هذه المدرسة نحو أربعين طالبا فيهم جماعة من أمراء العائلة الخديوية، وفي جملتهم البرنسان حليم وحسين أبناء محمد علي، والبرنسان أحمد وإسماعيل (الخديوي) أبناء إبراهيم، واتفقا أن إبراهيم باشا مر بتلك المدرسة في أثناء سياحته بأوروبا ومعه سكرتيره نوبار باشا، فأعجب بنجاحها من حيث التعليم، ولكنه انتقد تقصيرها في التربية؛ لأن التلامذة كانوا يرسلون إليها وهم في حدود الشباب، فارتأى أن يأتوها وهم صغار بين الثامنة والتاسعة من العمر ليتعلموا ويتثقفوا معا. وعزم أنه حالما يرجع إلى مصر يأمر رجاله جميعا بإرسال أولادهم إلى هذه المدرسة وهم أحداث. ولكن المنية عاجلته والثورة الفرنساوية آلت إلى إقفال المدرسة سنة 1848.
المطبعة الأهلية
وأنشأ محمد علي المطبعة الأهلية في بولاق على أنقاض مطبعة أتى بها بونابرت معه، لما أتى لفتح مصر كما تقدم، فلما خرجوا منها سنة 1801 أهملت تلك المطبعة، ولم يلتفت أحد إليها حتى تولى عرش الحكومة المصرية سنة 1805 المغفور له محمد علي باشا مؤسس العائلة الخديوية، وعمل على إصلاح هذا القطر وكان في جملة مساعيه العلمية إحياء هذه المطبعة وتجديدها. فاستحضر لها العدد والحروف واستخدم العمال من أوروبا وسوريا، فأداروها واصطنعوا حروفا جديدة تشبه حروفها الأصلية من وجه وتختلف عنها من وجه آخر. وهي قاعدة حروف بولاق المشهورة، وقد طبعت بها كتب جمة طبية وتاريخية ودينية ما لا يحصى ولا يعد، وفي شهرة مطبعة بولاق ما يغني عن تعداد فضائلها.
وأما الذي اصطنع قاعدة تلك الحروف فجماعة من عمالها يومئذ، لم تطلع إلا على اسم واحد منهم وهو إلياس مسابكي من أهل دمشق الشام. وكان في جملة حروف بولاق قاعدة فارسية جميلة أهملت الآن.
وأمر بترجمة كثير من الكتب المفيدة في التركية والعربية والفارسية، وأنشأ الجريدة المصرية الرسمية (الوقائع المصرية) وديوان المهندسخانة وغير ذلك. (1-6) صفاته ومناقبه
كان محمد علي متوسط القامة عالي الجبهة أصلعها، بارز القوس الحاجبي أسود العينين غايرهما، صغير الفم باسمه كبير الأنف متناسب الملامح مع هيبة ووداعة. أبيض اللحية كثيفها مع استدارة وسعة. جميل اليدين منتصب القامة جميل الهيئة ثابت الخطوات منتظمها سريع الحركة. إذا مشى يجعل يديه متصالبتين وراء ظهره غالبا، وعلى الخصوص إذ مشى في داره مفكرا في أمر، وكذلك كان يفعل بونابرت. وقلما كان يفاخر باللباس، فكان لباسه غالبا على زي المماليك يلبس العمامة أو الطربوش. وأبدل اللباس العسكري في أواخر أيامه بلباس واسع بسيط لا يمتاز به عن بعض أتباعه.
وكان يكره التفاخر بالحاشية فلم يكن على بابه إلا رجل واحد يخفره. وإذا استوى في مجلسه لا يتقلد السلاح بل يجلس وفي يده حقة العطوس والمسبحة يتلاهى بها، وكان يحب ألعاب البليارد والداما، ولا يأنف من مجالسة صغار الضباط. وأما جلساؤه العاديون فالقناصل وكبار السياح وكانوا يحبونه ويحترمونه، ويلقبونه بمبيد المماليك أو مصلح الديار المصرية. وكان سليم القلب مع دهاء وسياسة سريع التأثر لا يعرف الكظم، فكثيرا ما كان ينقاد بدسائس المفسدين. وكان كريم النفس سخي العطاء، وفي بعض الأحوال مسرفا. وكان يتفاخر بعصاميته ويرتاح للتكلم عن سابق حياته. وكان محبا للاطلاع ولا سيما على الأخبار السياسية، وكان يجل الجرائد ويعتقد تأثيرها في الهيئة الاجتماعية فكانوا يترجمونها له فيطالعها بتمعن.
شكل 3-17: محمد علي باشا بالطربوش.
أما هواجسه السياسية فكانت تقلق راحته فلا ينام إلا يسيرا، وقلما يرتاح في نومه، ولا ينفك متقلبا من جانب إلى آخر، فكان يجعل عند فراشه اثنين من خدمته يتناوبان اليقظة لتغطيته إذا انكشف عند الغطاء من التقلب. ويقال إن من جملة دواعي أرقه الشهقة المرتجفة التي كانت تتردد إليه كثيرا، وكان قد أصيب بها في حملته على الوهابيين على أثر رعب شديد. على أن ذلك الأرق لم يكن ليضعف شيئا من سرعة حركته، فكان يستيقظ نحو الساعة الرابعة من الصباح ويقضي نهاره في المشاغل المختلفة بين مفاوضة مع ذوي شوراه أو مراقبة استعراضات العساكر أو استطلاع أمور أخرى يتعلق بمصالح الأمة. وكان بارعا في الحساب بغير تعلم؛ لأنه شرع بتعلم القراءة والكتابة وهو في الخامسة والأربعين من عمره. ويقال إنه ابتدأ يتعلم أحرف الهجاء على أحد خدمة حريمة، والكتابة على أحد المشايخ، وهذا مما يزيده شرفا وفخرا، ويبرهن على ما فطر عليه من قوة الإدراك والحذاقة والمقدرة على المهام السياسية. وكان صارم المعاملة مع لين ورقة وحسن أسلوب. وكان متمسكا بالإسلام مع احترام التعاليم الأخرى، ولا سيما التعاليم المسيحية فكان يقرب أصحابها منه ويعهد إليهم أهم أعماله.
ويقال إنه كان بالإجمال أبا حنونا لرعيته وصديقا مخلصا ونصيرا مسعفا لذوي قرباه أبا حقيقيا ولأولاده؛ ولذلك تراه بعد أن أصيب بفقد أكثرهم غلب عليه الحزن، حتى أثر في صحته تأثيرا رافقه إلى اللحد. أما حبه للرعية فلا يحتاج إلى دليل، فهذه الديار المصرية عموما إذا قصرت ألسنة أهلها عن تعداد مآثره ينطق جمادها بمزيد فضله هذه الترع والجسور والنباتات والشوارع والجناين. هذه المطابع والمدارس هذه النظامات الجهادية والملكية والقضائية هذه الزراعة والفلاحة، هذه شبه جزيرة العرب تردد ما لاقته من نجدته. وقد كان موضع احترام رعيته وذويه حتى الأجانب البعيدين منه وطنا ودينا ومشربا، وكثيرا ما تقربوا إليه بالنياشين والهدايا إقرارا بفضله على العالم عموما، بتمهيد سبل التجارة بين أوروبا والهند على الخصوص. (2) إبراهيم باشا بن محمد علي (ولد سنة 1204ه وتولى وتوفي سنة 1265ه)
شكل 3-18: إبراهيم باشا في أواخر أيامه.
هو نجل محمد علي باشا، وقد تقدم في سيرة أبيه معظم سيرة حياته؛ لأنهما عملا معا في مصر، وكان إبراهيم ساعد أبيه الأيمن في فتوحه وسائر أعماله العسكرية. ولد في قواله عام 1204ه، ومال من صغر سنه للأعمال الحربية وفيه مواهب أعاظم القواد يشهد بذلك ما أتاه من الأعمال العظمى في مصر والشام والمورة والسودان وغيرها مما فصلناه في ترجمة أبيه. وكان يعرف الفارسية والتركية والعربية، وله اطلاع واسع في تاريخ البلاد الشرقية، تولى الإمارة المصرية بعد تنازل أبيه عام 1265، فسار على خطواته سيرا حسنا، وإن كان في الحقيقة يختلف عنه بمواهبه الأصلية، فقد كان إبراهيم صارم المعاملة صعب المراس شديد الوطأة كما يغلب أن يكون رجال العسكرية. وكان أبوه لين العريكة حسن السياسة ذا دهاء وحكمة. ولم يبق حكم إبراهيم إلا 11 شهرا وتوفي قبل والده.
وكان ربع القامه ممتلئ الجسم قوي البنية مستطيل الوجه والأنف، أشقر الشعر في وجهه أثر الجدري، وكان كثير اليقظة قليل النوم. وكان نقش خاتمه: «سلام على إبراهيم.» (3) عباس باشا الأول (ولد سنة 1228ه وتولى سنة 1265ه وتوفي سنة 1270ه)
شكل 3-19: عباس باشا الأول.
هو عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا، ولد عام 1228ه أو 1813م وربي أحسن تربية، وكان محبا لركوب الخيل فرافق عمه إبراهيم باشا في حملته إلى الديار الشامية، وشهد أكثر الوقائع الحربية وفي سنة 1265ه تولى زمام الأحكام على الديار المصرية بعد وفاة عمه إبراهيم، وكان على جانب من العلم والمعرفة؛ لأن المرحوم جده كان يحبه كثيرا فاعتنى بتعليمه في مدرسة الخانكاه.
ومن مشروعاته المهمة الشروع في إنشاء الخط الحديدي بين مصر والإسكندرية، وتأسيس المدارس الحربية في العباسية، ومد الخطوط التلغرافية لتسهيل سبل التجارة وغير ذلك.
وكان له غلام يدعى البرنس إبراهيم إلهامي كان على جانب عظيم من الجمال والذكاء واللطف والمعرفة والعلم، زار الأستانة سنة 1270ه، وتشرف بمقابلة السلطان عبد المجيد فأحبه وزوجه بابنته وغمره بنعمه. فرجع إلى مصر حامدا شاكرا والمرحوم إلهامي باشا هو والد ذات العفاف والعصمة حرم المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق، ووالدة مولانا الخديوي الحالي.
وعباس باشا هو الذي وضع الحجر الأول لمسجد السيدة زينب بيده، وقد كان لذلك احتفال عظيم حضره كثير من الأعيان ورجال الدولة، وذبحت فيه الذبائح وفرقت الصدقات على الفقراء كميات كبيرة.
وفي أيامه كانت بين الدولة العلية والروسيين حروب، فبعث لنجدة الدولة حملة كبيرة سارت عن طريق بولاق في البحر، وسار هو بنفسه لوداعها هناك وقبل ركوبها النيل نهض لوداعها، فألقى في الجمهور خطابا بليغا منشطا.
وتوفي عباس باشا في شوال سنة 1270 أو يوليو سنة 1854م في قصره بمدينة بنها العسل، ثم نقل ودفن في مدفن العائلة الخديوية في القاهرة. (4) سعيد باشا (ولد سنة 1237ه وتولى سنة 1270ه وتوفي سنة 1279ه)
هو ابن محمد علي باشا، ولد في الإسكندرية عام 1237ه/1822م، وكان محبا للعلم بارعا فيه وعلى الخصوص في اللغات الشرقية والعلوم الرياضية، وسلك الأبحر والرسم وكان يتكلم الفرنساوية جيدا. تولى زمام الأحكام عام 1270ه أو 1854م بعد وفاة عباس باشا ابن أخيه، وكان مؤثرا للعدل والفضيلة مهتما بالإصلاح الإداري. ومن أعماله المبرورة إتمام الخطوط الحديدة والتلغرافية بين إسكندرية ومصر والشروع في مد غيرها، وتنظيم لوائح الأطيان واسترجاعها من المتعهدين إلى أربابها. وقد عدل الضرائب فجعلها عادلة ورفع كثيرا من الضرائب التي كان يتظلم منها الرعايا، ونزح ترعة المحمودية، وفي أيامه تمت معاهدة ترعة السويس وقد نشطها تنشيطا كبيرا، وأقام على طرفها الشمالي مدينة حديثة دعيت باسمه وهي بورت سعيد، وغرس الأشجار في طريق المنشية.
وفي السنة الثانية من توليه على مصر وضع الحجر الأول لأساس القلعة السعيدية عند رأس الدلتا، فيما بين القناطر الخيرية تداعت أركانها الآن، وقد عثرنا على قطعة فضية مستديرة قطرها قيراطان ونصف على أحد وجهيها رسم النيل عند تفرعه والقناطر الخيرية، يليها على الجانبين برجا القناطر، وبينهما عند رأس الدلتا القلعة السعيدية، وكل ذلك في أجمل ما يكون من الرسم. وعلى الوجه الآخر كتابة تركية تفيد «أن المغفور له سعيد باشا بن محمد علي باشا المشهور، قد وضع أساس القلعة السعيدية وما يليها من الاستحكامات بيده في يوم الأحد 23 جمادى الآخرة عام 1271ه لأجل حماية الديار المصرية» هذا نصها التركي:
قواله لي مشهور محمد علي صلبندن بيك ايكييوز او توزيدي سنه هجريه سنده اسكندريه ده دنيايه كلوب يتمش سنه سي شوال المكر منده خطه جسيمه مصره حكمي جاري اولان محمد سعيد محافظه ام دنيا ايجون اشبو استحكامات قويه يه بيك ايكبيوز يتمش برسنه سي جمادي الثانينك يكرمي او جنجي دوشنبه كوني ومولودينك اوتوز درنجي سنه سي كندي يديله وضع اساس ايتمشدر.
شكل 3-20: سعيد باشا.
وفي أيامه ثارت مديرية الفيوم على الحكومة فبعث إليها وأخمد الثورة فهدأت الأحوال. ولما اختتن نجله طوسون أطلق كل من كان في السجون من المجرمين حتى القاتلين. وفي أيامه أعطيت بلاد السودان بعض الامتيازات وتولى عليها البرنس حليم باشا حكمدارا. وفي عام 1276ه أو 1859م توجه لزيارة سوريا، فمكث في بيروت ثلاثة أيام ونزل ضيفا كريما على وجهاء المدينة، وكان في أثناء مروره في الطرقات ينثر الذهب على الناس.
وفي عام 1278ه أو 1861م توفي المغفور له السلطان عبد المجيد وتولى السلطان عبد العزيز. وفي يوم السبت 26 رجب عام 1279ه أو 17 يناير 1863م توفي سعيد باشا في الإسكندرية ودفن فيها. (5) إسماعيل باشا (ولد سنة 1830 وتولى سنة 1863 وخلع سنة 1879 وتوفي سنة 1895)
شكل 3-21: إسماعيل باشا. (5-1) ترجمة حاله
هو إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير. وكان لوالده ثلاثة أولاد ذكور: أكبرهم البرنس أحمد (ولد عام 1825)، ثم البرنس إسماعيل (ولد عام 1830) ثم البرنس مصطفى (ولد عام 1832). وكان البرنس أحمد من نوابغ الزمان ذكاء وفطنة كثير الشبه بوالده شكلا وأخلاقا، ولكنه توفي في أثمن سني حياته بين الشباب والكهولة، فأصبح صاحب الترجمة كبير أبناء إبراهيم.
وربي إسماعيل باشا في حجر والده وتعلم وتثقف بحياطة جده؛ لأن جده - رحمه الله - كان قد أنشأ لأولاده الصغار وأولاد أولاده الكبار مدرسة خصوصية في القصر العالي فيها نخبة من مهرة الأساتذة، فتلقى صاحب الترجمة فيها مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية ، ونذرا يسيرا من الرياضيات والطبيعيات. فلما بلغ السادسة عشرة من عمره بعث به جده مع ولديه المرحومين البرنسين حليم باشا وحسين بك، والمرحوم البرنس أحمد باشا مع إرسالية فيها نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس، يتولى رئاستهم وجيه أرمني اسمه اسطفان بك. فقضوا في تلك المدرسة بضع سنوات تلقوا بها العلوم العالية، ثم عادوا إلى مصر إلا حسين بك فإن المنية أدركته هناك. ومن العلوم التي تلقاها إسماعيل اللغة الفرنساوية والطبيعيات والرياضيات وخصوصا الهندسة، وعلى الأخص فن التخطيط والرسم. وهذا هو سبب شغفه بعد ذلك بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء.
ولما عادت الإرسالية كان عباس باشا الأول واليا على مصر، فمكث إسماعيل معه على صفاء ومودة حتى وقع بين عباس باشا وسعيد باشا نفور مبني على اختلاف في اقتسام التركة، وانحاز سائر أفراد العائلة الخديوية إلى سعيد وفي جملتهم إسماعيل. فساروا كافة إلى الأستانة ورفعوا دعواهم إلى جلالة السلطان، فصدرت الإرادة الشاهانية بإنفاذ المرحوم فؤاد باشا الصدر الأعظم - وكان يومئذ فؤاد أفندي - وجودت أفندي - وهو جودت باشا المؤلف الشهير - إلى مصر. فأتيا وسويا الخلاف وتصالح أفراد هذه العائلة الكريمة، فعادوا إلى مصر إلا إسماعيل فإنه بقي في الأستانة، وتعين عضوا في مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة 1854 توفي عباس باشا الأول وتولى عمه سعيد باشا، فعاد صاحب الترجمة إلى مصر فولاه عمه المشار إليه رئاسة مجلس الأحكام فاهتم بشأنه أعظم اهتمام، ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي عام 1863 توفي المغفور له سعيد باشا، فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوئه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع وتشييد الأبنية وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها، مما سيأتي تفصيله، غير مبال بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.
وكانت ولاية مصر تنتقل في الأسرة الخديوية إلى من يختاره جلالة السلطان الأعظم بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق. وكان ولاة مصر يلقبون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لقبوا أحيانا بالخديوي فإنما يكون ذلك على سبيل التجمل والتفخيم، أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوي فأصبحت ولاية مصر إرثا صريحا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده ومنه إلى أكبر أولاده، وهكذا على التعاقب، وهاك أهم نصوص الفرمان المؤذن بذلك الصادر في 12 جمادى الأولى سنة 1290ه الموافق 8 يوليو عام 1873:
الفرمان الخديوي
إن كيفية وراثة الحكومة المصرية المقررة في فرماننا الصادر ثاني ربيع الآخر عام 1285ه، قد غيرت على وجه أن تنتقل الخديوية من متبوئي كرسيها إلى بكر أبنائه، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضا وهلم جرا، علما بأن ذلك أدنى إلى المصلحة وأشد ملاءمة لأحوال البلاد المصرية. واختصاصا لك بانعطافي الذي صرت له أهلا بحسن سعيك واستقامتك واجتهادك وأمانتك، وإثباتا لذلك أجعل قانون الوراثة لخديوية مصر ومتعلقاتها وما يتبعها من البلاد وقائمقامية سواكن ومصوع وتوابعهما كما تقدم بيانه. بحيث تكون الولاية لبكر أبنائك ثم لبكر أبنائه من بعده. فإذا لم يرزق من تولى الخديوية ولدا ذكرا كانت الولاية من بعده لأكبر إخوته، أو لأكبر بني أخيه الأكبر كما تقرر. ولا تكون هذه الوراثة لأبناء البنات. ولأجل تأييد هذه الأحكام ينبغي أن تكون الوصاية في حال كون الوارث قاصرا على الصورة الآتية وهي: إذا توفي الخديوي وكان كبير ولده قاصرا - أي غير بالغ من العمر ثماني عشرة سنة - يكون هذا القاصر بالحقيقة خديويا بحق الوراثة فيصدر إليه فرماننا بوجه السرعة. وإذا كان الخديوي المتوفى قد نظم قبل وفاته أسلوبا للوصاية، وعين كيفيتها وذوي إدارتها بصك مثبت بشهادة اثنين من رؤساء حكومته، فأولئك الأوصياء يقبضون إذ ذاك على أزمة الأعمال عقب وفاة الخديوي. ثم ينهون بذلك إلى الباب العالي فيثبتهم في مناصبهم. ولكن إذا توفي الخديوي بغير وصية وكان ابنه قاصرا فمجلس الوصاية عند ذلك يؤلف من متولي إدارة الداخلية والحربية والمالية والخارجية والحقانية وقائد العسكر ومفتش المديريات. فيجتمع هؤلاء الذوات وينتخبون للخديوي وصيا بإجماع الرأي أو بأغلبيته، فإذا تساوت الآراء لاثنين من المنتخبين كانت الوصاية لأرفعهما رتبة باعتبار الترتيب السابق من الداخلية فما بعدها. ويشكل مجلس الوصاية من الباقين فيباشرون جميعا أمور الخديوية، ويعرضون ذلك لسلطنتنا السنية ليصدق عليه بالفرمان الشريف. وكما أنه لا يجوز تبديل الوصي وتغيير هيئة الوصايا قبل انتهاء مدتها في الصورة الأولى - أي فيما إذا كان تنظيمها بحكم وصية الخديوي المتوفى - فكذلك لا تغير في الصورة الثانية. وأما إذا توفي الوصي أو أحد أعضاء مجلس الوصاية في خلال تلك المدة، فينتخب بدل الأول أحد أعضاء المجلس وبدل الثاني أحد ذوات المملكة. وبمجرد بلوغ الخديوي القاصر ثماني عشرة سنة يكون راشدا فيباشر إدارة أمور الخديوية؛ وذلك مما تقرر لدينا واقتضته إرادتنا السلطانية.
ولما كان تزايد عمارة الخديوية المصرية وسعادة حالها ورفاهة سكانها من أهم الأمور لدينا، وكانت إدارة المملكة المالية ومنافعها المادية المتوقف عليها تكامل وسائل الراحة، وتوفر أسباب السعادة عائدة على الحكومة المصرية؛ رأينا أن نذكر كيفية تعديل الامتيازات وتوضيحها على شرط بقاء جميع الامتيازات الممنوحة سابقا للحكومة المصرية. وذلك أنه لما كانت إدارة المملكة الملكية والمالية بجميع فروعها وأحوالها ومنافعها عائدة بالحصر على الحكومة ومتعلقة بها، وكان من المعلوم أن إدارة أي مملكة وحسن انتظامها وتزايد عمرانها وسعادة سكانها مما لا يتم إلا بالتوفيق والتطبيق بين الإدارة العمومية والأحوال والموقع وأمزجة السكان وطبائعهم، فقد منحناكم الرخصة المطلقة في وضع القوانين والنظامات الداخلية حسب الحاجة واللزوم. ولأجل تسهيل تسوية المعاملات سواء كانت من قبل الرعية أو من قبل الحكومة مع الأجانب. ولتوسيع نطاق الصناعة والحرف وتوفير أسباب التجارة منحناكم أيضا الرخصة التامة في عقد المشاركات، وتجديد المقاولات مع مأموري الدول الأجنبية في أمور المملكة الداخلية وغيرها، على شرط أن لا يكون ذلك موجبا للإخلال بمعاهدات الدولة السياسية.
ولكون خديوي مصر حائزا لحق التصرف المطلق في الأمور المالية، قد أعطيت له الرخصة في عقد الفروض من الخارج بغير استئذان عندما يجد لذلك لزوما، على شرط أن يكون القرض باسم الحكومة المصرية. وبما أن أمر المحافظة على المملكة وصيانتها من الطوارق (وهو أهم الأمور وأحوجها إلى العناية) من أقدم الوظائف المختصة بخديوي مصر قد منحناه الإذن المطلق بتدارك أسباب المحافظة، وتنسيبها على مقتضى ضرورات الزمان والحال، وبتكثير أو تقليل عدد العساكر المصرية الشاهانية حسب اللزوم بغير تقييد ولا تحديد. وأبقينا كذلك لخديوي مصر امتيازه القديم بمنح الرتب العسكرية إلى رتبة ميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية، على شرط أن تكون المسكوكات المضروبة في مصر باسمنا الشاهاني، وتكون أعلام العساكر البرية والبحرية في القطر المصري كأعلام عساكرنا السلطانية بلا فرق أو تمييز، ولا يجوز لخديوي مصر أن ينشئ البوارج المدرعة بغير استئذان. أما سائر السفن والبوارج ففي استطاعته أن ينشئها متى شاء. انتهى.
وقد امتاز إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله أنه حبب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوروبا وأميركا وغيرهما، بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة مع الأخذ بناصرهم، وتأييد مشاريعهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجا وأقاموا فيها على الرحب والسعة لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.
وفي عام 1869 احتفل إسماعيل باشا بافتتاح ترعة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد عمه سعيد باشا، فحضر ذلك الاحتفال ملوك أوروبا أو من يقوم مقامهم. وكان له رنة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة لما أعده فيه إسماعيل من وسائل الزينة مما قد تقصر عنه همم الملوك العظام، وفي جملة ذلك أنه بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة لتكون مرسحا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل، وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء، فبذل الدرهم والدينار فلم تمض خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهده الآن، وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوروبا العظمى. (5-2) قناة السويس
ويجدر بنا في هذا المقام أن نأتي على تاريخ هذه القناة من أقدم زمانها، فنقول:
لا يخفى أن الفاصل بين البحرين الأبيض والأحمر برزخ السويس، وما برح ملوك مصر من عهد الفراعنة يسعون في الوصل بينهما لتسهيل طرق التجارة بين الشرف والغرب، ولم يكن الناس اكتشفوا رأس الرجاء الصالح، فكان برزخ السويس فاصلا بين الشرق والغرب، فاهتم رجال السياسة من الملوك وغيرهم في الوصل بينهما بحيث تجري السفن من الواحد إلى الآخر ولو بقناة صغيرة. ولكن القدماء كانوا يعتقدون أن البحر الأحمر أعلى من البحر الأبيض المتوسط فخافوا إذا فتحوا ما بينهما أن تطوف الماء وتغرق البلاد، فوجهوا عنايتهم إلى الوصل بين البحرين بطرق أخرى. ويقال بالإجمال إن مساعيهم كانت ترمي إلى إحدى ثلاث طرق، وهي: (1) الوصل بينهما بواسطة النيل والصحراء. (2) بواسطة النيل وفروعه. (3) بواسطة ترعة مالحة.
وإليك خلاصة السعي في كل منهما: (أ) الوصل بين البحرين بالنيل والصحراء
هذه أقدم طرق الإيصال بينهما وأول من شرع بها مريرع أحد ملوك العائلة السادسة الفرعونية في القرن السابع والثلاثين من قبل الميلاد، وأتمه حنو من العائلة الحادية عشرة. وبعض المؤرخين يذهب إلى أن بطليموس فيلاذلفوس هو أول من أوجد هذا الاتصال في القرن الثالث قبل الميلاد، ولعل الصواب أنه أعاده بعد إهماله.
وكان الاتصال المذكور يتم بطريق الصحراء بين برنيس على البحر الأحمر وقفط على النيل بقرب قوص بمصر العليا. فكانت المنقولات تحمل على الجمال أو نحوها من برنيس إلى قفط ومن هناك تنقل على مراكب نيلية إلى البحر المتوسط عن طريق دمياط أو رشيد. وما زالت هذه الطريق عظيمة الأهمية حتى اكتشفوا رأس الرجاء الصالح جنوبي أفريقيا سنة 1497م فانحطت أهميتها. ولما فتح خليج السويس كادت تهمل بالكلية لكنها لا تزال تستعمل في بعض الأحوال. وقد أصبح الاتصال الآن بين القصير على البحر الأحمر وقنا على النيل عوضا عن برنيس وقفط، وقد يكون إلى قفط، ولا تستعمل إلا إذا كان المقصود المواصلة بين البحر الأحمر ومصر العليا رأسا. (ب) الوصل بواسطة النيل فقط
لابد قبل الكلام في ذلك من كلمة نقولها في تاريخ فروع النيل؛ لأنها الآن غير ما كانت عليه في عصر الفراعنة والبطالة والرومان. فالنيل الآن ينقسم بقرب القاهرة إلى فرعيه الكبيرين فيسيران شمالا يمر الشرقي منهما ببنها فميت غمر فسمنود فالمنصورة، وينتهي إلى البحر المتوسط بالقرب من دمياط. والغربي يمر بمنوف فكفر الزيات فدسوق إلى أن يصب في ذلك البحر بالقرب من رشيد. وهذان الفرعان هما الفرعان الوحيدان للنيل الآن، وقلما يتفرع منهما غير الترع الاصطناعية.
أما في الأزمنة الخالية فكانت لهما فروع أخرى كبيرة أكبرها متشعب من الفرع الشرقي. وكيفية ذلك أن هذا الفرع بعد أن يصل إلى قرب بنها يسير منه فرع غربي، ينقسم إلى عدة فروع تنتهي إلى البحر المتوسط بثلاثة تصب عند بحيرتي المنزلة والبرلس، أهمها فرع كبير شرقي يقال له فرع بلوسيوم كان يخرج من الفرع الشرقي قرب بنها، ويسير نحو الشمال الشرقي فيمر ببوباستس (تل بسطة) فالصالحية فدفنة إلى أن يصب في البحر المتوسط بالقرب من بلوسيوم (طينة) شمالي الفرما. أما بحر القلزم أو البحر الأحمر فكان متصلا بالبحيرة المرة الكبرى بمضيق صالح لسير السفن، وكانت هذه البحيرة خليجا يدعى خليج هيرويوليس نسبة إلى مدينة كانت قائمة على مسافة قصيرة من رأسه بالقرب من فيثوم (تل المسخوطة).
والوصل بين البحرين بواسطة النيل يتم بحفر ترعة موصلة بين النيل والبحر الأحمر، أما البحر المتوسط فإن النيل يصب فيه. وأول من فكر في ذلك سيتي الأول من ملوك العائلة التاسعة عشرة، فأراد أن يصل النيل بالبحيرة المرة بترعة. ويظن أرستوتل وسترابو وبلينيوس أن سيزوستريس (رعمسيس الثاني أو الأكبر) هو أول من فعل ذلك في الجيل الرابع عشر قبل الميلاد. وربما كان ظنهم هذا مبنيا على أن هذا الملك هو الذي أسس مدينة فيثوم المتقدم ذكرها، فرجحوا أنه احتفر إليها ترعة من النيل لريها. وهذه الترعة توصل بين النيل وخليج هيروبوليس فيتم الاتصال المطلوب. أما المعول عليه بالإسناد إلى المصادر التاريخية الوثيقة أن أول من أخرج ذلك إلى حيز الفعل إنما هو الملك نخاو الثاني من العائلة السادسة والعشرين (سنة 610ق.م) فاحتفر ترعة تنشأ من فرع بلوسيوم عند بوباسبس بالقرب من الزقازيق، وتسير فيما يدعى الآن وادي القنال حتى هيروبوليس، ويقال إن امتداد هذه الترعة كان 61 ميلا من الأميال الرومانية (نحو 57 ميلا إنكليزيا).
فلما استولى الفرس على مصر أتمها الملك داريوس (دارا) بن هستاسبس سنة 520ق.م، وكان المضيق بين هيروبوليس والبحر الأحمر كاد يمتلئ من الرواسب، فأمر بجرفه وتوسيعه وكان طوله نحو عشرة أميال. ولا تزال آثاره باقية إلى هذا العهد بالقرب من شالوف عند الطرف الجنوبي للبحيرة الكبرى وترعة الإسماعيلية. ويشاهد هناك بعض الآثار الفارسية الدالة على صحة ذلك. وكان المعروف إذ ذاك أن البحر الأحمر أعلى من النيل كما تقدم، فلم يجسر نخاو ولا داريوس على إيصال ترعتهما هذه إلى الخليج تماما؛ خشية أن يختلط الماءان أو يطوف المالح على العذب. فتمت المواصلة إذ ذاك على هذه الصورة: تسير السفن من البحر المتوسط في فرع بلوسيوم إلى بوباستس ومنها في تلك الترعة إلى هيروبوليس. ومن هذه كانوا ينقلون المحمولات إلى مراكب البحر الأحمر على الدواب أو غيرها، فكانوا يقاسون في ذلك بعض المشقة، فلما تولى بطليموس فيلادلفوس وجه اهتمامه إلى إصلاح ذلك الخلل سنة 285ق.م، فاحتفر ترعة موصلة بين هيروبوليس ورأس البحر الأحمر، وترعة أخرى من هيروبوليس إلى خليج هيروبوليس ووسع المضيق. فأصبح هناك ترعتان كلتاهما متصلة بالبحر الأحمر، واتخذ حواجز واحتياطات أخرى لمنع طغو المياه المالحة على العذبة، بحيث يمكن للسفن أن تمر إلى الخليج وإلى البحر الأحمر مع توقي الطغيان. وابتنى عند مصب الخليج في البحر الأحمر مدينة دعاها أرسينوا، جعلها محطة بحرية تنتهي إليها المراكب القادمة عن طريق النيل وتقلع منها السائرة في البحر الأحمر.
ثم أخذ ماء النيل يتحول عن فرع بلوسيوم شيئا فشيئا حتى جف ماؤه فبطلت تلك الترعة. حتى إذا كان الإسلام وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص أمره الخليفة بإنشاء ترعة يسهل نقل المؤن عليها إلى الحجاز، فاحتفر قناة دعاها خليج أمير المؤمنين فابتدأ بها عند مصر القديمة حيث يبتدئ خليج مصر اليوم، فسار بها في ظاهر الفسطاط حتى القاهرة ومنها إلى المطرية ومنها إلى بوباستس، حيث تبتدئ الترعة القديمة، ومن بوباستس إلى البحر الأحمر . وما زالت تسير السفن في خليج أمير المؤمنين إلى أيام الخليفة المنصور فأمر بردمه منعا لإمداد العلويين الذين ثاروا في المدينة. وما زال مردوما إلى الآن. ويقال إن الحاكم بأمر الله الفاطمي أمر بحفره سنة 1000 للميلاد لتسير فيه السفن الصغيرة ثم أهمل فطمرته الرمال. وظل من آثاره إلى عهد غير بعيد الخليج الذي كان يقطع القاهرة من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وهو المعروف بخليج مصر. كان ينشأ من فم الخليج عند مصر القديمة ويسير نحو الشمال الشرقي، وقبل أن يبلغ نظارة المالية ينعطف نحو الشرق الجنوبي حتى جامع السيدة زينب فيعود إلى سيره نحو الشمال الشرقي، فيمر بجانب بركة الفيل ثم سراي درب الجماميز فتكية الحبانية ثم يقطع شارع محمد علي، فيمر بجانب سراي منصور باشا إلى أن يقطع السكة الجديدة قرب اتصالها بشارع الموسكي، فيمر تاركا كنيسة اللاتينيين وكنيسة السريان إلى يساره، وكنيسة الأرمن وكنيسة القبط إلى يمينه إلى أن يصل إلى بداية سكة مرجوش فيتركها إلى يمينه، ثم يقطع سور القاهرة عند باب الشعرية ويسير خارج القاهرة إلى شارع الظاهر، فيمر تاركا جامع الظاهر إلى يمينه حتى يلتقي بترعة الإسماعيلية وهناك ينتهي.
وكانت فائدة هذا الخليج قاصرة على ري المدينة وبعض ضواحيها، وكانوا يحتفلون بفتحه سنويا عند وفاء النيل، فلما توزعت المياه في القاهرة بالأنابيب إلى المنازل لم تبق له فائدة فأذنت الحكومة لشركة ترمواي القاهرة بردمه ومد خط الترمواي فوقه، وهو الفرع المعروف بترمواي الخليج الآن. (ج) الوصل بينهما بقناة مالحة
وهي الباقية إلى الآن - نعني قناة السويس - وقد فكر في حفرها الفراعنة ولكنهم خافوا طغيان الماء كما تقدم. وفكر فيه أيضا المسلمون منذ فتحوا مصر، فذكروا أن عمرو بن العاص أراد فتح قناة توصل بين البحرين، فمنعه عمر بن الخطاب لئلا يتخذها الروم طريقا إلى الحجاز. وأراد ذلك الرشيد بعده على أن يحفر ترعة مما يلي بلاد الفرما نحو بلاد تنيس، بحيث يكون مصب البحر الأحمر في البحر المتوسط، كما هو حاله اليوم، فشاور وزيره يحيى بن خالد فقال له: «إذن يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف؛ وذلك أن مراكبهم تنتهي من البحر القلزم (الأحمر) إلى بحر الحجاز فنطرح سراياها مما يلي جدة، فيخطف الناس من المسجد الحرام ومكة والمدينة.» فامتنع عن ذلك. وربما فكر فيه غيره من ملوك المسلمين ولم يخرجوه إلى حيز الفعل.
ثم ذهبت دولة العرب وأخذ الإفرنج يهبون من سباتهم وسعوا في اكتشاف الطرق التجارية، وكانت التجارة بين أوروبا والمشرق في الأجيال الأخيرة محصورة على نوع ما في فينيسيا (البندقية)، وكان الفينيسيون أبرع الناس فيها وأكثرهم اشتغالا بالأسفار بين البحرين عن طريق مصر. فلما اكتشف رأس الرجاء الصالح تحولت تلك التجارة إلى يد البرتغاليين فشق ذلك على الفينيسيين، فاهتموا بإنشاء ترعة توصل بين البحرين، فخابروا سلطان مصر إذ ذاك (قنسو الغوري)، وما زالت المخابرات بهذا الشأن دائرة حتى الفتوح العثماني حتى سنة 1517م، فبطلت وأهمل المشروع. فلما كانت الحملة الفرنساوية اهتم نابوليون بونابرت بذلك الاتصال بواسطة برزخ السويس، فاستكشف البرزخ ومعه المهندس الشهير موسيو لابير سنة 1213ه أو 1798م، وتفحصاه تفحصا مدققا، فزعم لابير أن البحر الأحمر يعلو المتوسط 30 قدما فعدل عن فتح ترعة موصلة بين البحرين رأسا، وقدم التقرير الآتي ويتضمن أفضل ما رآه من الطرق: (1)
الاتصال بواسطة النيل وفروعه وذلك بترعة من الإسكندرية إلى الرحمانية على فرع رشيد. وفي النيل من هناك إلى القاهرة وبخليج أمير المؤمنين من القاهرة إلي البحيرة المرة حيث يقام الحواجز. ومن هناك إلي السويس بترعة مالحة. (2)
الوصل بين البحرين رأسا بأن تحفر ترعة بين السويس والبحيرة المرة وترعة أخرى بين البحيرة المرة وبلوسيوم. إلا أن هذا التقرير لم يباشر تنفيذه قبل أن قضي على تلك الحملة بالانسحاب من مصر.
وفي سنة 1255ه أو 1837م أنشأت شركة البواخر الشرقية خطا تجاريا بين الهند وإنكلترا، عن طريق برزخ السويس بأن تأتي المنقولات في البحر المتوسط إلى أول البرزخ، فتنقل في البر إلى السويس، ومنها في البحر الأحمر إلى الهند وغيرها.
وفي سنة 1264ه أو 1846م تعينت لجنة مختلطة للنظر في تقرير لابير ، فقررت أن الفرق بالارتفاع بين البحرين لا يعبأ به، إلا أنها انحلت ولم تصل إلى نتيجة، وتركت ذلك إلى أحد أعضائها الموسيو تالابوت فكان من رأيه تتبع الترعة القديمة من السويس إلى تل بسطة (قرب الزقازيق) رأسا، واحتفار ترعة من هناك إلى رأس الدلتا حيث القناطر الخيرية الآن، فتقام لها قناطر تسير عليها مياه تلك الترعة إلى البر الغربي، ومن هناك تتم الترعة إلى الإسكندرية. فكأنه يريد إيصال البحرين بترعة تمر بين السويس والإسكندرية وتقطع رأس الدلتا، فلم يصادف مشروعه استحسانا لما كان يحول دون ذلك من المشاق. ثم قدم الخواجات بارولت تقريرا من مقتضاه أن يوصل البحر الأحمر ببحيرة المنزلة إلى دمياط، ثم يقطع النيل وتتم الترعة إلى رشيد فيقطع فرع رشيد أيضا، وتوصل الترعة إلى الإسكندرية، فلم يصادف هذا نجاحا أيضا لمشابهته بمشروع تالابوت.
وفي سنة 1271ه أو 1855م اهتم لينال بك وموجل بك تحت إدارة الموسيو دلسبس في أمر هذه المواصلة، بعد أن حصل هذا الأخير على البراءة في ذلك من سعيد باشا والي مصر إذ ذاك، فأقروا على وجوب فتح ترعة في خط مستقيم بين السويس وبلوسيوم مارة في البحيرات المرة، فبحيرة التمساح فالمنزلة. وأن تتصل هذه الترعة من طرفيها بحواجز عند التقائها بالبحرين. وأقرا أيضا على احتفار ترعة عذبة من بولاق مصر توصل المياه إلى بلوسيوم. فعمل الموسيو دلسبس تقريرا في ذلك وعرضه سنة 1856 على لجنة دولية مؤلفة من نواب دول أوستريا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبروسيا وإسبانيا، فأدخلت فيه تعديلات من مقتضاها أن تنتهي تلك الترعة من طرفها الشمالي في نقطة على مسافة 17 ميلا ونصف إلى الغرب من بلوسيوم، حيث بورت سعيد الآن، وسبب ذلك أن مياه البحر المتوسط هناك عمقها بين 25 و30 قدما على مسافة ميلين من الشاطئ، أما عند بلوسيوم فلا تبلغ هذا العمق إلا على مسافة خمسة أميال. وأن تغفل الحواجز عند طرفي الترعة. وتم الاتفاق على ذلك وأخذوا في العمل، وانتهى حفرها في 19 نوفمبر سنة 1869 في زمن الخديوي إسماعيل، فاحتفل بفتحها احتفالا عظيما حضره ملوك أوروبا أو مندوبوهم كلف مصر نحو مليون جنيه. (د) القناة والحكومة المصرية
تم إنشاء هذه القناة بعقود مبرمة بين الحكومة المصرية والشركة التي أنشأتها. فأول عقد أبرم في 30 نوفمبر سنة 1854 بين سعيد باشا والي مصر وبين فردينان دلسبس صاحب المشروع، وأذن له بمصادقة السلطان عبد المجيد بتشكيل شركة من متمولي العالم لجمع المال اللازم لحفر القناة الموصلة بين البحرين، ويكون لها حق الانتفاع بريعها 99 سنة من يوم فتحها. وأنه بعد انقضاء المدة المذكورة تحل الحكومة محل الشركة، فيئول إليها جميع حقوقها وتصير الترعة وما يتبعها من الأبنية ملكا لها إلا الأدوات والأثاث فإنها تدفع أثمانها. وتعهد سعيد باشا في ذلك العقد أن يشارك الشركة هو وحكومته لإخراج هذا المشروع لحيز الوجود. وتعهد في لائحة صدرت بعد سنتين أن يكون أربعة أخماس الفعلة الذين يشتغلون في حفر القناة من المصريين، واشترطت أشياء أخرى لمصلحة الشركة.
وتعهدت الشركة من الجهة الأخرى أن تنجز العمل في ست سنوات، وأن تتكفل هي بالنفقات اللازمة، وأن القناة تكون طريقا حرا لكل طارق بلا تفريق بين الدول أو الأمم، وأن يكون للحكومة المصرية 15 في المائة من صافي الربح، ولها أن تشتري من أسهم الشركة المقدار الذي تريده.
واضطرت الحكومة سنة 1866 إلى عقد وفاق ثالث مع الشركة يقضي على الحكومة بغرامة؛ وذلك أن السلطان عبد العزيز اعترض على تعهد سعيد باشا بتشغيل المصريين في القناة رغم إرادتهم، واعتبر ذلك من قبيل السخرة الجبرية، وهي تخالف الحرية الشخصية، فاضطر إسماعيل باشا وهو الخديوي يومئذ أن يدفع للشركة غرامة مقدارها مليون ونصف من الجنيهات.
ابتدأت الشركة بالحفر سنة 1859 وأعلنت الاكتتاب بأسهمها، فاشترت الحكومة المصرية على عهد سعيد باشا 177642 سهما، وذلك يعدل نحو 44 في المائة من رأس مال الشركة، واشترت فرنسا 207160 سهما - أي نحو 52 في المائة - ولم تشتر إنكلترا إلا 85 سهما.
ففتحت القناة للملاحة سنة 1869 وبيد الحكومة المصرية 44 في المائة من أسهمها، ثم كان ما سيأتي ذكره من تهور إسماعيل في النفقات على البلاد وعلى نفسه، واضطر للأموال فجعل يبدد مما في يديه من الأسهم. واحتاج أخيرا إلى مبلغ كبير وكان لا يزال عنده من الأسهم 176000، فتقدمت فرنسا لابتياعها فانتبهت إنكلترا لما يترتب على ذلك من تغلب نفوذ فرنسا في ذلك الطريق. فما زالت تسعى حتى ابتاعت تلك الأسهم بمبلغ 4000000 جنيه وهي لو بقيت إلى اليوم لبيعت بثلاثين مليونا أو أكثر.
وتورط إسماعيل في السخاء فاحتاج إلى مال آخر، فاقترض مليون جنيه من شركة السنديكات الكبرى ورهن عندها حصة مصر من أرباح القناة - أي 15 في المائة - فلما اقتضى إسرافه تداخل أوروبا في الشئون المالية المصرية ظهر للمولجين بالبحث والتفتيش ثقل ما تحملته مصر من الديون، فوضعوا قانون التصفية وعجزت مصر عن دفع المليون المذكور، فتنازلت عن الرهن وتألفت شركة فرنساوية دفعت الدين وقامت مقام مصر في الاستيلاء على حصتها المشار إليها. ويقدرون جملة ما وصلها من ذلك بأربعين مليون جنيه.
وكان إسماعيل قبل بيع أسهم القناة قد باع أرباحها لعشرين سنة، فلما باع الأسهم لإنكلترا سوت مسألة تلك الأرباح بأن تسددها الحكومة المصرية بأقساط مقدارها 200000 جنيه كل سنة إلى سنة 1896.
وأرادت الشركة أن تمد أجل امتيازها فعرض المستشار المالي ذلك بصفة مشروع يقضي بأن تزيد الحكومة مدة امتياز الشركة 40 سنة فضلا عن الستين الباقية، بحيث يصير آخرها سنة 2008 وتقبض مصر في مقابل ذلك أربعة ملايين جنيه تستولي عليها في أثناء أربع سنوات (من سنة 1910-1913)، ويكون لها من سنة 1921 حصة من الربح تبدأ بأربعة في المائة، وتزداد إلى ستة فثمانية فعشرة فاثني عشر في المائة إلى سنة 1969، وهي نهاية مدة الامتياز الأصلية. ومتى دخلت مدة الامتياز الجديد تستولي الحكومة المصرية فيه على خمسين في المائة من أرباح الشركة الصافية. ومتى انتهت هذه المدة سنة 2008، تصير القناة وأبنيتها ملكا لها إلا الأدوات والأثاث فتدفع قيمتها.
ولما نشر المستشار مشروعه طلب الأهلون عقد الجمعية العمومية لأخذ رأيها فيه، وفوضت الحكومة إليها الحكم القطعي بشأنه فقررت رفضه. (5-3) عود إلى إسماعيل
وفي السنة الأولى من ولاية إسماعيل حلت ركاب السلطان عبد العزيز في القطر المصري، فلاقى ترحابا جديرا به.
وفي عام 1872 تعدى الأحباش على حدود مصر مما يلي بلادهم، وأسروا بعضا من رعايا مصر فبعثت الحكومة المصرية تطلب ردهم، فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرد فيها إسماعيل حملة لم تنل غرضا فانتهت الحرب بالصلح. وفي عام 1873 شخص - رحمه الله - إلى دار السعادة، فاحتفل بقدومه فعاد وقد حاز رضى الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني، وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة، وهم المغفور لهم: توفيق باشا الخديوي السابق، والبرنس حسن باشا، والبرنس حسين باشا احتفالا واحدا تحدث به الناس زمنا طويلا، ومما زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذ رتبة الوزارة الرفيعة معا. (5-4) الديون المصرية
ولنأت الآن إلى أمر هواهم الأمور المتعلقة بصاحب الترجمة، وعليها مدار ما آل إليه أمره، نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه. وإيضاحا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري. فأول من وضع جرثومة الدين المصري المغفور له سعيد باشا عام 1862، وقدره الاسمي 3292800 جنيه بفائدة 7 بالمائة، وفي السنة التالية تولى صاحب الترجمة تخت الحكومة المصرية، فأخذ في البذل والإنفاق في التشييد والبناء وغير ذلك حتى زادت النفقات على الدخل. فكان إذا أراد عملا جنح إلى الاستقراض لا يبالي بعاقبة ذلك، حتى بلغت ديون مصر نحو مائة مليون جنيه فأصبحت حملا ثقيلا على الخزينة المصرية وعلى أهالي البلاد؛ لأنه كان يضرب الضرائب الفادحة ليفي منها فائدة تلك الديون، ويستخدم العنف في تحصيلها من الأهالي حتى آل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون.
فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سموها صندوق الدين العمومي صدر الأمر العالي بتشكيله في 2 مايو عام 1876، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أنشئ لتأمين أرباب الديون على ديونهم، واستلام ما يستحق لهم من الفوائد وغيرها، وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدين، وأن الدعاوى التي يتراءى لصندوق الدين رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.
وكانت الديون المصرية قسمين: دين الحكومة ودين الدائرة السنية، فضموهما في 7 مايو من تلك السنة إلى دين واحد فبلغ قدره 91 مليون جنيه وسموه الدين الموحد بفائدة 7 بالمائة، ويتم استهلاكه في 65 عاما. ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيد الدين على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في 18 نوفمبر منها أمرا يقول فيه أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ 17 مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدية المصرية ومينا الإسكندرية، وفائدته 5 بالمائة وسماه الدين الممتاز.
على أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الديون حسب الشروط، فعينت الدول عام 1878 لجنة مالية لمراقبة حسابات الحكومة المصرية فرأت فيها عجزا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تعرف بأملاك الدومين. وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين جنيه ونصف، وجعلوا أملاك الدومين رهنا لها، وهذا هو الدين المعروف بدين روتشيلد. (5-5) إقالته
وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسا، أما بعد مداخلة الأجانب بأحوال المالية فلم ير إسماعيل بدا من جعل حكومته شوروية، فشكل مجلس النظار على ما هو عليه الآن برئاسة نوبار باشا وصادق على تعيين ناظرين: أحدهما إنكليزي وهو المستر ولسن للمالية، والآخر فرنساوي وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية. فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئا من نفقات الجند، فرفت جانبا منهم فثار المرفوتون وجاء جماعة منه، وفيهم 400 ضابط إلى نظارة المالية، وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم، أما هم فحالما رأوه ذعروا وكأنه جاءهم برقية أو سحر فانكفئوا راجعين. والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل، وهي أول ثورة عسكرية حدثت في هذا العهد.
ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلصا من عبء التبعة؛ لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا (الخديوي السابق) على أن ذلك لم يقلل شيئا من القلاقل؛ لأن الداء لم يكن في المجلس، ولكنه كان في مقاصد إسماعيل لأنه استعظم أغلال يديه بمجلس فيه ناظران أجنبيان فقلب هيئة ذلك المجلس في 7 أبريل عام 1879، وأخرج الناظرين الأجنبيين وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا، فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا لأنهما اعتبرنا تلك المعاملة إهانة لهما، فعمدتا إلى الانتقام فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرا وجهرا. وفي 26 يونيو عام 1879 صدر الأمر الشاهاني بإقالته وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي 30 منه سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا، ويقال إنه خاطب ابنه توفيق باشا عند سفره قائلا:
لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بإخوتك وسائر الآل برا واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك. على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك وكن أسعد حالا من أبيك.
وما زال بعد سفره مقيما في أوروبا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الأستانة العلية، فأقام فيها إلى أن توفاه الله فيها في 6 مارس عام 1895، وله من العمر 65 سنة فحملت جثته إلى مصر ودفنت فيها. (5-6) أعماله وآثاره
قلنا: إن إسماعيل باشا كان شديد الشغف بتنظيم المدن؛ حتى قيل إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس بالنظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها، وأكثر من فتح الشوارع الجديدة، وابتناء الأبنية الفاخرة كالأوبرا الخديوية والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة، وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضربت بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق والمكتبة الخديوية وهما من أجل الآثار وأنفعها. أما المتحف فقد أنشأه بأمره مارييت باشا وقبره فيه. وكان المتحف أولا في بولاق ثم نقل على عهد الخديوي السابق إلى سراي الجيزة، ثم نقل في عهد الخديوي الحالي إلى بناية بنوها له خاصة بجوار قصر النيل.
شكل 3-22: مارييت باشا مؤسس المتحف المصري.
ومارييت باشا فرنساوي الأصل ولد في بولون سيرمير سنة 1821، ونشأ على حب الآثار المصرية ودرسها. ثم اتفق سنة 1850 أن الإنكليز أنفذوا إلى مصر وفدا لغويا يبحث في مكاتب الديور المصرية عن الكتابات القبطية القديمة، فعثروا في دير بوادي النطرون على أوراق كثيرة أرسلوها إلى لندن فاقتدى الفرنساويون بهم، وكانوا إنما يرجون بأبحاثهم هذه العثور على حقائق جديدة تتعلق بتاريخ اليونان. وكان مارييت قد اشتهر بينهم بمعرفة هذه اللغة، فعينوه في هذه المهمة براتب مقداره ثمانية آلاف فرنك، فسافر في 4 سبتمبر سنة 1850 حتى جاء القاهرة، فرأى أنه لا يستطيع الذهاب إلى ذلك الدير أو غيره إلا بوصية من بطريرك القبط، وكان البطريرك قد غضب من تصرف الوفد الإنكليزي لأنهم حملوا ما حملوه من الكتب جبرا. وبعد السعي والالتماس رضي أن يكتب إلى مارييت كتاب توصية باسم رئيس دير الأنبا مقار. على أن مارييت لم يكن يرجو الحصول على ذلك الكتاب قبل مضي 15 يوما. فلكي لا يضيع فرصة أخذ يتعهد مشاهد القاهرة فسار إلى القلعة. وكان ذهابه إليها سببا لتغيير عظيم في مستقبل حياته؛ لأنه أشرف من سورها على ضواحي العاصمة، فرأى أهرام الجيزة وأهرام سقارة فتاقت نفسه إلى زيارتها، وقد نسي ما جاء من أجله فركب إلى سقارة وتوغل في صحرائها يتوقع العثور على آثار مهمة لقربها من أنقاض منف العظمى، فوقف يتفرس في تلك الرمال القاحلة فرأى فيها حجرا ناتئا يشبه رأس الإنسان فتأمله فإذا هو رأس أبي الهول. وكان قد شاهد أمثال هذا التمثال قبلا فلم يهمه ذلك الاكتشاف لغرابته، ولكنه توسم منه خيرا لما سبق إلى ذهنه مما قرأه في استرابون عن آثار منف، وما زال حتى وفق إلى اكتشاف السرابيون في تاريخ طويل فصلناه في ترجمته في مشاهير الشرق الجزء الثاني. ولما تولى إسماعيل هم بإنشاء متحف الآثار المصرية فلم يجد أولى منه. وتوفي مارييت سنة 1880.
أما المكتبة الخديوية، فما زالت في درب الجماميز حتى نقلت إلى بناية بنوها لها وللمتحف العربي بباب الخلق تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية لما حوته من الآثار العلمية، وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعز وجودها.
ومن أعمال إسماعيل أنه جر الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلا بالقرب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق باستجلاب آلات الإطفاء.
شكل 3-23: نوبار باشا معين الخديوي إسماعيل في إنشاء المجالس المختلطة.
وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن، فقسم القطر المصري إلى 14 مديرية وعين لها المراكز وأسس مجلس النواب ونظمه. ونظم مجالس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكل روابط وحدودا. ووضع نظام المجالس الحسبية وأنشأ مجلس حسبي القاهرة. وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي وزيرة نوبار باشا، فأنفذه سنة 1867 إلى أوروبا مندوبا مفوضا لمخابرة الدول العظمى في إنشاء محاكم مختلطة تقوم مقام المحاكم القنصلية التي كانت مرجع محاكمة الأجانب في ذلك الحين، فقضى في سعيه هذا سبع سنوات يتردد في أثنائها بين ممالك أوروبا، ويفاوض عظماءها وملوكها والخزينة المصرية مفتوحة بين يديه، فأنفق أموالا طائلة ولكنه عاد ظافرا غانما. وقد أراد إسماعيل بتلك المجالس تقليل تفرد القناصل وحصر التوسط الأجنبي، ولكنها كانت سببا لزيادة النفوذ واتساع دائرته. وكانت مصلحة البريد قبلا شركات أجنبية، فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن. (أ) البريد المصري
كان البريد في زمن محمد علي ينقل على الخيل أو على أيدي السعاة بين القاهرة والإسكندرية ودمياط ورشيد. ولما تكاثر الأجانب شعروا بالحاجة إليه فأنشئوا بريدا إفرنجيا تولاه رجل إيطالي سنة 1840 وتولاه غيره حتى دخل في خدمته إيطالي آخر اسمه جاكمو موتسي، وكان نشيطا دربا فعمل على توسيع نطاقه، فأنشأ له نحو سنة 1854 فروعا في دمياط والمنصورة وزفتى ودمنهور ورشيد وطنطا وغيرها.
شكل 3-24: موتسي بك أول مديري البريد المصري.
فقامت المناظرة بين البريد الأوروبي وبريد الحكومة المصرية. ولم تكن الحكومة تستطيع إلغاء ذلك البريد احتراما للامتيازات الأجنبية، فسعت في ضم البريدين، وجعلت فاتحة ذلك الاتفاق رخصة وقتية أعطتها لصاحبي البريد الأوروبي تيتوكين وموتسي، تخولهما إدارة البريد بمصر إلى عشر سنوات على أن تنقل المراسلات بالسكة الحديدية المصرية مجانا، فكان ذلك فاتحة تنظيم البريد.
وتوفي تيتوكين بعد سنتين واستقل موتسي بالعمل، وخطر له الرجوع إلى بلده، فأراد أن يبيع الرخصة لبعض البنوك الإفرنجية فاغتنمت الحكومة هذه الفرصة وعرضت على موتسي المذكور أن يعيد البريد للحكومة قبل انتهاء مدة الرخصة، ويتولى إدارته بنفسه على شروط رضيها، وانضم البريدان سنة 1865 وسميا معا «البوسطة الخديوية»، وسمي جاكمو موتسي مديرا عاما عليها، وأنعم عليه بالرتبة الثانية مع لقب بك فصارا اسمه موتسي بك، وهو أول مديري البريد المصري.
وتكاثر قدوم الأجانب إلى مصر في عصر إسماعيل وزادت الحركة التجارية زيادة كثيرة، وزادت الحاجة إلى البريد فأنشأ موتسي بك فروعا له في البلاد والقرى الكبرى في مصر السفلى والعليا وعلى شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وجعل ديوانه المركزي في الإسكندرية وسن له لائحة وقوانين رسمية، وجعل لمراسلاته تعريفة عمومية، وكانت المراسلات تنقل في أول عهد البريد بلا طوابع. فاصطنع موتسي بك طوابع البريد المصري لأول مرة سنة 1866، وجعل رسمها مثل رسمها الآن في وسطه صوره أبي الهول والأهرام بشكل بيضي، وحوله اسم البريد وقيمة الطابع.
وما زال البريد المصري مستقلا عن البرد الإفرنجية إلى سنة 1868، فعقد أول معاهدة في هذا السبيل مع بريد النمسا، ثم عقد معاهدة أخرى مع بريد إيطاليا، وفي سنة 1873 عقد معاهدة ثالثة مع بريد إنكلترا، وفي السنة التالية (1874) دخل البريد المصري في اتحاد البوسطة العام. (ب) المطابع والجرائد
وحسن إسماعيل مطبعة بولاق، وزاد فيها وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملا للورق ونشط المطبوعات، فلم يكن في القاهرة إلا جريدة الوقائع المصرية تصدر على غير نظام فجعل لها إدارة خاصة بها. وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية كجريدة التجارة، ومصر، والوطن، والأهرام، والكوكب الإسكندري، وروضة الإسكندرية، وروضة المدارس، واليعسوب، ونزهة الأفكار، وحديقة الأبصار، وبالجملة فقد كانت للعلم في أيامه نهضة مرجع الفضل بها إليه؛ لأنه كان يحب العلماء ويجيز المجيدين منهم ويأخذ بناصرهم ماديا وأدبيا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده، وقد ينهض عند تقديمها تنشيطا لهم. (ج) المواصلات
ولم يكن في القطر المصري يوم توليه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية، فأنشأ كثيرا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ومد أسلاك التلغراف حتى أوصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات التجارية والعربات والآلات التلغرافية التي أحدثها بين عام 1281 و1290ه 9658327 جنيها، على تقدير المرحوم صالح مجدي بك. (د) الأبنية
شكل 3-25: سوق الرقيق في الخرطوم - تاجر يساوم على جارية.
ومن آثاره مدينة الإسماعيلية بناها على قنال السويس، وسماها باسمه وجعل فيها الحدائق والقصور، وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر، وزين حديقة الأزبكية بغرس أشجارها وتسويرها ورتب فيها الموسيقى، وبنى بنايات كثيرة بالقرب من طره على طريق حلوان لمعامل البارود والأسلحة الصغيرة أنفق على بنائها مبالغ كبيرة، ولكنه لم يستعملها. وبنى ليمان الإسكندرية والحمامات المعدنية في حلوان ولولاها لم تعمر حلوان، وبنى المرصد بالعباسية، وكثيرا من معامل السكر في سائر أنحاء القطر، هذا فضلا عن الترع الكثيرة والجسور الهائلة. ومن أشهر تلك الترع الإبراهيمية بالصعيد والإسماعيلية بين القاهرة والسويس. ومن أعظم الجسور كبري قصر النيل الموصل بين القاهرة والجزيرة، وبنى حوضا لترميم السفن في السويس.
ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق، وإتمام فتح السودان وإخضاعها، فافتتح مملكة دارفور عام 1291ه وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض وراء خط الاستواء. وعني في تحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكه. وفتح سدا كبيرا جنوبي مديرية فشوده طوله ستون ميلا كان يعيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرا. ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة، كما سيأتي في مقدمة الكلام عن الحوادث السودانية. (5-7) النهضة العلمية في أيامه
وقد علمت ما كان من رواج العلم في زمن محمد علي ثم أصابته صدمة في زمن عباس وسعيد. والأول حالما تولى أقفل المدارس كلها إلا واحدة سماها المدرسة المفروزة لتخريج الضباط البرية والبحرية. حتى مدرسة الطب، فإنه أبدلها بمدرسة بسيطة لإخراج الأطباء للجيش فقط. وكان يختار من تلامذة هاتين المدرستين جماعة يرسلهم إلى أوروبا لإتمام دروسهم كما كان يفعل جده محمد علي.
وجاء بعده سعيد باشا ولم يكن أكثر رغبة من سلفه في التعليم، وكان مع ذلك متقلبا ينشئ المدارس ثم يأمر بإقفالها ثم يفتحها ويقفلها على ما يبدو له أو تمس الحاجة إليه أو تبعث الحالة عليه. وكان عباس الأول لما أقفل المدارس استبقى ديوانها، فأجهز سعيد باشا على ما بقي وحل ذلك الديوان وما زال محلولا حتى أعاده إسماعيل.
تولى إسماعيل باشا سنة 1863 وليس في مصر إلا مدرسة ابتدائية ومدرسة ثانوية ومدرسة حربية ومدرسة طبية صيدلية. وكانت هذه المدارس في حالة يرثى لها من الاختلال والتضعضع، فأمر بتنظيمها وعهد بذلك إلى أدهم باشا وكان قد تولى ديوان المدارس بعد مختار بك سنة 1839 إلى سنة 1849، ففوض إليه إحياء التعليم مهما كلفه إحياؤه. فأنشأ في ناحية العباسية مدرسة ابتدائية، ومدرسة تجهيزية، ومدرسة حربية للفرسان والمشاة، ومدرسة هندسية، ومدرسة للطب. واستقدم للمدرسة الحربية مديرا وأساتذة من أوروبا، وعهد بالمدارس الأخرى إلى أساتذة من الوطنيين المتخرجين في فرنسا. ولو أمعنت النظر في الأحوال السياسية التي كانت محيطة بإسماعيل لرأيته أنشأ هذه المدارس لمثل الغرض الذي أنشأها له جده محمد علي منذ أربعين سنة؛ لأن عنايته الكبرى كانت متجهة على الخصوص إلى المدارس الحربية، وإلى ما يهيئ رجالا يخدمون حكومته. واقتدى بجده أيضا في إرسال الشبان إلى أوروبا لإتمام علومهم.
وسهل إسماعيل قدوم الأجانب إلى مصر ورغبهم فيها، فأنشئوا المدارس على ما يلائم أغراضهم، ولكنها عادت بالنفع على الشبيبة المصرية، وكثيرا ما كانت الحكومة تنشط هذه المدارس بالرواتب السنوية. وحدث في أيام إسماعيل نهضة أدبية بمن وفد على مصر من رجال الأدب من كل الطوائف وأنشئت الصحف وتألفت الجمعيات. فرأى الحال ماسة إلى زيادة العناية في التعليم فأنشأ نظارة المعارف العمومية وعهد إليها بتنظيم المدارس على نمط جديد. فألحقوا مدرسة الحربية بنظارة الحربية، وسموا ما بقي من المدارس «المدارس الملكية» تحت نظارة المعارف العمومية، وقسموها إلى ثلاث طبقات باعتبار درجة التعليم: ابتدائية وثانوية وعليا وأنشئوا مدارس لم تكن من قبل كمدرسة الإدارة، ثم صارت مدرسة الحقوق، ومدرسة دار العلوم، ومدرسة الصنائع والفنون في بولاق، ومدرسة المعلمين، وأعادوا مدرسة الألسن لتخريج شبان يتولون الترجمة والتحرير في الدواوين. أما التعليم العالي فظل محصورا في المدرسة التجهيزية، وأكثر وزراء إسماعيل عملا في ذلك المرحوم علي باشا مبارك.
شكل 3-26: علي باشا مبارك وزير المعارف المصرية.
ولم تمض عشر سنوات من حكم إسماعيل حتى كمل نظام هذه المدارس، وعنيت الحكومة بإنشاء الكتاتيب في سائر أنحاء القطر فبلغ عددها بضعة آلاف، وزاد عدد التلامذة على مائة ألف وفي جملتها مدارس للبنات. غير ما أنشأه الأجانب من المدارس الخصوصية، وأكثرها لجماعة المرسلين من الطوائف النصرانية.
وفي عهده تأسست المحافل الماسونية الوطنية، وبحمايته تعزز شأن الجمعية الماسونية في مصر، وانتشرت مبادئها حتى انتظم في سلكها نجله المغفور له الخديوي السابق وجماعة كبيرة من أمراء البلاد ووجهائها.
شكل 3-27: السيد جمال الدين الأفغاني في موقف الخطابة.
وحدثت في أواخر أيام إسماعيل حركة فكرية وافقت قدوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر فزادت الحركة. وجمال الدين من كبار الرجال، كان له مطمع في الإصلاح السياسي، فأتى مصر سنة 1871 على قصد التفرج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا، فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة راتبا مقداره ألف قرش مصري كل شهر نزلا أكرمته به لا في مقابلة عمل. واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى واستفاضوا بحره ففاض . وحملوه على التدريس فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية من طبيعية وعقلية وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي. وكانت مدرسته بيته فعظم أمره في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه وأعجبوا بعلمه وأدبه وانطلقت الألسن بالثناء عليه وانتشر صيته في الديار المصرية. ثم وجه عنايته لتمزيق حجب الأوهام عن أنوار العقول؛ فنشطت لذلك الباب، واستضاءت بصائره، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية فاشتغلوا على نظره وبرعوا وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه. وكان القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة قليلين.
فنبغ من تلامذته في القطر المصري كتبة لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، وقد ترجمناه مطولا في الجزء الثاني من تراجم مشاهير الشرق.
وخلاصة القول أن مصر كانت في أيام إسماعيل زاهرة والناس في رغد ورخاء، وخصوصا بعد ارتفاع أثمان الأقطان في أثناء حرب أميركا؛ فإن ثمن القنطار الواحد بلغ 16 جنيها فكان سكان هذا القطر السعيد وفيهم الكاتب والشاعر والتاجر والصانع يتحدثون بمآثره وإنعامه وتنشيطه. على أن العقال منهم كانوا لا يغفلون عن ذكر ما كان من إسرافه فوق ما تحتمله حال البلاد، وتنبأ بعضهم بمنقلب تلك الحال ووقوع مصر في وهدة الدين، وتعرضها لمطامع الدول الأجنبية. والواقع أنه لم يترك هذه الديار إلا وقد بلغت ديونها زهاء مائة مليون جنيه كما رأيت. وهي لا تزال تئن من وطأتها إلى الآن، وكان ذلك من أعظم الأسباب لمداخلة الأجانب في إدارة البلاد ومراقبة أعمالها.
على أننا لا ننكر أن الإصلاحات التي أجراها ببعض تلك الأموال قد عادت على البلاد بالنفع الجزيل. ولكننا لا نرى أنها تعوض الخسارة كلها وزد على ذلك أنه لو أحسن التصرف في النفقات وسار بها سيرا قانونيا لكانت العواقب أحسن كثيرا، ولأصبحت مصر في غنى عن كل هذه التقلبات. ويقال إن مقدار الأموال التي دفعت من خزينة الحكومة المصرية بأمره بغير تسمية المدفوع إليه - بمعنى أنه كان يرسل إلى المالية تذكرة بإمضائه يقول فيها ادفعوا إلى رافعه المبلغ الفلاني. فيدفعونه وهم لا يعلمون مصيره - فقد جمعت هذه المبالغ، فبلغت 84 مليونا من الجنيهات. فإذا صحت هذه الرواية كان هذا المبلغ وحده كافيا لوفاء دين مصر. (5-8) صفاته
كان إسماعيل باشا ربعة ممتلئ الجسم قوي البنية عريض الجبهة كثيث اللحية مع ميل إلى الشقرة، أما عيناه فكانتا تتقدان حدة وذكاء مع ميل قليل نحو الحول، أو أن إحداهما أكبر من الأخرى قليلا.
وكان جريئا مقداما ذا قوة غريبة على إقامة المشروعات، كثير العمل لا يعرف التعب ولا الملل ولا مستحيل عنده. وكان ساهرا على مجريات حكومته لا تفوته فائتة. وأما أعمال الدائرة السنية فقد كان يطلع على جزئيات أعمالها وكلياتها، فلا يباع قنطار من الفحم إلا بمصادقته.
وكان عظيم الهيبة جليل المقام لا يستطيع مخاطبه إلا الانقياد إلى رأيه؛ حتى قيل على سبيل المبالغة: إن الذين يخاطبونه يندفعون إلى طاعته بالاستهواء أو النوم المغنطيسي.
وكان حسن الفراسة قل أن ينظر في أمر إلا استطلع كنهه، فإذا نظر إلى رجل عرف سره أو تنبأ بمستقبل أمره. ومما يتناقلونه عنه أنه أدرك مستقبل أحمد عرابي وهو لا يزال ضابطا صغيرا، فأوصى المغفور له الخديوي السابق أن لا يرقيه؛ لئلا يتمكن من بث روحه الثورية فتقود إلى ما لا تحمد عقباه.
وكان يتكلم الفرنساوية جيدا وهي اللغة التي يخاطب بها الأجانب، ويحسن العربية والتركية والفارسية، ويحب الفخر والبذخ والأبهة، وكان منغمسا في الترف مكثرا من السراري والحظايا شديد الوطأة على العامة.
ولكنه مع ذلك كان كثير الميل إلى تنشيط المعارف ورفع منار العلم. ويؤيد ذلك أن مصر بليت عام 1874م بطغيان السيل، فأصابها جهد عظيم فوجه التفاته إلى حال المزارعين والتجار، فأراد جماعة من تجار الإسكندرية أن يقيموا له تمثالا تذكارا لفضله، فأبى وأمر أن يقام بدل ذلك التمثال مدرسة للتعليم. (5-9) تركته ووصيته
يعسر تقدير تركة إسماعيل تقديرا مدققا لكثرة فروعها، واختلاف جزئياتها وتفرقها في البلاد، ولكن المعروف من تركته أنه استبدل معاشه قبل مماته باثنين وعشرين ألف فدان من الأطيان، باع ألفين منها للأوقاف العمومية و1500 للجناب العالي، فبقي له 18500 فدان، منها 12 ألف فدان في تفتيش إيتاي البارود وقفها على زوجاته الثلاث في حياتهن ثم يرثها ورثته بعدهن. والباقي وقدره 6500 فدان يقسم على الورثة. وترك غير ذلك مما ورثه عن والدته وهو 5000 فدان وهبها لها المرحوم عباس باشا الأول وهي مرهونة، و900 فدان وقصرا في حلوان وسراي القصر العالي و34 فدانا تابعة لها. وما ورثه عن ابنه المرحوم البرنس علي باشا جمالي الذي توفي منذ بضع عشرة سنة وهو 600 فدان. وترك في العباسية قصر الزعفران، وفي الأستانة قصر ميركون، وهو يحتوي على قصرين كبيرين وقصرين صغيرين، وترك فيها أيضا قناق بايزيد وتقدر قيمة أرضه بثلاثين ألف جنيه وأصله للمرحوم البرنس حليم باشا ورثه عن أخته زينب هانم، فأخذه جلالة السلطان منه ووهبه للفقيد. فهذه التركة كلها ما عدا سراي الزعفران تقسم على الورثة بعد إيفاء ديونه التي تقدر بنحو 180 ألف جنيه.
أما وصيته فإنه كان قد أضاف 4700 أو 4800 فدان من أطيانه في أيام ولايته إلى الأطيان الموقوفة على أهل قواله، وقدرها 10 آلاف فدان في كفر الشيخ، وجعل لنفسه الشروط العشرة في هذا الوقف بما فيها من حق التغيير والإبدال. ثم آلت نظارة هذا الوقف إليه ففصل 4700 فدان التي أضافها إليه عملا بحقه ووقفها على حاشيته كلها، ولم يستثن أحدا منهم فرنساويا كان مثل سكرتيره أو إنكليزيا مثل طبيبه أو غيرهما من الأتباع والجواري اللواتي يبلغ عددهن 450 جارية عدا 400 بيضاء كان قد زوجهن بأعيان مصر قبل مفارقته هذه البلاد.
وقد أقام صديقه الحميم راتب باشا وكيلا لحرمه، وأوصى أن يعطى 150 جنيها شهريا وأن تعطى حرمه 50 جنيها شهريا، وأن يضاف راتبها إلى راتبه إذا توفيت في حياته، ويؤخذ راتبهما كليهما من تفتيش إيتاي البارود.
وتئول نظارة وقف قواله بعده إلى البرنسس زبيدة هانم بنت محمد علي باشا الصغير ابن محمد علي باشا الكبير. وتئول نظارة وقف القصر العالي إلى البرنس عثمان باشا فاضل، ولهذا الوقف بيوت ونحو 1200 فدان من الأطيان، ويبلغ دخله نحو 5 آلاف جنيه سنويا. وقد ترك سراي الزعفران لحرمه الثلاث. وكذلك كل منقولاته وقيمتها غير معلومة. (6) محمد توفيق باشا الخديوي السابق (ولد سنة 1852 وتولى سنة 1879 وتوفي سنة 1892)
شكل 3-28: محمد توفيق باشا الخديوي السابق.
هو أكبر أنجال المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، ولد سنة 1852 وأدخله والده مدرسة المنيل وسنه تسع سنوات، فدرس فيها اللغة والجغرافيا والتاريخ والطبيعيات والرياضيات واللغات العربية والتركية والفرنساوية والإنكليزية. وكان ميالا للعلم من صغر سنه فأحرز منه جانبا أهله لرئاسة المجلس الخصوصي في حياة والده وسنه 19 سنة. ثم تقلد نظارة الداخلية ونظارة الأشغال العمومية ورئاسة مجلس النظار.
ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره تزوج بكريمة المرحوم إلهامي باشا، وهي مشهورة بالجمال والتعقل والكمال. وفي السنة التالية (1874) ولد له بكره (الخديوي الحالي) فسماه عباس حلمي. ثم ولد البرنس محمد علي سنة 1876، والبرنسس خديجة هانم سنة 1877، والبرنسس نعمت هانم سنة 1881.
وما زال يتقلد المناصب في عهد المرحوم أبيه حتى قضت الأحوال بإقالته كما تقدم في ترجمته، فاستلم - رحمه الله - أزمة الأحكام في 26 يونيو سنة 1879، وجاءه التلغراف من الصدر الأعظم يؤذن بذلك هذا نصه:
بناء على أن الخطة المصرية هي من الأجزاء المتمة لجسم ممالك السلطنة السنية، وأن غاية حضرة صاحب الشوكة والاقتدار إنما هي تأمين أسباب الترقي وحفظ الأمن والعمارة في الممالك، وبناء على أن الامتيازات والشرائط المخصوصة الممنوحة للخديوية المصرية مبنية على ما للحضرة الشاهانية من المقاصد المذكورة الخيرية. وبناء على تزايد أهمية ما حصل في القطر المصري ناشئا عما وقع فيه من المشكلات الداخلية والخارجية الفائقة العادة، وجب تنازل والد جنابكم العالي إسماعيل باشا. ثم إنه بناء على ما اتصفت به ذاتكم السامية الآصفية من الرشد وحسن الروية على ما ثبتت لدى ملجأ الخلافة الأسمى، من أن جنابكم الداوري ستوفقون إلى استحصال أسباب الأمنية والرفاهية لصنوف الأهالي، وإلى إدارة أمور المملكة على وفق إرادة الحضرة الشاهانية الملوكانية، توجهت الإرادة العلية بتوجيه الخديوية الجليلة إلى عهدة استئهال آصفانيتكم، وبناء على الفرمان العلي الشأن الذي سيصدر حسب العادة على مقتضى الإرادة السنية السلطانية التي صار شرف صدورها. وبناء على ما كتب في التلغراف إلى حضرة المشار إليه إسماعيل باشا، من تخليه عن النظر في أمور الحكومة وتفرغه منها بصورة وقوع انفصاله. وقد تحرر تلغراف هذا العاجز لكي يعلن حال وصوله للعلماء والأمراء والأعيان وأهل المملكة جميعا، وتباشر من بعده أمور الحكومة. وهذا من التوجيهات الوجيهة إلى أثر استحقاق آصفانيتكم لتجري التنظيمات والترقيات مبدأ ومقدمة، ويصير تكرير الدعاء بتوفيق الذات الجليلة الفخيمة السلطانية؛ ولذلك صارت المبادرة إلى إيفاء لوازم التهنئة لحضرتكم أيها الخديوي المعظم والأمر والفرمان على كل حال لمن له الأمر أفندم.
الإمضاء
خير الدين
فصدرت الأوامر بإعداد ما يلزم للاحتفال بذلك، وجلس سموه في القلعة يستقبل المهنئين من الوزراء والعلماء يتقدمهم نقيب الأشراف ثم القاضي ثم شيخ الجامع الأزهر ثم جاء القناصل، وبعد ذلك دخل الذوات وأمراء العسكرية والملكية، ثم رجال الحقانية ثم النواب ووجهاء البلاد، ثم أرباب الجرائد، ثم الموظفون والمستخدمون وغيرهم. ومن جملة من وفد للتهنئة وفد ماسوني جاء بالنيابة عن الشرق الأعظم المصري، فقدم عبوديته فنال من سموه عواطف الرضاء عنهم وعن أعمالهم، ووعدهم رعاية محافلهم وحمايتها فانصرفوا شاكرين. وبعد ذلك أرسل الجناب الخديوي تلغرافا إلى الباب العالي جوابا على التلغراف المؤذن بارتقائه إلى كرسي الخديوية. (6-1) كيف كانت حالة مصر لما تولاها توفيق باشا
أقيل إسماعيل ومصر تحت المراقبة المالية، وقد فرغت خزينتها من المال وأفسدت قلوب جندها على أمرائهم حتى كسروا قيد الحرمة بالثورة التي أحدثها إسماعيل. وقد تنافرت قلوب سكان هذا القطر بسياسة خديويها المعزول؛ فإنه أغضب العامة بشدة وطأته عليهم، وجعل الأغنياء في خطر على أموالهم وبعث الأجانب على سوء الظن بالحكومة لتأخرها عن دفع ديونهم، ولم يتفق الدول على العمل في حفظ حقوقها. وقد اشتد كره العرب للأتراك وخوف الأتراك من الإفرنج، فلم يكن ثمة مندوحة عن الاستعانة بأوروبا لتسوية الأحوال واستمرارها.
وكان في جملة المشاكل التي خلفها إسماعيل بمصر اضطراب العلائق بينها وبين الباب العالي. وكان الباب العالي قد منح إسماعيل امتيازات أهمها أربعة: (1) جعل ولاية العهد في الأبناء. (2) حق عقد المعاهدات التجارية مع الدول. (3) عقد القروض المالية. (4) زيادة عدد الجند حسب الحاجة. فلما أقيل إسماعيل أراد السلطان إلغاء هذه الامتيازات وتصدت للدفاع عنها إنكلترا وفرنسا صاحبتا المراقبة على أحوال مصر. وكانت فرنسا تحب قطع علاقة مصر مع الباب العالي أو حلها على الأقل. وأما إنكلترا فكانت لا ترى خروج مصر من سيادة الدولة العثمانية. واتفقت الدولتان على بقاء الإرث في البكر من الأبناء؛ لأنه أدعى إلى منع الفتن والدسائس ودافعتا عن تفويض مصر في عقد المعاهدات التجارية وعقد القروض. لكن السلطان أفلح في تحديد عدد الجند، فجعله لا يزيد على 18000 جندي وصدر الفرمان بذلك في 14 أغسطس سنة 1879 وهذا نصه:
الفرمان بولاية توفيق باشا
الدستور الأكرم والمعظم الخديوي الأفخم المحترم نظام العالم وناظم مناظم الأمم، مدير أمور الجمهور بالفكر الثاقب متمم مهام الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيد أركان السعادة والإجلال، مرتب مراتب الخلافة الكبرى، مكمل ناموس السلطنة العظمى المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى، خديوي مصر الحائز لرتبة الصدارة الجليلة فعلا، الحامل لنيشاننا الهمايوني المرصع العثماني، ولنيشاننا المرصع المجيدي وزيري سمير المعالي توفيق باشا، أدام الله تعالى إجلاله وضاعف بالتأييد اقتداره وإقباله.
إنه لدى وصول توقيعنا الهمايوني الرفيع يكون معلوما لكم أنه بناء على انفصال إسماعيل باشا خديوي مصر في اليوم السادس من شهر رجب سنة 1296ه وحسن خدامتكم وصداقتكم واستقامتكم لذاتنا الشاهانية والمنافع دولتنا العلية، ولما هو معلوم لدينا أن لكم وقوفا ومعلومات تامة بخصوص الأحوال المصرية، وأنكم كفؤ لتسوية بعض الأحوال الغير المرضية التي ظهرت بمصر منذ مدة وإصلاحها؛ وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المعلومة مع الأراضي المنضمة إليها المعطاة إلى إدارة مصر توفيقا للقاعدة المتخذة بالفرمان العالي الصادر في 12 محرم سنة 1283ه المتضمن توجيه الخديوية المصرية إلى أكبر الأولاد ، وحيث إنكم أكبر أولاد الباشا المشار إليه قد وجهت إلى عهدتكم الخديوية المصرية. ولما كان تزايد عمران الخديوية وسعادتها وتأمين راحة كافة أهاليها وسكانها ورفاهيتهم هي من المواد المهمة لدينا، ومن أجل مرغوبنا ومطلوبنا، وقد ظهر أن بعض أحكام الفرمان العلي الشأن المبني على تسهيل هذه المقاصد الخيرية، المبين فيه الامتيازات الحائزة لها الخديوية المصرية قديما، نشأت عنها الأحوال المشكلة الحاضرة المعلومة؛ فلذلك صار تثبيت المواد التي لا يلزم تعديلها من هذه الامتيازات وتأكيدها، وصار تبديل المواد المقتضى تبديلها وتعديلها وإصلاحها، فما تقرر إجراؤه الآن هو المواد الآتية، وهي: أن كافة واردات الخطة المذكورة يكون تحصيلها واستيفاؤها باسمنا الشاهاني. وحيث إن أهالي مصر أيضا من تبعة دولتنا العلية، وأن الخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة والمالية والعدلية بشرط أن لا يقع في حقهم أدنى ظلم ولا تعد في وقت من الأوقات، فخديوي مصر يكون مأذونا بوضع النظامات اللازمة للداخلية المتعلقة بهم وتأسيسها بصورة عادلة. وأيضا يكون خديوي مصر مأذونا بعقد وتجديد المشارطات مع مأموري الدول الأجنبية بخصوص الجمرك والتجارة، وكافة أمور المملكة الداخلية لأجل ترقي الحرف والصنائع والتجارة واتساعها، ولأجل تسوية المعاملات السائرة التي بين الحكومة والأجانب أو بين الأهالي والأجانب، بشرط عدم وقوع خلل بمعاهدات دولتنا العلية البولوتيقية وفي حقوق متبوعية مصر إليها. وإنما قبل إعلان الخديوية المشارطات التي تعقد مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي.
وأيضا يكون حائزا للتصرفات الكاملة في أمور المالية، لكنه لا يكون مأذونا بعقد استقراض من الآن وصاعدا بوجه من الوجوه، وإنما يكون مأذونا بعقد استقراض بالاتفاق مع المدائنين الحاضرين أو وكلائهم الذين يتعينون رسميا. وهذا الاستقراض يكون منحصرا في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصا بها. وحيث إن الامتيازات التي أعطيت إلى مصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خصت بها الخديوية وأودعت لديها لا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها، أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية إلى الغير مطلقا. ويلزم تأدية مبلغ 750 ألف ليرة عثمانية، وهو الويركو المقرر دفعه في كل سنة في أوانه. وكذلك جميع النقود التي تضرب في مصر تكون باسمنا الشاهاني. ولا يجوز جمع عساكر زيادة عن ثمانية عشر ألفا؛ لأن هذا القدر كاف لحفظ أمنية إيالة مصر الداخلية في وقت الصلح. وإنما حيث إن قوة مصر البرية والبحرية مرتبة من أجل دولتنا، يجوز أن يزاد مقدار العساكر بالصورة التي تستتب فيها حالة دولتنا العلية محاربة. وتكون رايات العساكر البرية والبحرية والعلامات المميزة لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم. ويباح لخديوي مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية إلى غاية رتبة أميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية. ولا يرخص لخديوي مصر أن ينشئ سفنا مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية. ومن الواجب وقاية كافة الشروط السالفة الذكر، واجتناب وقوع حركة تخالفها. وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها قد أصدرنا أمرنا هذا الجليل القدر الموشح أعلاه بخطنا الهمايوني، وهو مرسل صحبة افتخار الأعالي والأعاظم ومختار الأكابر والأفاخم علي فؤاد بك باشكاتب المابين الهمايوني، ومن أعاظم دولتنا العلية، الحائز والحامل للنياشين العثمانية والمجيدية ذات الشأن والشرف.
حرر في 19 شهر شعبان المعظم سنة 1296 من هجرة صاحب العزة والشرف
وكان توفيق باشا من أشد الخديويين غيرة على الوطن المصري، ولم يكن له بد من تشكيل وزارة يثق بها تعينه على الحكومة مع تحديد سلطته وسلطتها وعلاقة البلاد بالدولة العثمانية. فانتدب المرحوم شريف باشا لتشكيل وزارة فلبى الدعوة، لكنه عرض عليه لائحة في إنشاء الدستور فلم يوافق الخديوي عليها فقدم استعفاءه في 18 أغسطس سنة 1879 فقبل. فعزم الخديوي - رحمه الله - أن يتولى رئاسة الوزارة بنفسه. ولم يطل ذلك فانتدب رياض باشا لتشكيل الوزارة فشكلها في 22 سبتمبر تحت رئاسته.
وفي أثناء ذلك وافق الخديوي على تعيين المفتشين الماليين لمراقبة مالية مصر، وهما المسيو بارنج (اللورد كرومر) عن إنكلترا والمسيو بلينيار عن فرنسا. وكانت الحكومة الخديوية قد أصدرت أمرا عاليا بحدود سيادة هذين المفتشين، فجعلت لهما حق الحضور في مجلس النظار على أن يكون لهما رأي استشاري. فلم تمض بضعة أشهر حتى استقرت أحوال الحكومة، وتشكلت الوزارة وتقررت العلائق بين مصر والسلطان وبينها وبين المراقبين أو المفتشين الماليين. ولم يتم حسن التفاهم بينهما وبين الوزارة إلا بعد حين. وكان في جملة العراقيل في سبيل الأزمة المالية مسألة تصفية الديون وتقدير الميزانية الجديدة. (6-2) تصفية الديون
أما تصفية الديون فتعينت لها لجنة في 5 أبريل سنة 1880 من خمسة أعضاء أوروباويين وعضو وطني هو المرحوم بطرس باشا غالي لينوب عن الحكومة المصرية. وأخذت اللجنة في عقد جلساتها والعمل مع المفتشين الماليين، وفرغت من ذلك في 11 يوليو من تلك السنة ووضعت قانونا صادق عليه الجناب الخديوي هذه خلاصته: (1)
أن صافي إيرادات السكك الحديدية والتلغرافات ومينا الإسكندرية يكون مخصصا لتسديد فوائد واستهلاك الدين الممتاز دون غيره. أما فائدته فتبقى 5 بالمائة على القيمة الاسمية. والقيمة التي تدفع سنويا لفائدة واستهلاك هذا الدين تكون 1157768 جنيها سنويا. (2)
أن صافي إيرادات الجمارك وعوائد الدخان الوارد ومديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط بما فيه جميع الرسوم المقررة إلا إيراد الملح والدخان البلدي. جميع صافي هذه الإيرادات تبقى مخصصة لتسديد الدين الموحد والفائدة باعتبار أربعة بالمائة. (3)
أن أملاك الدائرة السنية وأملاك الدائرة الخاصة المذكورة في الكشوف والرهون العقارية المسجلة وغيرها تكون ملكا للحكومة وهي تكون مخصصة لضمانة دين الدائرة السنية العمومي. (4)
تسوية الدين السائر تكون من البواقي من سلفة الأملاك الأميرية ومن النقود الباقية لغاية سنة 1879م في خزينة النظارات والمديريات والمصالح التي لم تخصص للدين المنتظم ومن الزائد من دفعات المقابلة وموجود نقدية في صندوق الدين العمومي ومن المبالغ التي يمكن تحصيلها من المتأخرات لغاية 1879م ومن العوائد والرسوم والأموال من أي نوع كانت. ومن العقارات الجائز للحكومة التصرف بها ولم تكن مخصصة. وما ينتج من تغيير البونات أو السندات. ومن سندات الدين الممتاز التي توجد على مقتضى المدون في البند السادس من قانون التصفية. ومن الجزء المخصص لاستهلاك الدين المنتظم حسب المدون في البند 15 من القانون. ومن الزيادات التي تظهر في الموازين كما هو مبين في البند السابع من قانون التصفية.
هذه شذرة صغيرة من قانون التصفية، ومن أحب التفصيل فليراجع القانون نفسه فإنه مؤلف من 99 بندا ومعه كشفان عن التسويات التي حصلت وغيرها.
وبذلت الحكومة جهدها بأثناء ذلك في تخفيف أثقال الأهلين وفي نشر الأمن، فأصدرت أمرا بإلغاء الضرائب الدنيئة والشخصية وأبطلت بون حليم باشا. ثم داهمتها الثورة العسكرية المعروفة بالحوادث العرابية فأحدثت فيها انقلابا سياسيا لا يزال باقيا إلى الآن وإليك تفصيلها: (6-3) الثورة العسكرية أو الحوادث العرابية (أ) تمهيد في العرب والترك
ما زالت مصر منذ دخلت في حوزة الأتراك قبل العثمانيين وبعدهم، وهي ترى للتركي حقا في السيادة تهابه وتخشى بأسه وتتوقع منه الاستبداد، رغم قلة الأتراك وكثرة العرب. وقد ظهر نفوذهم على الخصوص في الجندية، فقد كانت المناصب العالية والرواتب الفادحة والكلمة النافدة للتركي، وما على العربي إلا الطاعة. ويندر فيهم من يجسر على الشكوى أو التظلم جهارا، ولعل أول من فعل ذلك منهم أحمد عرابي وهو جندي صغير. وقد جرأه على ذلك سعيد باشا بما كان له من الرغبة في رفع شأن أبناء العرب. وهاك ما رواه أحمد عرابي نفسه في أثناء كلامه عن سيرة حياته قال:
وكان المرحوم سعيد باشا عليه سحائب الرحمة والرضوان قد تولى الحكومة الخديوية في 15 شوال سنة 1270، وأمر بدخول أولاد مشايخ البلاد وأقاربهم في العسكرية، فدخلت من ضمنهم وانتظمت في سلك الأورطة السعيدية المصرية بقناطر فم البحر في شهر ربيع أول عام 1271، وجعلت فيها وكيل بلوك أمين من أول يوم صار انتظامي في سلك العسكرية بعد امتحاني بحضور إبراهيم بك أمير الآلاي وحسن أفندي الألفي حكيم الآلاي. ثم ترقيت إلى رتبة بلوك أمين في شهر رجب من السنة المذكورة بعد إعادة الامتحان مع الطالبين لذلك من غير واسطة أحد غير الجد والاجتهاد. وبعد عام نظرت فرأيت بعض الباشجاويشية المصريين ترقى إلى رتبة الملازم الثاني، وعلمت أن البلوك أمين لا يترقى إلا إلى رتبة الصول قول أغاسي وفيها يفنى عمره. فجزعت من ذلك وذهبت إلى أمير الآلاي وطلبت منه ترتيبي في رتبة جاويش في أورطة كانت أفرزت لإرسالها إلى مدينة المنصورة. فسألني الميرالاي المذكور عن سبب ذلك حيث إن راتب الجاويش أقل 10 غروش من راتب البلوك أمين وإن كانت الرتبتان متساويتين. فأفصحت له عما خالج فكري وإني إذا صرت جاويشا سهل علي الحصول على رتبة الباشجاويش ثم الانتقال إلى رتبة ضابط. فعجب لذلك الخاطر وأمر في الحال بجعلي جاويشا. فمكثت في هذه الرتبة سنتين، وفي تلك المدة حبب إلي الاعتزال عن الناس والاشتغال بدراسة قوانين العسكرية مع التدبر في معانيها حتى أتقنت قانون الداخلية، وقوانين تعليم النفر والبلوك والأورطة، وبعض فصول من تعليم الألاي. وفي أوائل عام 1274 أمر سعادة راتب باشا بجمع الصف ضباط فاجتمعنا حوله في فسحة قصر النيل، وبلغنا إرادة المرحوم سعيد باشا وقال: إن أفندينا بلغه أنكم تقولون فيما بينكم: كيف يصير ترقي الصف ضباط الجدد، وتأخير من هو أقدم منهم في الرتب؟ وإنه أمر أن لا يترقى أحد بعد الآن إلا بعد الامتحان علما وعملا، فمن فاق أقرانه في الامتحان ترقى إلى الرتبة التي يستحقها ولو لم يلبث في رتبته الأولى غير شهر واحد، فمن أراد منكم الامتحان فليتقدم إلى الأمام. فعند ذلك تقدمت أمام سعادته وأحجم الآخرون خوفا وهلعا ظنا منهم أنه يريد معاقبة من يتظاهر بذلك. ولما كرر عليهم الطلب خرج آخر وآخر حتى بلغ عدد الراغبين في الامتحان نحو 30 شخصا، فصار امتحانهم بحضوره تحت رئاسة المرحوم إسماعيل باشا الفريق، فكنت أول فائز في الامتحان. ا.ه.
وفحوى ذلك أن الوطنيين يشكون من ترقية سواهم وتأخيرهم. فلم يكن ذلك إلا ليزيد الضغائن في صدور الأتراك والشراكسة من كبار الضباط. وخصوصا في زمن إسماعيل فإنه لم يكن يرى رفع شأن الوطنيين فكانت الضغائن تتزايد بينهم وبين الأتراك والشراكسة، ولكن إسماعيل كان شديد الوطأة يخافه العرب والأتراك، فلم يحدث في أيامه ما يخشى عاقبته، وإن يكن هو أول من جرأ الجند على التمرد وطلب الحقوق كما تقدم في سيرة حياته.
فلما أفضت الخديوية إلى المرحوم توفيق باشا، وكان محبا للوطنيين رفيقا بهم راغبا في رفع شأنهم تنفسوا الصعداء. وأنعم على الضباط بالرتب وفي جملتهم أحمد عرابي. (ب) أول نشأة عرابي
هو في الأصل من أبناء الفلاحين ويرجع بنسبه إلى الإمام الحسين، وقد قص ترجمة حياته للهلال في بضع وعشرين صفحة نشرت في تراجم مشاهير الشرق الجزء الأول، نقتطف منها قوله في نشأته الأولى قال:
ومولدي بقرية هرية رزنة بمديرية الشرقية على ميلين من شرقي الزقازيق، وهي بلدة قديمة جدا من ضواحي مدينة بوباسطة كرسي مملكة العائلة 22 في زمن شيشاق ابن نمرود التي يقال لها الآن «تل بسطة». وعشيرتي فيها نحو ربع تعدادها. وكان والدي - رحمه الله تعالى - شيخا عليها إلى أن توفي في شهر شعبان سنة 1264ه في زمن الهواء الأصفر عن ثلاث نسوة وأربعة أولاد وست بنات. وكنت ثاني أولاده الذكور وسني 8 سنوات، وترك لنا 74 فدانا ولو شاء لاستكثر من الأطيان الزراعية، ولكنه كان - رحمه الله - يراعي مصلحة أبناء عمومته؛ حيث إن أطيان القرية كغيرها كانت مكلفة بأسماء المشايخ يوزعونها بمعرفتهم على أهل بلادهم بحسب الاحتياج، وظلت كذلك إلى عهد المغفور له عباس باشا الأول، وهو أول من كلف الأطيان بأسماء الأفراد، وألزمهم بدفع خراجها وما زاد عنهم يترك للميري ويسمونه المتروك. وكان والدي - عليه سحائب الرحمة والرضوان - عالما فاضلا تقيا نقيا، أقام بالجامع الأزهر 20 سنة تلقى فيها الفقه والحديث والتفسير، وبرع في كثير من العلوم النقلية والعقلية على كثير من المشايخ كشيخ الإسلام القويسني - رحمه الله تعالى - وغيره من العلماء الأطهار. ولما آلت إليه وظيفة الشياخة على عشيرته، جدد عمارة المسجد المنسوب إلى عشيرته بالقرية، وفيه أربعة أعمدة من الحجر الصوان القديم ومنبر من الخشب عجيب الصنعة. وأنشأ بجوار المسجد مكتبا لتعليم القرآن الشريف، وجعل له فقيها صالحا عالما يسمى الشيخ نجم من سلالة السيد العزازي، وألزم الأهالي بتعليم أولادهم. وكان - رحمه الله - يشدد عليهم في ذلك حتى صار نحو نصف تعداد الناحية المذكورة يحسنون القراءة والكتابة ، وكل منهم يعرف واجباته الدينية، ومنهم نحو مائة وخمسين فقيها عالما، ومنهم المرحوم الشيخ محمد حسين الهراوي من علماء الجامع الأزهر والشيخ العارف بالله إبراهيم المصيلحي نفع الله به المسلمين. فلما بلغ سني 5 سنوات أرسلني والدي إلى المكتب المذكور. فأقمت فيه ثلاثة أعوام ختمت فيها القرآن الشريف، وعمري إذ ذاك ثماني سنين وبضعة شهور. فلما توفي والدي كفلني أخي الأكبر المرحوم السيد محمد عرابي الذي توفي في 25 شعبان سنة 1318 - رحمه الله تعالى - وأخذت عنه مبادئ علم الحساب وتحسين الخط، مع ملاحظة بعض أشغال الزراعة. ثم بدا لي المجاورة في الأزهر حين بلغت اثني عشر عاما، فكنت أجود القرآن على أقاربي وأهل بلدي نهارا، وأتوجه إلى بيت عمتي ليلا، وتلقيت قليلا من الفقه والنحو، وبعد سنتين رجعت إلى بلدي. ا.ه.
شكل 3-29: أحمد عرابي بلباسه العسكري.
وقد تقدم ما قاله عن نفسه في زمن سعيد باشا، وقد ارتقى في أيامه إلى رتبة قائمقام، وظل في هذه الرتبة كل أيام إسماعيل. فلما تولى توفيق باشا أحسن إليه برتبة أميرالاي على الآلاي الرابع. ولما تشكلت الوزارة الرياضية التي تقدم ذكرها كان ناظر الجهادية فيها عثمان رفقي باشا وهو شركسي متعصب على العرب، وفي جملة مساعيه أن يمنع ترقية المصريين من العسكر العامل في الآلايات والاكتفاء بما يستخرج من المدارس الحربية وصدرت أوامره بذلك. ثم أردفها بإحالة عبد العال حلمي بك أميرالاي السودان على ديوان الجهادية ليكون معاونا، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة. ورتب بدله خورشيد نعمان بك من جنسه على الآلاي المذكور، وكان سنه فوق الستين وهو ضعيف لا يقدر على الحركة العسكرية. وامر برفت أحمد بك عبد الغفار قائمقمام السواري، وترتيب شاكر بك طمازه من جنسه بدله، وهو طاعن في السن. ثم ختمت تلك الأوامر وقيدت بدفاتر الجهادية.
وكان أحمد عرابي قد نال منزلة بين أقرانه لما فطر عليه من الجرأة والغيرة، فأراد الضباط أبناء العرب الاجتماع للاحتجاج على هذه المعاملة، فاختاروا ليلة أقيمت فيها وليمة يتلى فيها القرآن بمنزل نجم الدين باشا بمناسبة عودته من الحج في 14 صفر سنة 1298، قال أحمد عرابي يروي الواقع بنفسه وهو من جملة المدعوين:
ولما وصلت إلى منزل الداعي وجدته غاصا بالذوات العسكرية وغيرهم، فجلست بجوار المرحوم نجيب بك وهو رجل كردي الأصل وبجانبه المرحوم إسماعيل كامل باشا الفريق وهو شركسي الأصل، ولكنه يتظاهر بحب العدل والإنصاف ، فأخبرني نجيب بك بما صار، وأنه نصح لناظر الجهادية بالإعراض عن هذه الإجحاف فلم يصغ لقوله؛ ولذا فهو ساخط ومضطرب، ثم أوعز إليه أن يخبرني بما سمع منه. فأخبرني نجيب بك بحقيقة الحال همسا في أذني، فقلت لإسماعيل باشا كامل: «أحق هذا؟» فقال: «نعم وأعطيت الأوامر إلى الكتبة للإجراء على مقتضاها.» فقلت له: «إن تلك لقمة كبيرة لا يقوى ناظر الجهادية عثمان رفقي على هضمها.» وبعد تناول طعام الوليمة حضر لي أحد الضباط، وأخبرني بأن كثيرا من الضباط ينتظرونني بمنزلي، وفيهم عبد العال بك حلمي وعلي بك فهمي. فأسرعت إليهم وهم في هياج عظيم وقد بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم. فلما رأوني أخبروني بما سمعته من المرحوم إسماعيل باشا كامل. فقلت لهم: «قد سمعت من غيركم فماذا تريدون؟» فقالوا: «إنه ليس ذلك فقط، بل إنه قد كثر اجتماع الشراكسة بمنزل خسرو باشا الفريق صغيرا وكبيرا، وهم يتذاكرون كل ليلة في تاريخ دولة المماليك بحضور عثمان رفقي باشا، ويلعنون حزبك ويقولون: قد حان الوقت لرد بضاعتنا، وأنهم لا يغلبون من قلة، وظنوا أنهم قادرون على استخلاص مصر وامتلاكها، كما فعل أولئك المماليك.» وقد تحققوا ذلك ممن يوثق بخبره. فقلت لهم: «وماذا تريدون إذن؟» فقالوا: «إنما جئناك لأخذ رأيك فيما دهمنا من الخطب العظيم.» فقلت لهم: «أرى أن تطيبوا نفوسكم وتهدئوا روعكم، وتعتمدوا على رؤسائكم وتفوضوا لهم النظر في مصالحكم، وهم ينتخبون لكم رئيسا منهم يثقون به كل الوثوق، ويطيعون أمره ويحفظونه بمعاضدتكم.» فقالوا كلهم: «قد فوضنا الأمر إليك وليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك.» فقلت لهم: «لا، انظروا غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي.» فقالوا: «لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك.» فقلت: «فارجعوا لأنفسكم فإن هذا أمر عصيب لا يسع الحكومة إلا قتل من يقوم به أو يدعو إليه.» فقالوا: «نحن نفديك ونفدي الوطن بأرواحنا.» فقلت لهم: «أقسموا لي على ذلك.» فأقسموا، وفي الحال كتبت عريضة إلى دولة رئيس النظار رياض باشا مقتضاها الشكوى من تعصب عثمان رفقي لجنسه، والإجحاف بحقوق الوطنيين والتمست فيها أولا: تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة المصرية تنفيذا للأمر الخديوي الصادر إبان توليته. ثانيا: إبلاغ الجيش إلى ثمانية عشر ألفا تطبيقا لمنطوق الفرمان السلطاني. ثالثا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للمساواة بين جميع أصناف الموظفين بصرف النظر عن الأجناس والأديان والمذاهب. رابعا: تعيين ناظر الجهادية من أبناء البلاد على حسب القوانين العسكرية التي بأيدينا. ثم تلوت العريضة هذه على مسامع الجميع، فوافقوا كلهم عليها فأمضيتها بإمضائي وختمتها بختمي، وختم عليها أيضا علي فهمي بك أميرالاي الحرس الخديوي وعبد العال بك أميرالاي السودان. ا.ه.
شكل 3-30: رياض باشا.
ويظن اللورد كرومر أن المحرك الأصلي لهذه الحركة الأميرالاي علي فهمي قومندان الآلاي الأول وعليه حراسة القصر الخديوي. وكان قد استاء من معاملة الخديوي، فأراد أن ينتقم لنفسه فدبر هذه المظاهرة. (ج) فوز العرابيين الأول
ولما وصلت العريضة إلى رياض باشا استخف بها، وأهمل الرد عليها أياما وهو يحرض أصحابها على سحبها وهم يرفضون. ثم بلغهم أن عريضتهم كان لها وقع سيئ عند الخديوي وحاشيته الأتراك. ثم أرسل الخديوي يلح على الوزارة بسرعة الرد فقررت سرا محاكمة العارضين في مجلس عسكري بعد أن يقبض عليهم ويسجنوا. لكن ذلك السر وصلهم فاستعدوا للدفاع، فلما جاء أمر النظار بدعوتهم إلى قصر النيل دبروا شأنهم مع الآلايات، وذهبوا إلى القصر فجردوهم من السلاح وأوقفوهم تحت المحاكمة وإذا برجال آلاياتهم قد دخلوا بالقوة وأنقذوهم وساروا بهم إلى سراي عابدين، وألحوا في طلب عزل ناظر الجهادية. فلم تجد الحكومة بدا من إجابة الطلب؛ لأن القوة في غير أيديها. فأجابهم الخديوي بعزل رفقي باشا وتعيين محمود باشا سامي البارودي مكانه، وهو من حزبهم ويقال إنه هو الذي أبلغهم قرار مجلس النظار بالقبض عليهم.
شكل 3-31: محمود باشا سامي البارودي.
وأثر خضوع الحكومة لمطالب الوطنيين هذه المرة تأثيرا شديدا؛ إذ تحقق لديهم أنهم إذا اتحدوا وثبتوا لا بد من نيل ما يطلبونه. وقام في نفوسهم حقد على رياض باشا والخديوي، وقوى هذا الإحساس فيهم قنصل فرنسا يومئذ البارون درين؛ لأنه كان يحسن أعمال رجال العسكرية في أعينهم فيزدادون تمردا، وبلغ ذلك إلى الجناب الخديوي فشكاه إلى حكومته فأقالته. وبعث الخديوي إلى كبار الضباط وطيب خاطرهم، وأكد لهم ثقته في رياض باشا وأنه سيزيد الرواتب ويساوي بينهم على اختلاف أجناسهم.
أما زعماء الثورة فلم يزالوا خائفين من نجاحهم السريع، واعتبروا تلك المحاسنة مكيدة من الحكومة لتسكين جأشهم ثم تحتال للاغتيال بهم، فأكثروا من التحفظ، وشرعوا في عقد مجالس سرية ليلية في منزل أحمد عرابي يدعون إليها خواصهم، ويتفاوضون في أمر اجتماع كلمتهم والوقاية من الاغتيال. فاقترحوا على ديوان الجهادية اقتراحات عديدة تعزز جانبهم، فتمكن عرابي بذلك من استمالة قوم العسكرية، فطفق يبث أفكاره بين الأهلين من مشاريخ العربان وعمد البلاد وأعيانها وعلمائها وتجارها استجلابا لمساعدتهم في مشروعه العائد إلى نفعهم على ما زعم، وكتب إليهم في ذلك منشورات ثورية إيقاعا بالوزارة الرياضية.
وفي 21 جمادى الأولى سنة 1298ه أو 20 أبريل 1881م، أصدر الجناب الخديوي باقتراح رياض باشا رئيس النظار أمرا عاليا بشأن زيادة مرتبات الضباط والعساكر، وتعديل النظامات والقوانين العسكرية بناء على طلب محمود باشا سامي ناظر الجهادية، فاحتفل هذا احتفالا فاخرا في قصر النيل دعا إليه النظار والمفتشين احتفاء بصدور ذلك الأمر خطب فيه رياض باشا ومحمود سامي وأحمد عرابي ثناء طيبا على المكارم الخديوية؛ لما منحته لجماعة الجهادية من الإنعام.
وفي 28 شعبان أو 25 يوليو كان الجناب الخديوي في مصيفه في الإسكندرية، فاتفق أن عربة أحد تجار الإسكندرية صدمت جنديا من الطبجية صدمة قضت عليه، فحمله رفقاؤه إلى سراي رأس التين، وطلبوا إلى الخديوي النظر في أمره فوعدهم فسكن جأشهم. وبعد بضعة أيام تشكل مجلس حربي أصدر حكمه على النفر الذي حمل رفقاءه على المسير إلى رأس التين بالأشغال الشاقة طول حياته. أما رفقاؤه وهم ثمانية فحكم عليهم بثلاث سنوات في السجن، وبعد ذلك يرسلون إلى السودان أنفارا للجهادية. فبعث عبد العال أميرالاي الفرقة السودانية إلى ناظر الجهادية محمود سامي يشكو من قسوة ذلك الحكم، فرفع سامي تلك الشكوى إلى الخديوي فتكدر واستدعى في الحال الوزراء تلغرافيا إلى الإسكندرية، فأتوها في 7 رمضان أو 2 أغسطس، وعقدوا برئاسته مجلسا قدم فيه ناظر الجهادية استعفاءه، فقبل وعين بدلا منه داود باشا يكن واستلم الأعمال، وعاد النظار إلى العاصمة وهدأت الأحوال بحسب الظاهر. والواقع أن الوطنيين ساءهم قبول استعفاء محمود باشا سامي؛ لأنهم يعدونه من أكبر أنصارهم. (د) تغير القلوب بين الخديوي والعرابيين
فأصبح العرابيون ينظرون إلى الخديوي ووزرائه بعين الارتياب والحذر، وشاع يومئذ أن الخديوي استفتى شيخ الإسلام بقتلهم لأنهم خانوا الدولة والأمة، وهي إشاعة كاذبة لكنها أخذت مأخذ الصدق وازداد العرابيون بها حذرا وسوء ظن.
وفي 15 شوال أو 9 سبتمبر سنة 1881 بعد عود الجناب الخديوي من الإسكندرية، صدر أمر من نظارة الجهادية إلى آلاي القلعة بالتوجه إلى الإسكندرية، وأمر آخر إلى آلاي الإسكندرية بالمجيء إلى المحروسة، فأوعز عرابي إلى آلاي القلعة أن تلك الأوامر لا يقصد بها إلا تفريق كلمتهم، فصرح ذلك الآلاي بعدم امتثاله لما أمر به. وفي خلال ذلك كان عرابي يخاطب الآلايات بالإشارة أن يستعدوا للحضور إلى ساحة عابدين في أول سبتمبر، ثم أرسل كتابه إلى الخديوي وإلى نظارة الجهادية يخبرهم فيها أن الجيش سيحضر إلى سراي عابدين لإبداء اقتراحات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد، وكتب مثل ذلك إلى قناصل الدول مبينا أن لا خوف من هذه الحركات على أبناء تابعيتهم؛ لأنها متصلة الغاية بالأحوال الداخلية. فأرسل الجناب الخديوي وفدا إلى زعماء الثورة وهم: عرابي وعبد العال وأحمد عبد الغفار ينصحهم أن يكفوا عن إجراءاتهم، وتوجه بنفسه ومعه السير أوكلن كلفن قنصل إنكلترا والنظار إلى آلاي عابدين ، وأخذ ينصحهم فتظاهروا بالانتصاح وتوزعوا في نوافذ السراي وقاية لها. ثم توجه الجناب الخديوي ورفقاؤه إلى القلعة للغرض عينه. فأجابه الجيش هناك: «نحن مطيعون لأوامر ولي نعمتنا، غير أننا أخبرنا بأن المقصود من تسفيرنا إغراقنا عند كوبري كفر الزيات.» فقال سموه لمن معه: «يظهر أن العساكر مغرورون.» ثم تركهم وقصد العباسية لإيقاف عرابي فلم يجده، وقيل له إنه سار في جنده إلى عابدين فعاد سموه أيضا إليها. (ه) مظاهرة ساحة عابدين
وأشار عليه كلفن أن يبقى في الساحة ويدعو عرابي إليه ويأمره بالترجل، ففعل فسأله عن الغرض من هذا الاجتماع فأجابه أنه جاء يطلب أمورا عادلة، فقال: ما هي؟ فأجاب: «إسقاط الوزارة، وتشكيل مجلس نواب، وزيادة عدد الجيش، والتصديق على قانون العسكرية الجديد، وعزل شيخ الإسلام.»
قال الخديوي: «كل هذه الطلبات ليست من خصائص العسكرية.»
فكف عرابي وأشارت القناصل على الخديوي أن ينقلب إلى داخل.
ثم قال قنصل إنكلترا إلى عرابي بالنيابة عن الجناب الخديوي: «إن إسقاط الوزارة من خصائص الخديوي، وطلب تشكيل مجلس النواب من متعلقات الأمة، ولا وجه لزيادة الجيش لأن البلاد في طمأنينة، فضلا عن أن مالية مصر لا تساعد على ذلك، أما التصديق على القانون فسينفذ بعد اطلاع الوزراء عليه. أما عزل شيخ الإسلام فلا بد من إسناده إلى أسباب.»
فأجاب عرابي: «اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهلين لم أقدم عليها إلا لأنهم أنابوني بتنفيذها بواسطة هؤلاء العساكر لأنهم إخوتهم وأولادهم؛ فهم القوة التي ينفذ بها كل ما يعود على الوطن بالمنفعة. واعلم أننا لا نتنازل عن هذه الطلبات ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.»
قال القنصل: «إذن تريد تنفيذ اقتراحاتك بالقوة؛ الأمر الذي يخشى منه ضياع بلادكم.»
فقال عرابي: «ذلك لا يكون. ومن ذا الذي ينازعنا في إصلاح داخليتنا؟ فاعلم أننا نقاومه أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا.»
القنصل : «وأين هذه القوة التي ستقاوم بها.»
عرابي : «في وسعي أن أحشد في زمن يسير مليونا من العساكر طوع إرادتي.»
القنصل : «وماذا تفعل إذا لم تنل ما طلبت.»
عرابي : «أقول كلمة ثانية.»
القنصل : «وما هي؟»
عرابي : «لا أقولها إلا عند القنوط.»
ثم انقطعت المخابرات بين الفريقين نحوا من ثلاث ساعات، تداول القناصل والخديوي في أثنائها داخل السراي، واستقر الرأي على إجابة طلبات عرابي وإنفاذها تدريجيا؛ لأن بعضها يحتاج لمخابرة الباب العالي.
فأصر عرابي على تنزيل الوزارة قبل انصرافه فنزلت، واستدعي شريف باشا، وبعد اللتيا والتي قبل بأن يشكل وزارة جديدة بشرط أن يتعهد له رؤساء الحزب العسكري بالامتثال لأوامره، وأن يقدم عمد البلاد ضمانة على ذلك، فحصل وتشكلت الوزارة وجعل محمود سامي ناظرا للجهادية.
شكل 3-32: شريف باشا.
فأوعز شريف باشا إلى عرابي أن يتوجه بآلايه إلى رأس الوادي في مديرية الشرقية، وإلى عبد العال أن يسير بآلايه إلى دمياط، فامتثلا وسارا إلى حيث أمرا باحتفال عظيم، وخطب عبد الله نديم محرر جريدة الطائف وحسن الشمسي محرر جريدة المفيد في المحطة خطبا، هنئوا بها الحزب الوطني على فوزه.
هذه الثورة العسكرية الثالثة إذا اعتبرنا ثورة الضباط في أيام إسماعيل الأولى، وكل منها انقضت بإسقاط الوزارة أو بعزل وزير كبير.
ولما استقر عرابي في رأس الوادي جعل يتجول في أنحاء المديرية يبث مباديه في نفوس عمد البلاد ومشايخ العربان، فاستدعته الحكومة إلى العاصمة، وعرضت عليه رتبة لواء ومنصب وكيل نظارة الجهادية، فقبل الثانية ورفض الأولى؛ ليبقى الآلاي في عهدته. ولما استوى على منصبه الجديد جعل يعقد المحافل في منزله علانية، وتوسط بالعفو عن حسن موسى العقاد أحد تجار المحروسة وكان مبعدا في السودان، فأجابه الجناب الخديوي إلى ذلك ثم سعى في عزل الشيخ العباسي من مشيخة الإسلام واستبداله بالشيخ الإمبابي.
وفي 28 شوال سنة 1298ه/22 سبتمبر سنة 1881م صدقت الحكومة المصرية على القوانين العسكرية الجديدة، وهي من ضمن طلبات الجهادية يوم حادثة عابدين تحتوي على قانون الإجازات العسكرية البرية والبحرية، وقانون المستودعين وقانون معاشات الجهادية البرية والبحرية وفروعها، وقانون القواعد الأساسية في النظامات العسكرية، وقانون الترقي، وقانون الضمائم والامتيازات والإعانة العسكرية. وبعد التصديق عليها جاء إلى شريف باشا وفد جهادي، وقدموا له الشكر على اعتنائه بمطالبهم وبينوا ارتياحهم إلى وزارته وأكدوا له إخلاصهم.
شكل 3-33: السلطان عبد الحميد.
وفي 11 ذي القعدة أو 4 أكتوبر من تلك السنة صدر الأمر العالي باعتماد اللائحة في انتخاب مجلس النواب، بناء على تقرير رفع إلى شريف باشا مذيلا بألف وستمائة توقيع يتضمن طلب تشكيل المجلس النيابي، ومن مقتضى تلك اللائحة أن يكون النواب واحدا أو اثنين من كل مديرية و3 من مصر و2 من الإسكندرية، وواحدا من دمياط، على شروط مذكورة في اللائحة. ووزعت نظارة الداخلية منشورات بشأن ذلك إلى المديريات. (و) مصر والدولة العثمانية
لا يخفى أن مصر نالت امتيازها، واستقلت بإدارتها رغم إرادة الباب العالي، وما برحت الدولة منذ منحت ذلك الامتياز وهي تتحين الفرص لإرجاع سيطرتها إلى وادي النيل، وكان من جملة مطالب العرابيين تشكيهم من النفوذ الأجنبي بمصر وامتياز الأجانب على الوطنيين من كل وجه، وكتب عرابي إلى الأستانة يشكو ذلك إلى السلطان وهو يومئذ السلطان عبد الحميد، وكان قد أخذ في مطاردة الأحرار طلاب الدستور، بعد أن قلب دستورهم وأصبح لفظ الدستور يرعبه.
فلما جاءته شكوى العرابيين من الأجانب وجد بابا للمداخلة بشئون مصر، لكنه يعلم أن من جملة مطالبهم الدستور ومجلس النواب وهو يكره الدستور واسمه، فكيف يقبل أن يعلن في بعض ولاياته؟ فضلا عن الإشاعات التي كانت تتناقل يومئذ عن رغبة العرب في إحياء دولتهم وخلافتهم في مصر وسوريا. فأول خاطر بدا للسلطان أن يرسل جندا عثمانيا يحتل وادي النيل بحجة إخماد الثورة. وأمر بإعداد الحملة في سبتمبر سنة 1881.
ولكن مصر تحت المراقبة الأجنبية فلا يسهل على السلطان احتلالها. وكانت سياسة فرنسا على الخصوص مقاومة كل توسط عثماني بشئون مصر. أما إنكلترا فلم تكن ترى بأسا من أن يرسل السلطان قائدا عثمانيا يتوسط في حل ذلك المشكل. فاحتجت فرنسا بأن ذلك قد يقود إلى احتلال عسكري. فعرضت الدولة العثمانية لحل هذه المعضلة أن يخلع الخديوي وينصب مكانه حليم باشا - وهو من طلاب العرش المصري، وإنما منعه منه فرمان إسماعيل القاضي بانتقال الإرث إلى الأبناء - وكانت إنكلترا من أشد المعارضين لهذا التبديل، وفرنسا تعارض من الجهة الأخرى بإرسال جند عثماني. فاكتفى الباب العالي بإرسال مندوب ينوب عنه بحجة حقه بالسيادة على مصر، فأرسل رجلين هما فؤاد بك وعلي نظامي باشا، فوصلا الإسكندرية في 6 أكتوبر سنة 1881.
فاحتجت إنكلترا وفرنسا على ذلك وأمرتا المراقبين في مصر أن يستقبلوها بالترحاب، ويمنعاهما من كل مداخلة سياسية. ولما بلغ الخديوي وصول المندوبين استغربه وسأل وكيلي إنكلترا وفرنسا عن السبب فأجابا أنهما لا يعلمان. على أن الدولتين إنكلترا وفرنسا ألحتا على الباب العالي أن يقصر زمن تلك الزيارة على قدر الإمكان. وغاية ما أتاه المندوبان أنهما استعرضا الجند، وخطب علي نظامي باشا في الضباط يذكرهم بأن الجناب العالي نائب جلالة السلطان بمصر، وأن من يعصي الخديوي يعصي أوامر الخليفة.
وعادت الدولتان إلى طلب خروج المندوبين حالا فسافرا في 20 أكتوبر. وعادت الدولتان إلى التفكير في ملافاة ما يخشى وقوعه في مصر، وأظهر الخديوي بعد حادثة 9 سبتمبر ريبا في الجند وضباطه، وأنه لا يرى سبيلا إلى الأمن إلا بإخضاع الجيش. وبلغ ذلك العرابيين فاتسع الخرق بين الطرفين. (ز) مجلس النواب المصري
شكل 3-34: عبد الله باشا فكري رئيس كتبة مجلس النواب.
وأراد شريف باشا رتق هذا الخرق بسياسة وأسلوب، فرأى أن يعقد مجلس النواب ويفوض إليه النظر في مطاليب الأمة وأعضاؤه نوابها، فينتقل النفوذ من الجيش إليهم فتتوازن القوى. فصدر الأمر العالي في 8 أكتوبر بعقد مجلس النواب في 23 ديسمبر، وتم انتخاب النواب على لائحة إسماعيل باشا التي وضعها سنة 1866.
فكان مؤلفا من اثنين وثمانين عضوا أقيم منهم المرحوم سلطان باشا رئيسا وعبد الله باشا فكري رئيسا للكتبة. وأعدت قاعة المجلس في ديوان الأشغال لتكون مقر انعقاده. وحضر تلك الجلسة الجناب الخديوي، وقال المقالة الافتتاحية بين فيها شدة رغبته في تأليف ذلك المجلس وتنشيطه. وقال إنه يرجو أن يكون مساعدا له في نشر العلوم والمعارف بين أفراد الأمة مخلصا في خدمة مصالحها. وحضر تلك الجلسة أيضا جميع الوزراء ورجال الدولة، فتكلم كل منهم حسب مقتضى المقام. ثم نظر المجلس في بعض الأمور الداخلية وارفضت الجلسة. وعكف مجلس شورى النواب على الاهتمام بشئونه فرتب أقلامه، وانتخب رؤساءها ثم وجه التفاته على الخصوص إلى اللائحة الأساسية الجديدة التي كان قد وعده من مجلس النظار بإرسالها إليه لينظر فيها؛ لأن مجلس النواب افتتح بمقتضى لائحة إسماعيل.
وما لبث شريف باشا أن رأى النواب والجند اتحدا وتكاتفا، وانقضت سنة 1881 والأمر والنهي بمصر لعرابي وحزبه، وصارت الجرائد إذ ذكرته لقبته بألقاب الأمراء وكبار الحكام الفاتحين، مع أن الحكومة كانت قد أصدرت قانونا للمطبوعات تقيد به أقلام الكتاب. (ح) إنكلترا وفرنسا
وعادت الدولتان إلى المباحثة في الطريقة المؤدية إلى سلامة القطر، وصيانة حقوق الأجانب فيه إذا اتقدت شعلة الثورة. ووافق ذلك إفضاء وزارة فرنسا إلى غمبتا الشهير، فوافق رأيه رأي إنكلترا بوجوب نصرة الخديوي وتأييد منصبه ضد مناوئيه، وهم كثيرون غير الجيش المصري - فقد كان حليم باشا وأنصاره يبذلون المال والسعي في الرجوع إلى التوارث الأصلي، والسلطان من الجهة الأخرى يتحين الفرص ليعيد سيادته الفعلية - فأعلنت الدولتان أنهما لا تسمحان بحركة تؤدي إلى تغيير حالة مصر السياسية، واتفقتا على احتلال مختلط من الجندين الإنكليزي والفرنساوي يؤتى به إلى مصر عند الحاجة، وأعلنتا الخديوي بذلك بمذكرة مؤرخة في 2 يناير سنة 1882 بعثتا بها إلى وكيليهما.
وصلت هذه المذكرة إلى مصر في 26 ديسمبر بعد أن فتح مجلس النواب بحضور الجناب الخديوي، وتلا خطابه الافتتاحي كما تقدم. فلما علم بعزم الدولتين على نصرته أجاب شاكرا في 6 يناير. فأثرت هذه اللائحة في النفوس تأثيرا عظيما، واضطرب منها الجند فاجتمعوا في سراي قصر النيل للمذاكرة في مضمونها، فرابهم منها أمور كثيرة وأيقنوا أن المراد منها مزيد المداخلة وجعل البلاد تحت حماية فرنسا وإنكلترا. ثم وفد عليهم ناظر الجهادية (محمود سامي) ففوضوا الرأي إليه فسكن جأشهم وطيب أنفسهم، وتوجه بعد ذلك إلى النظار وفاوضهم في الأمر وأبلغهم انفعال العساكر من هذه اللائحة، ثم سار معهم إلى الخديوي فبسطوا لديه الأمر والرأي، والتمسوا المداركة بما يذهب الآثار التي نشأت عن اللائحة المذكورة. فاستقر الرأي على إشعار الباب العالي بها مع الملاحظة بأنه لا حاجة لقبول مضمونها، فسكنت الخواطر بذلك واطمأنت النفوس. وأصبحت القوات العاملة في مصر حزبين: (1) الحكومة يعضدها المراقبان. (2) النواب يعضدهم الجند.
وكانت الميزانية التي لا بد من عرضها على مجلس النواب للمصادقة عليها مؤلفة من قسمين ؛ الأول: الإيرادات التي تخصصت لوفاء الدين. والثاني: النظر في سائر الإيرادات. فلما اجتمع مجلس النواب في 2 يناير سنة 1881 وفد شريف باشا على المجلس لتقديم اللائحة الأساسية الجديدة التي أعدها له، فقدمها وخطب في ذلك خطابا أثر في أذهان النواب، وقد جاءت هذه اللائحة مشتملة على أحكام حرة وحدود مطلقة يكون بمقتضاها للنواب حق النظر في القوانين والنفقات العمومية، وأن لا ينفذ قانون ولا يعتبر نظام ما لم يصادق عليه في مجلسهم مع الحرية التامة لهم في إبداء آرائهم. فتعينت لجنة من أعضاء المجلس لمراجعة هذه اللائحة. وبعد الاجتماع مرات عديدة قررت أكثر بنود اللائحة، ووقع الخلاف بين النواب والنظار في شأن ما يتعلق منها بالميزانية.
وفي 27 صفر من تلك السنة أعاد النواب اللائحة المذكورة إلى النظار بعد أن بينوا ما يريدون تعديله فيها. فرأى النظار أن يغيروا شيئا من تعديلات النواب فلم يقبل أولئك، وأصروا إلا تنفيذ تعديل لجنتهم. وفي 11 ربيع أول سنة 1299ه/31 يناير 1882م أعاد النظار اللائحة إلى النواب مرفوقة بإفادة مفادها أن وكيلي الدولتين فرنسا وإنكلترا لا يريان حقا لمجلس النواب في تقرير الميزانية، ولكنهما مع ذلك يقبلان المخابرة في هذا الشأن بشرط أن يستقر الاتفاق بين النواب والحكومة على سائر بنود اللائحة. وبناء على ذلك تطلب الحكومة من النواب تصديقهم على اللائحة مع إغفال ما يتعلق بالميزانية، لبينما يعطي النواب رأيهم النهائي فيه. فنظر النواب في تلك الإفادة عدة ساعات فقرروا إحالتها إلى اللجنة التي كانت مكلفة بتنقيح اللائحة، وطلبوا إليها إعادة النظر في التعديلات التي أدخلها مجلس النظار، فصدقت على بعضها ورفضت البعض الآخر، وأدخلت على البند المتعلق بالميزانية تعديلا على مقتضى ما أرادت. وقررت في الوقت نفسه عدم قبول توسط القنصلين في ذلك الأمر.
وفي يوم الخميس 13 ربيع أول/2 فبراير سارت لجنة مؤلفة من 15 نائبا إلى الجناب الخديوي يطلبون تنفيذ ما قرروه أو استعفاء الوزارة. فوعدهم سموه إلى صباح السبت، وانصرفوا فتقابل مع شريف باشا بحضور القنصلين، فأصر شريف باشا على رأيه واستعفى للحال. فاستدعى الجناب الخديوي لجنة النواب وكلفها أن تختار رئيسا للوزارة فقالوا: إن ذلك من حقوق الجناب الخديوي. فألح عليهم فامتنعوا. ولكنهم قالوا: نريد وزارة تنفذ لائحتنا فاختار لهم محمود باشا سامي، وقلده منصب الوزارة وعهد إليه تشكيل وزارة جديدة. فشكلها وجعل أحمد عرابي ناظرا للجهادية. فسر الحزب الوطني كل السرور ووردت لهم التهاني من سائر أنحاء القطر من وطنيين وأجانب وأقام النواب احتفالا لفوزهم. وفي 15 ربيع أول أو 4 فبراير اجتمع ضباط الجهادية من رتبة الصاغقول آغاسي فما فوق ومثلوا بين يدي الجناب الخديوي لإظهار الطاعة فشكرهم سموه، وخاطبهم بما شف عن حبه لإصلاح البلاد. وفي 19 ربيع أول حضر محمود سامي إلى مجلس النظار فقوبل بالتعظم والتكريم وسر النواب بنفوذ رأيهم، فخطب فيهم ونشطهم وأقر لهم على اللائحة كما عملوها، فلما علم الناس بالتصديق على لائحة النواب أقاموا الاحتفالات في مصر والإسكندرية سرورا بفوز الحزب الوطني، وأصبح الجهاديون القوة المتسلطة في البلاد، وإليهم يوجه الثناء؛ لأن تلك المنى قد أدركت بمساعيهم.
ولما جلس عرابي على مسند نظارة الحربية والبحرية أحسن عليه وعلى عبد العال برتبة لوا «باشا»، ثم سعى في ترقية كثيرين من رفقائه الضباط، وقرر قانون الضمائم والمعاشات بصفة جمعت القلوب على ولائه. وعمد إلى التخلص من الحزب الشركسي الذي كان لا يزال متخللا الجهادية، فشكل لجنة لفرز الضباط المستودعين ففرزت نحو الستمائة أكثرهم من الأتراك والشراكسة، فأصبحت الجهادية وطنية محضة. وذكرت جرائد أوروبا إذ ذاك أن الحزب الوطني وفي مقدمته عرابي كان يهدد مجلس النواب ويتوعده بالسوء إذا لم يسر على غرضه. فنشر رئيس المجلس المذكور في الجريدة الرسمية ما ينفي تلك التهمة. ثم تخصصت جريدة الطائف لنشر محاضر مجلس النواب والتكلم بأفكار أعضائه والدفاع عنهم. وفي أواسط ربيع آخر أو مارس استعفى بلينيار أحد المراقبين الماليين فعين بدلا منه الموسيو بريديف. وفي 6 جمادى الأولى سنة 1299ه أو 25 مارس سنة 1882م انفض مجلس النواب من أعماله لتلك السنة، وقد قرر فيها: (1) القانون الأساسي. (2) لائحة الداخلية. (3) لائحة الانتخاب. (4) أمور أخرى مهمة.
وقد تقرر في لائحة الانتخاب ثبوت حق الانتخاب والنيابة معا لأي من كان من رعايا الحكومة، سواء كان مولودا في القطر المصري أو مقيما فيه منذ عشر سنين. ولما ودع النواب الجناب الخديوي سلم سموه كلا منهم أمرا مؤذنا بتعيينه عضوا في المجلس المشار إليه إلى خمس سنوات. (ط) استفحال الثورة
فتمكن الارتباط بذلك بين الجهادية والنواب وأضيف إليهما الوزارة؛ لأنها وطنية أيضا فازدادت مشاكل الخديوي والمراقبين وازدادوا اعتقادا بوجوب احتلال القطر بجند مختلط من الفرنساويين والإنكليز. وإنكلترا ترى في ذلك باعثا على سوء ظن الدول الأخرى، وتفضل صرف هذا المشكل باحتلال تركي بشروط لا يخشى معها رجوع النفوذ العثماني.
على أن العثمانيين كانوا يرون في استفحال أمر الوطنيين على الخديوي فائدة لهم، وربما ساعدوا على ذلك تحت طي الخفاء أملا باسترجاع مصر إلى حوزتهم. فلا غرو إذا تمسك الوطنيون بمطالبهم، واتحد في ذلك العسكر والنواب والوزارة. وقد زادهم تمسكا بها إغراء بعض المتطرفين من الإفرنج فقد كان منهم جماعة يحسنون تلك الثورة، ويطرون القائمين بها ويبشرونهم باستقلال مجيد، وأشهر هؤلاء المغرورين ألفريد بلانت الإنكليزي.
فلا غرو بعد ذلك إذا تهور الوطنيون في مطالبهم، وتصوروا في أنفسهم القدرة على كل شيء فأغلوا أيدي المراقبين، ونبذوا سلطة الخديوي واحتقروا الإفرنج، فعم الخوف أنحاء القطر، وسادت الفوضى وضاعت سلطة المديرين.
وهم في ذلك نهض الباب العالي يقيم الحجة على لائحة الدولتين القاضية باتحادهما في مسألة مصر واحتلالها عند الاقتضاء وخاطب الدول الأخرى بذلك فأجابت روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا أنهن يرغبن في بقاء مصر على حالتها السياسية تحت رعاية السلطان وسمينه في هذا الجواب «سوزرين
Suzerain »، ومعنى ذلك في اصطلاح السياسة أن يكون للسلطان السيادة الاسمية على مصر. وهو يريد أن يسمى سوفرين
Sovereign
أي صاحب السيادة الفعلية. وعند التحقيق يتضح أن سيادته على مصر أقرب إلى هذا اللقب مما إلى ذاك؛ لأنه صاحب الحق الرسمي في خلع الخديويين وتوليتهم ولا يقدر صاحب اللقب الأول على ذلك؛ فالسلطان «سوزرين» على بلغاريا لأنه لا يقدر أن يولي أميرها أو يعزله ولكنه «سوفرين» على مصر.
وتغيرت وزارة فرنسا في أثناء ذلك وتولى حكومتها دي فريسينه بدلا من غمبتا، وهو يخالفه في سياسته بمصر، فلا يرى احتلالها بجند مختلط وعرض على إنكلترا رأيه في حل المسألة المصرية بخلع الخديوي وتولية حليم باشا بشرط أن لا يزداد نفوذ العثمانيين فرفضت إنكلترا هذا الرأي. (ي) مشكل جديد
قد رأيت أن أحمد عرابي رقى كثيرين من الضباط أبناء العرب، واضطهد الأتراك والشراكسة وأمر بنقلهم إلى السودان، فبلغه أنهم يكيدون له ويتآمرون على قتله، فأمر بالقبض على جماعة كبيرة منهم، وفيهم عثمان باشا رفقي ناظر الحربية السابق، وحاكموهم بمجلس حربي فصدر الحكم على أربعين منهم بالنفي المؤبد إلى أقصى السودان. فتولدت مشكلة جديدة؛ لأن رفقي باشا حائز على رتبة فريق من السلطان، وله وحده حق الحكم في هذا الشأن ووافق الخديوي على ذلك، فأغضب وزراءه وطال الأخذ والرد في المسألة، ثم تقرر تعديل ذلك الحكم بالنفي بدون تعيين السودان أو غيرها. فغضب العرابيون والوزارة الآن منهم، فبعثت تستقدم النواب لتشكو إليهم تصرف الخديوي وأنه يضيع امتيازات مصر بدون أن يشاور وزراءه، وقد أسروا عزمهم على خلع الخديوي وإخراج أسرته وتولية محمود باشا سامي حاكما على مصر.
فاجتمع النواب من أنحاء القطر، وحاولوا تسوية الخلاف عبثا فتعينت لجنة في 25 جمادى الآخرة سنة 1299ه أو 14 مايو 1882م لتعرض على سموه قبول الاقتراح، بشرط أن ينزل رئيس النظار فقط، وأن يجعل مكانه مصطفى باشا فهمي. فتوجهوا وعرضوا ذلك على سموه فقبل بعد التردد. فساروا إلى مصطفى باشا يسألونه إذا كان يقبل تلك الرئاسة فأبى، فعادت المسألة إلى مركزها الأول بل زادت تجسما فوقفت حركة الأعمال، وباتت العيون شاخصة إلى ما سيكون. واجتهد سلطان باشا في تسوية ذلك الخلاف بكل طريقة ممكنة، وساعده ناظر المعارف فلم ينجح. وهم في ذلك ورد تلغراف من لندن ينبئ بصدور الأمر إلى الأسطول الإنكليزي الرأسي في بحر المانش أن يتأهب ليسافر في 28 مايو إلى البحر المتوسط. فأوجس الناس خيفة.
وكان المسيو دي فريسينه قد عاد إلى مخابرة إنكلترا في أيهما أفضل لمصلحة مصر: الاحتلال الفرنساوي الإنكليزي أو التركي؟ وتقرر إرسال العمارتين إلى مياه الإسكندرية، وأن يطلب من الباب العالي التوقف عن المداخلة إلا إذا دعته الدولتان المتحدتان إلى إرسال جند عثماني. وكان رأي فرنسا أن الدولتين إذا رأتا حاجة إلى الاحتلال العسكري تطلبا إلى السلطان أن يرسل جندا عثمانيا للاحتلال بشروط معينة.
ولما بلغ السلطان عزم الدولتين على إرسال أسطوليهما إلى المياه المصرية، غضب ورفع احتجاجه إلى الدول ولكن ذلك لم يقف في طريق الأساطيل.
ففي مساء الجمعة غرة رجب أو 19 مايو سنة 1882 وردت على مينا الإسكندرية دارعة إنكليزية، وفي الصباح التالي دارعتان أخريان وثلاث دوارع فرنساوية، فأطلقت المدافع للسلام كالعادة. ثم جعلت البواخر ترد إلى ذلك الثغر حتى تكامل الأسطولان ولم يكن معهما أسطول عثماني. فكثر تقول الناس في سبب قدوم هذه العمارات على هذه الصورة. ثم أشيع أن قدومها كان بوفاق مع الباب العالي وبارتياح الدول عموما بشرط أن تسرع بعد إنهاء المشاكل إلى الانسحاب.
وفي 7 رجب أو 25 مايو من تلك السنة قدم قنصلا إنكلترا وفرنسا بلاغا نهائيا من دولتيهما، تطلبان فيه سقوط الوزارة وإخراج عرابي من القطر المصري بأن تضمنا له حفظ رتبه ورواتبه ونياشينه، وإبعاد عبد العال حلمي وعلي فهمي إلى الأرياف في جهات لا يخرجان منها مع حفظ رتبهما ورواتبهما ونياشينهما، وأن الدولتين عازمتان على تنفيذ كل ذلك. وهما تكلفان الجناب الخديوي أن يصدر عفوا عاما عن الذين لهم دخل في المسألة. فرفض النظار هذا البلاغ ولم يجيبوا عليه بدعوى «أن لا علاقة للدول الأوروبية معنا ، فإذا شئن فليخابرن الأستانة، أما نحن فإننا مستعدون للمقاومة.» فأخذ سلطان باشا يسعى في التوفيق فحبط مسعاه. وفي 8 رجب أو 26 مايو استعفت الوزارة محتجة على بلاغ الدولتين وطلباتهما، فكلف شريف باشا بتشكيل وزارة جديدة فأبى وأصر على الإباءة، فأطلعه قنصل فرنسا على تلغراف وارد إليه من وزارة فرنسا هذا نصه:
الأمل أن يقبل شريف باشا رئاسة الوزارة، وأكدوا له أننا نعضده ونؤيده بكل جهدنا .
فلم يقنعه ذلك وأصر على الرفض.
ثم عقدت جلسة عند الجناب الخديوي حضرها بعض رؤساء الجهادية، وفي مقدمتهم طلبة عصمت، فقال شريف باشا إنه يقبل أن يشكل وزارة جديدة بشرط أن تنفذ الجهادية مآل طلبات الدولتين، فقال طلبة: «نحن مطيعون، إنما يستحيل علينا تنفيذها ولا حق للدولتين بطلب ذلك؛ لأن هذه المسائل من اختصاص الباب العالي.» قال ذلك وخرج فتبعه الضباط. وبتاريخه ورد تلغراف من رأس التين بالإسكندرية أن العساكر هناك لا يقبلون غير عرابي ناظرا عليهم، وأنهم إذا مضت 12 ساعة ولم يرجع إلى منصبه لا يكونون مسئولين عما يحدث مما لا يستحب وقوعه. فزاد الإشكال والاضطراب فتمكن شريف باشا وغيره من إصرارهم على رفض تشكيل وزارة جديدة. وعند الغروب اجتمع النواب ورئيسهم وحضر عرابي، وجعل يخطب فيهم وخطب أيضا عبد العال وغيره يطلبون تنازل الخديوي، فتفاقم الخطب فأرسل الجناب الخديوي يخبر الباب العالي أن الجند غير راضين عن استعفاء الوزارة، وأنهم أقاموا الحجة على طلب الدولتين. فأجابه أن الحضرة السلطانية أمرت بتشكيل لجنة عثمانية تأتي مصر بعد ثلاثة أيام للنظر في هذا الأمر. فأمر الجناب الخديوي أن يرجع عرابي إلى مركزه مؤقتا للتأمين على الأجانب لبينما يصل الوفد العثماني، فسر الجند بذلك. وبعث عرابي منشورا إلى قناصل الدول يضمن تأييد الأمن لجميع سكان القطر المصري من وطنيين وأجانب مسلمين وغير مسلمين، وفي الوقت عينه اقترح ثلاثة أمور: (1)
إعادة لائحة الدولتين وانسحاب أسطوليهما. (2)
وضع قانون أساسي تبين فيه حدود كل من الجناب الخديوي ووزرائه. (3)
قطع المخابرات والعلاقات توا مع الدولتين ومع سائر الدول إلا بواسطة الدولة العثمانية.
ثم عمل العرابيون على خلع الخديوي وتولية البرنس حليم باشا، وكثيرا ما كانوا يصرحون بذلك في مجالسهم.
وكان السلطان من الجهة الأخرى يسعى في اغتنام هذه الفرصة لاسترجاع نفوذه بمصر، واعترفت الدول أن السلطان أولاهن بحل هذا المشكل. وبعد أن كانت فرنسا من أكبر المقاومين للتداخل العثماني صرح دي فريسنيه أن كل الوسائل لحل المسألة المصرية يمكن اتخاذها إلا الاحتلال العسكري الفرنساوي. خلافا لرأي غمبتا سلفه. وكان الخديوي من الجهة الأخرى راغبا في توسيط الباب العالي لعله يؤيده. وعرض البرنس بسمارك عقد مؤتمر دولي للقرار على هذه المسألة، فلم يرض السلطان بالمؤتمر لكنه انتدب رجلين من كبار رجاله أوفدهما إلى مصر أحدهما درويش باشا والآخر أسعد أفندي، وكانت مهمتهما القبض على الحبل من الطرفين لإرضاء الحزبين فيكون السلطان مع الفائز منهما. فكانت مهمة درويش باشا توطيد علائق الولاء مع الخديوي ضد عرابي، وبعكس ذلك مهمة أسعد أفندي. وكان في جملة الأوامر المعطاة لدرويش باشا أن يقبض على عرابي ورفاقه، ويرسلهم مغلولين إلى الأستانة، وأن يلغي مجلس النواب ويقوي نفوذ أمير المؤمنين، وفرق الأوسمة في العرابيين وفي حزب الخديوي.
فآلت هذه السياسة طبعا إلى زيادة التفريق وتفاقم الفوضى وكره الأجانب، فأفضى ذلك إلى حادثة الإسكندرية في 11 يونيو. (ك) حادثة الإسكندرية
وسببها أن القلق والاضطراب استوليا على سكان القطر، وكثر الإشاعات ونزع النزلاء الأجانب إلى الجلاء خوفا من أمر يأتي، فأصبحت الإسكندرية ملجأ الوافدين من جالية الريف على أمل أن يكونوا فيها آمنين من غوائل التعدي لكثرة من فيها من الأجانب أو بالحري للاحتماء بجوار الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي.
ثم أحس الأجانب فيها أن سفلة الأهالي ومعظم الجهاديين قد أغلظوا في معاملاتهم، واستبدلوا في أمورهم؛ فكانوا يخطرون في الأزقة تيها يمتهنون الرفيع ويستعبدون الوضيع، وقد لاح لهم أن أولئك الأجانب يريدون بهم شرا، فجعلوا يتوقعون منهم ما يتذرعون به إلى الوقيعة بهم توهما منهم أن أولئك من ألد الأعداء لوطنهم. فعلم الأجانب بتلك المقاصد فجعلوا يتأهبون سرا للدفاع بما أمكنهم من اقتناء الأسلحة والرجال وإخفائهم في منازلهم، واستشاروا أميري الأسطولين فوافقاهم، ثم عرضوا الأمر على القناصل الجنرالية في القاهرة بواسطة مندوب مخصوص، فأنكروا عليهم ذلك فلبثوا يتوقعون المقدور.
أما أهل الفتنة فأدركوا تحذر الأجانب منهم فهموا بهم في 24 رجب أو 11 يونيو، وابتدءوا الفتنة بخصام بين حمار ومالطي اتصلوا منها إلى الإغارة على البيوت والمنازل، والفتك بكل من مروا به في السبل. فلم تكن ترى إلا أخلاطا من السفلة بين صعيدي وسوداني وبدوي وفيهم الحمارة والحمالون وأمثالهم، يهجمون جماعات على من لقوه في طريقهم فقتلوا نحوا من 300 نفس وقتل منهم نحو هذا العدد. كل ذلك والأسطولان لم يحركا ساكنا. وتمارض مأمور الضابطة المدعو السيد قنديل، ولم ينزل يومئذ إلى المدينة وجرح في هذه الواقعة عدد كبير من كبار الأجانب، وفيهم قنصل اليونان والمستر كوكسن قنصل إنكلترا في الإسكندرية وقنصل إيطاليا وفيس قنصلها وقنصل روسيا وكثيرون غيرهم. فأمر محافظ الإسكندرية «عمر باشا لطفي» الأميرالاي سليمان داود أن يبعث الجند لإيقاف الأهالي ومنعهم من ارتكاب تلك الفظائع. فأجاب أنه لا يستطيع ذلك إلا بعد أن يأتيه أمر من عرابي. فجاءه الأمر نحو الساعة الخامسة بعد الظهر، فسار الجند والمحافظ أمامهم ساعيا على قدميه يسكنون الخواطر وينادون بإعادة الراحة. فرأوا المخازن قد نهبت والأرزاق قد تبعثرت على قارعة الطريق. وعند الغروب هدأت الغوغاء وكف الناس فدخل كل منزله وانقضى الليل ولم يحدث شيء. وفي اليوم التالي كثر عدد المهاجرين بحرا حتى خيل للناس أنه لم يبق في المدينة أحد من الأجانب. فنزل من المدينة في يوم واحد نحو عشرة آلاف تفرقوا في السفن. كل ذلك خوفا مما كانوا يخشون حدوثه من مثل ما قاسوه. واتصلت هذه الأخبار بالداخلية فانتشر الاضطراب وعمت البلوى، وتقاطر الناس من سائر الأقطار الداخلية إلى السواحل يطلبون الفرار كما فعل الإسكندريون، واستمرت الحال على ذلك بضعة أيام حتى كاد يخلو القطر من النزلاء، وقد قدر بعضهم عدد من هاجر في تلك المدة فبلغ زهاء مائة وخمسين ألفا.
ولما بلغ خبر حادثة الإسكندرية إلى أهل العاصمة اضطربوا، وفي صباح 12 يونيو خاطب القناصل درويش باشا معتمد الحضرة السلطانية بكلام عنيف، وسألوه أن يتخذ التدابير الفعالة لصيانة الأوروبيين وأموالهم في جميع أنحاء القطر، فعقد مجلسا في عابدين حضره الجناب الخديوي ودرويش باشا ومن معه وشريف باشا ووكلاء الدول العظمى السياسيون، وبعد المذاكرة أقروا أن تعطى للقناصل ضمانات أكيدة تكفل إعادة الأمن والمحافظة على أرواح الأوروبيين وأموالهم، ومن أخص هذه الضمانات أن يمتثل عرابي لأي الأوامر التي تصدر له من الخديوي، فدعي وسئل فأجاب بالقبول وتعهد بإجراء ما يضمن الراحة. وأخذ درويش باشا على نفسه تبعة تنفيذ الأوامر الخديوية بمعنى أن يكون مشتركا مع عرابي ومسئولا معه في تنفيذ تلك الأوامر. فرضي وكلاء الدول بذلك وانصرفوا، وأخذ عرابي يهتم قياما بتعهده، فنشر المنشورات بمنع الاجتماعات، وإبطال كل ما يوجب الارتياب. وكانت قد تعينت لجنة بأمر الجناب الخديوي للنظر في أمر حادثة الإسكندرية تحت رئاسة عمر باشا لطفي محافظها، وفيها مندوبو القناصل، فاجتمعت اللجنة في الإسكندرية، وباشرت أعمالها وقررت ما خيل لها أنها تدابير فعالة لإعادة الأمن.
وفي 26 رجب أو 13 يونيو (حزيران) وصل سمو الخديوي إلى الإسكندرية يصحبه درويش باشا مندوب الحضرة السلطانية، فصفت لهما الجنود من المحطة إلى سراي رأس التين، وأطلقت المدافع تحية لهما. ثم زاره قناصل الدول إلا قنصلا إنكلترا وفرنسا فإنهما بقيا في مصر فأبدى لهم أسفه الشديد لما حدث، ووعدهم بصرف العناية إلى إخماد الفتنة، وخاطبهم درويش باشا أيضا بمثل ذلك، وزاد عليه أنه واثق الثقة التامة بإخلاص الجهادية. إلا أن الخديوي أسر إلى المستر كولفن المراقب العمومي الإنكليزي أنه غير واثق باستمرار الأمن والراحة، وأنه يعتبر مهمة درويش باشا كأنها قد انتهت ولم تفلح، وأنه لا يرى بدا من مجيء جنود عثمانية لإعادة الراحة. وكان في ثكنات الإسكندرية نحو من ثمانية آلاف جندي بالأسلحة الكاملة، ومعهم من المهمات ما يكفي خمسين ألفا.
ثم بلغت القناصل رعاياها أن يتخذوا أقرب السبل للنجاة مما ربما يحدث، وأوعزت إليهم أن يهاجروا من المدينة، فتناقلت الألسن هذه الأخبار، فتأكد الناس أن الساعة آتية لا ريب فيها، وعينت كل دولة من الدول الأجنبية سفنا لنقل رعاياها المهاجرين مجانا، فتسارع الفقراء من كل ناحية متقاطرين من مدن الداخلية والأرياف إلى الإسكندرية وبورت سعيد، حيث كانت تلك السفن معدة لتقلهم إلى بلادهم. وكان المستر مالت وكيل إنكلترا السياسي لا يزال في العاصمة، فجاءه أمر من لندرا بأن يحضر إلى الإسكندرية ويرافق الخديوي حيثما توجه، فأتاها وأتى معه المسيو سنكوفيتش وكيل فرنسا، فخلت العاصمة من رجال السياسة وخلا جوها لعرابي وجماعته، واستفحل أمرهم ولا سيما لما بلغهم من انقسام دول أوروبا في المسألة المصرية، فظنوا أنهم في مأمن من الاغتيال. ثم حسب القناصل أن تغيير الوزارة يأتي بحل هذه المشكلة، فأشاروا على الجناب الخديوي بذلك فشكل وزارة جديدة تحت رئاسة إسماعيل راغب باشا، وبقي عرابي ناظرا للجهادية والبحرية، فكان رأي هذه الوزارة أن الطريقة المثلى لملافاة الأمر أن يصدر عفوا عموميا، وأن يعلن في الجرائد الرسمية «أن كل من عليه مسئولية أو اشتراك بالحوادث الأخيرة، فعليهم العفو إلا المشتركين في حادثة الإسكندرية وهم تحت المحاكمة.» فوافقها الجناب الخديوي على ذلك. وفي 5 شعبان سنة 1299ه أو 21 يونيو سنة 1882م بعث الجناب الخديوي منشورا إلى راغب باشا يطلب إليه التحري الحسن في مسألة حادثة الإسكندرية فأجابه بتلبية الطلب.
ثم جاءت الأخبار بعزم الدول على عقد مؤتمر في الأستانة لأجل البحث في المسألة المصرية، وتمنع الباب العالي من ذلك بدعوى أن ليس في مصر ما يوجب الاضطراب اعتمادا على تقارير درويش باشا المرسلة منه. وكان ذلك مما شدد عزائم الحزب الوطني ولا سيما لما رأوا الباب العالي واثقا بهم يأبى عقد مؤتمر دولي. وكان عرابي يؤكد لأتباعه أن وجود هذه الأساطيل في مينا الإسكندرية لا يخشى منه البتة؛ لأنها إنما أتت هذا البحر للتنزه كما فعلت مرات عديدة قبل هذه. أما إنكلترا فلم تنفك ساعية في عقد المؤتمر بدعوى أنه يستحيل إعادة الأمن إلى مصر بغير واسطة فعالة. وكان الباب العالي يجيب على ذلك بقوله إنه بعد تشكيل الوزارة الجديدة صار يرجو استقرار السلام، ووافقه على رأيه هذا دول ألمانيا وأوستريا وإيطاليا والروسية. وهذه الموافقة كانت مبنية على خوف الدول من مطامع إنكلترا في مصر. فلما علمت هذه بنياتهم أكدت لهم أنها تتعهد متى عقد المؤتمر مع سائر الدول ألا تسعى البتة إلى ضم أرض ما إليها، أو الاستيلاء على مصر أو قسم منها، أو الحصول على امتياز ما سياسي أو تجاري بدون أن يكون فيه نصيب لسائر الدول، فوافقها الجميع على عقد المؤتمر أما الدولة العلية فأصرت على عدم لزومه.
وفي 7 شعبان أو 24 يونيو عقد المؤتمر في الأستانة، ولم يكن للدولة العلية معتمد فيه فقرر ما يأتي: «أن الحكومات التي وقع وكلاؤها بالنيابة عنها على ذيل هذا البروتوكول تتعهد أنها لا تقصد البتة اغتنام أرض ما ولا الحصول على امتيازات ما، ولا أن يكون لرعاياها من الامتيازات المتجربة ما لا يستطيع أن يناله غيرهم من رعايا أي الدول في مصر، وذلك في أي مسألة حصل الاتفاق عليها بسعيها، واشتراكها في المخابرات لتنظيم أمور تلك البلاد.» وقد كانت إنكلترا في أثناء سعيها إلى عقد المؤتمر تحشد الجنود استعدادا للحرب، وكانت في الوقت عينه تلح على سائر الدول أن تساعدها في ذلك.
وجاء في أثناء ذلك إلى عرابي نيشان من لدن الحضرة السلطانية، فاتخذه الناس دليلا على رضاء الباب العالي عن أعماله، وكان هو يحاول إقناعهم أن جميع الدول تساعده على مقاومة إنكلترا إذا مست الحاجة. وفي 5 شعبان أو 22 يونيو تمارض المستر مالت وكيل إنكلترا فأنزل إلى إحدى السفن، وبقي فيها بضعة أيام ثم سافر إلى برندزي. وفي 25 منه تنحى المستر كوكسن قنصل إنكلترا في الإسكندرية بدعوى مرضه بسبب الجراح التي كان قد أصيب بها في أثناء حادثة 11 يونيو، وهكذا فعل قنصل مصر. أما باقي القناصل فبقوا في الإسكندرية إلى 9 يوليو، وكان الخديوي ودرويش باشا مقيمين في سراي رأس التين، وعرابي مقيما في الترسخانة، وتحت أمره في ثغر الإسكندرية تسعة آلاف مقاتل.
وفي جلسة المؤتمر السابعة أقرت الدول على كتابة لائحة مشتركة يقدمونها إلى الباب العالي، يطلبون منه إرسال جنود عثمانية إلى مصر لإخماد الفتنة ففعلوا فأبى، فاتخذت إنكلترا ذلك ذريعة لتداخلها بالقوة. (ل) ضرب الإسكندرية
أما فرنسا فقد علمت ما كان من تغير سياستها بعد تغير وزارتها، وأصبحت لا ترى الاشتراك مع إنكلترا في أمور مصر، وإنما هي تشاركها فقط في حماية قناة السويس، ولم تشأ مشاركة الإنكليز في تحمل تبعة الاحتلال العسكري؛ ولذلك فلما رسا الأسطولان في مياه الإسكندرية تفردت إنكلترا بالعمل. فأخذ الأميرال سيمور قومندان العمارة الإنكليزية يترقب الأسباب لمباشرة العدوان، فادعى أن الجهادية يحصنون القلاع في الثغر، وينقلون أحجارا ضخمة يلقونها عند فم المضيق لسد مدخل المينا، فيمنع المدد ويحصر الأسطول وقال إن هذا التحصين مناف لحقوقه. فكلف الحكومة المصرية أن تكف عن التحصين حالا، وإلا اضطر إلى إطلاق مدافعه عليها فيدكها عن آخرها. فأجابه طلبة باشا عصمت أن لا صحة لما يقول، وأن الجهادية لم يهتموا قط بتحصين القلاع. وشاع ذلك فخافت الناس وأوعز إلى الجناب الخديوي بواسطة المستر كولفن أن يتنحى صيانة لحياته فأجابه: «لا يليق بي أن أترك الكثيرين من رعيتي الأمناء في أوان الشدة، ولا يليق بي أيضا أن أترك البلاد في أوان الحرب.» ثم توسطت قناصل الدول في الإسكندرية بين الأميرال سيمور وبين الجهادية المصرية فلم ينجحوا. فتقدم عرابي وسامي إلى كاتب سر مجلس النظار أن يكتب تقريرا في المسألة مفاده «أن الأميرال تجاوز الحدود فيما يطلب، وأنه لا بد من مقاومته وأن عرابي وقومه مفوضون في أمر الدفاع عن البلاد.» وداروا به على منازل النظار وطلبوا التوقيع عليه فوقع بعضهم اختيارا والبعض اضطرارا، ويقال إن الخديوي نفسه صدق عليه أو ألجئ للتصديق ثم أرسلوه إلى الأميرال سيمور. وأرسل عرابي منشورا إلى المديرين يطلب إليهم أن يكونوا مستعدين للإمداد بالجند والمال.
وفي مساء 22 شعبان أو 9 يوليو جاء المستر كارترايت إلى الخديوي، وأعلنه رسميا عزم الأميرال سيمور على مباشرة القتال صباح الثلاثاء في 11 يوليو، وألح عليه أن يترك سراي رأس التين ويلجأ إلى سراي الرمل ففعل. ثم كتب رسميا إلى درويش باشا يطلب إليه أن يحافظ على حياة الجناب الخديوي، وألقى عليه التبعة إذا أصيب بسوء.
وفي 23 شعبان أو 10 يوليو كتب الأميرال سيمور رسميا إلى كل من درويش باشا وراغب باشا رئيس الوزارة يعلمهما عن خروج رجال الوكالة الإنكليزية من القطر المصري، إشارة إلى قطع العلائق الودية، وأعلنت خارجية إنكلترا سائر الدول بذلك «وأنها لم تر بدا منه لكنها تصرح أن ليس لها أرب خفي أو نية غير بينة، وأنما عمل هذا من قبيل الدفاع وحرصا على مصلحة الجناب الشاهاني.» وفي مساء ذلك اليوم سافر الأسطول الفرنساوي متقهقرا تاركا سفينتين من سفنه فقط.
وفي الساعة السابعة من صباح الثلاثاء 22 شعبان سنة 1299ه أو 11 يوليو سنة 1882م، أطلقت العمارة الإنكليزية مدافعها على حصون الإسكندرية، وما زالت إلى الساعة واحدة ونصف بعد الظهر، فهدمت معظمها وانفجر مستودع البارود في قلعة إطه. فجاء راغب باشا إلى الجناب الخديوي في الرمل وأخبره أن الحصون قاومت أشد مقاومة، وأن كثيرا من سفن الإنكليز قد غرقت، وكان يقول ذلك مسرورا. ولكن قوله هذا ما لبث أن نقض بورود الخبر الصحيح. ثم جاء عرابي فوقف بين يدي سموه، فسأله عن حالة الحصون فقال: «لم يعد في وسعنا المقاومة ولا بد لنا من تدابير أخرى أو أن نتساهل مع الأميرال.» وبعد المخابرة تقرر إرسال طلبة عصمت إلى الأميرال وعاد عرابي من حيث أتى. فعاد طلبة باشا من عند الأميرال وأخبر الجناب الخديوي أن الأميرال يطلب احتلال ثلاث قلاع، وإلا فإنه يستأنف القتال الساعة 2 بعد الظهر. ثم قال: «ولكنني قلت له إن هذه المدة لا تكفي لإتمام المخابرة بشأن ذلك، فطلبت تطويلها فأبى فأتيت لأعلم سموكم ملتمسا رأيكم.» فعقد مجلس تقرر فيه أنه لا يحق للحكومة المصرية الترخيص في احتلال جنود أجنبية بدون مخابرة الباب العالي، إلا أن الوقت لم يسمح بتبليغ ذلك القرار للأميرال.
ولما رأى رجال الحصون المصرية عجزهم عن مقاومة السفن الإنكليزية، رفعوا العلم الأبيض إشارة إلى إيقاف العدوان فانقطعت السفن عن قذف النار. وكانت الحصون قد تهدمت فعلم الثائرون أن ذلك التسليم يعقبه احتلال الجيوش الإنكليزية المدينة، فوزعوا في غلس في 13 يوليو فرسانا في أحياء المدينة يأمرون الوطنيين بالخروج من الإسكندرية حالا، وكانت هذه الأوامر تصدر من الأميرالاي سليمان داود، وأمر أيضا زمرا من الرعاع أن تطوف المدينة وتحرقها، فابتدءوا من الساعة الأولى بعد الظهر فكانت الإسكندرية مساء الأربعاء مضطرمة الجوانب منهوبة المخازن لا ترى فيها إلا لهبا متصاعدة، وأناسا حاملين الأمتعة والمصاغ فارين إلى داخلية البلاد.
وكان الخديوي في سراي الرمل، وبمعيته عثمان باشا وإسماعيل باشا الشركسيان وزبير باشا السوداني والجنرال ستون باشا وفدريكو بك وطنينو بك ودي مارتينو بك وأباتي بك وتيكران باشا وزهراب بك وغيرهم، لا يزيد عدد الجميع على خمسين. وبعد ظهيرة ذلك اليوم جاء إلى سراي الرمل نحو أربعمائة فارس وبعض المشاة واحتاطوا بها، فسئلوا عن الغاية من مجيئهم فقالوا: «قد أتينا للمحافظة على السراي.» والحقيقة أنهم جاءوا مأمورين بإحراقها وقتل من يخرج منها. وفي الساعة 7 مساء بعث عرابي يستدعيهم إليه، فساروا وتخلف منهم أحد البكباشية ومعه 350 فارسا، فمثل بين يدي الجناب الخديوي وأقسم أنه يموت بين يديه، واقتدى رجاله به وأخبره أنهم كانوا قد أتوا يريدون شرا. وفي خلال ذلك أرسل الأميرال سيمور ثلاث دوارع من أسطوله لترسو بجوار سراي الرمل صيانة لحياة الحضرة الخديوية، ويقال إنها هي التي كانت السبب في انسحاب الفرسان العرابيين. ثم جاء المحافظ إلى الخديوي يخبره بما كان من النهب والحرق في أحياء المدينة. فأرسل سموه كامل باشا الشركسي وزبير باشا ليمنعا الناس من ذلك. (م) الإسكندرية بعد الضرب
ونحو الساعة
بعد ظهر 26 شعبان أو 13 يوليو كانت جنود عرابي قد انجلت عن الإسكندرية. فجاء زهراب بك بهذا النبأ إلى الخديوي وأن الأميرال سيمور عازم على إنزال جنود بحرية إلى رأس التين، وأنه يدعو الحضرة الخديوية إلى سفينته حيث يكون آمنا. ففضل سموه التوجه إلى سراي رأس التين، فسار وبمعيته درويش باشا حتى جاء السراي فوجد هناك الأميرال سيمور وبعضا من جنوده ينتظرونه في ساحة القصر. وفي المساء نزل بعض وكلاء الدول وهنئوه بسلامته وكان في السراي 300 من الحامية الإنكليزية. وفي الصباح التالي أنزل الأميرال فرقا أخرى من رجاله يطوفون الشوارع ومعهم عدد من المدافع تسكينا لخواطر الباقين فيها.
وقد قدرت الخسائر بستمائة من الوطنيين وخمسة من الإنكليز على الدوارع، غير المذابح التي حصلت في أثناء ذلك في طنطا والمحلة الكبرى وسمنود وجهات أخرى. وبعد انتقال العائلة الخديوية إلى رأس التين استدعى الجناب الخديوي زهراب بك، وجعله ترجمانا بين السراي والضباط الإنكليز، وعهد إليهم أن يمنع أيا كان من دخول القصر؛ لأن العرابيين كانوا قد عينوا نفرا من الجواسيس لتجسس حالة السراي. أما عرابي وأتباعه ففروا إلى كفر الدوار وعسكروا هناك على نية الدفاع.
ولما استتب المقام للإنكليز في الإسكندرية أخذوا في تنظيف الأسواق ونقل الجثث، ودعوا المهاجرين أن يعودوا إلى منازلهم لإعادة الراحة والطمأنينة، واستدعي أثناء ذلك درويش باشا إلى الأستانة فتوجه.
وكتب راغب باشا إلى الأميرال سيمور يخبره أن إجراءات عرابي من الآن فصاعدا مخالفة لأوامر الخديوي، وأنه هو وحده (عرابي) المسئول عنها.
ثم كتب الجناب الخديوي إلى أحمد عرابي يأمره بالإمساك عن جمع العساكر وإعداد التجهيزات؛ لأن الحكومة الإنكليزية لا خصومة بينها وبين الحكومة المصرية، وأنها مستعدة لتسليم المدينة متى رأت فيها قوة منتظمة والبلاد في أمن، وأمره أن يأتي إلى سراي رأس التين حالا.
فأجاب عرابي «أن مقاومة العمارة الإنكليزية حصلت بإقرار مجلس النظار ودرويش باشا، وأن النظار هم الذين أعلنوا الحرب على الإنكليز وهكذا حصل، فإذا كان الأميرال الآن قد عدل عن المحاربة إلى المسالمة بعد وقوع الحرب، فذلك يعد طلبا للصلح ولا يجوز أن يكون إنكارا للحرب» إلى أن قال: «إنه يميل إلى الصلح ولكن مع حفظ شرف البلاد والحكومة، فإذا كان الأميرال يريد تسليم المدينة فليسلمها، ولنخرج مراكبة من الإسكندرية، وإنه للمحافظة على شرف الحكومة الوطنية ينبغي الاستمرار على الاستعداد العسكري حتى تفارق المراكب المياه المصرية، وإنه يعتبر قول الإنكليز هذا مكيدة لأن الإنكليز لا يزالون في الإسكندرية؛ ولذلك لا يمكنه الحضور إليها.» ثم طلب التئام مجلس النظار في مركز الجيش للمداولة في الأمر وبعد ذلك يصرف الجيش ويحضر. (ن) مساعي العرابيين
فيظهر أن إصرار عرابي هذا هو السبب في اتساع الخرق؛ لأن الحكومة الإنكليزية لم تكن تطمع باحتلال هذه البلاد على ما يظهر من أقوالها. وكتب عرابي إلى وكيل الجهادية يعقوب سامي في القاهرة إيقاعا في الحضرة الخديوية، واتهمها بالتحامل على الجهادية الوطنية، وأنها هي التي جلبت كل هذه المتاعب إلى القطر المصري، وطلب إليه أن يتروى في الأمر وينظر في صلاحية هذا الوالي للتولية عليها أو عدمه. فلما وصل كتاب عرابي هذا إلى يعقوب سامي جمع إليه الذوات والأعيان والرؤساء الروحانيين في ديوان الحربية في غرة رمضان سنة 1299ه/17 يوليو 1882م، وعقدوا جلسة تحت رئاسة وكيل الداخلية قام فيها عدة خطباء اتهموا الجناب الخديوي ببيع الوطن. واستقر الرأي أخيرا على لزوم الاستمرار على إعداد التجهيزات الحربية، وأن تعين لجنة من ستة أشخاص يتوجهون إلى الإسكندرية لاستدعاء النظار إلى العاصمة للاستعلام منهم عن حقيقة ما حصل. وبناء على ذلك القرار سار الوفد فمر بكفر الدوار وتداول مع عرابي ورؤساء الجند، فاختير منه اثنان هما: علي باشا مبارك وأحمد بك السيوفي؛ للتوجه إلى الإسكندرية للغرض المتقدم ذكره. فوصلا إليها وقابلا الجناب الخديوي صباح الاثنين في 24 يوليو، وعرضا له الحالة فأصدر أمرا عاليا يقضي بعزل عرابي عن نظارة الجهادية، وأعلن ذلك في البلاد. ثم أرسل إلى الباب العالي يخبره بعصيان عرابي وأن الجند انحاز إليه وهو المسئول عنه.
أما عرابي فلم ينفك عن إعداد المعدات والتحصين بمساعدة رفقائه، فحاول سد ترعة المحمودية بجهة كفر الدوار فلم يفلح وجعل يشيع في البلاد أن الخديوي مشترك مع الإنكليز على إضاعة البلاد، إلى غير ذلك من إثارة خواطر الأهلين، ولما وصل الأمر بعزل عرابي إلى العاصمة اجتمع المجلس المتقدم ذكره في نظارة الداخلية، وقرروا بقاء عرابي للمدافعة عن الوطن، وإيقاف أوامر الخديوي؛ لأنه خرج عن قواعد الشرع الشريف.
واستولى العرابيون على الخطوط الحديدية والبرقية، فنصب الأميرال سيمور سلكا تلغرافيا بين الإسكندرية وبورت سعيد، وأعلن الخديوي ثانية عصيان عرابي. غير أن هذه الأوامر والمنشورات كانت تذهب أدراج الرياح؛ لأن الأهلين أصبحوا منقادين للحزب الوطني انقيادا أمست البلاد به آلة بيد زعيم الثورة يديرها كيف شاء.
ثم نزل العرابيون نحو الإسكندرية وعسكروا في الرملة، فخرجت إليهم فرقة من الإنكليز في 5 أغسطس فلم تقو عليهم فتقهقرت إلى الإسكندرية، ثم عادت إليهم ثانية وقد تشددت، فتقهقر العرابيون وتحصنوا بين أبي قير وخطوط الرملة ثم تقهقروا إلى كفر الدوار، فاعتبر الإنكليز من ذلك الحين حالتهم في مصر حالة حربية يحتاجون فيها إلى الإمداد، فاستمدوا إنكلترا فأمدتهم بقوات كانت تتوارد إليهم عن طريق السويس. أما عرابي فكان في كفر الدوار في أربعة آلايات من المشاة وآلاي من الفرسان وآلاي من الطبجية وبطارية من مدافع الرش، وكثير من العربان، وقد قدرت الجنود الإنكليزية التي سارت لمحاربة عرابي بأربعة عشر ألفا من المشاة وأربع فرق من الفرسان وألف من الطبجية معهم 36 مدفعا ونحو ست فرق من المهندسين. ثم انضم إلى هذه القوة بعد ذلك قوة هندية مؤلفة من تسعة آلاف جندي. ويقال بالإجمال إن جميع الحاميات الإنكليزية التي كانت في مالطة وقبرص وجبل طارق انضمت إلى حملة مصر.
على أن هذه الإعدادات لم تكن لتثني العرابيين عن عزمهم؛ فإن عرابي كتب إلى المديرين بتاريخ 12 أغسطس أن يجمعوا جندا يبلغ مجموعه 25 ألفا. وطلب أن يكون فيهما الخفراء؛ لأنهم أقرب الناس إلى الحركات العسكرية تلبية لما تدعوه إليه الحالة من السرعة في حشد الجيوش، وفرض أيضا على المديرين أموالا يجمعونها من الأهالي إمدادا للحرب، فلا تسل عن الطرق التي كانوا يجمعون بها تلك النقود. وأخذ في تقوية الاستحكامات وتشييد الطوابي فمدها بين ما فوق الرملة بأربعة كيلو مترات إلى كفر الدوار، وأنشأ في كفر الدوار سدا عرضه 30 مترا وخندقا عرضه أربعة أمتار جعله فاصلا بين السد، وأرض أكثر فيها من مواقع الاستحكام. وكان الخط الدفاعي الأول ممتدا مما بعد المحلة بمسافة ألف متر على طول الخط الممتد من الرملة إلى البيضة، وجعل ما وراء هذا الخط من المرتفعات والتلال مواقع محصنة إلى كفر الدوار، فكانت كلها نحو 500 موقع. وأتم مثل هذه الأعمال الدفاعية من كفر الدوار إلى أبي حمص، ويوجد بين أبي حمص ودمنهور تل يفضل سائر التلال مساحة وارتفاعا، فاختاره عرابي موقعا يقيه من الإنكليز إذا قضت عليه الحال بالتقهقر إلى دمنهور، وعزز دمنهور بالمدافع.
كل ذلك والمخابرات جارية مع السلطان بشأن اشتراكه في المؤتمر للنظر في مصلحة القطر المصري، وهو يأبى الاشتراك حتى أوعز إليه البارون دي رينغ أن فرنسا تحب الاتفاق مع العرابيين فرضي أن تشترك فيه، فانتدب للنيابة عنه سعيد باشا الصدر الأعظم وعاصم باشا ناظر الخارجية في 20 يوليو. وأعلن سعيد باشا المؤتمر في 26 منه أن جلالة السلطان يعد حملة عثمانية إلى مصر، ولا حاجة إلى مداخلة الدول الأوروبية في هذه المسألة. وأخذت الدولة في إعداد 5000 جندي لهذه الغاية، فقال اللورد دفرين وهو سفير إنكلترا في الأستانة: لا بد قبل كل شيء من إصدار منشور شاهاني يعلن عصيان عرابي. فوافقه وأصدره فنشر في الجرائد فوجدوه لا يفي بالمرام. فترتب على ذلك تباعد بين الدولة العلية وإنكلترا، وزاد التباعد سعي السلطان في عرقلة مساعي الجند الإنكليزي بمصر أو لوقوفه في سبيل ما يحتاجون إليه من الدواب وغيرها لحمل أثقالهم مما يطول شرحه. فقطع اللورد دفرين العلائق السياسية مع الباب العالي. وانصرفت العناية عن إرسال جند عثماني أو غيره.
شكل 3-35: مؤتمر الأستانة سنة 1882.
أما في مصر فقد تركنا الجند الإنكليزي في الإسكندرية، وقد غادرها العرابيون وتحصنوا في دمنهور وكفر الدوار، وأدرك عقلاء الوطنيين عاقبة تلك المقاومة، فقام جماعة منهم يخوفونهم العواقب بلا فائدة، والظاهر أن عرابي كان معولا في مساعيه على مساعدة الباب العالي. ثم ما لبث أن سمع بتصريح السلطان بعصيانه، ثم جاءته صورة المنشور السلطاني بهذا الشأن، وفحواه تعنيف عرابي على عصيانه، وأنه يجب عليه الرضوخ للجناب الخديوي.
وفي أواسط أغسطس وصل الجنرال السير وولسلي إلى الإسكندرية واستلم قيادة الجيش. ثم أخذت تتوارد القوات الإنكليزية فبلغت في أواخر الشهر المذكور نحو 25 ألفا، وكان قدوم هذا القائد العظيم داعيا لتيقن الناس بفوز الحملة الإنكليزية؛ نظرا لما اشتهر به من البسالة والدراية العسكرية. وبعد وصوله إلى الإسكندرية نشر إعلانا مآله أنه لم يأت إلى مصر إلا لتأييد سلطة الخديوي، وهو لا يحارب إلا الذين يخالفون أوامر مليك البلاد، وتنبأ أنه سيدخل القاهرة في 15 سبتمبر من تلك السنة. ثم أخذت العساكر الإنكليزية تستكشف مراكز العرابيين في كل يوم، فكانوا إذا ظفروا بشرذمة من العرابيين ولقوا منها مقاومة قابلوها بقوة السلاح، فتولي الأدبار تاركة في ساحة القتال من جرح منها فينقلونه إلى معسكره أما القتلى فكانوا يدفنونهم.
وفي 5 شوال سنة 1299ه أو 20 أغسطس 1882م حصلت بين الفريقين معركة في كفر الدوار، استمرت ساعتين، وعدد العرابيين ضعفا عدد الإنكليز، وانجلت عن انهزام قسم عظيم من العرابيين وانقلابهم إلى تل الوادي، واحتل الإنكليز بعض مواقع العصاة بعد أن قتلوا منهم 168 وأسروا 62. وجرت معركة أخرى في اليوم التالي لم يفز بها أحد الطرفين. وفي اليوم الثالث 7 شوال اقتتل الفريقان في كفر الدوار اقتتالا تعزز فيه جانب الإنكليز بنجدة جاءتهم على قطار مخصوص، فتراجع العرابيون وتربصوا تحت إمرة طلبة عصمت في مواقفهم يتوقعون فرصة. وكان العرابيون بعد كل واقعة يكتبون إلى إخوانهم في العاصمة وغيرها أنهم ظافرون. أما عرابي فذهب لتحصين التل الكبير في مديرية الشرقية.
وبعث سير الأحوال وزارة راغب باشا على الاستعفاء فاستقدم الجناب الخديوي رياض باشا من أوروبا - وكان متغيبا - فقدم في أواسط أغسطس وبعد قدومه دعا الخديوي شريف باشا إلى تشكيل وزارة جديدة، فلبى الدعوة وتعين رياض باشا ناظرا للداخلية وعمر باشا لطفي ناظرا للجهادية.
شكل 3-36: عبد الله نديم خطيب العرابيين.
وأرسل الإنكليز فرقا من جيوشهم تسير إلى مصر عن طريق الإسماعيلية، فاشتبكوا في 9 شوال سنة 1299ه أو 23 أغسطس سنة 1882م مع العرابيين بين المسخوطة والإسماعيلية، وكان الفوز للإنكليز. واستولى الإنكليز أيضا على المحسمة فأصبحوا على عشرة أميال من التل الكبير. وفي 28 أغسطس حصلت واقعة القصاصين بين المحسمة والتل الكبير. وفي 29 شوال أو 12 سبتمبر ورد للجناب الخديوي في الإسكندرية تلغراف من سلطان باشا ينبئ باستعداد الإنكليز لمهاجمة التل الكبير حيث تحصن العصاة، ثم ورد تلغراف آخر من الإسماعيلية يعلن هجوم الإنكليز على التل من كل ناحية وصوب في الساعة الرابعة والدقيقة 30 بعد منتصف الليل، وأن العرابيين لم يقفوا أمام الإنكليز إلا 20 دقيقة استولى الإنكليز بانقضائها على التل فغنموا 40 مدفعا، وقتلوا ألفي رجل وأسروا ألفين، واستولوا على المؤن والذخائر ثم أخذوا يتعقبون الجند المنهزم. (س) واقعة التل الكبير
وتفصيل ذلك أن عرابي كانت قد وصلت إليه نسخة من جريدة الجوائب، وفيها منشور السلطان باعتباره عاصيا فاغتاظ وكاد يقع في اليأس؛ لأن حجته الكبرى كانت أنه مدافع عن حقوق الدولة العلية في مصر، فتشاور مع عبد الله نديم وأقر على إخفاء ذلك عن الجند. فلما كانوا في التل الكبير وقد تحصنوا فيه بقوة 30 ألف مقاتل و70 مدفعا زحفت الجنود الإنكليزية بقيادة الجنرال وولسلي بقوة 13 ألفا و60 مدفعا، وقبل وصولهم إلى معسكر العرابيين أرسلوا جواسيس من المصريين ومعهم نسخ من الجريدة المشار إليها، ففرقوها في الضباط وكبار الجيش. فلما اطلع أولئك عليها خارت قواهم ويئسوا من الفوز؛ لأن معظمهم كان يقاتل لأجل السلطان، فعلم عرابي بذلك فجمع إليه الضباط وشاورهم، فأقروا على استمرار الدفاع محاباة ورياء. وفيه كتب علي بك يوسف أميرالاي المقدمة إلى عرابي أنه قد تحقق أن العدو لا يخرج في هذه الليلة، فأصدر عرابي أمره أن يرتاح الجيش. أما العساكر الإنكليزية فسارت من أول الليل لا تفتر لها عزيمة، وفي مقدمتها بعض الضباط المصريين الذين كانوا من حزب الجناب العالي، وأمامهم عربان الهنادي يرشدونهم إلى الطريق، فبلغوا المقدمة في آخر الليل فأخلى لهم علي بك يوسف الطريق، ومروا بين العساكر لا راد يردهم فأطلقوا النار على الاستحكامات، وأوقعوا بالجند الراقد فألقت الأجناد أسلحتها وفرت فاستيقظ عرابي من نومه على دوي المدافع، وخرج من خيمته فارتاع لما علم أن العدو قد استولى على الاستحكامات، وانهزمت الجنود المصرية فأخذ يناديهم فلم يلبه مجيب، ثم رأى خيمته أصيبت بقنبلة فطارت، فعلم أنه لا ينجيه من الموت إلا الفرار. فركب جوادا كريما وفر وتبعه عبد الله نديم فحاول بعض خيالة الإنكليز إدراكهما فما استطاعوا، وما زالا حتى وصلا محطة أبي حماد فنزلا في القطار وأمرا السائق بالمسير فتعلل فهدداه فسار حتى وصل القاهرة. (ع) عرابي في القاهرة
فتوجه عرابي توا إلى قصر النيل وعقد مجلسا من أمراء العسكرية والملكية، وأخبرهم بما كان واستشارهم فاختلفت الآراء، فنهض البرنس إبراهيم باشا وخطب في الناس محرضا على الدفاع فوافقوه بحسب الظاهر. واستقر الرأي على إنشاء خط دفاعي في ضواحي المحروسة. فسار عرابي في فرقة من المهندسين نحو العباسية يستشيرهم عن أنسب المواقع لبناء ذلك الخط، فقال له أحد الضباط: «إنك بجهلك وسوء تدبيرك قد أحرقت الإسكندرية وتريد الآن أن تحرق مصر، فإذا لم يكن لك فيها ما يهمك فاعلم أن لنا فيها نساء وأطفالا وأملاكا لا نسلم بضياعها تنفيذا لأغراضك، ألا تدري أنك تعرض مصر للخطر بإنشاء الاستحكامات وتجعل منازلها هدفا لكرات المدافع، فنحن لا نوافقك على ذلك، وإني أقول لك ذلك بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع الضباط الحاضرين، فلا ترج منا مساعدة ويكفي ما قد جرى.»
فانذهل عرابي وارتبك في أمره، لا سيما لما رأى الباقين مستحسنين ما قاله رفيقهم، فكر راجعا على عقبيه كئيبا فاجتمع بأصدقائه ودعاهم إلى النظر في الأمر، فلم يجدوا أفضل من رفع عريضة إلى الجناب الخديوي يعتذرون بها عن أفعالهم ويقدمون له الخضوع، فحرروا عريضة وأرسلوها مع وفد مؤلف من بطرس باشا غالي وعلي باشا الروبي ومحمد رءوف باشا، ثم أردفوها بعريضة أخرى أرسلوها مع عبد الله نديم في قطار مخصوص، وكان ذلك في غرة ذي القعدة سنة 1299ه أو 14 سبتمبر سنة 1882م، فأبى الخديوي قبول العريضة وأمر بالقبض على الروبي وسجنه. أما نديم فإنه ركب القطار الذي قدم عليه وعاد من فوره بعد أن وصل كفر الدوار، ثم اختفى بعد ذلك ولم يتيسر للحكومة القبض عليه إلا بعد عشر سنوات قضاها مختفيا في الأرياف. (ف) دخول الإنكليز القاهرة
أما الجنود الإنكليزية فإنها بعد استيلائها على التل الكبير سارت فمرت ببلبيس فالزقازيق واستولت عليهما، ثم سارت حتى أتت العباسية خارج القاهرة في مساء الخميس 14 منه وعسكرت في سفح المقطم، فخاف الناس أن يدخل الإنكليز مصر محاربين، ولكن الأمر جاء بخلاف ما كانوا يتوهمون؛ لأن الجيوش الإنكليزية دخلت العاصمة بحالة سلمية في يوم الجمعة 15 سبتمبر طبقا لما تنبأ به الجنرال وولسلي، وألقت القبض على عرابي. وبعد وصول الجنرال وولسلي إلى القاهرة أنفذ السير الجنرال أفلن وود إلى كفر الزيات فوصلها في 16 منه، فسلمت فأمر بنسف الطابية التي كان قد بناها العرابيون في قرية أصلان، وسلمت باقي الحصون في بورت سعيد ورشيد وأخيرا دمياط فإنها لم تسلم إلا في 21 سبتمبر.
وبعد وصول الجنود الإنكليزية إلى القاهرة احتلوا قشلاقات العباسية والقلعة والمقطم وقصر النيل، ونزل الجنرال السير وولسلي في سراي عابدين، وكان من جملة قواد هذه الحملة الدوق دي كنوت ابن ملكة إنكلترا. وأودع عرابي ومحمود سامي في سجن العباسية، والأسرى من الملكية في سجن الضبطية، والجهادية في القلعة.
ثم صدرت الأوامر الخديوية بتعيين حكام المديريات من أهل النزاهة والإخلاص، وصدرت أوامر أخرى بتعيين لجنة مخصوصة في الإسكندرية لتحقيق مواد السرقة والقتل والحرق التي وقعت فيها في حادثتي 11 يونيو و11 يوليو إلى غاية 16 منه، وتقديم التقارير بما تستطلعه. وأوامر أخرى بتعيين مثل هذه اللجنة في طنطا؛ لتحقيق مثل هذه الحوادث التي حدثت خارج الإسكندرية. وأرسلت نظارة الداخلية منشورات إلى المديرين يستقدمون من وقعت عليهم الشبهة بالاشتراك مع العرابيين. ولا تسل عن التهاني التلغرافية التي وردت للجناب الخديوي وللجنرال وولسلي بما آتاهما الله من النصر المبين.
وفي 23 سبتمبر ألغيت جريدتا الزمان والسفير، وفي 25 منه أقبل الجناب الخديوي إلى العاصمة ومعه شريف باشا وسائر النظار، فتواردت الجماهير لملاقاة سموه في المحطة، ثم ركب وإلى يساره ابن الملكة وأمامه الجنرال وولسلي والمستر مالت إلى سراي الإسماعيلية، وفي اليوم التالي سار إلى سراي الجزيرة للتشريفات الاعتيادية، واستمرت الزينة في القاهرة ثلاث ليال متوالية. (ص) محاكمة العرابيين
وفي 15 ذي القعدة سنة 1299ه أو 28 سبتمبر سنة 1882م أمر سموه بتشكيل لجنة مخصوصة بالقاهرة تحت رئاسة إسماعيل باشا أيوب؛ لتحقيق قضية من كان له يد في الحوادث الأخيرة، وأن تقدم ما تقرره لنظارة الداخلية لتنفذه. وأصدر أمرا آخر بتشكيل محكمة شرعية في القاهرة تحت رئاسة محمد رءوف باشا للحكم في الدعاوي التي تقدم من اللجنة المخصوصة، وأن تكون أحكام هذه المحكمة قطعية لا تستأنف. وأصدر أمرا آخر بتشكيل لجنة عسكرية بالإسكندرية للحكم في الدعاوى التي تقدم لها من اللجنتين المخصوصتين اللتين تشكلتا في الإسكندرية وطنطا، وأن تكون أحكامها قطعية تحت رئاسة عثمان نجيب باشا.
فشرع كل من هذه اللجنات والمحاكم في إجراء ما عهد إليه. وفي 18 ذي القعدة سنة 1299ه أو 2 أكتوبر سنة 1882م تعين الشيخ محمد العباسي لمشيخة الجامع الأزهر بدلا من الشيخ الإمبابي. وكافأ الجناب الخديوي سلطان باشا بعشرة آلاف جنيه على صداقته التي أبداها أثناء الثورة. ثم أصدر الجناب العالي أمرا بإلغاء الجيش المصري لصرف العساكر التي جاهرت بالعصيان والاكتفاء بمحاكمة الضباط وكبار القادة كعرابي وعبد العال وغيرهما. ثم أمر بتنظيم جند جديد. وفي 11 ذي القعدة أو 24 أكتوبر صدر العفو عن الملازمين واليوزباشية الذين كانوا في جيش عرابي مع بعض الاستثناء.
وأنعم الجناب الخديوي بالنيشان المجيدي والعثماني من رتب مختلفة على 52 ضابطا من ضباط الجيش الإنكليزي. وأخذت الحكومة المصرية بمشاركة قناصل الدول تسعى في تسكين البال وتوطيد الراحة والقبض على من اشترك بتلك الثورة، ومكافأة الذين ساعدوا في إطفائها وبرهنوا على إخلاصهم لمليك البلاد. وعينت في الإسكندرية لجنة للنظر في تعويض الخسائر التي تكبدها أهاليها بسبب الحرق والنهب.
وأخذت الحكومة في محاكمة زعماء الثورة العرابية على أيدي اللجان المتقدم ذكرها، وفرغت من ذلك في 3 ديسمبر سنة 1882 ثم التأمت اللجنة مرارا للنظر في تثبيت تلك الأحكام، ثم عرضت على الجناب العالي فتكرم العفو عمن حكم عليهم بالقتل، فأصبحت الأحكام بعد ذلك العفو تقضي بتجريدهم من الرتب والألقاب والنياشين ونفيهم، وهاك ما صدر بشأن ذلك: (1)
الحكم الصادر على كل من أحمد عرابي وطلبه عصمت وعبد العال حلمي ومحمود سامي وعلي فهمي ومحمود فهمي ويعقوب سامي المقتضي جزاءهم بالقصاص، وقع تبديله بالنفي إلى الأبد من الأقطار المصرية وملحقاتها. (2)
إن هذا العفو يبطل ويقع إجراء الحكم على المذكورين بالقتل إذا رجعوا إلى الأقطار المصرية أو ملحقاتها.
شكل 3-37: أحمد عرابي في منفاه .
ثم ارتأى مجلس النظار أن تضبط أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، وأن يعين لهم في مقابل ذلك راتب سنوي كاف لمعيشتهم، فصدر بذلك أمر عال في 20 شوال أو 14 ديسمبر من تلك السنة؛ فعينت لجنة لإجراء ذلك. ثم صدرت الأحكام المختلفة على من بقي من أتباع عرابي كل بحسب استحقاقه. وكان الأمر بالنفي على ما تقدم يقضي بتسفيرهم حالا وإنما رأت الحضرة الخديوية إمهالهم إلى 16 صفر أو 27 ديسمبر وعند ذلك ركبوا في قطار مخصوص مع من أرادوا استصحابه من ذويهم إلى السويس ومنها إلى جزيرة سيلان منفاهم.
شكل 3-38: أحمد عرابي عند رجوعه.
وما زالوا هناك إلى سنة 1901 حتى أذن الجناب الخديوي لهم بالعودة إلى مصر يقضون فيها بقية حياتهم بدلا من منفاهم في سيلان. وقد توسط لهم بذلك الدوك أوف كورنول ويورك ولي عهد إنكلترا يومئذ بعد زيارته سيلان ومشاهدة المنفيين في منفاهم مع ما يغشاهم من الذل والضعف. وقدم أحمد عرابي إلى هذا القطر بعد غيابه عنه نحو 19 عاما.
ثم أصدر الجناب الخديوي أمرا عاليا بتاريخ 22 صفر سنة 1300ه الموافق 3 يناير سنة 1883م، بالعفو عن أهالي القطر المصري الذين اشتركوا في الثورة العرابية، ما عدا الذين سبق صدور الحكم عليهم لغاية تاريخه.
ولاحظ رياض باشا أن نيات الإنكليز منصرفة إلى التساهل مع عرابي ورفقائه في أثناء محاكمتهم وهو يريد التشديد، فأبت نفسه الكظم على ما في ضميره، فقدم استعفاءه من نظارة الداخلية، وخاضت الجرائد بهذا الشأن ولا سيما جريدة الديبا، وأبانت ما لهذا الوزير الخطير من المآثر الغراء في التنظيمات الإدارية وحرية التصرف بالأحكام. وقد أجمعت تلك الجرائد على استحسان فعله مؤثرا الاستعفاء على قبول خدمة لا يستطيع فيها التصرف بالحرية التي تقتضيها مصالح الأمة التي هو أكثر الناس غيرة عليها. فلما قبل استعفاؤه عين بدلا منه إسماعيل باشا أيوب، ثم توفي هذا بعد يسير فعين بدلا منه خيري باشا. (6-4) الثورة المهدوية أو الحوادث السودانية مع ما تقدمها وما انتهت إليه
ولم تكد مصر تفرغ من الحوادث العرابية أو الثورة العسكرية المصرية، حتى ظهرت الثورة السودانية بظهور محمد أحمد المهدي السوداني، وكان لها تأثير شديد في تاريخ مصر الحديث، فرأينا أن نأتي على تاريخها تباعا من ظهور المهدي إلى انقضاء تلك الحركة واسترجاع السودان، وإن تجاوزنا مدة الخديوي السابق.
ونمهد الكلام بفذلكة عن تاريخ السودان المصري منذ فتحه محمد علي إلى الحوادث المهدوية. (أ) تاريخ السودان من فتح محمد علي إلى ظهور المهدي
قد تقدم ما كان من فتح السودان في زمن محمد علي باشا على يد ابنه إسماعيل باشا سنة 1820 وما بعدها، حتى غدر به الملك النمر صاحب شندي وقتله وثأر له الدفتردار. وأول وال عينته الحكومة المصرية على السودان بعد الفتح الأميرالاي عثمان بك سنة 1825، ولم يبق فيها إلا سنة فخلفه محو بك وغيره فغيره كما ترى في هذا الجدول: (1) ولاة السودان في زمن محمد علي
عثمان بك
من سنة 1825-1826
محو بك
من سنة 1826-1826
خورشيد باشا
من سنة 1826-1839
أحمد باشا أبو ودان
من سنة 1839-1844
أحمد باشا المنكلي
من سنة 1844-1845
خالد باشا
من سنة 1845-1850 (2) في زمن عباس الأول
عبد اللطيف باشا
من سنة 1850-1851
رستم باشا
من سنة 1851-1852
إسماعيل باشا
من سنة 1852-1853
سليم باشا
من سنة 1853-1854
علي باشا سري
من سنة 1854-1855 (3) في زمن سعيد باشا
علي باشا شركس
من سنة 1855-1857
أراكيل باشا
من سنة 1857-1859
حسن باشا سلامة
من سنة 1859-1862
محمد باشا راسخ
من سنة 1862-1863 (4) في زمن إسماعيل باشا
موسى باشا حمدي
من سنة 1863-1865
جعفر باشا سامي
من سنة 1865-1865
جعفر باشا مظهر
من سنة 1866-1871
ممتاز باشا
من سنة 1871-1873
إسماعيل باشا أيوب
من سنة 1873-1877
غوردون باشا
من سنة 1877-1879 (5) في زمن توفيق باشا
رءوف باشا
من سنة 1879-1882
عبد القادر باشا حلمي
من سنة 1882-1883
علاء الدين باشا
من سنة 1883
غوردون باشا
من سنة 1884-1885
ولكل من هؤلاء الولاة تاريخ لا محل لذكره هنا، وإنما نشير إلى أهم الحوادث بوجه الاختصار؛ ففي أيام أحمد باشا أبو ودان ذهب محمد علي باشا بنفسه لزيارة السودان سنة 1839 فتفقد مستعمرته الجديدة وعاد. وبعد سنتين حمل أحمد باشا الذكور لفتح السودان الشرقي ففتح التاكا، وما زال الولاة يوسعون سيادة مصر على السودان إلى أواخر أيام الخديوي إسماعيل. وفي أوائل أيامه بولاية موسى باشا على السودان سنة 1863، قدم السير صموئيل باكر الإنكليزي لاكتشاف منابع النيل ومعه امرأته فقاسى عذابا شديدا.
وفي ولاية جعفر باشا ثار الجهادية السود من كسلة لتأخر مرتباتهم وسوء معاملة قوادهم، فتعبت الحكومة في إخماد الثورة وقد سفك بسببها دماء غزيرة.
ومن أهم حوادث السودان في تلك الفترة سعي الحكومة في إبطال تجارة الرقيق، ولم يصدر الأمر رسميا بإبطالها إلا في زمن إسماعيل باشا بولاية موسى باشا، فأصدر أوامره المشددة إليه سنة 1863 فتعقب تجار الرقيق وهم يومئذ رجال السطوة والثروة وأصحاب الكلمة العليا هناك. فقبض على سبعين مركبا مشحونة بالأرقاء بين كاكا وفشودة وأتى بهم إلى الخرطوم، ولم يطلق التجار حتى أخذ عليهم المواثيق أن لا يعودوا إلى هذه التجارة.
ثم انتدب إسماعيل باشا السير صموئيل باكر سنة 1869 لفتح خط الاستواء على أن يكون واليا عليه، وعقد له على 1700 رجل، فسافر إلى الخرطوم عن طريق سواكن، ومنها خرج إلى خط الاستواء والحكومة تعضده، فأعلن ضم بعض بلاد خط الاستواء رسميا إلى الدولة المصرية أهمها بلاد يونيورو، وخلع ملكها كباريقة وأقام مقامه رجلا يوالي الحكومة، وعقد شروطا ودية مع ملكها، وعاد إلى مصر سنة 1873 واستعفى من منصبه على خط الاستواء، فعين إسماعيل الكولونل غوردون (غوردون باشا) مكانه، فسافر إلى ذلك المكان سنة 1874 وبذل جهده في إصلاح تلك البلاد، والسودان يومئذ بولاية إسماعيل باشا أيوب. ثم استقال غوردون سنة 1876 وعاد إلى بلاده.
شكل 3-39: كباريقة ملك يونيورو في خط الاستواء ذاهب إلي معسكر صموئيل باكر.
وظهر في أثناء ذلك الزبير باشا وأنشأ دولة لنفسه في بحر الغزال ودارفور، وقد دون أعماله بنفسه ونشرت سيرته في تاريخ السودان لشقير بك. فلما تم له الفتح وعلم إسماعيل بأمره خافه، وتمنى لو يقضي عليه وجرت حوادث اقتضت مجيء الزبير إلى مصر لعرض اختلاف جرى بينه وبين حكمدار السودان، وهو حسن الظن في الدولة المصرية، وكان يرجو أن يتفق مع الخديوي على تنظيم البلاد التي فتحها، فأتى مصر ومعه الهدايا من العساكر وأحمال الريش والسن، فأحسن الخديوي وفادته لكنه أمره أن يبقى بمصر.
وما زال فيها وانضمت بلاده إلى مملكة السودان المصرية.
وفي سنة 1877 عادت حكمدارية السودان إلى غوردون باشا، وأخذ في تنظيم الحكومة والإدارة، وفي تلك السنة عقد إسماعيل باشا معاهدة إبطال تجارة الرقيق مع إنكلترا، وعهد إلى غوردون بتنفيذ ذلك ونشره، وهي مهمة شاقة كان لها تأثير شديد في الثورة السودانية التي بدأت في أيام خلفه رءوف باشا كما سترى. (ب) أسباب الثورة السودانية
لا تثور أمة على حاكمها إلا لأمر هام تلجأ إليه عند فراغ الحيلة من نيل حقوقها. وأما الأسباب التي أعدت السودان للثورة فكثيرة أهمها:
انتظار المسلمين للمهدي
المشهور بين المسلمين من أوائل الإسلام أنه سيظهر رجل منهم يؤيد الدين وينشر لواء العدل، ويستولي على الممالك الإسلامية يسمى المهدي ويسندون ذلك إلى أحاديث نبوية بحث كثيرون من علماء الإسلام في صحتها وفسادها، وفي مقدمتهم العلامة ابن خدلون، وتتمة للموضوع نذكر الذين ادعوا المهدوية من أول الإسلام إلى الآن: (1)
محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية ظهر في المدينة سنة 145ه فدعا الناس إليه، وكان له أخ اسمه إبراهيم نصره وقام بدعوته ففتح البصرة والأهواز وفارس ومكة والمدينة وبعث عماله إلى اليمن وغيرها، وكان ذلك في زمن الإمام مالك فأفتى له وشد أزره، فكثرت دعاته حتى كاد يذهب بالدولة العباسية لو لم يستدرك المنصور أمره ويتغلب عليه ويقتله. (2)
عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب، التي فتحت الديار المصرية في أواسط القرن الرابع للهجرة، وبنت مدينة القاهرة على يد القائد جوهر. وقد اتسعت دولة الفاطميين وامتدت سلطتهم وطالت أيام حكمهم. (3)
محمد بن عبد الله بن تومرت المعروف بالمهدي الهرعي ويكنى أبا عبد الله، أصله من جبال السوس في أقصى بلاد الغرب، رحل إلى المشرق حتى انتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي وغيره فأخذ العلم عنهم، واشتهر بالنسك والتقوى وساح في الحجاز وجاء مصر ثم سار إلى الغرب وأقام بمراكش وغيرها، وتأسست على يده دولة عظيمة في أوائل القرن السادس للهجرة هي دولة عبد المؤمن. (4)
العباس الفاطمي ظهر بالمغرب في آخر الماية السابعة للهجرة وادعى المهدوية، فتكاتف الناس حوله وعظمت شوكته حتى دخل مدينة فاس عنوة وأحرق سوقها وبعث عماله إلى الأنحاء لكنه قتل غيلة فانقضى أجله وسقطت دعوته. (5)
السيد أحمد ظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد في جهات الهند، وحارب الأسياخ على حدود بنجاب الشمالية الغربية سنة 1826 ولم تقم له قائمة. (6)
محمد المهدي السنوسي بن الشيخ محمد السنوسي الذي ظهر في المغرب في أواسط القرن الماضي، وأصله من جبل سوس بجزائر الغرب نبغ (والده) سنة 1837 ولاقى من بعض أولي الأمر الإسلامي ترحابا ونشر دعوته وأيدها، وكان مقامه الرئيسي في جغبوب على مقربة من واحة سيوا نحو الغرب، ولكنه أنشأ زوايا عديدة في أماكن أخرى من بلاد الغرب يبلغ عددها ثلاثمائة كلها تعلم طريقته وتعاليمه. (7)
محمد أحمد المهدي السوداني، وقد نحا في دعواه منحى الشيعة فقال إنه الإمام الثاني عشر الذي ظهر مرة قبل هذه، وفي تسمية أتباعه بالدراويش تأييد لرغبته في قول الشيعة؛ لأن لفظ درويش فارسية.
عنف الحكومة المصرية في معاملة السودانيين
ما برحت الحكومة المصرية منذ دخول السودان في حوزتها وهي تنظر إلى السودانيين أنهم أحط من سائر رعاياها، وتستعمل العنف في معاملتهم، يكفي شاهدا على ذلك ما أتاه إسماعيل باشا بن محمد علي من التنكيل في الملك النمر صاحب شندي كما تقدم في فتح السودان، فقد ظل كثيرون من أعقاب أولئك المظلومين يتحينون فرصة ينتقمون بها من الحكومة، وكانوا أول القائمين بنصرة محمد أحمد.
جور الحكام في تحصيل الضرائب
كان تحصيل الضرائب في السودان منوطا بجماعة الباشبوزق، فكانوا يسومون السودانيين في تحصيلها أنواع الخسف والذل وقد يقتضونها مرارا. وروى المستر فرنك باور قنصل إنكلترا بالخرطوم إذ ذاك أن الضرائب كانت تضرب على أهل السودان بلا شفقة. فيضربون ضريبة على كل فرد منهم وعلى الأولاد والنساء يقتضونها ثلاث مرات في السنة: مرة لصاحب القضاء، وأخرى للجابي، وأخرى للحكمدار. وكان الزارع إذا زرع حنطة لا يؤذن له بزراعتها حتى يدفع ثلاثة جنيهات كل سنة، ويدفع سبعة أخرى في مقابل التصريح له بريها من ماء النيل. فإذا تردد في الدفع سيق إلى السجن وإذا صح زرعه دفع ذلك المال مرتين مرة للحكومة ومرة لجيب الباشا. وإذا كان من أصحاب السفن التجارية التي تجري في النيل فرض عليه أربعة جنيهات عن كل سفينة، فإذا لم يرفع العلم المصري على سفينته غرم بأربعة أخرى. ومن تأخر عن تأدية تلك الضرائب اقتضتها الحكومة منه بالكرباج، وقد يعاقب ذلك المسكين بإحراق منزله أو سلب أمتعته. والخلاصة أن السوداني لم يكن يباشر أمرا إلا أدى عليه ضريبة.
منع تجارة الرقيق
من المقرر المشهور أن التجارة السودانية محصورة في أصناف معدودة أهمها تجارة الرقيق. والنخاسون أو تجار الرقيق أشبه بالملوك والقواد منهم بالتجار، في حاشية كل منهم مئات أو ألوف من الرجال بين خدمة وعمال وعبيد يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده. فالنخاسون عمد السودان وعيون أعيانه وقادة أعماله، تهابهم الحكام وتخشى سطوتهم الحكومة. وما زالت تجارتهم رابحة وأعمالهم سائرة حتى قام أهل العالم المتمدن لإبطال تجارة العبيد، فجاء السودان السير صموئيل باكر للقيام بتلك المهمة، ثم أنيطت بغوردون باشا، فأخذ يطوف الأصقاع والمدن في أنحاء السودان يعلم الناس الحرية الشخصية، ويأمر التجار بالكف عن الاسترقاق جملة. وهي صدمة قوية ارتجت لها أركان السودان؛ لأن منع النخاسة لم يقتصر على تقليل أرباح النخاسين، ولكنه عرضهم لاستبداد الجباة؛ لأنهم كانوا يؤدون الجانب الأكبر من الضرائب عبيدا أو ماشية، فأصبحوا بعد إبطال النخاسة لا يقوون على تأديتها. فاستبد بهم الجباة وساموهم الذل والعسف حتى خيف عصيانهم، ولكن غوردون باشا لحسن سياسته ولين جانبه لم يحدث في أيامه اضطراب. فلما غادر السودان تولاه رجل لم يكن عالما بمحل الضعف ليتلافى خطره. فكأن غوردون أوقد نارا في بعض جهات البيت فجاء غيره لا يدري كيف يطفئ تلك النار فتعاظمت والتهمت المدينة برمتها. فلما قام المهدي يدعو الناس إلى رفع المظالم آنس من أولئك التجار إصغاء وكانوا له عونا في إضرام تلك الثورة.
انتظار السودانيين أن يكون المهدي منهم
من المتداول بين شيوخ أهل السودان وفقهائهم أن المهدي سيظهر من بينهم استنادا إلى أقوال يروونها عن بعض الأئمة منها قول الإمام القرطبي في طبقاته الكبرى ونصه: «وزير المهدي صاحب الخرطوم.» وقول السيوطي وابن حجر: «إن من علامات ظهور المهدي خروج السودان.» ولذلك رأيتهم رحبوا بالشيخ السنوسي لما قام، لكن النجاح قدر لمحمد أحمد لأسباب أهمها: (1)
استخفاف الحكومة به عند ظهوره وترددها في الضربة القاضية على تلك الثورة كما سيتضح لك من سيرة حياته. (2)
قيام العرابيين بالثورة بمصر؛ فإنه هاج خواطر الأهلين وجرأهم على النهوض مع اشتغال الحكومة عنهم. (3)
ضعف الحاميات المصرية في السودان؛ فإن مجموع الجند الذي كان في أصقاع السودان الواسعة من حلفا إلى خط الاستواء لا يتجاوز 40000 رجل موزعة في 15 مديرية وليس عندها معاقل حصينة. (ج) نشأة محمد أحمد المهدي (أصله ومولده)
شكل 3-40: محمد أحمد المهدي.
وولد في جزيرة ضرار من اعمال دنقلة سنة 1843 وهو من ذرية رجل اسمه حاج شريف واسم أبيه عبد الله وأمه زينب، وكان أبوه نجارا يصنع المراكب والسواقي، وضاق به الرزق في دنقلة فرحل بأهله إلى شندي ثم الخرطوم وابنه محمد أحمد طفل، ثم مات الوالد، وكان محمد أحمد ميالا إلى التدين من صغره، فأخذ في درس القرآن وتفهم قواعد الإسلام، وانتهى في دروسه إلى محمد الخير في الغبش تجاه بربر، واشتهر بين أقرانه بالمبالغة في الزهد حتى قيل إنه كان يمتنع عن أكل زاد أستاذه لأنه يجري عليه من الحكومة، وهو يعتقد أنه مال الظلم.
وبعد أن أتم دروسه على محمد الخير مالت نفسه إلى التصوف، فذهب إلى الشيخ محمد شريف حفيد الشيخ الطيب صاحب الطريقة السمانية، وهو إذ ذاك مقيم عند قبر جده في أم مرحي، وسأله الدخول في مصاف تلامذته، وذلك في سنة 1277ه/1861م فأجابه محمد شريف إلى طلبه، فأقام عنده منقطعا إلى الصلاة والعبادة، وما لبث أن أظهر من التقشف والزهد ما ميزه عن سائر التلامذة، حتى إنه كان يشتغل في منزل سيده بما هو منوط بالعبيد والجواري من احتطاب واستقاء وطحن وطبخ، وهو غير مكلف بشيء من ذلك، وكان كلما وقف للصلاة يبكي حتى يبلل الأرض بدموعه، وإذا جلس أمام شيخه نكس رأسه ولم يرفع طرفه إليه إلا إذا كلمه فيرفع طرفه بأدب واحترام، وأقام على ذلك سبع سنين. فلما رآه شيخه على هذه الحالة وأنه سالك طريق المريدين وناهج منهج الصالحين، مال إليه وأحبه وجعله شيخا وأعطاه راية، وأذن له في الذهاب حيث شاء لإعطاء العهود وتسليك الطريقة. فذهب إلى الخرطوم وتزوج بابنة عم له وأقام مع إخوته يبث طريقته بغيرة وجد.
وفي سنة 1871 رحل مع إخوته إلى جزير أبا وراء الخرطوم، وبنى فيها جامعا وخلوة للتدريس، فاجتمع عليه سكان تلك الجزيرة، وهم دغيم وكنانة وغيرهم من عرب البادية وأخذوا العهد عنه، ودخل بعضهم في تلمذته وفي جملتهم علي ود حلو الذي جعله بعد ادعائه المهدوية خليفته الثاني. ولم يمض إلا القليل حتى اشتهر صيته وكثر أتباعه، وكان أستاذه محمد شريف قد انتقل إلى القادرية قرب جبل أولى على النيل الأبيض، فكان يزوره في كل موسم أو عيد لتقديم واجب الطاعة. وقبل الدخول عليه يجعل الرماد على رأسه والشعبة في رقبته والفروة الضأن على صلبه تشبها بالعبد في ذله ، فكان محمد شريف يحل الشعبة من رقبته والفروة عن صلبه ويلبسه أفخر الثياب فيقيم عنده أياما ثم يعود إلى مركزه في جزيرة أبا. وفي بعض زياراته حدثه عن خيرات البلاد التي رحل إليها وسهولة العيش فيها وزين له الإقامة في العراديب بين أبا والكوة، فانتقل إليها سنة 1288ه/1872م، وكانت العراديب على خصبها خالية من السكان والزراعة، فعمرها وأقام فيها على صفاء تام مع محمد أحمد برهة، ثم لم يلبث أن تكدر هذا الصفاء فصار جفاء ثم نفورا ثم عداء.
واختلفوا في سبب العداء، والغالب أنه حسد من محمد الشريف لتلميذه لإقبال عربان العراديب إليه، فأخذ يخفض من سطوته ويناوئه. وتعاظم النفور بينهما وظهر. فأخذ محمد أحمد في انتقاد أعمال أستاذه ومن جملتها أن الشريف كان يأذن للنساء في حضور مجلسه وتقبيل يده، ولم يكن يرى مانعا من الرقص والغناء، فأخذ محمد أحمد يعلم تلامذته أن ذلك يخالف الشرع، فبعث محمد الشريف إليه ووبخه ومحا اسمه من الطريقة وهي إهانة عظيمة في نظرهم.
وكان محمد أحمد يحب الطريقة وله خلفاء وتلامذة فيها، فلم يكن تركها سهلا عليه، فعمد إلى الملاينة فذهب إلى أستاذه والتمس العفو، وقد ذرى الرماد على رأسه وجعل في عنقه الشعبة وهي عود ذو شعبتين توضع في العنق علامة التذلل والاستعطاف، وانتهره محمد شريف وطرده وأهانه. فلم يعد محمد يستطيع الكظم فالتجأ إلى شيخ آخر من الطريقة المذكورة اسمه الشيخ القرشي، وكان بينه وبين الشيخ الشريف منافسة، فخاف هذا عاقبة الأمر فاستقدم محمد أحمد واستدناه فأبى، وكان لذلك الإباء رنة في آذان أهل السودان. وعظم محمد أحمد في عيني الناس وانتقل إلى جزيرة أبا. وبعد قليل مات الشيخ القرشي فبنى محمد على قبره قبة. وبالغوا في إكرامه نكاية بالشيخ الشريف وازداد الرجل شهرة بالتقوى والكرامة في معظم أنحاء السودان، وهو إلى ذلك الحين لم يدع المهدوية.
وكان استبداد جباة الأموال ضاربا أطنابه، وحال السودان كما تقدم من القلاقل والاضطراب، فكان محمد أحمد إذا ذكر الضيق الذي أصابهم من ظلم الجباة نسب ذلك إلى خطية بني الإنسان، وأن العالم قد فسد والناس قد ضلوا عن سواء السبيل، فنالهم ما نالهم من غضب الله وأن الله سيبعث رجلا يصلح ما فسد ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو المهدي المنتظر. وقد كان ذلك حديث الناس في سائر أنحاء السودان، فحيثما اجتمعوا تحدثوا في ما يقاسونه من الضنك وما ينتظرونه من الفرج على يد ذلك المنتظر، حتى أصبح لفظ المهدي يدوي في سائر مجتمعاتهم ومنازلهم في الأكواخ والأسواق والمساجد والزوايا على الطرق والعطمور، وحيثما وجد اثنان أو ثلاثة فلا حديث لهم إلا الفرج المنتظر على يد المهدي. (د) قيامه بالدعوة
شكل 3-41: الدراويش.
وكان محمد أحمد على بينة من هذا الشعور العام، وحدثته نفسه أن يكون هو الرجل المنتظر لكنه لم يصرح به لأحد. وهو في ذلك جاءه عبد الله التعايشي من البقارة، وكان يشتغل بالتنجيم وكتابة الأحجبة وله مطامع كبيرة، فاستحث محمد أحمد على القيام بالدعوة، وأكد له أنه هو المهدي المنتظر من علامات زعم أن أباه وصفها له، وأنه وجدها كلها في محمد أحمد. فجاء ذلك وفقا لما في خاطر محمد أحمد فاعتقد أنه المهدي، وقرب التعايشي وتعاونا على بناء قبة له، واستقدم تلامذته وأقام في جزيرة أبا وأخذ يفتش الكتب ويبحث عما يؤيد دعواه، ويتبين صفات المهدي وعلاماته وأخذ يظهر دعواه لتلامذته سرا من أواسط سنة 1881.
ثم خرج سائحا إلى بلاد الغرب مع رجاله وعليهم لباس الدراويش، وهي الجبة المرقعة والسبحة والعكاز، وجعل يبث دعوته بين رؤساء القبائل على أن يكتموا ذلك حتى تأتي الساعة. وعاد إلى أبا وأخذ في مكاتبة الناس في هذا الشأن. وبلغ ذلك الحكومة فلم تعبأ به حتى إذا جاءتها الوشاية بشأنه من محمد الشريف، وأطلعها على بعض تلك المنشورات بدأت تهتم بأمره. وكان حكمدار الخرطوم يومئذ رءوف باشا فكاتبه بما نسب إليه فأجابه بكتاب يؤيد به دعوته. فجمع علماء الخرطوم وأطلعهم على الكتاب فاتهموه بالجذب ولكنهم أجازوا القبض عليه، فانتدب لهذا الأمر محمد بك أبو السعود أحد معاوني الحكومة، فسار في قلة من الرجال، فوصل جزيرة أبا في 7 أغسطس سنة 1881 فوجد محمد أحمد في الغار جالسا وحوله جمهور من تلامذته، فسلم عليه وقال: «إن حكمدار السودان بلغه أمر الدعوى التي قمت بها، وأرسلني لآتي بك إليه بمدينة الخرطوم وهو ولي الأمر الذي تجب طاعته.» فأجابه محمد أحمد: «أما ما طلبته من الوصول معك إلى الخرطوم فهذا مما لا سبيل إليه، وأنا ولي الأمر الذي تجب طاعته على جميع الأمة المحمدية.» ثم شرع في تقديم الأدلة على أنه المهدي المنتظر، فأغلظ له أبو السعود في الجواب وقال: «ارجع عن هذه الدعوى فإنك لا تطيق حرب الحكومة، ولا نرى معك من يقاتلها.» فأجابه محمد أحمد وهو يبتسم: «أنا أقاتلكم بهؤلاء.» وأشار إلى أصحابه ثم التفت إليهم، وقال: «أأنتم راضون بالموت في سبيل الله؟» فقالوا: نعم، فالتفت إلى أبي السعود وقال له: «قد سمعت ما أجابوا به فارجع إلى ولي أمرك في الخرطوم وأخبره بما رأيت وسمعت.» فلما رأى أبو السعود صدق عزم محمد أحمد وأعوانه على نصرة دعواهم، وأن النصح لا ينجع فيهم؛ عاد مسرعا إلى الخرطوم وقص على رءوف باشا ما رآه وسمعه. (ه) مناهضة الحكومة له
فجهز رءوف باشا حملة من بلوكين بعث بها إلى جزيرة أبا، وكان محمد أحمد قد واعد رجاله على الصبر فأطاعوا، فلما أتت جنود الخرطوم هجموا عليهم وقتلوا معظمهم وعاد الباقون ليخبروا بما كان. وهي أول وقعة جرت بين الدراويش والحكومة، وعرفت بواقعة أبا، واشتهر فوز المهدي فيها فعده أتباعه من كراماته لأنه غلب الحكومة الظالمة. ولكن محمد أحمد لم يكن يجهل مركزه بالنسبة للحكومة فخاف اهتمامها بأمره، وهو هناك لا يقوى على مناهضتها، وما كل مرة تسلم الجرة، فعزم على الهجرة وجعل وجهته جبل قدير. فقال لأصحابه إن النبي جاءه في المنام وأمره بتلك الهجرة، فأطاعوه وساروا وهم يدعون الناس إلى طاعة المهدي واعترضه ملك على جبل في الطريق يقال له جبل الجرادة، فخالف محمد أحمد فحاربه فكانت الغلبة للدراويش، فاشتد أزرهم وثبتوا في دعوتهم حتى أتوا جبل قدير في 31 أكتوبر سنة 1881، فلاقاه ملكه واسمه ناصر وأنزله على الرحب والسعة فأمر محمد ببناء مسجد للصلاة.
وكان على فاشودة في ذلك الحين مدير من قبل الحكومة المصرية اسمه راشد بك، علم بقدوم المهدي إلى جبل قدير، فاستأذن رءوف باشا في تأديبه وطال انتظاره الإذن، وبلغه أن المهدي ورجاله في ضيق من المرض، فزحف وهو يستتر يريد مباغتتهم ولكن امرأة مؤمنة أتتهم بالخبر فاستعدوا للقاء، وعادت العائدة على راشد بك ورجاله، وغنم الدراويش ما كان معهم في الزاد والذخيرة في 9 ديسمبر منها.
وكان لهذا الخبر وقع شديد على رءوف باشا في الخرطوم، وخاف على فاشودة وأخذ في التجنيد بقيادة جيكلر باشا، وبعث يستنجد مصر فاستضعفته فعزلته وولت مكانه عبد القادر باشا حلمي، وألح جيكلر بوجوب المبادرة فأذن له. فحشد جندا مختلطا من العساكر والباشبوزق وعقد لواءه ليوسف باشا الشلالي في أواسط مايو سنة 1882، وبعث الشلالي إلى المهدي ينصحه في الطاعة، فأجابه جوابا يدل على استخفافه به ويدعوه إلى طاعته. والتقى الجيشان في جبل الجرادة. وفي 29 مايو جرت واقعة قتل فيها الشلالي وجماعة من كبار قواده وغنم الدراويش ما كان معهم من المئونة والذخيرة والعدة، فازدادوا تصديقا لدعوتهم وشاع ذلك النصر في أنحاء السودان، فأعظمه السودانيون وارتفع قدر المهدي عندهم، وتوافد إليه الناس يبايعونه حتى بلغ عددهم 20000 في قدير وحدها، وهذه صورة المبايعة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. أما بعد فقد بايعنا الله ورسوله وبايعناك على توحيد الله وألا نشرك به أحدا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها والرضى بما عند الله؛ رغبة بما عند الله والدار الآخرة وعلى أن لا نفر من الجهاد.
فلم تمض سنة 1882 حتى أصبحت السودان شعلة ثوروية تنادي باسم محمد أحمد. ولبى دعوته جماعة من كبار الرجال منهم عامر المكاشف في سنار والشريف أحمد طاها من مشايخ السمانية شرقي النيل الأزرق ومحمد زين وود الصليحاني وفضل الله رد كريف والحاج أحمد عبد الغفار وغيرهم. وبعضهم تفانى في نصرته وقتل في سبيل دعوته، فاهتمت الحكومة بشأن المهدي، وأخذ عبد القادر باشا حلمي في تحصين الخرطوم وجند ثلاث أورط من السود وأخذ في تمرينهم واحتفر خندقا وراء سور الخرطوم وأقام عليه الأبراج نصب فيها المدافع، فاطمأن الموالون للحكومة على أنفسهم، ثم حمل عبد القادر باشا بنفسه لإخماد تلك الثورة فأتى سنار لمحاربة أحمد المكاشف وكان قد استفحل أمره هناك، فحاربه في 24 فبراير سنة 1883، ففر المكاشف وغلب رجاله ودخل عبد القادر سنار وطمأن الناس ثم حارب أحمد عبد الغفار قرب الرصيرص، فشتت شمله وأمر العلماء أن يكتبوا الرسائل وينشروها في تكذيب دعوة محمد أحمد. (و) سقوط كردوفان
وكانت كردوفان في أثناء ذلك قد أخذت بالثورة واتحد دعاة المهدي على طرد خدمة الحكومة المصرية، وكان مديرها سعيد باشا يقيم في عاصمتها الأبيض فبذل جهده في إخماد الثورة فلم يفلح، والدراويش يزدادون قوة وعددا حتى هددوا بارا وكشجيل والبركة، والحكومة في الخرطوم تمد سعيد باشا بالجند، ثم رأى المهدي أن يقدم لنصرة دعاته بنفسه، وفي أوائل سبتمبر سنة 1882 أصبح على مقربة من الأبيض، فكتب إلى محمد سعيد باشا يدعوه إلى التسليم فجمع الباشا رجال مجلسه وشاورهم في الأمر فأقروا على شنق الرسل وأن لا يبعثوا جوابا، ولكن أهل الأبيض كانوا على دعوة المهدي سرا، وهم الذين دعوه إلى فتحها وفي مقدمتهم إلياس باشا أعظم تجار كردوفان وحاكمها السابق، فانضموا إلى العصاة في تلك الليلة هم وبعض الحامية، وبقي محمد سعيد باشا في نحو عشرة آلاف من الجند الباشوزق، وأما جيش المتمهدي فكان جرارا فيه 6000 تحمل البنادق التي غنموها من الجنود المصرية بالمواقع الماضية، وأما سائر قواته فتبلغ ستين ألفا، ويقول سلاطين باشا في كتابه «النار والسيف في السودان» إن حملة البنادق لم تأت معه إلى الأبيض بل بقيت في قدير.
وفي 8 سبتمبر هجم العصاة على الأبيض فارتدوا خاسرين، وقد غنم منهم الجند المصري 63 راية من جملتها راية المتمهدي نفسه واسمها «راية عزرائيل»، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف وفي جملتهم محمد أخو المهدي ويوسف أخو عبد الله التعايشي، ولم يقتل من الحامية إلا 300 فعظم ذلك على المتمهدي، وأدرك خطر الهجوم على الأسوار الحصينة، وعول من ذلك الحين أن لا يهاجم سورا، وإنما يفتتح البلاد بالتضييق عليها بالحصار حتى يضنيها الجوع وتعمد إلى التسليم. ثم جاء العصاة مدد فاشتد أزرهم فشددوا الحصار على الأبيض وعلى بارا وكان في بارا نور عنقره أحد أمراء العرب، وكان مواليا للحكومة ولكنه رأى مقامه حرجا وتحقق الفشل، فكتب إلى المهدي سرا أنه إذا أرسل إليه أميرا من أكابر أمرائه سلم له، فأرسل إليه ولد النجومي فخرج نور عنقره مع محمد الخير، وكان يلقى سر سواري - أي قائد الخيالة - وسلما لولد النجومي فقبلهما. وانقضت سنة 1882 والحصار شديد على الأبيض وبارا والعصاة يتكاثرون في سنار وغيرها.
وكان المهدي قد أرسل فرقا من جنده لنشر دعوته في دارفور وبحر الغزال، فانتشرت الثورة هناك ولكنهم لم يغتنموا سنة 1882 إلا بعضا من بلادها، وفي أوائل سنة 1883 فتحوا بارا في 5 يناير واضطرت الأبيض إلى التسليم من الجوع في 19 منه، فدخلت كردوفان في حوزة الدراويش، وغنموا منها شيئا كثيرا من المؤن والذخائر والأسلحة والأموال، وصار المتمهدي من ذلك الحين حاكما على كردوفان وقبض على سعيد باشا ورجاله، وبعد أسرهم مدة اكتشف على تقرير بعثوا به سرا إلى الخرطوم وأمر بقتلهم، ثم سلمت سائر بلاد كردوفان. (ز) حكومة المهدي
فلما فتح الأبيض ودانت له كردوفان أخذ في تنظيم حكومته على غير نظام الحكومة المصرية. وأهم أقسام الإدارة على أبسط وجوهها ثلاثة: الجند والمال والقضاء، فجعل على الجند خليفته عبد الله التعايشي قائدا عاما لجماعة الدراويش يدير حركاتهم. وأنشأ إدارة سماها بيت المال وفيه تحفظ الأموال كالعشور والغنائم والفطرة والزكاة والغرامات التي يضربونها على شارب المسكر أو السارق، وعهد بإدارة بيت المال إلى صديق له اسمه أحمد ولد سليمان. أما القضاء فأقام عليه رجلا اسمه أحمد ولد علي كان قاضيا في دارفور وسماه قاضي الإسلام. وكان محمد أحمد منذ أوائل ظهوره قد عين خلفاءه، وجعلهم أربعة مثل الخلفاء الراشدين يتولون الأمر بعده الواحد بعد الآخر، أولهم عبد الله التعايشي، والثاني علي ولد الحلو، والثالث محمد الشريف، والرابع محمد السنوسي ولكن هذا رفض الخلافة.
وعلم هذا المتمهدي أن الحكومة المصرية ستحمل عليه بكل قوتها لاستخراج كردوفان من يديه، فأخذ يحث الناس على الجهاد ويحقر الدنيا في أعينهم ويحبب الآخرة إليهم، وهم يفدون إليه زرافات وقبائل يتبركون به، وقد آمنوا بدعوته بعد أن ذاقوا الراحة والاستقلال على يده، فتخلصوا من الضرائب ونجوا من الباشبوزق واستبدادهم، فاعتقدوا أنه المهدي المنتظر الذي جاء «ليملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما»، ومما ساعدهم على هذا الاعتقاد تظاهر هذا الرجل بالتقوى والزهد، فلم يكن يلبس غير السراويل والجبة فوقها منطقة من خوص يقضي نهاره في الصلاة ونشر المنشورات يحث بها الناس على ترك الدنيا والتمسك بالآخرة ويضع لهم القوانين والأحكام، ومن أمثلة ذلك منشور نشره من الأبيض سنة 1301 وقعت لنا نسخة منه ننشرها مثالا لتعاليمه، وهاك نصها بالحرف الواحد على علاتها اللغوية:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. وبعد، فمن عبد ربه محمد المهدي بن السيد عبد الله إعلاما منه إلى كافة المشايخ في الدين والأمراء والنواب والمقاديم أتباع المذكورين. يا عباد الله اسمعوا ما أقول لكم وكونوا على بصيرة، واحمدوا ربكم واشكروه على النعمة التي خصكم بها وهي ظهورنا؛ فهو شرف لكم على سائر الأمم، ولكن المطلوب منكم يا أحبابنا المهاجرة في سبيل الله والمجاهدة في سبيل الله والزهد في الدنيا وكل ما فيها فإلى البوار، ولو كانت لها بال لكان ربكم يحليها، وانظروا في أهلها الذين كانت في كل ما يطلبوه، وصارت لهم بعدما كانت عسلا حنظلا وسما، وصاروا في غاية العذاب والهلاك وشدة التعب والمشقة، ولو كان فيها خير لما صاروا هكذا وبعد ذلك فلهم العذاب الشديد، فإن عجبكم هذا فافعلوا وإلا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وجاهدوا في سبيل الله، فلهزة سيف مسلم في سبيل الله أفضل من عبادة سبعين سنة. ووقفة في الجهاد على قدر فواق ناقة يعني حلبة ناقة أفضل من عبادة سبعين سنة. وعلى النساء الجهاد في سبيل الله فمن صارت قاعدة وانقطع منها إرب الرجال فلتجاهد بيديها ورجليها، والشبابة فليجاهدن نفوسهن ويسكن بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجن إلا لحاجة شرعية ولا يتكلمن كلاما جهرا ولا يسمعن الرجال أصواتهن إلا من وراء الحجاب، ويقمن الصلاة ويطعن أزواجهن ويسترن بثيابهن، فمن قعدت كاشفة فاتحة رأسها ولو لحظة عين فتؤدب وتضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن تكلمت بفاحشة فعليها ثمانون سوطا ومن قال لأخيه: يا كلب أو يا خنزير أو يا يهودي أو يا ... أو يا ... فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام ومن قال: يا فاجر أو يا سارق أو يا زاني أو يا خائن أو يا ملعون فعليه ثمانون سوطا أو يا كافر أو يا نصراني أو يا لوطي، فعليه ثمانون سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا لأمر شرعي يجوز ذلك الكلام فيضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن حلف بطلاق أو حرام يؤدب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الدخان يؤدب ثمانين ويحرق التنباك إن كان عنده، وكذلك من خزنها في فمه ومن عملها بأنفه ومن أبقاها فيه يؤدب مثل ذلك، ومن باعها واشتراها ولم يستعملها يؤدب سبعة وعشرين سوطا ومن شرب الخمرة ولو مصة إبرة فيؤدب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد وإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن ساعد شارب الخمر بشربة ماء أو إناء فيؤدب كذلك ويحبس ويجاهد نفسه في طاعة الله حقيقة أشد من الجهاد بالأرماح؛ لأن النفس أشد من الكافر مقاتلة، فالكافر تقاتله وتقتله وتكون لك الراحة منه، وهي عدوة في صورة حبيب فقتلها صعب ومسلكها تعب. ومن ترك الصلاة عمدا فهو عاصي الله ورسوله، قيل كافر، وقيل يقتل، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد وإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، وقيل أموالهم غنيمة.
وبنت خمس سنين إن لم يسترها أهلها فيضربون من غير حبس ومن علم بأمة معها زوج بغير عقد وصبر يوما قيل يقتل، وقيل يحبس وماله غنيمة. واعلموا أيها الأحباب أن خلافتكم وإمارتكم ونيابتكم عنا في الأحكام والقضايا لأجل أن تشفقوا على الخلق وتزهدوهم في الدنيا ليتركوها وترغبوهم في الآخرة ليرغبوها ويطلبوها، وتعلموهم عداوة نفوسهم ليحذروا منها، وتنصفوا من أنفسكم إذا ادعوا عليكم فيها، فما أشكل عليكم فأمروهم فيه بالصبر لغاية طلب الأمراء وجمعهم عندنا، ويصير تخييره بحسب الحكم فيه من الله ورسوله، واعلموا يقينا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وكونوا عباد الله مع الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واعلموا أيها الأحباب أن القضايا التي كانت من اثني عشر رجب الماضي عام 1300 ببقعة ماسة قد صار رفعها مطلقا ما عدا الأمانة والدين ومال اليتيم، وأما التي بعد الاثني عشر رجب الماضي وقبل الفتوح تسمع فيه الدعاوي. وأما قتل النفس ففيه تفصيل في كونه مخير ولي المقتول في أخذ الدية أو القصاص، وأما بعد الفتوح بالنسبة إلى العهد فيتعين فيه القصاص لا غير، فاعملوا بذلك طبق المنشور، وكذلك مال الخلع أخذه عموما من الأزواج بعد الدخول بهن والاستمتاع بهن والاستيلاء عليهن فلا يصح أخذه منهن، فاحكموا فيه بالحكم الذي فصله الله - تعالى - في القرآن العظيم، واعلموا يا أحبابي ولا تخالفوا وامتثلوا الأمر وكونوا سامعين طائعين لأمري ولا تغيروا ولا تكفروا النعمة التي من الله عليكم بها فقيدوها بالشكر. وتزوج الغنية بعشرة ريال مجيدي أو أنقص والعزبة بخمسة ريال مجيدي أو أنقص، ومن خالف هذا فعليه الأدب بالضرب والحبس في السجن حتى يتوب أو يموت في سجنه، ومقطوع من أهل زمرتنا ونحن بريئون منه وهو بريء منا، والسلام.
الختم
وكان مع ذلك لا يغفل طرفة عين عن بث العيون والأرصاد لاستطلاع حركات الحكومة ومعرفة أغراضها، فكان يعرف كل ذلك في حينه معرفة تامة، فلا تحدث حادثة أو تنوي الحكومة نية أو تخطو الجنود المصرية خطوة إلا ويعلم بها هو. وأرسل في أثناء ذلك قواده تبث دعوته في أنحاء السودان، فبعث عثمان دقنة إلى السودان الشرقي يتولى قيادة العصاة هناك وأرفقه بالمنشورات إلى قبائل السودان الشرقي لتكون عضدا له، وكان عثمان دقنة هذا من تجار الرقيق في سواكن وكان ناقما على الحكومة. (ح) حملة هيكس باشا
وكانت الحكومة المصرية في أثناء ذلك أخمدت الثورة العرابية (في 15 سبتمبر 1882)، واحتل الإنكليز مصر وأصبحوا أصحاب الرأي النافذ، وقد أقروا على إلغاء جيش عرابي وإنشاء جيش جديد، وكان بعضهم قد وشى بعبد القادر باشا فاستدعته الحكومة إلى مصر، وأرسلت علاء الدين باشا حاكما على السودان في 20 فبراير سنة 1883، وحصرت سلطته في الإدارة الملكية، وعهدت بقيادة الجند إلى سليمان باشا نيازي، وجعلت هيكس باشا الإنكليزي رئيسا لأركان حربه.
شكل 3-42: هيكس باشا.
وأعدوا حملة لمحاربة المهدي كلها من جيش عرابي والحكومة تسيء الظن به، وقد أرسلته إما ليهلك أو ينتصر فيعوض على الحكومة ما أفسده، ولكن تلك الحملة كانت مشومة وآلت إلى استفحال أمر المهدي ودراويشه؛ لأنها هلكت عن آخرها على شكل لم يسمع بمثله، ولم تطلع الحكومة على سبب ذلك إلا بعد حين وإليك هو:
جاء هيكس باشا في بادئ الرأي إلى الخرطوم والحكومة لم تصمم على فتح الأبيض، فأقام هناك مدة فبلغه أن بضعة آلاف من العصاة البقارة بقيادة الأمير أحمد المكاشف وكيل المهدي هناك، فخرج إليهم هيكس وحاربهم عند مرابية بالقرب من جزيرة أبا فقتل المكاشف وعدد من قواده ورجاله وفر الباقون، وكان لتلك الواقعة تأثير حسن في إرجاع ثقة أهل سنار والخرطوم إلى الحكومة وقوة جنودها.
فصممت الحكومة على إرسال حملة تفتح الأبيض، فكتب هيكس باشا إلى الحكومة بالقاهرة أنه لا يتحمل تبعة هذه الحملة إلا إذا كانت القيادة له وحده، فسلمت له بذلك ولكنها أرسلت معه علاء الدين باشا حكمدار الخرطوم، فطلب هيكس مددا من الرجال والمال. وسار علاء الدين باشا إلى شرقي النيل الأزرق فاستحضر أربعة آلاف جمل. وفي أواخر أغسطس تمت معدات الحملة فاجتمعت في أم درمان. وفي 8 سبتمبر استعرض هيكس باشا جنوده، وفي 9 منه خرجت الحملة من أم درمان قاصدة الدويم وبينهما مائة وعشرة أميال. وكانت تلك الحملة مؤلفة من أربع أرط من الجنود المصرية، معظمهم من الذين حاربوا في سبيل الثورة العرابية وخمس أرط سودانية وأورطة من الطبجية والخيالة، وكانت الجنود المصرية تحت قيادة سليم بك عوني والسيد بك عبد القادر وإبراهيم باشا حيدر ورجب بك صديق. والباشبوزق بقيادة خير الدين بك وعبد العزيز بك ووالي بك وملحم بك ويحيى بك. والطوبجية والسواري بقيادة عباس بك وهبي، وبلغ عدد جنود الحملة أحد عشر ألفا منهم سبعة آلاف من المشاة المصريين والباقون من الباشبوزق والخيالة وتوابع الحملة من الجمالة وغيرهم، وفيها 5500 جمل و500 فارس وأربعة مدافع كروب وعشرة مدافع جبلية وستة من نوع النوردنفلت، وكان فيها من الضباط الإفرنج الكولونيل فركوهار رئيس أركان حرب والبكباشية سكندروف وورتر وماسي وإيفانس وغيرهم ومكاتبو أتمس والدالي نيوز والغرافيك.
وفي 20 سبتمبر وصلت الحملة الدويم، وهناك اجتمعت بعلاء الدين باشا. أما هيكس فكان لا يزال في الخرطوم وقد أرسل تلغرافا إلى القاهرة أنبأ الحكومة بخروج الحملة من الخرطوم وبين الصعوبة التي ينتظر ملاقاتها في طريقه؛ نظرا لحرارة الإقليم وقلة المياه. وكان في عزمه أن يجعل مسير الحملة من الدويم إلى الأبيض عن طريق باره، وطول هذه الطريق 126 ميلا يقيم في أثنائها محطات فيها قوات عسكرية لحفظ خط الرجوع (خط الاتصال) إلى الدويم، فيفتح أولا بارة ويقيم بها مدة ثم يخرج على الأبيض.
فلما جاء الدويم وانضم إلى الحملة تفاوض هو وعلاء الدين باشا في الأمر فقال علاء الدين: إنه أرسل أناسا جسوا الأرض فقالوا إن طريق بارة قليلة المياه وأن أحسن طريق للأبيض بمثل هذا الجند الكبير طريق خور أبو حبل والرهد إلى الجنوب؛ فإن الماء كثير فيها. نعم إن طولها 250 ميلا ولكن مائة منها سهلة يسير بها الجند بكل راحة ، والماء كثير إلا أن المسافة بين الدويم ونورابي وطولها 90 ميلا قليلة المياه، فأقنعه علاء الدين باشا أن الماء في تلك المسافة يسهل الحصول عليه، وبناء على ذلك قرر أن تسير الحملة عن طريق خور أبو حبل فوصلوا في 24 سبتمبر إلى شات، واستولوا على آبارها وأنشئوا نقطة عسكرية. وبدأ الجند منذ خروجهم من الدويم يقدرون العواقب الوخيمة وينتظرون البلاء العظيم. وكان سيرهم على شكل مربع يتأهب للقاء العدو، في مقدمته الدليلان فالطلائع فالضباط العظام وأركان الحرب ثم المربع وهو مؤلف من المشاة المصريين، وفي ساقته الخيالة والجمال والأحمال والأثقال، وفي وسط المربع الطبجية، وقد شبه سلاطين باشا ذلك المربع بغاية من الرءوس والأعناق إذا أطلق العدو عليها رصاصة يستحيل أن تخطئها كلها.
وزد على ذلك أن الجمال لم تكن تستطيع المرعى بالنظر إلى انحصارها في المربع، فجاعت وأكلت قش أرحالها وخارت قواها حتى مات كثير منها. وفي 30 سبتمبر وصلت الحملة إلى قرية تبعد 30 ميلا عن الدويم اسمها زريقة.
كل ذلك والحرارة تشتد واللغط يتعاظم بين الجند وكلهم خائف سوء العاقبة، ثم حدث نفور بين هيكس وعلاء الدين وسببه اختلافهما في الرأي بشأن خطة المسير. فرأى علاء الدين أن النقط العسكرية في خط الاتصال لا حاجة إليها؛ لأنها تقلل عدد الجند، فخالفه هيكس في ذلك لأن قطع ذلك الخط يقطع كل أمل برجوع أحد من رجال الحملة حيا إذا قدر انكسارها في ساحة الحرب على أنهم لم ينشئوا نقطة عسكرية بعد شات.
أما محمد أحمد فحالما علم بمسير حملة هيكس جمع رجاله ودعاهم إلى الجهاد في سبيل الله، وخرج بنفسه وعسكر بقرب شجرة كبيرة بضواحي الأبيض ينتظر وصول الحملة، فاقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فخرج كل منهم برجاله، وعسكروا هناك وبنوا الأكواخ والكتول (نوع من العشش).
شكل 3-43: خريطة واقعة هيكس باشا.
أما الحملة فما زالت سائرة تسحف سحفا كأنها مثقلة بالقدر المحتوم حتى وصلت الرهد في 20 أكتوبر، فأقامت هناك 6 أيام شاهدت في أثنائها طلائع الدراويش وشرذمات منهم يهاجمونها. وفي 26 أكتوبر سارت ولم تكد تترك معسكرها حتى احتلته العصاة، فعلم علاء الدين إذ ذاك خطأه في إهمال خط الاتصال وقد أصبحوا محاطين بالعدو من كل الجهات. وكان في عزمهم المسير إلى الأبيض عن طريق البركة، ولكن الجواسيس أخبروا هيكس أن العصاة نزلوا البركة ومعهم خلفاء المهدي وأمراؤهم بعدتهم ورجالهم، فتشاور علاء الدين وهيكس في هل يرجعون إلى الرهد أو يسيرون إلى كشجيل، ومنها إلى ملبيس فالأبيض؛ لأن خور أبو حبل يتشعب عند الرهد إلى شعبتين تسير إحداهما إلى البركة والأخرى إلى كشجيل. فأقر الرأي على المسير إلى كشجيل فساروا في 3 نوفمبر عشرة أميال بين الغابات والأحراج، وقد أخطئوا الطريق ثم وقفوا وأنشئوا زريبة باتوا فيها إلى الصباح، فاستأنفوا المسير حتى صاروا على مسافة ميلين من شيكان بين كشجيل والبركة، وقد أجهدهم العطش فهجمت عليهم شرذمة من العصاة فتبادلوا إطلاق الرصاص، وقبضوا على بعض منهم؛ فعلموا أن الدراويش هناك بكثرة عظيمة، فجمع هيكس كبار رجاله وعقدوا مجلسا تشاوروا فيه، فلم يقروا على أمر. وكثر اللغط بين الجند وتسلط الرعب على قلوبهم وأيقنوا بالهلاك، وفي الصباح التالي عزم هيكس على المسير تحت رحمة الله، فجعل جيشه ثلاثة مربعات وساروا في طريق وعر كثير الأشجار والصخور، فحصل بينه وبين الدراويش واقعة قتل فيها كثير من رجاله. ثم سار أيضا فلم يمش ميلا حتى هاجموه ثانية في شيكان. وقد رأينا في منشور أرسله المهدي إلى عثمان دقنة يخبره بتلك الواقعة ويسمي مكان وقوعها علوبة، وكانت تلك الهجمة القاضية لم تبق على تلك الحملة ولم تذر؛ لأن الدراويش هاجموها من كل جانب حتى صار الجنود المصريون يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وهم لا يعلمون فقتل هيكس وكل قواده وجنده. ولم ينج منهم إلا نحو ثمانمائة رجل أكثرهم من الضعفاء الذين اختبئوا بين الشجر أو تحت جثث القتلى، وفي جملتهم رجل اسمه محمد نور البارودي كان في خدمة هيكس، وهو الذي روى أكثر ما تقدم من مهلك هذه الحملة.
فرجع المهدي وخلفاؤه وقواده إلى البركة، وقد سكروا من خمرة النصر وتركوا بعض الأمراء يجمعون الأسلاب والغنائم إلى بيت المال. وبعد 15 يوما عاد المهدي إلى الأبيض بالمدافع والذخيرة والأموال التي اكتسبوها من حملة هيكس. وكان دخوله الأبيض باحتفال شائق. ولا ريب أن تغلبه في موقعة شيكان جعل حكومة السودان تحت أخمصه؛ لأن كثيرا من القبائل كانوا يترددون في أمره وينتظرون حربه مع هيكس باشا، فلما علموا بما كان انضموا إليه وصاروا من أعوانه.
شكل 3-44: سلاطين باشا.
وكان سلاطين بك (سلاطين باشا الآن) إلى ذلك الحين مديرا على دارفور، وقد قاسى مشقات جسيمة في مناوأة العصاة وتمردهم. وكان يرجو الفرج على يد حملة هيكس. فلما علم بفشلها لم ير بدا من التسليم فبعث إلى المهدي بذلك، وأن ينفذ إليه بعض أقاربه ليسلم البلاد له فبعث إليه الأمير محمد خالد، ويكنى زقل أميرا على دارفور وأوصاه بسلاطين خيرا. فوصل الدراويش دارا ونهبوها وأرسلوا بعضا من حسانها هدية للمهدي، وجاء سلاطين مخفورا إلى الأبيض، وبايع المهدي وأظهر الإسلام والإيمان بالدعوة وسمي عبد القادر.
وأقام سلاطين من ذلك الحين ملازما لعبد الله التعايشي يقف عند بابه في جملة الملازمين. (ط) السودان الشرقي
وفيما كان هيكس يتجشم الأخطار في قطع الصحاري والقفار ينتظر المقدور، كان عثمان دقنة ينشر دعوة محمد أحمد في السودان الشرقي، وقد اجتمع حوله أحزاب كبيرة، وقد حدثنا صديق رافق الحوادث في السودان الشرقي وعرف خفاياها، قال: «إن توفيق بك محافظ سواكن إذ ذاك تصرف مع العربان الذين يتولون خفارة الطريق بين سواكن وكسلا تصرفا أوجب نفورهم؛ وذلك أنه ولى عليهم شيخا اسمه محمد الأمين ليكون مسئولا عنهم لدى الحكومة على جاري العادة، وكانوا يكرهون هذا الرجل؛ فالتمسوا من المحافظ أن يبدله بسواه فأبى إلا توليته؛ فغضبوا جميعا ونفروا من الحكومة وهم كثار، فاتفق مجيء عثمان دقنة بمنشور المهدي فانضموا إليه جميعا فاشتد أزره بهم، ثم انضم إليه غيرهم. فسار لمناوأة الحكومة في سواكن وضواحيها فهاجموا سنكات في 5 أغسطس سنة 1883، ولكنهم عادوا خاسرين فساروا إلى طوكر وحاصروها، فأرسلت الحكومة محمود طلما باشا قائد حامية السودان الشرقي لإنقاذها، فباغته الدراويش وكسروه شر كسرة. وحاولت الحكومة مقاومة الدراويش بكل وسيلة وحصلت وقائع كثيرة في تمانيب وترنكتات وغيرهما فلم تعد منهم بطائل. وما زالت سنكات وطوكر محاصرتين تطلبان المدد، فأعدت الحكومة في أوائل سنة 1884 حملة تحت قيادة باكر باشا سارت إلى سواكن لفتح الطريق بين سواكن وبربر، وطرد العصاة من البلاد الواقعة بينهما، فسارت ومعها نجدة من مصوع وكسلا فلاقاها العصاة في التب بغتة في 2 فبراير، فحاربوها ففشلت وعادت بخفي حنين. كل ذلك وحامية سنكات لا تزال محاصرة وفيها توفيق بك محافظ سواكن المتقدم ذكره، وكان رجلا باسلا شهما أظهر في حصاره شجاعة لم تعهد إلا بالقليل من الناس، وكان قد جاء سنكات عرضا وانحصر فيها. وسنكات قرية صغيرة لا تزيد حاميتها على ستين رجلا وقد ضيق عثمان دقنة السبل عليها، وقطع المؤن عنها حتى كاد أهلها يهلكون جوعا، فكتب عثمان إلى توفيق أن يسلم فلا يقتله، فأبى إلا البقاء على ولاء الحكومة. فلما جاء باكر باشا وعاد خائبا بعث عثمان إليه أن يسلم فيسلم وأن الأمل بإنقاذه قد انقطع فلم يجبه إلا بالثبات. ولما رأى توفيق بك أخيرا أن المؤن فقدت والجند جاعت وأهل البلد ملت جمع إليه رجاله وأهل سنكات وشاورهم في الأمر، وحثهم على الثبات على ولاء الحكومة. فقالوا: نحن على ما تريد فقال: «قد نفد زادنا والطريق مقطوع بيننا وبين المدد، فلنخرج مستقتلين فإما أن نسير إلى سواكن، وإما أن يلاقينا العصاة فندافع عن أنفسنا حتى الموت».»
فخرجوا في أوائل فبراير سنة 1884 بعد أن هدموا الطوابي وأخربوا المنازل، وما ساروا ميلين حتى لاقاهم عثمان دقنة برجاله وهاجموهم، فقاتل توفيق بك حتى قتل شهيد الأمانة والبسالة، ولم ينج من رجاله وأهل القرية إلا نفر قليلون. (ي) إخلاء السودان
وكان ذلك من جملة العوامل لتأييد دعوى المتمهدي ونشر سطوته وخوف الحكومة عاقبة أمره. وبدلا من مواصلة العمل في كبح جماح العصاة، واسترجاع ما ملكوه من بلادها أقرت بمشورة الحكومة الإنكليزية على إخلاء ما بقي من السودان في قبضتهم وسحب جنودها منها، والتخلي عن السودان المصري كله للدراويش، وأصدرت بذلك أمرا بتاريخ 8 يناير سنة 1884، وأنفذت الحكومة الإنكليزية الجنرال غوردون باشا إلى السودان للنظر في أفضل الوسائل لسحب حامية السودان وسكانها من الإفرنج وغيرهم، وتثبيت حكومة منتظمة على سواحل البحر الأحمر وغير ذلك. فسار غوردون باشا ومعه الكولونيل ستيوارت كاتم أسراره، فوصلا القاهرة فأنباء السير أفلن بارنغ (اليوم اللورد كرومر) أن الحكومة الإنكليزية قد فوضت إليه إخلاء السودان، وإعادة حكم الأمراء الذين كانوا يحكمونها لما فتحها محمد علي باشا، ويقال لهم الملوك، أو أن يولي غيرهم كما يتراءى له. (ك) غوردون باشا
فسار غوردون عن طريق كرسكو وأبي حمد فوصل بربر في 9 فبراير سنة 1884، وفي 18 منه وصل الخرطوم فتلقاه أهلها بالإكرام. وكان السودانيون يحبونه ويكرمونه للين جانبه وكرم أخلاقه. ومن الغريب أن يسير غوردون بنفسه بلا جيش إلى بلاد اشتعلت بنار الثورة، ولكنه كان كثير الاتكال على الله، وقد صرح بذلك عند وصوله الخرطوم، فقال: «لم آت لإنقاذ السودان بجيش، ولكنني اتكلت على الله فلا أحارب إلا بسلاح العدل.»
شكل 3-45: غوردون باشا.
سافر غوردون من القاهرة في 26 يناير سنة 1884 ومعه مساعده الكولونيل ستيوارت قاصدين الخرطوم في عطمور أبي حمد فبربر فالخرطوم مصحوبين بأوامر عالية خلاصتها في ما يأتي: (1)
أن يسحب الموظفين المصريين وعائلاتهم وأموالهم من سائر أنحاء السودان إلى مصر. (2)
أن يقيم مقامهم موظفين من أهل السودان يدبر شئونهم بحكمته كأنه يؤسس دولة جديدة. (3)
أن يجمع كلمة القبائل المجاورة للخرطوم ويحركها على قبائل الهدندوة في السودان الشرقي فيفتح الطريقين بين بربر وسواكن وبربر وكسلا. (4)
أن ينقذ سنار وسائر البلاد الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض (الجزيرة). (5)
أن يرسل 5 بواخر لنقل عائلات الجنود المصرية في مديريات خط الاستواء وبحر الغزال. (6)
أن يدبر طريقة لمن بقي في دارفور أن ينسحبوا إلى مصر عن طريق دنقلا.
هذه كانت مقاصده عند خروجه من مصر وخلاصتها خلاء السودان، فلما وصل بربر أراد أن يتلوها على أهلها فمنعه حسين باشا خليفة مدير بربر ؛ لأن التصريح بذلك يعجل على بقية نفوذ الحكومة. فأطاعه ولكنه تلاها في المتمة فكانت داعيا إلى سرعة سقوط بربر بعد ذلك. وأما غوردون فوصل الخرطوم في 18 فبراير كما تقدم. وفي يوم وصوله جمع أعيان الخرطوم كافة في بناية المديرية، وأفهمهم مهمته، ثم خرج إلى سراي الحكمدارية فلاقاه مئات من الناس وتراموا على يديه ورجليه يقبلونها، وهم يقولون: «يا سلطاننا يا والدنا يا مخلص كردوفان.» ثم أخذ غوردون وستيوارت في تدبير شئون الأحكام فأنشئوا أقلاما مختلفة في الحكمدارية للنظر في قضايا الناس وإنصافهم على اختلاف طبقاتهم. فأخرج دفاتر الحكومة القديمة وفيها قيود لذممات مطلوبة من أصحاب الأطيان خراجا عن أطيانهم، فوضع تلك الدفاتر في باحة عمومية، وأوقد فيها النار ولما اتقدت النيران وتعالى لهيبها استخرج الكرابيج والعصي وسائر أدوات الضرب والصفع التي كان يستخدمها الحكمداريون قبلا، وألقاها في ذلك اللهيب وأهل الخرطوم ينظرون. فكان لذلك تأثير حسن في أذهانهم، ثم أنشأ مجلسا وطنيا مؤلفا من أعيان المدينة وبعد قليل زار الترسانة والمستشفى، وأخيرا ذهب لتعهد السجن ومعه ستيورات وكوتلجن والمستر بوار قنصل إنكلترا هناك. فرأى فيه حوادث تتفتت لها الأكباد فضلا عن القذارة، وشاهد بين المسجونين أولادا وشيوخا بعضهم قد ثبتت براءتهم ولا يزالون في السجن وآخرون سجنوا لتهمة فقضوا ثلاث سنين في السجن قبل أن تثبت عليهم جناية. ورأى هناك امرأة قضت خمس عشرة سنة مسجونة لذنب اقترفته في صباها، فأمر غوردون بإخراج المسجونين كافة وتنظيف السجن، فلم يأت المساء حتى خرجوا زرافات ووحدانا، وهم يطلبون إلى الله - تعالى - أن يطيل عمره. وقضى أهل الخرطوم تلك الليلة سهارى فأضاءوا الأنوار الملونة وأوقدوا المشاعل وباتوا فرحين مسرورين.
وأراد غوردون أن يمكن محبته من قلوب أهل السودان، فخفف الضرائب وأنصف المظلومين، وأبطل كثيرا من الضرائب، ثم أصدر منشورا يلغي فيه الأوامر الصادرة بشأن إلغاء تجارة الرقيق وهاك مفاد المنشور:
منشور إلى أهل السودان كافة
اعلموا أن راحتكم هي غاية ما نرجوه، وبما أني أعلم أن إبطال تجارة الرقيق قد ساءكم وهالكم ما وضعته الحكومة من القصاص على من يتعاطاها، وغير ذلك مما صدر من الأوامر العالية بشأن تأكيد إلغائها، فقد رأيت التماسا لراحتكم أن أبطل كل تلك الأوامر وأمنحكم الحرية التامة، فلا يعترضكم أحد في اتخاذ الرقيق لخدمتكم والسلام لكم.
غوردون باشا
الخرطوم
ففرح تجار الرقيق بهذا المنشور ولكنهم استدلوا منه على ضعف الحكومة، وأنها إنما اصدرته بالرغم منها؛ لأنها لم تقو على تنفيذ أمرها في إبطال تلك التجارة. ثم حول نظره إلى أمر المهدي فأرسل إليه في الأبيض كتابا يطلب فيه إطلاق الأسرى، ويوليه كردوفان، وأرفق الكتاب بخلعة نفيسة فرد محمد أحمد الخلعة، وبعث إلى غوردون أن يسلم فيسلم وأن المهدي لم يقم بدعوته طمعا في الولاية.
وكان غوردون باشا في أثناء مسيره إلى الخرطوم قد تدبر أمر مهمته هذه، فرأى أن ترك السودان وشأنها بعد إخلائها يعود على مصر بالوبال، فلا تلبث الثورة أن تنتشر ويزحف الدراويش إلى حدود مصر، فبعث يوم وصوله الخرطوم رسالة برقية إلى الحكومة الإنكليزية يطلب فيها أن تبعث إليه الزبير رحمت باشا حالا، حتى إذا أخلى السودان ودبر حكومته جعل الزبير باشا خلفا له عليه خوفا من استفحال أمر المهدي وخروجه على مصر، فأبت الحكومة إرسال الزبير فشق ذلك عليه كثيرا.
ثم ما لبث أن علم بانتشار دعوة المهدي وانضمام معظم القبائل إليه، فأصدر منشورا يتوعد فيه الثائرين بعذاب إليم، وينصح لهم أن يثوبوا إلى طاعة الحكومة.
وكان الكولونيل ستيوارت قد سار في مائة رجل بالأعلام البيضاء لمسالمة القبائل القاطنة على النيل الأبيض، وتلاوة منشورات غوردون عليهم، فكان كلما بعد عن الخرطوم ازداد نفور الناس منه حتى صاروا يعترضون مسيره ويحاربونه، وأكثرهم من قبيلة البقارة، فعاد الخرطوم خاسرا فأرسله غوردون ثانية في 2 مارس سنة 1884 بمنشورات أخرى فعاد بخفي حنين. وما زالت الثورة تقترب من الخرطوم وضواحيها حتى أحدقت بها من كل الجهات. وفي أثناء ذلك جاءت حملة من الدراويش لحصار الخرطوم، فذهب جمع منهم إلى حلفاية شمالي المدينة فانهزمت حاميتها فجرد غوردون في 16 مارس عليهم ألفي مقاتل بالبنادق، وفيهم الباشبوزق والجند المنظم لاسترجاع حلفاية، فماطلهم الدراويش حتى غدروهم وكسروهم شر كسرة فعادوا القهقرى إلى الخرطوم، وقد قتل منهم جمع كبير ففشل غوردون لهذه الكسرة، وحاكم قواد تلك التجريدة وأكبرهم سعيد باشا وحسن باشا وكلاهما من أهل السودان، فحكم عليهما بالإعدام لثبوت الخيانة عليهما فقتلا وقطعت أعضاؤهما. (ل) سقوط بربر ومهلك ستيوارت
وفي 25 يونيو سنة 1884 وصلت الأخبار بسقوط بربر، والقبض على مديرها وإرساله أسيرا إلى الأبيض، وتولى بربر أمير من أمراء الدراويش اسمه محمد الخير. وكان سقوط بربر ضربة قوية على الخرطوم؛ لأنها كانت واسطة الإيصال بينها وبين مصر. فأدرك غوردون صعوبة مركزه، وتحقق يقينا أن إنفاذ مهمته لم يعد ممكنا بالحسنى فلا بد من استعمال قوة الجند، فطلب إلى حكومته إرسال حملة لمساعدته، فترددت إنكلترا مدة قبل الإقرار على الحملة. على أنها أقرت في مايو على وجوب إرسالها ولكن جنودها لم تبدأ بالمسير إلى السودان إلا في سبتمبر، فتذمر أهل الخرطوم وشكوا إلى غوردون حالهم، وفي جملتهم الأجانب المقيمون هناك، فقال لهم: من أراد الذهاب فليذهب، أما أنا فلا أستطيع الخروج إلا بعد إنقاذ الحامية والناس أو أن أموت معهم. ولكنه أشار على ستيوارت أن يسير إلى مصر بمن أراد مرافقته من الأجانب، وعهد إليه إيصال تقاريره اليومية عن أحوال الخرطوم من أول مارس إلى 9 سبتمبر وهو يوم سفر ستيوارت، وظن غوردون أن ذهاب ستيوارت بهذه التقارير إلى مصر يفيد الحملة القادمة لإنقاذه، فركب ستيوارت باخرة وركب معه بعض الإفرنج ورافقته باخرتان فوصل بربر وضربها ومر بها، فعادت الباخرتان وجرت باخرته حتى إذا تجاوزت أبو حمد إلى واد قمر ضايقها الدراويش من البر، ثم جنحت فنزل من فيها فلقيهم الدراويش وقتلوهم وحملوا الأسلاب والأوراق إلى المهدي. كل ذلك وغوردون يستحث الإنكليز ويستنهض هممهم وينذرهم بالخطر القريب، فجاءه خبر هلاك ستيوارت ومن معه قبل خروج الحملة. على أن تلك الحملة لم تصل الخرطوم إلا في 28 يناير سنة 1885؛ أي بعد سقوطها ومقتل غوردون بيومين. (م) حركات الدراويش
فلننظر في حركات الدراويش وإجراءاتهم في معسكرهم في أثناء حصار الخرطوم ملخصا عما رواه سلاطين باشا في كتابه «السيف والنار في السودان»، وما حكاه غيره من الأسرى الذين رافقوا تلك الحوادث داخل الخرطوم وخارجها.
تركنا المتمهدي وقد عاد ظافرا إلى الأبيض بخيله ورجله، فبعد وصوله إليها أنفذ بعض أمرائه لتأييد سلطته في دارفور وبحر الغزال وما جاورهما، ثم علم ما كان من أمر السودان الشرقي، وظفر عثمان دقنا في سنكات وتمانيب والتب وحصار كسلة.
وتكاثر دعاة المهدي بعد انتصاره على هيكس، وتقاطر الناس إليه قبائل وجماعات قياما بنصرته، وكانوا يعسكرون بخيامهم وإبلهم وخيلهم حول الأبيض، فقلت مياه الأبيض فخاف المهدي أن يصيبهم جهد فأشار بالانتقال الرهد وفيها الماء غزير فانتقلوا إليها رجالا ونساء وأولادا في أواسط أبريل سنة 1884 بأحمالهم وأثقالهم ودوابهم، وأقاموا هناك والمهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ والحث على الجهاد. ثم سمع بخروج الجنود المصرية من الخرطوم على أهل الجزيرة، فبعث محمد أبا جرجا أميرا عليها في عدد عظيم من الدراويش على أن يمد أهل الجزيرة ويحاصر الخرطوم. فحصلت بينه وبين جنود الخرطوم وقائع انتصرت في أولها الجنود المصرية، ثم عادت العائدة عليهم بعد ذلك كما رأيت. وأرسل المهدي الشيخ محمد الخير أميرا على بربر فسار إليها وحاصرها وفتحها، وأرسل مديرها حسين باشا خليفة أسيرا إلى معسكر المهدي في كوردوفان. فالتقى بسلاطين باشا وتشاطرا مصيبة الأسر. أما دنقلا فكان مديرها مصطفى بك ياور (ثم صار مصطفى باشا) قد كتب إلى المهدي غير مرة يسلم إليه، فلم يركن هذا إلى تسليمه بل بعث السيد محمد علي وبعض الشائقية؛ ليجسوه فحاربهم وفرق شملهم وكان الماجور كتشنر (اللورد كتشنر باشا) قد جاء بمهمة سرية لاستطلاع نوايا مصطفى بك ياور وأحوال السودان، فشهد بعض مواقعه مع الدراويش.
وخلاصة الأمر أن حجار السودان ورماله كادت تنطق بصوت واحد: «صدق محمد أحمد بدعواه.» وكان إلى ذلك الحين مقيما في الرهد فكتب إليه أمراؤه من أنحاء مختلفة أن ينزل برجاله إلى النيل الأبيض، فكان يؤجل مسيره مظهرا الازدراء بقوة أعدائه والاعتداد بقوته، ويستعرض جنوده كل جمعة استعراضا عموميا يحضره هو بنفسه، والجيش إذ ذاك ثلاثة أقسام يرأس كل منها خليفة من خلفائه. ولكن الخليفة عبد الله التعايشي كانت له الرئاسة الكبرى، ويلقب «رئيس الجيش» وفرقته تسمى «الراية الزرقاء» ينوب عنه في قيادتها أخوه يعقوب التعايشي. وفرقة الخليفة علي ولد الحلو تدعى «الراية الخضراء»، وفرقة الخليفة محمد الشريف تسمى «الراية الحمراء» أو «راية الأشراف»، وتحت كل من هذه الرايات الثلاث رايات صغيرة لا يحصيها عد يجتمع حول كل راية منها مئات من الدراويش.
وكيفية الاستعراض عندهم أن يقف أمراء الراية الزرقاء براياتهم صفا واحدا يولون وجوههم المشرق، ويقف أمراء الراية الخضراء صفا آخر يقابل الصف الأول وجها لوجه، ويقف أمراء راية الأشراف صفا آخر يقابل الشمال، فيؤلفون مربعا ينقصه ضلع كأنه باب يدخل به المهدي وحاشيته، فيمر بجانب الصفوف يحييها قائلا: «الله يبارك فيكم.»
فلما انقضى رمضان تلك السنة قال محمد أحمد: إنه قد أوحي إليه في الرؤيا «الحضرة» أن ينزل لمحاصرة الخرطوم وأمر رجاله بذلك. (ن) حصار الخرطوم
فزحفوا برجالهم وأحمالهم وأثقالهم ودوابهم، فضربوا نقارتهم وساروا حتى أشرفوا على الخرطوم وسلاطين معهم، فعسكروا هناك تحت راية التعايشي. وسار الأمراء الآخرون يبحثون عن مكان آخر يعسكرون فيه. ثم أمر المهدي أن يحدق جنده بالخرطوم، ويشددوا الحصار عليها فأمر أبا جرجا وولد النجومي أن يحاصراها برجالهما من البر الشرقي للنيل الأبيض عند مكان اسمه كلاكلا، وأمر أبا عنجة وفضل المولى أن يحاصرا طابية أم درمان على البر الغربي. وما زالوا محاصرين تلك الطابية حتى فتحوها في 15 يناير سنة 1885، وهي أول طابية فتحوها من حصون الخرطوم. ويؤخذ من تقرير كتبه الشيخ المضوي أحد قواد المهدي في ذلك الحصار أن المهدي كان عازما أن يشدد الحصار على الخرطوم حتى تسلم من الجوع كما فعل بالأبيض، وأن رجال ولد النجومي وحدهم بلغوا عشرين ألفا. فربما كانت قوة الدراويش كلها ستين ألفا أو سبعين أو أكثر.
شكل 3-46: نقود غوردون.
أما غوردون فلم يقض في الخرطوم شهرين حتى نفدت النقود من خزينتها، فاصطنع نقودا من الورق بفئات متفاوتة يتعامل بها الناس إلى أجل مسمى. وقد شاهدنا كثيرا منها عند وصولنا المتمة سنة 1885، وفي شكل
3-46
صورة إحداها برسمها الأصلي تماما.
على أن ذلك قلما خفف من ضيق أهل الخرطوم ونزلائها؛ فإنهم ما انفكوا يشعرون بالضغط يوما بعد يوم، والحصار يزيدهم تضييقا حتى أصبحوا محاطين بالعدو من كل جهة، وقل زادهم أو نفد وجاعوا، وغوردون يصبرهم ويعدهم بقرب وصول الحملة الإنكليزية لإنقاذهم، ولكنها تأخرت كثيرا فمل الناس الانتظار، واشتد الجوع حتى أكلوا لحوم القطط والكلاب ، ومضغوا سعف النخل وجذور الذرة. كل ذلك وهم واثقون بوعد غوردون، ولكنهم أصبحوا يسيئون الظن به أخيرا. (س) الحملة الإنكليزية لإنقاذ غوردون
أما الحملة الإنكليزية التي أقروا على إرسالها لإنقاذ غوردون، فبرحت مصر في أوائل الخريف وعدد رجالها ستة آلاف من نخبة الجند الإنكليزي وأكثر قوادها من الأشراف؛ إذ تسابق الإنكليز إلى الانتظام في سلك هذه الحملة لزعمهم أنها عبارة عن «فسحة» على النيل، فلم يصل من رجالها إلى كورتي إلا بعضهم وتفرق الباقون في نقط خط الاتصال. ومن كورتي سارت حملة في عطمور صحراء بيوضة إلى المتمة بقيادة الجنرال ستيوارت، والقصد بها سرعة الوصول إلى الخرطوم. وسارت حملة أخرى على النيل إلى بربر بقيادة الجنرال أرل. وكنا ممن سار برفقة حملة العطمور فشهدنا وقائعها وسمعنا إطلاق مدافعها ورنات قنابلها ورصاصها، فقطعت الحملة جكدول فأبا طليح فلاقاها العرب على الآبار، فحصلت بين الفريقين واقعة شفت عن انهزام العرب فتعقبهم الإنكليز إلى المتمة ساروا بقيادة الجنرال ستيوارت ليلا، وقد كنت في جملتهم في تلك الليلة الليلاء، فكنا سائرين لا نرى شيئا من آثار الطريق المؤدي إلى المكان المقصود لشدة الظلام، فاضطررنا إلى الاستدلال عليها بالإبرة المغنطيسية (البصلة) والنجم القطبي، وكنا تارة نصعد على آكام متلمسين وطورا تعثر أرجل جمالنا بأعشاب أو أنجم شوكية ولم نكن نخرج صوتا ولا نقدح نارا؛ لئلا يكون بقربنا من الأعداء من يستطلع أحوالنا فتحبط مقاصدنا . ولم يأت آخر الليل حتى أصبحنا وليس فينا من لم يأخذ منه النعس مأخذا عظيما. وكانت تأخذ من أحدنا سنة الوسن وهو على ظهر الجمل فينتبه وهو على وشك السقوط فيعتدل.
وعندما أصبح يوم غرة ربيع آخر أو 18 يناير، أشرفنا على النيل المبارك عن بعد والمتمة عن يسارنا، ولم نكد نقف والغزالة في الضحى حتى خرج إلينا من أسوار المدينة (المتمة) جيش جرار من العربان وقفوا على مرمى رصاص منا، وقد حالوا بيننا وبين النيل وجعلوا يطلقون علينا النار من وراء الأشجار والصخور، فأمر الجنرال ستيوارت بالترجل وإنشاء زريبة، وما كدنا نفعل حتى احتدمت نيران العدو، فأمر الجنرال بتشكيل مربع، ثم وقف وراء أحد المدافع وبيده المنظر يراقب حركات العدو، فأصابته رصاصة في بطنه فسقط على الأرض وسقطت قلوبنا معه. وكان بجانبي المستر سالكي هربرت كاتب سر الجنرال المذكور، فسألته ما ظنه بحياة الجنرال فأجاب متأسفا أنه لا يرجو له شفاء. وما أتم كلامه حتى أصيب هو برصاصة في رأسه فشهق وسقط ميتا لا حراك به، وكان خادمه بجانبه يخاطبه في بعض حاجاته فلما رآه ساقطا رفع يده مناديا يا سيدي يا سيدي، ولم يتم قوله حتى أصيبت يده عند المعصم برصاصة ثقبتها من الجانب الواحد إلى الآخر. وكنا نرى كثيرين غيره يسقطون مثل تلك السقطة. فلا تسل عما حل بالجند من اليأس إلا أنهم تجلدوا وأقاموا عليهم أكبر ضباطهم قائدا، فأتموا تشكيل المربع بعد أن رفعوا الجنرال جريحا جرحا بليغا لم يعش بعده أكثر من شهر واحد، فمات عند انسحاب الحملة ودفن عند آبار جكدول في وسط الصحراء.
فسار المربع ونحن داخله قاصدا النيل، فهاجمنا الأعداء ببسالة غريبة ثم ما لبثوا أن اقتربوا من مربعنا حتى تشتت شملهم، فسرنا حتى أدركنا النيل عند الظلام بعد مفارقتنا إياه نحوا من أسبوعين فحييناه تحية ملتاح، وعسكرنا على ضفته للمبيت تلك الليلة. وفي الصباح التالي جاءت العساكر مع من كان معهم في الزريبة، ثم انتقلنا إلى قرية جنوبي المتمة يقال لها القبة .
وكان غوردون قد أنفذ لملاقاة تلك الحملة أربع بواخر كانت في مياه الخرطوم؛ ليستعينوا بها في الوصول إليه، وبعث يقول لهم: إنكم إذا لم تصلوا إلينا في بضعة أيام ذهبنا هباء منثورا. وقد علم السير شارلس ولسن خلف الجنرال ستيوارت على تلك الحملة بذلك في 21 يناير، وكان يجب أن يبادر حالا إلى الخرطوم بدلا من أن يقضي أربعة أيام بجوار المتمة بلا داع، فغادرها في 24 يناير سنة 1885 على باخرتين لم تصلا الخرطوم إلا في 28 منه، وكانت قد سقطت وقتل غوردون في 26 منه، فعاد السير شارلس كاسف البال، ولم يصل المتمة إلا بعد شق الأنفس؛ لأن باخرتيه انكسرتا وأصابه من الخطر ما لا محل لتفصيله هنا. (ع) سقوط الخرطوم
أما كيفية سقوط الخرطوم فعلى ما يأتي: من تأمل هذه الخارطة (شكل
3-47 ) علم أن الخرطوم واقعة موقعا طبيعيا حصينا للغاية فهي محاطة من الشمال والغرب بالنيل ومن الجنوب والغرب بسور منيع وراءه من الخارج خندق عميق والجند قائمون على السور ليلا نهارا وترى بين بنايات الخرطوم وسورها أرضا لا بناء فيها.
شكل 3-47: دلالات الأرقام في خريطة الخرطوم: (1) الحكمدارية. (2) السراي. (3) حواصل الحنطة. (4) الترسانة. (5) القشلاق. (6) طابية بوري. (7) مخازن البارود. (8) قرية توتي. (9) الطابية البحرية. (10) السراى الشرقية.
وقد ذكرنا أن المهدي حاصر الخرطوم وشدد الحصار عليها لكي تسلم من الجوع، فلم تمض مدة حتى أنبأه جواسيسه أن حملة إنكليزية قادمة لإنقاذ الخرطوم وغوردون، فبعث إليها جندا لاقاها في أبي طليح تحت قيادة موسى ولد الحلو وأبي صافية، فعادت خاسرة فأرسل جندا آخر إلى المتمة بقيادة ثور عنجة فانكسر أيضا كما تقدم. فلما بلغه خبر انكسار رجاله أراد التمويه على أتباعه، فأمر بإطلاق مائة قنبلة وقنبلة وهي إشارة النصر عندهم فاطمأن الدراويش، ولكن محمد أحمد جمع أمراءه وخلفاءه في جلسة سرية وقال لهم إن الحضرة جاءته فأوحت إليه أن يهاجر إلى الأبيض. فاعترضه الأمير محمد عبد الكريم قائلا: «إن الهجرة ميسورة لنا في كل حين والطريق إلى الأبيض مطلق لنا، فلنهاجم الخرطوم أولا فإذا امتنعت علينا هاجرنا إلى الأبيض، وإذا فتحناها فلا يقوى الإنكليز ولا غيرهم على أخذها منا.» فاستحسن المهدي رأيه وصبر بضعة أيام وهو يستقصي أخبار الإنكليز وحركاتهم. وفي 25 يناير بلغه قيام الباخرتين من المتمة، فأقر على مهاجمة المدينة في صباح اليوم التالي (يوم الاثنين في 26 يناير سنة 1885)، فبعث إلى القوات المحاصرة يقول إنه علم بالوحي أن الله قد جعل أرواح أهل الخرطوم كلها في قبضته.
وفي مساء ذلك اليوم 25 منه قطع المهدي النيل الأبيض من أم درمان، وكل من أراد الجهاد معه ونزل إلى معسكر ولد النجومي في كلاكلا، وخطب هناك خطابا حث رجاله فيه على الجهاد، وأوصاهم أن لا يقتلوا غوردون باشا. ولما أتم خطابه عاد ببطاننه إلى أم درمان.
وفي الصباح التالي 26 منه الساعة الأولى بعد نصف الليل زحف الدراويش من كلاكلا بقيادة ولد النجومي وانقسموا فرقتين: فرقة تهاجم السور بين النيل الأبيض وباب المسلمية وفرقة تهاجمه من ناحية بوري (انظر شكل
3-47 ) وكان السور بين باب المسلمية والنيل الأبيض قد تهدم بعضه مما يلي النيل؛ لمجاورته أرضا يغمرها ماء النيل في فيضانه ترى حدودها في الخارطة منقطة. وكان الماء قد انحسر عنه إذ ذاك وتهدم بعضه فتكونت فيه ثغور دللنا عليه بتقطيع السور هناك إلى نقط. فعول الدراويش على أن يدخلوا المدينة من تلك الثغور على أنهم إذا فازوا بالدخول منها عدلوا عن الهجوم من جهة بوري ودخل القسمان معا من جهة النيل الأبيض. (ف) مقتل غوردون
فزحفوا سكوتا حفاة تحت جناح الليل لا تسمع لهم حركة حتى صاروا عند تلك الثغور، فردموا الخندق ووسعوا الثغور وصاحوا صياح الحرب قائلين: «في سبيل الله.» ودخلوا يزاحم بعضهم بعضا، وقد غاصوا في الأوحال إلى الركب فبغتت الحامية فأطلقت بعض الطلقات، وكان فرج باشا قائد الحصون على باب المسلمية فما انتبه إلا وقد قضي الأمر، ولم تبق فائدة بالدفاع ففتح الباب وسلم فانهال الدراويش على المدينة كالسيل وهم ينادون: «للكنيسة ... للسراي.» وأمعنوا في الأهالي المساكين قتلا ونهبا لم يبقوا ولم يذروا. وسار بضعة منهم إلى السراي، حيث يقيم غوردون وكان قد يئس من قدوم الحملة وبات تلك الليلة حوالي نصف الليل، ولم يكد يغمض جفنه حتى سمع إطلاق النار فصعد إلى سطح السراي وأشرف على الأسوار، فرأى العرب قد دخلوا السور ولم يعد باليد حيلة فلبس ثيابه وتقلد سلاحه وهم بالنزول فلاقاه ثلاثة من الدراويش في أعلى السلم فسأل أولهم قائلا: «أين محمد أحمد؟» فأجابه بطعنة قاضية وضربه آخر بالسيف فخر قتيلا ولم يبد دفاعا، ويقال إن قتلته من رجال ولد النجومي ولم يكن ولد النجومي معهم، فجاء بعدئذ فساءه قتله فأمرهم بجر جثته إلى باحة السراي، وأن يقطع رأسه ويحمل إلى المهدي في أم درمان فحملوه إليه في منديل كبير في الساعة الأولى من النهار، وكان سلاطين مقيدا في خيمته بأم درمان وقد سمع إطلاق المدافع، وعلم بهجوم العرب على الخرطوم، ثم سمع بفتحها فوقف حزينا كئيبا، فمر حاملو رأس غوردون به وبينهم رجل اسمه شطا كان يعرفه سلاطين قبلا، فكشف له عن رأس غوردون وقال: «أليس هذا رأس عمك الكافر؟»
فأثر ذلك المنظر في سلاطين كثيرا وكان قد هزل جسمه من الأسر والخوف، وكاد يغمى عليه ولكنه تجلد وقال بصوت ضعيف: «إنه مات في سبيل الدفاع عن واجباته هنيئا له فقد استراح من متاعبه.» فقال له شطا ضاحكا: «أتمدح الكافر! إنك ستلقى ما لقيه قريبا.» فتأمل حال سلاطين إذ ذاك!
ثم حملوا الرأس إلى المهدي فأظهر كدره لذلك، وكان سلاطين يظن أن المهدي لو أراد أن يبقى عليه وأوصى رجاله بذلك ما تجرأ أحد على مخالفة أوامره.
شكل 3-48: رأس غوردن يريه الدراويش لسلاطين باشا.
هكذا سقطت الخرطوم عاصمة السودان في أيدي الدراويش، وبسقوطها سقط كل أمل بافتتاحها. ولكن المهدي لم يقم فيها بل أقام في أم درمان، وبنى هناك مدينة جعلها عاصمة ملكه من ذلك الحين.
أما الحملة الإنكليزية فإنها انسحبت من المتمة إلى كورتي، فأقامت هناك مدة ثم عادت إلى دنقلا فمصر فسحبت معها كل من أراد مرافقتها من سكان شمالي كورتي ، وأصبحت السودان من ذلك الحين مملكة المهدي السوداني. (ص) موت المهدي وخلافة التعايشي
شكل 3-49: طبيب المهدي.
فلما فتحت الخرطوم وعادت الحملة الإنكليزية إلى مصر ازداد الناس وثوقا بدعوى المهدي مع ما شاهدوه من توفيقه في مشروعاته؛ فإنه كاد لا يشهد موقعة إلا انتصر فيها ولا حاصر مدينة إلا فتحها. وإذا اعتبرت ما لاقته الحملة الإنكليزية القادمة لإنقاذ غوردون من العراقيل والعوائق، عجبت لما اتفق لمحمد أحمد هذا من غرائب التوفيق. فاتخذ أشياعه ذلك دليلا على كرامته، وأيقن هو أنه أصبح المالك المتصرف في السودان من أقصائه إلى أقصائه، وخيل له أنه سيفتح الأمصار ويخضع الملوك والسلاطين فتنتشر سلطته في الخافقين. على أنه لم يكن يرجو أن يتم ذلك كله على يده ولكنه كان يقول إنه لن يموت إلا بعد فتح الحرمين وبيت المقدس، ثم ينزل الكوفة ويموت فيها. ولكن ساء فأله؛ لأنه لم يكد يؤيد سلطته ويقيم في عاصمته «أم درمان» بضعة أشهر حتى داهمته الوفاة في 21 يونيو سنة 1885 فيها على إثر إصابة شديدة بالحمى التيفوسية لم تنجع فيها حيلة، ففارق هذا العالم على عنقريب «سرير سوداني»، وحوله خلفاؤه الثلاثة وخاصة أمرائه منهم أحمد ولد سليمان ومحمد ولد البصير وعثمان ولد أحمد والسيد الملكي. فلما شعر المهدي بدنو الأجل قال لمن حوله بصوت منخفض: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
اختار الخليفة عبد الله خليفة لي وهو مني وأنا منه، فأطيعوه ما أطعتموني. أستغفر الله.» ثم تلا الشهادتين وجعل يديه متقاطعتين على صدره وأسلم الروح.
ولم يكد يخرج النفس الأخير من أنفاسه حتى تقدم الحضور فبايعوا عبد الله وسموه «خليفة المهدي» وكان في جملة من حضر موت المهدي امرأته عائشة ويدعونها «ستنا أم المؤمنين» فسارت لإبلاغ خبر وفاته إلى نسائه الأخريات وتعزيتهن، وكان الناس قد تجمهورا مئات وألوفا حول المنزل ينتظرون الخبر عن سيدهم ومهديهم، فلما علموا بموته ضجوا وصاحوا فأوعز إليهم أن البكاء والندب حرام لأن المهدي إنما فارق مقامه في الأرض بمجرد إرادته ليلقى وجه ربه. فغسلوا الجثة ولفوها بالأكفان واحتفروا لها حفرة في تلك الغرفة حيث فارقتها الروح ودفنوها وجعلوا فوقها بعد ذلك مقاما من الخشب يغشاه ستر أسود وبنوا فوقه قبة وسموا ذلك المقام «قبة المهدي» يزورها الناس للتبرك، واحتفروا بجانب القبة بئرا يستقي الزائرون منها للشرب والوضوء وحول القبة درابزون من الخشب «شكل
3-50 ».
وكان سلاطين باشا قد نال العفو من المهدي قبل وفاته، فحلت قيوده وعاد إلى معية التعايشي فشاهد تلك الحوادث شهادة عين، ووصفها في كتابه السيف والنار والسودان وصفا تاما.
فبعد دفن المهدي سار خليفته عبد الله إلى الجامع وخطب في الناس وأنبأهم بوفاة المهدي فبكى وبكى الناس، ثم أوصاهم بالطاعة والاتحاد للعمل بأوامره، وبعد الخطبة تقدم الناس لمبايعته فتلوا صورة المبايعة التي ذكرناها قبل الآن، ولكنه غير العبارة الأولى منها فجعلها «بايعنا الله ورسول الله ومهدينا وبايعناك على توحيد الله ...» إلخ. (ق) أوصاف المهدي
كان محمد أحمد طويل القامة عريض المنكبين أسمر اللون قاتمه قوي البنية. وكان أول قيامه بدعوته ربع القامة فأصبح في أواخر أيامه سمينا ضخما. وكان كبير الرأس عريض الجهة حاد العينين أسودهما خفيف اللحية أسودها، وعلى خديه آثار الأخاديد العرضية الثلاثة من كل جانب كسائر الدناقلة أبناء قبيلته. وكان متناسب الأنف والفم لا ينفك مبتسما فتظهر أسنانه وبين الأماميتين منها فلجة تشبه الثمانية «8» تعد عند السودانيين وغيرهم من المشارقة علامة السعد، ويقال لصاحبها أفلج، وكان ذلك من جملة ما حبب المهدي إلى النساء وكن يسمينه «أبو فلجة».
شكل 3-50: قبة المهدي وفيها قبرة.
وكان يلبس جبة بيضاء قصيرة مضربة تراها دائما مغسولة نظيفة مطيبة برائحة خشب الصندل والمسك وعطر الورد، وكان مشهورا بين أتباعه بهذه الرائحة حتى نسبوها إليه، فسموها «رائحة المهدي» وذكر بعضهم خالا كان في خده ادعى أنه من علامات المهدوية.
وقد علمت من تدبر ترجمة حاله أنه كان نبيها مدبرا رضي الخلق، حسن السياسة، ماهرا في التأثير على عواطف الناس إذا تكلم ظهر للسامعين أن جوارحه كلها تتكلم، فإذا ذكر مآثم بني الإنسان أو وصف النعيم المقبل، أو حث على الجهاد بكى وتخشع وأبكى السامعين. ويظهر من مجمل سيرة حياته أنه صبور على البلوى كاظم للغيظ مسالم للأحزاب محسن إليهم، راغب في امتلاك قلوبهم باللطف وحسن الأسلوب، وكان ذلك من أكبر العوامل في نشر دعوته، وقيام الناس بنصرته، ولو أمد الله في أجله لكان فتح السودان صعبا على الجنود المصرية نظرا لاستهلاك قواده في سبيل نصرته. أما خليفته فكان على غير خلقه من اللين والدعة والمسالمة، إلى حد هاج غيرة الخليفتين الآخرين وغيرهما من الأمراء، فقام الشقاق بين الدراويش فضعفت عزائمهم وفسدت أمورهم وتضعضعت أحوالهم وسهل الفتح على المصريين. (ر) تعاليمه
ذكرنا في ما تقدم ما كان من أعماله الحربية منذ ظهوره إلى وفاته، فنقتصر الآن على ذكر ما أحدثه من التعاليم والتقاليد بين مسلمي السودان: (1)
علم الزهد في الدنيا وملذاتها ونبذ المجد الدنيوي، فأبطل الرتب والألقاب الرسمية وغير الرسمية، وساوى بين الغني والفقير وفرض على أتباعه لباسا واحدا يمتازون به ويدل على تزهدهم وهو الجبة المرقعة. (2)
جمع المذاهب الأربعة (المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي) ووحدها بتسوية بعض ما بينها من الخلاف وإلغاء البعض الآخر، واختار آيات من القرآن الكريم تتلى كل يوم بعد صلاة الصبح وصلاة العصر سماها «الراتب» وسهل طرق الوضوء. (3)
حرم الاحتفال بالأعراس احتفالا يدعو إلى النفقة، ومنع شرب الخمر وغيرها مما يتناولونه في الأعراس، وخفض مهر الزواج فجعله عشرة ريالات وبدلتين للبكر وخمسة ريالات وبدلتين للثيب، وجازى من يخالف ذلك بسلب أمواله كلها. وأبدل ولائم الأعراس بطعام من التمر واللبن فتسهلت بذلك وسائل الزيجة على الفقراء، وقد كانت نفقات العرس الباهظة حائلة بينهم وبين الاقتران. (4)
أبطل الرقص واللعب، ومن رقص أو لعب فقصاصه الجلد وأخذ أمواله، وترى تفصيل ذلك في منشور المهدي الذي تقدم نشره. (5)
منع الحج إلى الحرمين خوفا على قواته من التفريق وتعاليمه من الضياع؛ لعلمه أنها تخالف تعاليم أهل الإسلام. ووضع قصاصا على من يشك في دعوته أو يتردد في تنفيذ أوامره أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ويكفي لثبوت التهمة عليه شهادة شاهدين، وقد يكفي أن يدعي علمه ذلك بالوحي. وتأييدا لدعوته أحرق كل كتاب أو ورقة تخالف هذه التعاليم.
وقد ضرب المهدي نقودا باسمه هذه صورة قطعة فضية منها بحجمها الطبيعي (شكل
3-51 ) على أحد وجهيها اسم المدينة التي ضربت فيها «أم درمان» وعند أسفل ذلك تاريخ 1304ه وهي سنة استقلالهم بالأقطار السودانية، وفي أعلاها رقم واحد يقصدون به السنة الأولى من سلطانهم. وعلى الوجه الآخر ما يشبه الطغراء يقرأ منها كلمة «مقبول» كأنهم يريدون بها أن هذه النقود مقبولة عند حكومتهم، وعند أسفل الطغراء يقرأ سنة 5 ربما يقصدون بها السنة الخامسة من ظهور المهدي أو هجرته.
شكل 3-51: نقود المهدي.
وكان المهدي قد بعث أمراءه إلى الأنحاء لبث دعوته وتأييد سلطته، وحث الناس للمهاجرة إلى أم درمان، فسعى محمد خالد في دارفور فأتم إخضاعها، وسار أبو عنجة إلى كردوفان وكانت قد سلمت إلى المهدي إلا سكان الجبال الجنوبية منها، فأخضع بعضهم وبقي البعض الآخر مستقلا. أما ما بقي من السودان الغربي من ضفاف النيل الأبيض إلى حدود وداي فقد دانت للمهدي برمتها. (ش) السودان الشرقي
أما في السودان الشرقي فما زالت سنار وكسلا محاصرتين وقد دافعت حاميتهما دفاعا حسنا، حتى اضطرت إلى التسليم فلم تنقض سنة 1885 حتى بلغ نفوذ المهدي وسلطته جنوبا إلى لادو من مديرية خط الاستواء، ولم يبق من السودان في حوزة الحكومة المصرية إلا سواكن وحدها.
واتفق في أثناء حصار سنار أن القوة المحاصرة لها كانت تحت قيادة الأمير عبد الكريم، وهو من أقارب المهدي، فدفعته حامية سنار فأنفذ التعايشي ولد النجومي وهو من أعظم قواد الدراويش، ففتحها في أغسطس سنة 1885 فبعث التعايشي إلى عبد الكريم أن يأتي هو ورجاله إلى أم درمان وكان قد أخذ معه لحصار سنار الجنود السودانية بلواء الخليفة محمد الشريف، وهو من أقارب المهدي أيضا، فلما فتحت سنار على يد ولد النجومي ثم دعي عبد الكريم إلى أم درمان، حمل عبد الكريم ذلك من التعايشي محمل الإهانة له وذاع على الألسنة إذ ذاك أن عبد الكريم قال لو ضمت إليه رجاله ورجال الخليفة الشريف لأخرج الخلافة من يد التعايشي ودفعها إلى الخليفة الشريف لأنه أولى بها من ذاك. فبلغ ذلك الكلام مسمع التعايشي فبعث إلى أخيه يعقوب وهو عمدته وقائد جنده وأخبره الخبر وأوصاه أن يكون الجند على استعداد عند وصول عبد الكريم، فلما وصل عبد الكريم لاقاه التعايشي بالتحية والتهنئة وأثنى على ما بذله في حصار سنار، ثم شرفه وبعث إلى الخليفتين وسائر الأشراف (أقارب المهدي) فأدخلهم غرفة داخلية، ولما استتب بهم المقام أمر كاتبه فتلا عليهم منشورا كان قد كتبه المهدي في الأبيض يحرض أتباعه به على طاعة التعايشي.
فلما تمت تلاوة المنشور قال عبد الله: إن عبد الكريم خائن. فأنكروا ذلك عليه ودافعوا عن صداقته وأمانته، فتظاهر بالعفو عنه ولكنه اشترط إخراج الجنود السودانية من قيادته إلى قيادة أخيه يعقوب، فقبل الشريف وسائر الأقارب بذلك رغم إرادتهم ثم أشار التعايشي إلى الخليفة علي ولد الحلو بطرف عينه أن يجددوا المبايعة ويمين الطاعة، فوضعوا أيديهم على القرآن، وأقسموا أن يسلموا الجنود السودانية وأن يحافظوا على الطاعة. ولا ريب أن الشريف ورجاله فعلوا ذلك قهرا وفي أنفسهم حزازات يودون لو أنهم يذهبون بحياة التعايشي. وكانت تلك الحادثة أمثولة ذات بال أصبح بها مقاوموه مقصوصي الأجنحة لا يستطيعون حراكا، ولكنهم حقدوها عليه وأخذ كل من الفريقين ينظر إلى الآخر بعين الحذر. على أن الظواهر كانت تدل على اتحاد وارتباط متينين. أما التعايشي فما انفك يدعو الناس من الجهات البعيدة للمهاجرة إلى أم درمان ليعمرها، ويحشد فيها قوة عظمى يستعملها عند الحاجة. (ت) حرب الأحباش
وفي أثناء ذلك تعدى بعض السودانيين على الأحباش في بلاد الحبشة، وأخربوا كنيسة من كنائسهم والتجأ المتعدون إلى قلابات وهي في بلاد الدراويش، مما يلي حدود الحبشة فحماهم حاكم المدينة، فجاء الأحباش بجند كبير تحت قيادة الراس عادل، وأخربوا البلدة وأحرقوها حتى صارت قفرا يأوي إليها الضباع والذئاب، وساقوا الأولاد والنساء أسارى إلى الحبشة. فبلغ التعايشي ذلك فكتب إلى يوحنا نجاشي الحبشة إذ ذاك أن يرسل الأسرى ويعين الفدية التي يريدها عنهم، ولكنه بعث أيضا يونس أحد قواده بجند إلى قلابات، وأمره أن يحصنها ويقيم فيها حتى يأتيه أمر آخر.
وبعد قليل جاء نبأ أن يونس في ضيق، فبعث أبا عنجة يتولى قيادة الدراويش في قلابات فسار في جنده وأنقذه من ضيقه. وقبض على 11 أميرا ظهر أنهم تآمروا على قتل يونس وبعث إلى الخليفة يستشيره في أمرهم فبعث إليه أن يقتلهم ثم ندم، فبعث أن لا يفعل ولكن سبق السيف العذل.
فجمع أبو عنجة هذه القوة وسار نحو راس عادل لينتقم منه فوفق في هذه الحملة على غير انتظار وتغلب على رجال راس عادل وأخرجهم من محلتهم، واستولى على الخيم والمؤن وكل الأمتعة وأسر أمراؤه راس عادل وابنته. وكأنه بهذه الغلبة قد فتح كل مقاطعة امحرة، فسار توا إلى غندر على أمل أن يلاقي فيها خزائن وأموالا، فلم يجد شيئا فأحرق البلدة وعاد وهو ينهب ويسلب كل ما مر به بطريقه حتى ساقوا أمامهم قطيعا من نساء الأحباش وأطفالهم سوق الأغنام، فلما وصلوا قلابات بعثوا الأسرى إلى أم درمان، فأخذ الخليفة خمسهم وضموا الباقي إلى بيت المال وقد مات منهم في الطريق مئات من الجوع والتعب، وأصبح الطريق بين قلابات وأبي حراز مملوءا بجثث أولئك المساكين وفي جملتها جثتا ابنة راس عادل وابنه لكن المنية عاجلت أبا عنجة، فمات ولم يتجاوز 32 سنة من عمره.
ثم ما لبث النجاشي ملك الحبشة أن جند للانتقام من الدراويش على خراب غندر فحمل بجند كبير على قلابات، وكانت جنود أبي عنجة لا تزال هناك ولم تفقد إلا قائدها الأكبر؛ فتأهبوا للدفاع فوصل النجاشي وعسكر بالقرب من قلابات، وانتهت الحرب بهرب الأحباش وقتل ملكهم وتركوا المعسكر غنيمة للدراويش، فوجدوا في جملة الغنائم تاج النجاشي يوحنا مصنوعا من الفضة ومحلى بالذهب وسيفه، وكتابا مرسلا إليه من ملكة الإنكليز فحملوا ذلك غنيمة إلى أم درمان. (ث) فتح مصر
ومن أغرب مطامع التعايشي فتح مصر وضمها إلى مملكته على حين أن المهدي نفسه لم يجاهر بذلك صريحا. فلما توفي هذا كتب التعايشي كتابا إلى جلالة السلطان وآخر إلى سمو الخديوي وآخر إلى ملكة الإنكليز يطلب إليهم جميعا أن يسلموا له ويذعنوا لسلطانه، وأرسل الكتب مع رسل خصوصيين إلى مصر، فعاد الرسل ولم ينالوا جوابا غير الاحتقار والازدراء فشق ذلك عليه وحقده عليهم.
فلما قدر له بالفوز على الأحباش حدثته نفسه أن يجرد على مصر فيفتحها، ويقيم نخاسا من البقارة أو التعايشة أميرا يتولى حكومتها أو يأتي هو بجلالة قدره من بيته في أم درمان، فينصب عنقريه في سراي عابدين!
شكل 3-52: مجلس التعايشي وقضاته.
ولم ير بين قواده أولى بهذه المهمة من عبد الرحمن ولد النجومي، وكان من أشد الدراويش بطشا وأصعبهم مراسا، وأكثرهم استهلاكا في نصرة الدعوة، وكان قبل ظهور المهدي تاجرا بين مصر والسودان قد خبر الأرض وعرف الطرق، فأرسله في حملة أكثرها من قبائل الجعالين والدناقلة وغيرهم ممن جاوروا مصر العليا وخالطوا سكان تلك الأقاليم، متظاهرا أن قصده بذلك فتح مصر برجال هم أدرى بها من غيرهم. ولكن الحقيقة أنه لم يجهل الخطر الذي يهدد ذلك المشروع فلم يدخل في تلك الحملة أحدا من أقاربه وأبناء عشيرته، ولا من قبائل البقارة وغيرهم من عرب غربي النيل الأبيض؛ لأنهم من حزبه فأذخرهم لحين الحاجة، أما الدناقلة والجعالين فأكثرهم من حزب الخليفة محمد الشريف، وقد رأيت ما بينه وبين التعايشي وما كان من تغير قلبيهما، فما انفك هذا بعد ذلك يعتبر الشريف عدوا له تحت طي الخفاء فبعث أحزابه في حملته هذه، وفي نيته أنهم إذا فتحوا مصر عاد الفخر له واتسعت مملكته، وإذا انكسروا تقهقروا إلى دنقلا وقد ضعف شأنهم وتخلص هو من دسائسهم.
فجعل دنقلا محط رحال تلك الحملة وأقام يونس ولد الدغيم أميرا على دنقلا يقيم فيها ويدير شئونها، وولد النجومي يقود الحملة ولا يعمل إلا بمشورة يونس.
فلما أعد التعايشي تلك الحملة بعث كتبا أخرى إلى مصر، وفيها الإنذار الأخير فبقي الرسل مدة في أسوان، ثم أعيدوا بلا جواب فبعث التعايشي رأس النجاشي يوحنا إلى يونس أمير دنقلا على أن يرسله إلى وادي حلفا تهديدا للمصريين. وأمر أن يسير ولد النجومي بحملته على مصر فلا يحرك ساكنا في حلفا، بل يهاجم أسوان فإذا فتحها يقيم فيها حتى تأتيه أوامر أخرى.
فخرج ولد النجومي من دنقلا في مايو سنة 1889 في جيش لا نظام له والحكومة المصرية عالمة بكل حركة من حله وترحاله. وكان سردار الجيش المصري إذ ذاك الجنرال غرانفل باشا المشهور بالتأني وصدق الروية فضلا عن الرقة ولين الجانب فحصن حلفا وأسوان وسائر الحدود.
فلما دنت حملة الدراويش من أرجين بجوار حلفا اقتربت شرذمة منهم إلى النيل، وولد النجومي لا يعلم بها، فخرجت إليها الحامية المصرية بقيادة وودهاوس باشا فكسروها شر كسرة.
وكان غرانفل باشا قد خرج من أسوان فبعث إلى ولد النجومي يبين له خطر موقفه، وينصح له أن يسلم فيسلم فأبى فسار السردار بجيش معظمه على البر الغربي للنيل وبعضه على البر الشرقي؛ لأن الدراويش كانوا قادمين على البر الغربي، جرت بينهم وبين الحاميات مناوشات ليست بذات بال، حتى وصلوا توشكي وهناك حصلت الواقعة التي قضت على تلك الحملة، فقتل قائدها وتشتت شملها وإليك التفصيل. (ذ) واقعة توشكي
توشكي قرية حقيرة على البر الشرقي، وبعضها على البر الغربي للنيل بين كروسكو وحلفا على بضعة أميال من هيكل أبي سمبل شمالا مؤلفة من أعشاش صغيرة من الطوب والقش متفرقة على ضفة النيل في مسافة من الأرض على موازاة النيل، يبلغ طولها ثلاثة أميال وعرضها منه إلى الصحراء نحو نصف ميل وفيها بعض النخيل.
وفي البر الغربي مقابل توشكي على بعد أربعة أميال منها جنوبا سلسلة تلال عالية من حجر الغرانيت، تمتد من الضفة غربا نحو ثلاثة أميال في الصحراء، وعند طرف هذه السلسلة وإلى جنوبيها كان معسكر الدراويش بقيادة ولد النجومي، وعلى نحو تلك المسافة شمالا سلسلة أخرى. وبين السلسلتين سهل متصل بالصحراء وفيه حصلت الواقعة.
وكان السردار مقيما في توشكي فبعث طلائعه في صباح 3 أغسطس سنة 1889 باكرا لاستكشاف معسكر العدو، فعادوا وأخبروا بأن العرب يستعدون للمسير، فخرج السردار لمجرد الاستكشاف، فلم يكد يشرف على معسكرهم حتى رآهم هاجمين كالجراد، فبعث إلى الجند في توشكي وكان بعضهم لم يتناول طعاما ولا تهيأ للمسير، فساروا بأسرع من لمح البصر وهم لم يأكلوا بعد ولا حملوا من الماء إلا شيئا قليلا، فصمم السردار إذ ذلك أن لا يكف عن الدراويش حتى يشتت شملهم في ذلك اليوم، وكان قد علم بما كانوا فيه من الضيق والجوع. وهاك أسماء الأرط التي شهدت تلك الواقعة وهي الأرطة التاسعة بقيادة البكباشي لويد، والعاشرة بقيادة البكباشي دن والثالية عشرة بقيادة اليوزباشي كمستر والطبجية بقيادة البكباشي رندل، فضلا عن البيادة الراكبين والأورطة الثانية من البيادة جاءت متأخرة، وقال الذين شهدوا واقعة توشكي إن الأرط السودانية عملت في ذلك اليوم أعمالا عجيبة، وبالغوا برغبتهم في الحرب حتى عصوا أوامر قوادهم لما دعوهم إلى الكف عنها، والخلاصة أن الواقعة المشار إليها لم تنقض إلى الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم (3 أغسطس سنة 1889)، وبلغ عدد قتلى الدراويش 1200 قتيل وزاد عدد أسراهم على أربعة آلاف، وفيهم النساء والأولاد فضلا عن الأسلاب والأعلامم والسيوف والرماح، ولم يقتل من الجيش المصري إلا 25 وجرح 140.
ووجد بين قتلى الدراويش إذ ذاك أعظم أمراء تلك الحملة ما عدا عثمان الأزرق وعلي ولد سعد وحسن النجومي وميرغني سوار الذهب وشيخ الأبيض، فقد نجا هؤلاء بنحو ألف وأربعمائة شريد وهم الذين استطاعوا الفرار من تلك الموقعة فقط. أما ولد النجومي فقد قتل وحز رأسه وجيء به إلى السردار.
فكان ذلك النصر مبينا سر به المغفور له الخديوي السابق فبعث إلى السردار يهنئه به لعلمه أنه أمثولة علمت التعايشي ما لم يكن يعلم. أما الذين قتلوا من الجنود المصرية فابتنوا لهم مقاما قرب مكان الواقعة ضموهم إليه وبنوا فوقه قبرا نقشوا فوقه باللغة العربية حفرا على واجهة القبر كتابة هذا نصها:
شيد هذا الأثر تذكارا لواقعة توشكي التي حصلت في 6 الحجة سنة 1306ه وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي فتشتتوا بعد قتل أميرهم، وكان الجيش المصري تحت قيادة سعادة السردار غرانفل باشا وفي هذا القبر دفنت جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا وهم بالميدان.
وبعد الواقعة سار الخديوي السابق في بعض رجال معيته لتفقد أحوال الحدود، فركب إلى مكان تلك الواقعة ووقف أمام قبر شهدائها يتأمل ما أظهره جنده من البسالة في ذلك القتال. وقد نشرنا رسمه رحمه الله واقفا أمام ذلك القبر وقد أسند رأسه على كفه متأملا (انظر شكل
3-53 ).
قحط عظيم:
وكان خبر ذلك الانكسار صدمة قوية على الدراويش في أم درمان، فعرفوا قدر أنفسهم ووقفوا عند حدهم، ولكنهم لم يكادوا يتخلصون من عواقب تلك الكسرة حتى داهمهم قحط غلت فيه أثمان الحنطة وقل الزاد واشتدت وطأة الجوع على الفقراء حتى أكلوا سيور الجلد التي يشدون بها مقاعدهم؛ فكثر النهب وازداد الضغط.
وكانت وطأة الجوع في الغالب أشد على المارين بأم درمان والقادمين إليها مما بأهلها، حتى اتصلت الحاجة ببعضهم إلى بيع أولادهم بيع الرقيق؛ إنقاذا لهم من الموت جوعا. قال سلاطين: «وكانت الجثث ملقاة في الشوارع والمنازل مئات وليس من يدفنها، فأصدر التعايشي منشورا قال فيه إن كل صاحب منزل مطالب بدفن الجثث التي تشاهد ملقاة قرب منزله، فقلت الجثث على الشوارع ولكن بعضهم كانوا يحفرون حفرا بقرب المنازل يدفنونها بها تخلصا من مشقة الحمل إلى المدافن. وكانت مياه النيلين الأزرق والأبيض تجري أمام أم درمان حاملة مئات من الجثث فارق أصحابها الحياة على ضفاف النيل أو بالقرب منها، فألقوها أهلهم أو أصحابهم فيه.» وخلاصة القول أن الجوع أهلك من الدراويش أضعاف ما أبادته الحروب منذ ظهور المهدي إلى ذلك اليوم. ورافق هذا الضيق جراد جارف أكل ما بقي من الزرع.
على أن التعايشي ما زال يبث دعاته في سائر الأنحاء لتأييد دعوته، وكانت بقية من خط الاستواء لا تزال على ولاء الحكومة بقيادة أمين باشا، فأنفذت ألمانيا حملة بقيادة ستانلي الرحالة الشهير لإنقاذ أمين باشا، فقاست في سبيل ذلك مشقات جسيمة تمكنت بعدها من الخروج به وببعض الحامية، فدخلت مديرية خط الاستواء بحوزة الدراويش، ولم يبق للحكومة من السودان المصري إلا سواكن وطوكر.
شكل 3-53: توفيق باشا في توشكي.
وقد فصلنا تاريخ التعايشي وأصله وصفاته وأخلاقه ومناقبه وحكومته وإدارتها، من حيث الجند والمالية والقضاء والبريد وسائر أحوالها مطولا في الجزء الأول من كتابنا تراجم مشاهير الشرق، نكتفي منها هنا بوصف حكومته: (ض) حكومة التعايشي وإدارتها وأعمالها
المالية
تسمى المالية عند الدراويش «بيت المال» أو هي بيوت المال يختص كل بيت منها بنوع من أنواع الدخل والخرج أهمها خمسة وهي: (1) بيت المال العمومي. (2) بيت مال الملازمين. (3) بيت مال الخمس للخليفة. (4) بيت مال ورشة الحربية. (5) بيت مال ضابطة السوق.
شكل 3-54: عبد الله التعايشي.
بيت المال العمومي:
هو عبارة عن الخزينة العمومية لمملكة الدراويش يجمع دخلها من المصادر الآتية: (1) الزكاة والفطرة. (2) الأسلاب والغنائم المكتسبة بالحرب. (3) العشور وهي ما يدفعه التجار على بضائعهم (المكس). (4) ضريبة الصمغ. (5) ضريبة القوارب. (6) قروض يعقدها بيت المال مع التجار ولا ينوي دفعها. (7) ضرائب العبور في النيل من ضفة إلى أخرى (المعديات). (8) غلة الأرض الواقعة غربي النيل الأبيض وشرقي النيل الأزرق وهي تمتد جنوبا إلى كركوج وفشوده وشمالا إلى حجر العسل. (9) معين يستولي عليه بيت المال العمومي من بيوت المال الأخرى.
وأما نفقات بيت المال العمومي فهي: (1) نفقات نقل الجيوش ومؤنهم وذخائرهم إلى المديريات والمقاطعات. (2) أعطيات الجند (رواتب الجهادية). (3) رواتب المستخدمين. (4) الصدقات.
بيت مال الملازمين:
ويراد به خزينة الملازمين وهم جند التعايشي الخصوصيين ومنهم حراسه وياورانه. يجتمع دخل هذه الخزينة من محاصيل أرض الجزيرة (بين النيلين الأبيض والأزرق) وأما نفقاتها فمحصورة في رواتب الملازمين.
بيت مال الخمس للخليفة:
وهو أشبه شيء بالخزينة الخاصة ودخله من المصادر الآتية: (1) معظم ما يفضل في خزائن المديريات بعد نفقاتها المعلومة. (2) محاصيل الجزائر الواقعة في النيل وفي جملتها جزيرة توتي تجاه الخرطوم ومحصول أرض الغنيمة ومنها حلفاية وكملين، وكانتا قبلا من أملاك الخاصة الخديوية. (3) عشر البضائع التي ترد من بربر إلى أم درمان. (4) أثمان العبيد الذين يرسلون من المديريات. (5) محصول أكثر البواخر والسفن. أما خرج بيت مال الخليفة فمحصور في نفقات منزله الخصوصي.
شكل 3-55: خارطة الخرطوم وأم درمان في زمن التعايشي.
بيت مال ورشة الحربية:
ويشبه خزينة الحربية عندنا دخله من: (1) غلة جنائن الخرطوم. (2) محصول بعض السواقي بجوار الخرطوم. (3) العاج الوارد من خط الاستواء. وخرجه من: (1) نفقات البحرية. (2) نفقات الترسانة ويسمونها بيت الأمانة. (3) استخراج ملح البارود وتنقيته. (4) نفقات معمل الأسلحة.
بيت مال ضابطة السوق:
وهي خزينة الضابطة دخله من أموال السكيرين والمقامرين التي يحكم التعايشي بضبطها ومن ضريبة الحوانيت . وأما نفقاته فعلى ما يأتي: (1) رواتب الضابطة من الأنفار والضباط. (2) نفقات بيت الضيافة وهو ليعقوب أخي عبد الله التعايشي. (3) نفقات بناء السور الكبير لأم درمان.
هذه هي أقسام المالية من الدخل والخرج أما المقادير التي تدخل وتخرج فلا تتيسر معرفتها.
شكل 3-56: عبد الله التعايشي يقطع النيل ويحرض رجاله علي القتال.
النقود والتجارة
لما قام المهدي بدعوته ووفق إلى فتح المديريات استولى على خزائنها وأموال أهلها فكان ينفق مما وصل إلي يديه من ذلك وهي النقود الدارجة في السودان على عهد الحكومة الميرية، أهمها الريال المجيدي والريال أبو مدفع، فلما اتسعت مملكته ونفدت تلك الأموال أخذ في ضرب النقود باسمه أشار عليه بضربها أحمد ولد سليمان فضرب نقودا فضية شبيهة بالريال المصري نشرنا رسمها وجنيهات شبيهة بالجنيهات المصرية. ولكنهم لم يكونوا يضبطون المقادير اللازمة من كل معدن منها. وكان الذهب قليلا بين أيديهم فكفوا عن ضرب الجنيه وأكثروا من ضرب النقود الفضية فضربوا منها ضربات عديدة تعرف بأسماء خاصة بها منها «ريال المهدي» وهذا أحسنها كلها ومنها «مقبول» و«أبو سدر» وكلاهما من ضرب القيرافوي. و«أبو كيس» وعليه رسم رمحين متصالبين. و«العملة الجديدة». على أنهم أخذوا ينقصون مقدار الفضة بالنسبة إلى النحاس شيئا فشيئا حتى صارت نسبة الفضة إلى النحاس كنسبة 2 إلى 5 وكانت في بادئ الرأي 7 إلى 1 أي أن الريال كان يحتوي سبعة أجزاء من الفضة وجزءا من النحاس وهو ريال المهدي فصار يحتوي جزءين من الفضة وخمسة من النحاس وذلك دليل على فقر السودان وفساد حكومته. على أن دار ضرب النقود كان يتخذها كبار الدراويش تجارة يكتسبون بها أموالا طائلة لأنها تعطى حكرا أو ضمانة، ومن قوانينها أن يرأسها اثنان معا يدفع الواحد منهما ستة آلاف ريال كل شهر وما يضربانه من النقود يجب أن يكون مقبولا لدى التجار وغيرهم فإذا اعترض أحد على صحتها أو تمنع عن قبولها فعقابه الجلد أو سلب الأموال. فالريال صار يستبدله تجار أم درمان بثمانية ريالات من العملة الجديدة ويستبدلون الريال أبا مدفع بخمسة ريالات فاضطروا ملافاة لما يلحقهم من الخسارة بهذه المعاملة أن يرفعوا أثمان بضائعهم حتى بلغ ثمن شقة البفتة الزرقاء التي يصطنعون منها ثياب النساء ستة ريالات وكان ثمنها على عهد الحكومة المصرية ثلاثة أرباع الريال. وأصبح رطل السكر (الرطل 144 درهما) بريالين. ومن الغريب أن غلاء الأثمان قاصر على البضائع الواردة من مصر أما ما يجلب من السودان فأثمانه بخسة بالنسبة إلى تلك؛ فالجمل مثلا يساوي ستين ريالا والبقرة مائة ريال وأردب الذرة ستة ريالات والخروف خمسة ريالات فأكثر.
قواته
وأما قواته ومقدار ما كان عنده من الذخيرة والمئونة قبيل ذهاب دولته فمعظمها من المشاة حملة السيوف والرماح، وعددهم 46000 ومن الخيالة 6600 ومن العساكر الجهادية 34350 وجملة ذلك نحو مائة ألف وخمسة آلاف مقاتل وعدد الأسلحة 74 مدفعا و40350 بندقية، هذه قوات التعايشي الرسمية ولكنها كانت تتضاعف بما ينضم إليها من القبائل القائمة بنصرته.
القضاء
كان القضاء منوطا عندهم بالقضاة وكبيرهم يسمى «قاضي السلام» وجميعهم آلات صماء بيد التعايشي، فلا يصدرون حكما إلا كما يوحيه هو إليهم ما خلا القضايا الطفيفة من الأحوال الشخصية وما شاكلها فقضاة الدراويش بهذا الاعتبار بين جاذبين قويين ضميرهم والأحكام الشرعية من جهة وإردة التعايشي من جهة أخرى وهاك أسماء قضاة أم درمان عام 1895. (1)
حسين ولد زهرة من قبيلة الجعالين. (2)
سليمان ولد الحجاز من قبيلة الحجماب. (3)
حسين ولد قيسو من قبيلة الحمر. (4)
أحمد ولد حمدان من قبيلة العراقين. (5)
عثمان ولد أحمد من قبيلة البطاحين. (6)
عبد القادر ولد أم مريم وكان قاضي كلا كلا على عهد الحكومة المصرية. (7)
محمد ولد المفتي وهو قاضي المواد الجزئية بين الملازمين.
وهناك قضاة آخرون للقبائل الغربية إذا حضروا الجلسة لا يصدرون حكما بل يبدون رأيهم. أما شيخ الإسلام فهو حسين ولد زهرة المتقدم ذكره أول القضاء تلقى الفقه في مدرسة الجامع الأزهر وهو أعلم أهل السودان كافة مع الميل إلى العدالة، وكثيرا ما أصدر أحكاما تنطبق على مقتضى الشريعة الغراء وتخالف إرادة التعايشي فأصبح التعايشي غير راض عنه تمام الرضى وقلما يدعوه لحضور الجلسات.
وأساس الأحكام عندهم الشريعة الإسلامية وتعاليم المهدي التي أشرنا إليها في كلامنا عن أوصاف المهدي وتعاليمه، ويزعمون أن هذه التعاليم إنما وضعها المهدي لإحياء ما كاد يندثر من أحكام الشريعة الغراء بالإهمال. وأهم تلك التعاليم الاعتقاد بأن محمد أحمد هو المهدي المنتظر حقيقة ومن شك في ذلك فعقابه القتل.
وواجبات قاضي الملازمين الحكم فيما يعرض بين الملازمين أو بينهم وبين عامة الناس وفي الحالة الثانية فالحق دائما في جانب الملازمين. وهناك قاضيان ملحقان ببيت المال ينظران في القضايا المتعلقة بالأحكام الشرعية من جهة بيع الرقيق وشرائه. وعندهم قاض يقيم في السوق ليحكم في الأمور الطفيفة التي تعرض هناك. (ظ) فتح أم درمان وذهاب دولة الدراويش
شكل 3-57: كتشنر باشا بعد فتح أم درمان.
تلك حال حكومة الدراويش سنة 1896 ثم توالى عليها النحس، وجندت الحكومتان المصرية والإنكليزية لقهرها بحملة مختلطة من الإنكليز والمصريين بقيادة السردار كتشنر باشا، وجرت في أثناء الطريق من حلفا إلى الخرطوم وقائع قاسى فيها الجند مشاق عديدة، من جملتها واقعة الأتبرة وفيها قبضوا على الأمير محمود ابن عم التعايشي، وقيد أسيرا كما ترى في شكل
3-58
مع نحو 2000 من رجاله وما كان معهم من الغنائم، واستعد السردار من هناك للزحف على أم درمان.
وبلغ التعايشي ذلك فجمع ذوي شوراه، فأشار عليه بعضهم بالهجرة فغضب وأمر بضرب ذلك الناصح وقال: «إني محارب حتى أقتل.» وأمر بالتحصين وبناء الطوابي لاتقاء نيران مدافع العدو التي ستطلق عليهم من النيل، ولم يجده ذلك نفعا فإن الجنود المتحدة وصلت أم درمان في 2 سبتمبر سنة 1898، وخرج التعايشي لملاقاتها، وبعد ثلاث هجمات متوالية اضطر التعايشي للفرار بعد أن يئس من الفوز، وتحقق أن أخاه يعقوب قد مات. واحتل الجند المتحد أم درمان ورفعوا عليها الرايتين المصرية والإنكليزية، ولما علم السردار بفراره بعث في أثره كوكبة من السواري، ومعهم سلاطين باشا برا وأرسل مدرعتين بحرا فعادوا ولم يدركوه.
شكل 3-58: الأمير محمود بن عم التعايشي وهو أسير.
وفي اليوم التالي استولوا على أوراق الخليفة وكتبه من بيته . وأمر السردار بنسف قبة المهدي ونبش قبره، وبعثت الجمجمة إلى معرض التحف في لندن وبعثرت سائر عظامه، ثم قصدوا بيت يعقوب أخي الخليفة وكانوا يظنون المال فيه فلم يجدوا شيئا، وتحققوا بعدئذ أن بعض رجال يعقوب لما تحققوا موته أتوا وخلعوا الأبواب وأخذوا الأموال، ثم ذهبوا إلى بيت المال فلم يجدوا فيه ما يستحق الذكر إلا 200 قنطار عاج. ثم ذهبوا إلى سجن الخليفة، وأطلقوا من كان فيه من المساجين وكلهم من موظفي الحكومة وعددهم نحو 1400 رجل بين ملكي وعسكري.
وبعد قليل نزل السردار كتشنر باشا إلى مصر، ونال على هذا الفتح مكافأة جزيلة وسمي لورد الخرطوم ورقي الكولونيل ونجت بك مدير قلم المخابرات إلى رتبة لواء، وسمي إدجوتنت جنرال للجيش المصري. وحاولوا القبض على التعايشي عبثا وكانوا كلما طلبوه من مكان فر إلى سواه حتى علم ونجت باشا في أواخر سنة 1899 أن التعايشي يتحفز للهجوم على أم درمان، وعلم بمكانه فحمل عليه وحاربه في جديد حتى قتل في 24 نوفمبر من تلك السنة، وقتل معه الخليفة علي ولد حلو وأحمد فضيل والسنوسي أحمد أخو الخليفة من أمه وهارون محمد أخوه وغيرهم، وغنموا ما كان معهم من الذخيرة والأموال وانقضت بذلك دولة الدراويش.
وصارت السودان من ذلك الحين تحت سيطرة الدولتين الإنكليزية والمصرية، وسنذكر نص الوفاق في كلامنا عن ولاية سمو الخديوي الحالي. (6-5) عود إلى ولاية توفيق باشا
قد فرغنا من الكلام على الحوادث السودانية إلى آخرها وإن تجاوزنا زمن الخديوي السابق رغبة في ترابط الحوادث، فلنعد إلى ما كان من أحوال مصر بعد ما ذكرناه على أثر الحوادث العرابية ونفي العرابيين فنقول: أول شيء باشرته إنكلترا بعد قهر العرابيين وإعادة السيادة إلى الجناب الخديوي، أنها أنفذت اللورد دوفرين معتمدا من قبلها لتسوية المسائل المصرية وتنظيم تقرير بشأنها، ولم يكن ذلك برضا الباب العالي. وأخذ اللورد دوفرين منذ وصوله إلى القاهرة يجتمع بالخديوي والوزراء، ويتداول معهم في المسائل التي يجب النظر فيها بعد أن درس أحوال البلاد، وبحث بنفسه عن الأمور التي كان عازما على وضعها. ثم حرر تقريره المشهور وأرسله إلى لندن في 6 فبراير سنة 1883م بحث فيه بحثا دقيقا في حالة مصر السياسية والقضائية والمالية، ودقق على الخصوص بديون الفلاحين، ثم شرع الإنكليز في إلغاء المراقبة الإنكليزية الفرنساوية للانفراد بالعمل، فكبر ذلك على فرنسا ولكنها لم تستطع أمرا يمنع إلغاءها، فألغيت وجعل في مكانها بأمر الحضرة الخديوية موظف مصري دعوه مستشارا ماليا، وله الحق أن يحضر في جلسات مجلس النظار، فتعين السير أوكلاند كولفن في هذا المنصب. (أ) إصلاحات جديدة
وفي أول مايو سنة 1883 صدر الأمر العالي بتشكيل المجالس الجديدة وغيرها على هذه الصورة:
مجالس المديريات:
مجلس في كل مديرية ويكون لها أن تقرر رسوما فوق العادة لصرفها في منافع عمومية تتعلق بالمديرية، إنما لا تكون قراراتها في هذا الشأن قطعية إلا بعد تصديق الحكومة عليها.
مجلس شورى القوانين:
وفائدته النظر في القوانين التي تسن حديثا قبل نشرها ولا يجوز إصدار قانون أو أمر يشتمل على لائحة إدارة عمومية ما لم يتقدم ابتداء إلى هذا المجلس لأخذ رأيه فيه. وإن لم تعول الحكومة على رأيه فعليها أن تعلنه بالأسباب التي أوجبت ذلك إنما لا يترتب على إعلانه بهذه الأسباب جواز مناقشة فيها.
شكل 3-59: اللورد دوفرين.
الجمعية العمومية:
وهذه لا يجوز ربط أموال جديدة أو رسوم على منقولات أو عقارات أو عوائد شخصية في القطر المصري إلا بعد مباحثة الجمعية العمومية في ذلك وإقرارها عليه.
مجلس شورى الحكومة:
صدر الأمر بتشكيله وتأجل بيان أعماله.
ثم شرعت الحكومة في تنظيم الجيش المصري الجديد بعدما ألغت الجيش القديم على ما تقدم، فانتخبت من الضباط من لم يكن له يد في الحوادث العرابية، وأخذت بعد ذلك في تنظيم الجندرمة والبوليس، وجعلت السير أفلن وود قائدا عاما للجيش المصري وباكر باشا قائدا للجندرمة والبوليس، فكان عدد الجندرمة 2000 فارس و3000 ماش، ثم تعين الجنرال السير أفلن وود سردارا للجيش المصري ورئيسا لأركان حربه، فاختار لمساعدته عددا من الضباط الإنكليز، جعلهم في أركان حربه وعهد إليهم قيادة الفرق لتعليمها الحركات العسكرية.
شكل 3-60: مختار باشا الغازي.
ثم نظمت المجالس المحلية ووضع لها قوانين عادلة، وتعين لها رجال يقبضون على أزمتها وقد انصرف إليها هم اللورد دوفرين، فتشكلت لجنة تحت رئاسة فخري باشا لانتقاء اللائقين الذين يجب انتخابهم ليعهد إليهم بالعمل والإدارة، واهتم مجلس النظار في مسألة القضاة الأوروبيين فقررت لجنة التعديل أن يكون في كل مجلس ابتدائي أوروبيان وفي الاستئنافي أربعة. وفي 8 شعبان سنة 1300ه/14 يونيو سنة 1883م صدر الأمر الخديوي بترتيب هذه المحاكم ولائحة قوانينها. ثم صدر الأمر الخديوي بكل من القانون المدني والتجارة البرية والبحرية والمرافعات وتحقيق الجنايات.
ثم أشارت إنكلترا على مصر بعد تبديد جيش هيكس باشا بإخلاء السودان. فقبلت ولم يقبل شريف باشا رئيس وزارتها فاستعفى وخلفه نوبار باشا في 8 يناير سنة 1884، وتكاثرت الإشاعات على أثر ذلك عن مقاصد إنكلترا بمصر وكثر القيل والقال، حتى بين رجال إنكلترا أنفسهم. ثم عقد مؤتمر دولي في يونيو سنة 1884 في لندن تحت رئاسة اللورد غرانفيل ناظر خارجية إنكلترا للبحث في أمور كثيرة تتعلق بمصر، فقرر تعديلات كثيرة انتهت بلا نتيجة فلا حاجة إلى ذكرها.
وفي ذي القعدة سنة 1301ه/أوائل سبتمبر سنة 1884م وفد على القطر المصري اللورد نورثبروك معتمدا من إنكلترا للنظر في المسألة المالية وأحوال الإدارة الداخلية مستصحبا معه القاضي الهندي سميع الله خان، بناء على رغبة اللورد في انتخاب قاض مسلم يصحبه إلى مصر ويكون شريكا له في هذه المهمة، فتحدث الناس كثيرا بسبب قدوم هذا المعتمد. أما هو فأخذ في ملاحظة ما أتى من أجله وطاف البلاد شمالا وجنوبا. وبعد أن قضى أياما طوالا عاد إلى بلاده وحرر تقريرا رفعه إلى حكومته، فلم يحز قبولا فنسجت عليه عناكب النسيان.
وعاد الباب العالي إلى الاحتجاج على الاحتلال الإنكليزي، وبعد المخابرة مع إنكلترا تم الاتفاق في أكتوبر سنة 1885م على إرسال مختار باشا الغازي معتمدا عن الدولة العلية في مصر وأن ترسل إنكلترا معه معتمدا اسمه السير وولف. فجاء مختار باشا وما زال مقيما إلى عهد قريب احتجاجا حيا على الاحتلال الإنكليزي . (ب) النقود المصرية الجديدة
شكل 3-61: النقود المصرية الجديدة.
ثم اهتمت الحكومة بإصلاح نقودها بإنشاء نقود جديدة، وما زالت المسألة تحت البحث إلى أواخر سنة 1885م، فصدر أمر عال بتاريخ 7 صفر سنة 1303ه أو 14 نوفمبر سنة 1885م مؤذن بضربها. وفي أواخر سنة 1887م ظهرت وتداولتها الأيدي وهي مبنية على حساب الكسور العشرية تسهيلا للمعاملة. وكيفية ذلك أنهم جعلوا قيمة الجنيه المصري مائة غرش كما كان قبلا وقسموه إلى ألف جزء دعوا الواحد منها مليما؛ أي جزء من ألف. فالمليم هو جزء من ألف من الجنيه المصري، والغرش عشرة مليمات والريال مائتا مليم (عشرون غرشا) وهكذا. والجنيه وأجزاؤه مصنوعة من الذهب، والريالات وأجزاؤها من الفضة والمليم ومركباته إلى أبي العشر مليمات من النيكل. وقسموا المليم إلى نصفين يعرف الواحد منهما بنصف عشر الغرش، وقسموا كلا من هذين القسمين إلى نصفين يعرف الواحد منهما بربع عشر الغرش؛ أي جزء من أربعين من الغرش وهي البارة، وجميع أجزاء المليم مصنوعة من النحاس.
وترى في شكل
3-61
مثال النقود المضروبة حديثا وهذه القطعة تعرف بنصف ريال وقيمتها عشرة غروش أو مائة مليم. وترى على أحد وجهيها من الأسفل تاريخ سنة 1293ه وهي السنة التي تولى بها السلطان عبد الحميد الخلافة العثمانية. ومن الأعلى رقم عشرة وهي السنة العاشرة من توليته وفيها ضربت هذه النقود. وترى على الوجه الآخر الطغراء العثمانية باسم عبد الحميد وإلى أسفلها رقم عشرة تحته حرف ش للدلالة على قيمة هذه القطعة أي عشرة غروش.
أما قيم النقود الأجنبية بالنسبة للنقود المصرية فعلى الوجه الآتي:
النقود الأجنبية
بارة
غروش صاغ
أو مليما
الليرة الإنكليزية تساوي
20
97
975
الليرة العثمانية تساوي
30
87
877,5
الليرة الفرنساوية (فانتي)
06
77
771,5
ومتى عرفت قيم الليرات يمكنك استخراج قيم أجزائها.
وفي السنة التالية (15 أبريل سنة 1886) قررت الحكومة المصرية اقتضاء ضرائب المنازل من الأجانب كما كانت تقتضيها من الوطنيين. وكان الأجانب معفين منها إلى ذلك الحين. (ج) وفاق بشأن الجلاء
وفي 17 ربيع آخر سنة 1304ه أو 13 يناير سنة 1887م ألح الباب العالي على الحكومة الإنكليزية أن تعين زمن إنجلاء جيوشها عن القطر المصري. فأجابت أنها لا يمكنها ذلك إلا متى استتب النظام فيها. وفي 3 فبراير تقرر أن يكون جيش الاحتلال منحصرا في ثلاثة مراكز فيقيم في القاهرة 2900 جندي وفي الإسكندرية 900 وفي أسوان 4000. وفي 15 جمادى الأولى أو 9 فبراير اقترح السير وولف معتمد إنكلترا في الأستانة على الباب العالي الاقتراحات الآتية بما يتعلق بمصر وهي: (1)
استقلال مصر تحت سيادة جلالة السلطان وإلغاء العهود والامتيازات القنصلية. (2)
أن تكون حالة مصر من قبيل الحياد على مثال حالة بلجيكا. (3)
حرية المرور في قتال السوس في زمني الحرب والسلم. (4)
إخلاء إنكلترا للقطر المصري بعد أن تجمع الدول على وجوب ذلك.
فتلقى جلال السلطان هذه الاقتراحات بفتور وطلب أن يتقدم كل ذلك تحديد إنكلترا زمن الجلاء. وبعد النظر في هذه الاقتراحات مدة يومين رفضت.
و25 رجب سنة 1304ه أو 19 أبريل سنة 1887م توفي شريف باشا رئيس مجلس النظار سابقا وهو في أوروبا يسعى في ترويح النفس فأسف الجميع على فقده وحملت جثته إلى مصر ودفنت فيها.
وفي 11 شعبان أو 5 مايو منها عرضت إنكلترا على الباب العالي أن يكون زمن احتلالها لمصر خمس سنوات، فطلب الباب العالي أن يكون ثلاث سنوات ولم يتقرر شيء. وفي أوائل يونيو عرض على الباب العالي وفاق بينه وبين إنكلترا بشأن مصر وهاك نصه: (1)
تبقى مصر كما هي حسب نصوص الفرمانات السلطانية. (2)
يبقى خليج السويس على الحياد وتضمن الدول سلامة مصر. (3)
تبقى العساكر الإنكليزية في مصر مدة 3 سنوات وعند انقضائها يلبث الضباط الإنكليز في رئاسة الجيش المصري سنتين. (4)
لا تخرج إنكلترا عساكرها من مصر بعد ختام السنة الثالثة من التوقيع على الوفاق إذا حدث اضطراب جديد في مصر داخليا كان أم خارجيا. (5)
يحق لإنكلترا احتلال مصر بمساعدة العساكر العثمانية إذا وقع اختلال بها أو خشي أن ترسل دولة أجنبية عساكرها إلى مصر. (6)
تستدعي الدولة العلية وإنكلترا بقية الدول للتصديق على هذا الوفاق وتطلبان من الدولة إجراء بعض التعديلات في المعاهدات الدولية المخولة للأجانب في مصر جملة امتيازات.
وبعد المخابرات الطويلة بشأن هذا الوفاق رفض الباب العالي المصادقة عليه .
وفي 9 يونيو سنة 1888 سقطت الوزارة النوبارية وعهد الخديوي بتشكيل وزارة جديدة إلى رياض باشا، والناس ما فتئوا منذ اعتزال رياض باشا الأعمال بعد حادثة عرابي يشخصون إليه بأبصارهم، وقد أحاطت به آمالهم لما اشتهر به من الحب للشعب المصري ورغبته في إصلاح البلاد، ولما له من الولع الخاص بالزراعة وهو مشهور بذلك شهرة تضاهي شهرته في حب العلم وتنشيط ذويه. ومن مبادئه حرية الضمير والصرامة في اتباع الحق من حيث هو. وكثيرا ما قاده ذلك إلى التنحي عن قبول منصب الوزارة في الأحوال التي كان يخشى معها تقييد أفكاره ومخالفة مبادئه. فعندما سقطت الوزارة النوبارية لم يكن الناس يصدقون أن رياض باشا يقبل أن يشكل وزارة جديدة. فلما أنبأهم البرق بجلوسه على دستها وتقلده أعمال نظارتي الداخلية والمالية كادوا يطيرون على أجنحة الآمال، وتطاولت أعناقهم استطلاعا لما سيكون من أمر هذه الوزارة الجديدة.
وفي أيام وزارته أنشئت المحاكم في الصعيد وتم ترميم القناطير الخيرية. وقد أدار شئون الحكومة بحزم وصدق نية لكنه أغضب كثيرين، واضطر إلى الاستقالة في 24 مايو سنة 1891، فخلفه مصطفى باشا فهمي، وظلت مقاليد الوزارة في قبضته حتى تولى الخديوي الحالي. (7) عباس باشا حلمي الخديوي الحالي (ولد سنة 1874 وتولى العرش الخديوي سنة 1892)
شكل 3-62: عباس باشا حلمي الخديوي الحالي. (7-1) حياته الشخصية
هو بكر الخديوي السابق، ولد في 14 يوليو سنة 1874، ولما توفي والده سنة 1892 كان سموه - أعزه الله - في مدرسة فينا. وكان قبل ذهابه إليها قد تثقف في مدرسة عابدين التي شادها والده له ولدولة شقيقه البرنس محمد علي. فلما أتما دروسهما فيها أرسلهما والدهما إلى مدرسة جنيف بسويسرة فمكثا فيها مدة يجدان في تحصيل العلوم. ثم برحاها إلى فينا وانتظما في مدرستها الملوكية العليا. وفي أثناء إقامتهما في تلك المدرسة استأذنا والدهما المرحوم بالتجول في أنحاء أوروبا لاستطلاع أحوال تلك المدنية من مصادرها، فزارا ألمانيا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا وفرنسا، ولقيا من ملوك هذه المماليك ترحابا حسنا وزارا الممالك الأخرى.
وفي سنة 1889 عادا إلى مصر واستأذنا والدهما المرحوم في زيارة معرض باريس لذلك العام، فأجابهما إلى ذلك فلقيا هناك ترحابا جميلا وعادا إلى المدرسة. وفي سنة 1891 عادا إلى مصر في أثناء راحة المدرسة ثم رجعا إلى المدرسة في فينا. وفي 8 يناير من السنة التالية عام 1892 جاءهما النبأ البرقي بوفاة الخديوي السابق، فأصبح سمو أكبرهما مولانا الأمير خديويا على مصر من ذلك اليوم. ثم جاءته رسالة الصدر الأعظم بتثبيته على ذلك العرش، فأسرع إلى مقر حكومته فوصل الإسكندرية في 16 يناير المذكور، فاحتفل القطر بقدومه احتفالا يليق بمقامه.
واشتهر سمو الخديوي بانعطاف المصريين إليه أكثر مما إلى كل خديوي سواه لما يلاقونه من دعته ولطفه وصدق محبته لهم. ويمتاز عصره عن عصور سائر أسلافه بنهضة الأقلام، واتساع نطاق الصحافة وإطلاق حرية المطبوعات وتكاثر المطابع والجرائد والمجلات والمكاتب، وسائر عوامل النهضة العلمية.
وهو أوسع الخديويين اطلاعا على أسباب المدنية الحديثة؛ لأنه تثقف في مدارس أوروبا مع كثرة أسفاره إليها وإلى الأستانة. ولد ولي عهده البرنس محمد عبد المنعم في 20 فبراير سنة 1899، وقد عهد بتعليمه وتثقيفه إلى شكري باشا وهو من أحسن العارفين بما يقتضيه منصب أمير مصر من الأصول والقواعد التي يجب أن يروض بها ولي العهد.
وقد سافر سموه إلى الحرمين سنة 1327ه/1909 لقضاء فريضة الحج، فبرح موكبه القاهرة في 29 ذي القعدة سنة 1327 / 11 ديسمبر سنة 1909، فوصل جدة في 14 ديسمبر وحلت ركابه في مكة فزار مناسك الحج وأدى فرائضه، وكان موضوع الاحترام والإعجاب حيثما حل، ثم يمم المدينة فأدى الزيارة وبرحها في 15 يناير سنة 1910، فوصل مصر في 25 منه فزينت له العاصمة زينة لم يسبق لها مثيل. (7-2) الوزارات في أيامه
وقد تقلب في أيام سموه وزراء هذه أسماء رؤسائها وتاريخ تشكيلها:
وزارة مصطفى باشا فهمي تشكلت
في 14 مايو سنة 1891
وزارة رياض باشا تشكلت
في 18 يناير سنة 1893
وزارة نوبار باشا تشكلت
في 14 أبريل سنة 1894
وزارة مصطفى باشا فهمي تشكلت
في 11 نوفمبر سنة 1895
وزارة بطرس باشا غالي تشكلت
في 10 نوفمبر سنة 1908 *
وزارة محمد سعيد باشا تشكلت
في 21 فبراير سنة 1910 *
يمتاز تاريخ بطرس باشا غالي من تواريخ سائر وزراء مصر أنه مات مقتولا عمدا بيد شاب اسمه إبراهيم الورداني تربص له وهو خارج من النظارة في رابعة النهار وأطلق عليه عدة رصاصات مات على أثرها ثم حوكم القاتل وقتل.
وكل ما أجرته حكومة مصر على عهد الجناب الخديوي إنما جرى على أيدي وزرائه شأن الحكومات الدستورية الكبرى مع ما تقتضيه حالة مصر السياسية من قبول مشورة المحتلين بلسان عميدهم. وكان العميد في أول حكم سمو الخديوي اللورد كرومر.
شكل 3-63: اللورد كرومر.
وما زال اللورد كرومر في هذا المنصب إلى 6 مايو سنة 1907 فأبدلته إنكلترا بالسير الدون غورست. وفي زمن اللورد كرومر تمكن نفوذ الإنكليز في مصر وكثر نوابهم في الحكومة المصرية وهم المستشارون. ولا تخلو نظارة من مستشار أو وكيل فضلا عن المفتشين والمهندسين والقضاة ورؤساء المصالح ومديريها وغيرهم. فأعمال الحكومة المصرية يجريها الوزراء باسم الجناب الخديوي، وبمصادقة سموه ومشورة الإنكليز. وتسهيلا لتفهم الأعمال التي تمت على عهد سموه نقسمها إلى أبواب نبحث في كل منها على حدة فنقول: (7-3) الأعمال السياسية
نريد بهذا الباب ذكر ما جرى في زمن الجناب الخديوي، مما يتعلق بالدول الأخرى، وليس هو من قبيل إدارة البلاد الداخلية. وأول تلك الأعمال تحديد تخوم مصر في الفرمان الشاهاني. فقد صدر الفرمان المذكور في 27 شعبان سنة 1309 أو 26 مارس 1892، وفيه اختلاف عن الفرمان الصادر للمرحوم توفيق الخديوي السابق، من حيث حدود مصر الشرقية عند شبه جزيرة سينا. فدارت المخابرات بين وزارة خارجية إنكلترا والباب العالي بهذا الشأن حتى أصدر الصدر الأعظم ملحقا تلغرافيا يخول الحكومة المصرية فيه إدارة شبه جزيرة سينا مؤرخا في 8 أبريل من تلك السنة، وهذا نص الفرمان المذكور بعد المقدمة:
فرمان الخديوي الحالي
إنه لدى وصول توقيعنا الهمايوني الرفيع يكون معلوما لكم أنه بناء على ما قضى به الله من انتقال جنتمكان محمد توفيق باشا خديوي مصر إلى رحمته تعالى، وإعلاما بجليل التفاتنا ونظرا إلى حسن خدامتكم وصداقتكم واستقامتكم لذاتنا الشاهانية، ولمنافع دولتنا العلية، ولما هو معلوم لدينا من أن لكم وقوفا ومعلومات تامة بخصوص الأحوال المصرية، وأنكم كفء لإصلاحها؛ وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المبينة في الفرمان الشاهاني الصادر بتاريخ 2 ربيع الثاني سنة 1257ه، والمبينة أيضا في الخريطة الملحقة بالفرمان المذكور مع الأراضي المنضمة إليها طبقا للفرمان الشاهاني الصادر بتاريخ 15 ذي الحجة سنة 1281ه، وذلك بمقتضى إرادتنا الشاهانية الصادرة في 7 جمادى الثانية سنة 1309ه؛ ولأنكم أكبر أولاد جنتمكان الخديوي المتوفى؛ وجهت إلى عهدتكم الخديوية المصرية توفيقا للقاعدة المقررة بالفرمان الشاهاني الصادر في 12 محرم سنة 1283ه، القاضي بأن الخديوية المصرية تئول إلى أكبر الأولاد البكر فالبكر.
ولما كان تزايد عمران الخديوية المصرية وسعادتها وتأمين راحة أهليها ورفاهيتهم هي من المواد المهمة لدينا. ومن أجل مرغوبنا ومطلوبنا كنا وجهنا فرمانا شاهانيا لتحقيق هذه الغاية الحميدة بتاريخ 19 شعبان سنة 1296ه إلى جنتمكان والدكم بتوليته الخديوية المصرية، وضمناه المواد الآتية:
إن جميع إيرادات الخديوية المصرية يكون تحصيلها واستيفاؤها باسمنا الشاهاني، وحيث إن أهالي مصر أيضا من تبعة دولتنا العلية وإن الخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة الملكية والمالية والعدلية، بشرط أن لا يقع في حقهم أدنى ظلم ولا تعد في وقت من الأوقات. فخديوي مصر يكون مأذونا بوضع النظامات اللازمة الداخلية المتعلقة بهم وتأسيسها بصورة عادلة. وأيضا يكون خديوي مصر مأذونا بعقد وتجديد المشارطات مع مأموري الدول الأجنبية بخصوص الجمرك والتجارة، وكافة أمور المملكة الداخلية لأجل ترقي الحرف والصنائع والتجارة واتساعها، ولأجل تسوية المعاملات السائرة التي بين الحكومة والأجانب أو الأهالي والأجانب مع أمور ضابطة الأجانب بشرط عدم وقوع خلل بمعاهدات دولتنا العلية البوليتيقية، وفي حقوق متبوعية مصر لها، ولكن قبل إعلان الخديوية المشارطات التي تعقد مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي.
وأيضا يكون حائزا للتصرفات الكاملة في أمور المالية لكنه لا يكون مأذونا بعقد استقراض بوجه من الوجوه. وإنما يكون مأذونا بعقد استقراض بالاتفاق مع المداينين الحاضرين أو وكلائهم الذين يتعينون رسميا، وهذا الاستقراض يكون منحصرا في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصا بها. وحيث إن الامتيازات التي أعطيت لمصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خصت بها الخديوية، وأودعت لديها فلا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية للغير مطلقا، ويلزم تأدية مبلغ 750 ألف ليرة عثمانية الذي هو الويركو المقرر دفعه في كل سنة في أوانه، وكذلك جميع النقود التي تضرب في مصر تكون باسمنا الشاهاني، ولا يجوز جمع عساكر زيادة عن ثمانية عشر ألفا؛ لأن هذا القدر كاف لحفظ أمنية بلاد مصر الداخلية في وقت الصلح.
ولكن حيث إن قوة مصر البرية والبحرية مرتبة كذلك من أجل دولتنا يجوز أن يزاد مقدار العساكر بالصورة التي تستدعي فيها حالة دولتنا العلية محاربة، وتكون محاربة وتكون رايات العساكر البرية والبحرية والعلامات المميزات لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم. ويباح لخديو مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية إلى غاية رتبة أميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية. ولا يرخص لخديوي مصر أن ينشئ سفنا مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية.
ومن اللزوم المحافظة على كل الشروط السالفة الذكر واجتناب وقوع حركة تخالفها، وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها قد أصدرنا أمرنا هذا الجليل القدر الموشح أعلاه بخطنا الهمايوني وأرسلناه.
تحريرا في 27 شعبان المعظم سنة 1309 من هجرة صاحب العزة والشرف
وهذا تلغراف الصدر الأعظم المتمم له:
معلوم لدى جنابكم العالي أن جلالة مولانا السلطان الأعظم كان قد صرح للحكومة المصرية بوضع عدد كاف من الجند بجهات الوجه، والمويلح وطابا والعقبة الواقعة على شواطئ الحجاز، وكذلك في بعض جهات من شبه جزيرة طور سينا؛ بسبب مرور المحمل المصري من طريق البر.
ولما كانت جميع هذه الجهات غير مبينة أصلا في خريطة سنة 1257ه المسلمة إلى جنتمكان محمد علي باشا المبينة بها الحدود المصرية؛ لذلك أعيد الوجه أخيرا إلى ولاية الحجاز بمقتضى إرادة شاهانية كما أعيد إليها طابا والمويلح، وضمت العقبة كذلك الآن إلى الولاية المذكورة. أما من جهة شبة جزيرة طور سينا فهي باقية على حالتها، وتكون إدارتها بمعرفة الخديوية المصرية بالكيفية التي كانت مدارة بها في عهد جدكم إسماعيل باشا ووالدكم محمد توفيق باشا. ا.ه. (أ) حدود مصر من الشرق
شكل 3-64: خريطة الحدود بين مصر والشام.
ثم وقع خلاف في أواخر سنة 1906 على تلك الحدود الفاصلة بين مصر والشام، وبعد مداولات طويلة بين مصر والباب العالي اتفق الجانبان على تعيين لجنة ينتدبها الباب العالي، وأخرى تنتدبها مصر. وقد انتخبت اللجنتان واجتمعنا على الحدود وأقرتا على اتفاقية رسمية مؤرخة في أول أكتوبر سنة 1906، وهذا نص موادها المتعلقة بالحدود وصورة الخريطة التي رسمت لإيضاح ذلك:
المادة الأولى:
يبدأ الخط الفاصل الإداري كما هو مبين بالخريطة المرفقة بهذه الاتفاقية من نقطة رأس طابا الكائنة على الساحل الغربي لخليج العقبة ويمتد إلى قبة جبل فورت مارا على رءوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا ثم من قمة جبل فورت يتجه الخط الفاصل بالاستقامات الآتية: من جبل فورت إلى نقطة لا تتجاوز مائتي متر إلى الشرق من قمة جبل فتحي باشا ومنها إلى النقطة الحادثة من تلاقي امتداد هذا الخط بالعامود المقام من نقطة على مائتي متر من قمة جبل فتحي باشا على الخط الذي يربط مركز تلك القمة بنقطة المفرق (المفرق هو ملتقى طريق غزة إلى العقبة بطريق نخل إلى العقبة) ومن نقطة التلاقي المذكورة إلى التلة التي إلى الشرق من مكان ماء يعرف بتميلة الردادي والمطلة على التميلة (بحيث تبقى التميلة غربي الخط) - ومن هناك - إلى قمة رأس الردادي المدلول عليها بالخريطة المذكورة أعلاه ب
A3
ومن هناك إلى رأس جبل الصفرة المدلول عليه ب
A4
ومن هناك إلى رأس القمة الشرقية لجبل أم قف المدلول عليها ب
A5 ، ومن هناك إلى نقطة مدلول عليها ب
A7
إلى الشمال من ثميلة سويلمة ومنها إلى نقطة مدلول عليها ب
A8
إلى غرب الشمال الغربي من جبل سماوي، ومن هناك إلى قمة التلة التي إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة (وهو بئر في الفرع الشمالي من وادي مايين بحيث تكون البئر شرقي الخط الفاصل) ومن هناك إلى
A9 ، ومنها إلى
A10
غربي جبل المقراة، ومن هناك إلى رأس العين المدلول عليه ب
A11 ، ومن هناك إلى نقطة جبل أم حواويط مدلول عليها ب
A12
ومن هناك إلى منتصف المسافة بين عامودين قائمين تحت شجرة على مسافة ثلاثمائة وتسعين مترا إلى الجنوب الغربي من بئر رفح والمدلول عليه ب
A13
ومن هناك إلى نقطة التلال الرملية في اتجاه مائتين وثمانين درجة (280) من الشمال المغناطيسي (أعني 80 درجة إلى الغرب) وعلى مسافة أربعمائة وعشرين مترا في خط مستقيم من العامودين المذكورين، ومن هذه النقطة يمتد الخط مستقيما باتجاه ثلاثمائة وأربع وثلاثين درجة (334) من الشمال المغناطيسي (أعني 26 درجة إلى الغرب) إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط مارا بتلة خرائب على ساحل البحر الأحمر.
المادة الثانية:
قد دل على الخط الفاصل المذكور بالمادة الأولى بخط أسود متقطع في نسختي الخريطة المرفقة بهذه الاتفاقية والتي يوقع عليهما الفريقان ويتبادلانها بنفس الوقت الذي يوقعان فيه على الاتفاقية ويتبادلانها.
المادة الثالثة:
تقام أعمدة على طول الخط الفاصل من النقطة التي على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى النقط التي على ساحل خليج العقبة بحيث إن كل عامود منها يمكن رؤيته من العامود الذي يليه وذلك بحضور مندوبي الفريقين.
المادة الرابعة:
يحافظ على أعمدة الخط الفاصل هذه كل من الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية.
المادة الخامسة:
إذا اقتضى في المستقبل تجديد هذه الأعمدة أو الزيادة عليها فكل من الطرفين يرسل مندوبا وتطبق مواقع العمد التي تزاد على الخط المدلول عليه في الخريطة.
المادة السادسة:
جميع القبائل القاطنة في كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عاداتها؛ أي إن القديم يبقى على قدمه فيما يتعلق بذلك وتعطى التأمينات اللازمة بهذا الشأن إلى العربان والعشائر وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل.
المادة السابعة:
لا يؤذن للعساكر الشاهانية والجندرمة بالمرور إلى غربي الخط الفاصل وهم مسلحون.
المادة الثامنة:
تبقى أهالي وعربان الجهتين على ما كانت عليه قبلا من حيث ملكية المياه والحقول والأراضي في الجهتين كما هو متعارف بينهم. انتهى. (ب) اتفاقية السودان
قد تقدم في كلامنا عن الحوادث السودانية أن السودان استرجع سنة 1897 بحملة مؤلفة من الجندين الإنكليزي والمصري فاقتضى ذلك أن يكون للدولتين معا. وقد وضعتا وفاقا بهذا الشأن وقعت عليه الحكومتان في 19 يناير سنة 1899 هذا نص مواده: (1)
تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي:
أولا:
الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882.
ثانيا:
الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة وفقدت منها وقتيا ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد.
ثالثا:
الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدا. (2)
يستعمل العلم البريطاني والعلم والمصري معا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان ما عدا مدينة سواكن فلا يستعمل فيها إلا العلم المصري فقط. (3)
تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد يلقب «حاكم عموم السودان»، ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية. (4)
القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون المعمول به والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان أو تقرير حقوق الملكة فيه بجميع أنواعها وكيفية أيلولتها والتصرف فيها يجوز سنها أو تحريرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنا تحوير أو نسخ أي قانون أو أية لائحة من القوانين أو اللوائح الموجودة.
وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة وإلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي. (5)
لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر العالية أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدا إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها. (6)
إن المنشور الذي يصدره حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يصرح للأوروبيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو السكنى بالسودان أو تملك ملك كائن ضمن حدوده لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أو دول. (7)
لا تدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية. إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن، أو أي مينا آخر من مواني ساحل البحر الأحمر لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج. ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن. (8)
فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان ولا يعترف بها فيه بوجه من الوجوه. (9)
يعتبر السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام العرفية ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام. (10)
لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصلاتات بالسودان ولا يصرح لهم بالإقامة قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية. (11)
ممنوع منعا مطلقا إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن. (12)
قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ 2 يوليو سنة 1890 فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها. ا.ه.
تحريرا بالقاهرة في 19 يناير سنة 1899
الإمضاءات
كرومر
بطرس غالي
وشرف سمو الخديوي السودان سنة 1902 وزار الخرطوم فقوبلض بالاحتفاء والإعظام وتلا في سراي الخرطوم خطابا بمعنى الرضى عن حالة السودان، وهذا رسم سموه وهو يتلو الخطاب.
شكل 3-65: الجناب الخديوي يتلو خطابه أمام سراي الخرطوم. (ج) الوفاق الإنكليزي الفرنساوي
ومما يعد من قبيل الأعمال السياسية بمصر الاتفاق الذي عقد بين إنكلترا وفرنسا في 8 أبريل سنة 1904، فهو ذو شأن في سياسة مصر؛ لأن فرنسا اعترفت فيه باحتلال إنكلترا مصر وأطلقت يدها فيها، وهذا نص الفقرة المتعلقة بذلك من الاتفاق المذكور:
تصرح حكومة جلالة الملك (إنكلترا) أنها لا تنوي تغيير حالة مصر السياسية. وتصرح حكومة الجمهورية الفرنساوية أنها لا تعيق عمل بريطانيا العظمى في مصر بطلب تحديد زمن الاحتلال الإنكليزي، أو بأي أسلوب آخر. (7-4) الأعمال الإدارية
يصعب تحديد ما جرى من الإصلاحات الإدارية في عهد الجناب الخديوي، ولكن يقال بالإجمال إن معظم ما تم في زمن الاحتلال من الإصلاحات تم في عهد سموه. استهلت حكومته - أعزه الله - بإلغاء السخرة، وكانت المخابرات جارية بشأنها من قبل، وقد صدرت عدة أوامر عالية تتعلق بها حتى صدر الأمر القاضي عليها في 28 يناير سنة 1892، وقد صدر بهذه المادة: «تلغى السخرة في كامل أنحاء القطر المصري.»
وصدر أمر سموه في هذا التاريخ بإلغاء الضرائب التي كانت قد وضعت على الصنائع.
وفي أيام سموه ألغي نظام البوليس الذي كان متبعا في زمن الخديوي السابق بأمر عال صدر في 3 نوفمبر سنة 1894، ووضع النظام الحالي بناء على لائحة رفعها المرحوم نوبار باشا. وفي ظل سموه عدلت الضرائب بأمر عال صدر في 10 مايو سنة 1899.
وفي أيامه ألغيت الضرائب التي كانت على السفن المسافرة في النيل بأمر عال مؤرخ في 29 نوفمبر سنة 1900، وألغيت الدخولية وهي الضرائب التي كانت الحكومة تتقاضاها على الخضار والفاكهة ونحوهما، مما يدخل المدن فألغيت من أول سنة 1903، وألغي احتكار الملح في أول سنة 1906 وفي عهد سموه صفيت حسابات الدائرة السنية وبيعت البواخر الخديوية.
ومن الأمور الإدارية التي تمت في عهد سموه النفي الإداري الذي قررته الحكومة من عهد غير بعيد وقد أفاد كثيرا. (7-5) الأعمال الزراعية
شكل 3-66: قناطر أسيوط. تمثيل النيل وخزاناته من الجنوب إلي الشمال (أ) القناطر الخيرية في رأس الدلتا. (ب) خزان أسيوط. (ج) خزان أسوان . (د) جزيرة قبلي وفيها خرائب أنس الوجود. (ه) الهويس الذي تسير به السفن.
إن الأعمال الزراعية التي شرعت بها الحكومة المصرية على يد مصلحة الري من أوائل عهد الاحتلال، لم تظهر ثمارها إلا في عهد الجناب العالي فبعد أن كانت مساحة الأطيان الزراعية أقل من خمسة ملايين فدان ناهزت سبعة ملايين. وكانت البقاع التي تزرع قطنا عند ولاية سموه نحو 900000 فدان، فصارت نحو 1500000 فدان. وكانت غلة القطن سنة 1891 نحو 4600000 قنطار فصارت في العام الماضي نحو سبعة ملايين قنطار. وأخذت تتحول ملكية الأرض إلى الفلاحين، وكان عدد مالكي الأطيان في أول ولاية سموه نحو 750000 إنسان، فأصبح عددهم 1356000 نفس. ولا يخفى ما يدل عليه ذلك من توزع الثروة بين الناس. وفي أيامه أنشئت مدرسة الزراعة وصارت هذه الصناعة تعلم قانونيا. وأنشئت المعارض الزراعية، وتألفت الشركات الزراعية والبنك الزراعي والنقابات الزراعية.
ومن المشروعات الزراعية قناطر أسيوط وهي على 250 ميلا جنوب القاهرة تولت إنشاءها للحكومة شركة السير جون إيرد وشركاه، بدأت فيها في شتاء عام 1902، وانتهت منه في ربيع سنة 1908، وهي كالقناطر الخيرية شكلا ولكنها تمتاز عنها بأن القناطر الخيرية مبنية من القرميد وهذه من الحجر. طول قناطر أسيوط 833 مترا وعددها 111 قنطرة عرض كل قنطرة خمسة أمتار عليها أبواب من الحديد. وعلو القناطر من قاع النهر إلى السطح 12 مترا ونصف متر، وثخانتها عند القاعدة 26 مترا ونصف متر وثخانتها عند السطح سبعة أمتار وثمانون سنتيمترا. والغرض من هذه القناطر إصلاح الري مدار السنة في مصر الوسطى والفيوم؛ لأنها إذا أقفلت أعاقت جري الماء فيرتفع نحو ثلاثة أمتار فوق ارتفاعه الاعتيادي، فيزيد مساحة الأراضي الزراعية نحو 300000 فدان تروى من ترعة الإبراهيمة. ولقناطر أسيوط هويس لمرور السفن طوله 80 مترا وعرضه 16 مترا.
شكل 3-67: خزان أسوان.
أما خزان أسوان فهو أعظم مشروعات الري، تولت إنشاؤه الشركة المذكورة في أوائل سنة 1899، وانتهى في أواخر سنة 1902، مواده من حجر الغرانيت والسمنت والحصى. وبلغ وزن ما كانوا ينجزون عمله في اليوم الواحد 2600 طن. طوله 2000 متر. ويمتد من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي ، وعلوه يختلف من 20 مترا إلى 40 باختلاف عمق قاع النهر. وثخانته عند قاعدته 25 مترا وثخانة أعلاه أو هو عرضه من فوق 7 أمتار. وفي جدار الخزان 180 فتحة هي نوافذ عليها الأبواب من الحديد تختلف سعتها باختلاف مواضعها، منها 140 نافذة مسطح الواحدة منها 14 مترا. وأربعون نافذة مسطح الواحدة منها سبعة أمتار.
وقد وصفنا كيفية استخدامه في السنة 11 من الهلال. (7-6) النهضة المالية
إن النهضة المالية التي حصلت في زمن سموه لم يسبق لها مثيل من عهد بعيد. فتكاثر الذهب وأثرى الناس وتوسعوا في أسباب العيش ولا سيما في أواسط العقد الأول من هذا القرن بارتفاع أثمان الأرضين، فتألفت الشركات المالية العقارية والبنائية لاستثمار أرض البناء والأطيان الزراعية. ولولا تورط الناس في المضاربة لسلمت مصر من رد الفعل الذي أحدث الأزمة المالية منذ بضع سنين. ومع ذلك فإن ثمار النهضة المالية لا تزال باقية وهي ظاهرة في الحكومة، وفي الأمة وفي الأسواق التجارية وفي كل شيء كما يتضح ذلك من المقابلة.
فميزانية الحكومة المصرية كانت سنة 1892 نحو عشرة ملايين جنيه، فأصبحت الآن نحو 16 مليونا. وكانت الواردات التجارية سنة 1892 قيمتها أقل من عشرة ملايين جنيه، فزادت في أثناء النهضة المالية على 26000000 جنيه، وبلغت في السنة الماضية نحو 23500000 جنيه ، وكانت الصادرات 13500000 جنيه، فصارت نحو 29000000 جنيه، وقد تكاثر إنشاء بنوك الصيرفة وأهمها البنك الأهلي أنشئ سنة 1898 ورأسماله 2500000 جنيه، والبنك الزراعي أنشئ سنة 1902 ورأسماله خمسة ملايين جنيه وغيرهما.
ومن دلائل الثروة تكاثر الأبنية واتساع المدن. وهذه القاهرة قد تضاعفت مساحتها مرارا عما كانت عليه قبلا حتى كادت تتصل بضواحيها. غير ما أنشئ فيها بأثناء هذه النهضة من الأبنية الفخيمة والقصور الباذخة. وعمرت الضواحي وأنشئ بضواحيها بلد جديد لا مثيل له في سائر أقطار العالم نعني واحة عين شمس.
واستحدث في أيام سموه بنك اقتصادي في مصلحة البوسطة المصرية منذ بضع سنوات، بلغ عدد الذين أودعوا نقودهم فيه إلى آخر العام الماضي نيفا و89000 نفس، وبلغ مقدار ما أودعوه 357000 جنيه استعانوا بها على أمورهم. (7-7) النهضة العلمية والحركة الفكرية
إن الحركة العلمية التي حدثت بمصر في أثناء العشرين سنة الأخيرة ظاهرة كالشمس بما أنشأته الحكومة، أو ساعدت على إنشائه من الكتاتيب والمدارس في أنحاء القطر، أو بما أدخلته من التعديل في طرق التعليم، وخصوصا من حيث اللغة العربية. فقد كانت هذه اللغة يكاد يقضى عليها في المدارس المصرية، فانتعشت الآمال بإحيائها فأخذت الحكومة في إرجاع التدريس إليها، وانبثت روح التعليم في أنحاء القطر، وكثر الساعون في إنشاء المدارس من أهل اليسار في الأرياف. هذا من حيث المدارس الابتدائية.
أما التعليم العالي فأهم ما حدث منه في هذا العصر مدرسة القضاء الشرعي والجامعة المصرية، وبذلت العناية في تحسين حال الأزهر وغيره من المدارس الكبرى. غير عناية الحكومة بالمعاهد العلمية كالمتحف المصري، والمتحف العربي ودار الكتب الخديوية.
ومن آثار الجناب الخديوي رأسا في خدمة العلم والهيئة الاجتماعية عنايته في فن التمثيل، فأوفد شابا (جورج أفندي أبيض) يتلقى هذا الفن على أربابه في فرنسا، وقد عاد سنة 1910 ومعه جوق مثل عدة روايات في الأوبرا الخديوية على سبيل التجربة. ولا تزال عناية سموه موجهة إلى تنشيط هذا الفن وإحيائه في اللغة العربية.
شكل 3-68: الشيخ محمد عبده.
وأكبر أدلة الحركة الفكرية ظهرت في الصحافة بما أطلقته لها الحكومة من الحرية، فتكاثرت الجرائد والمجلات في أيام سموه وتشعبت مواضيعها وتألفت الأحزاب السياسية على اختلاف أغراضها، ولكل منها جريدة أو غير جريدة تنطق بلسانه. وتألفت الشركات المالية لإنشاء بعضها. وكبر حجمها وظهرت صبغتها الوطنية وتنوعت مواضيعها وتألفت لها نقابة صحافية. ويقال بالإجمال إن الصحافة المصرية بلغت في هذا العصر أرقى ما بلغت إليه في سائر الأعصر
1
بما صارت إليه من التأثير في الأمة والحكومة. وقد رأيت أن الحكومة المصرية كانت قد قيدت الصحافة بقانون أنشأته سنة 1881 عرف بقانون المطبوعات، فهذا القانون أخذت الحكومة في إهماله رويدا رويدا بعد الاحتلال، وأصبح في عهد الجناب الخديوي في حكم الملغى عرفا. فرأت الحكومة بالعام الماضي (سنة 1910) أن تقيد المطبوعات لأسباب اقتضت ذلك، فوضعت قانونا جديدا هو تعديل القانون القديم.
ومن آثار الحركة العلمية أيضا إنشاء الجمعيات الأدبية والعلمية، وتأسيس الأندية الاجتماعية، وأهمها نادي المدارس العليا ونادي دار العلوم في القاهرة. ولا يكاد يخلو بلد من البلاد الكبرى من ناد أو جمعية على اختلاف مواضيعها.
واتفق في إمارة سمو الخديوي اضطراب أحوال المملكة العثمانية، والتغالب بين السلطان عبد الحميد وأحرار مملكته. فكانت مصر ملجأ الفارين من الظلم أو الطالبين للرزق من سائر الأمم.
ومن قبيل الحركة الفكرية في هذا العصر قيام نخبة من أدباء الشبان المسلمين للإصلاح الديني، وزعيمهم المرحوم الشيخ محمد عبده المصري المتوفى سنة 1905.
ومن هذا القبيل جنوح الناس إلى الحكم الدستوري، وارتفاع صوت الصحافة في طلب الدستور وتوسيع اختصاص الشورى.
وزاد تألف الجمعيات الخيرية في زمن سموه، وانتظمت نظارة الأوقاف وانصرفت عنايتها إلى حفظ الآثار وترميم المساجد وبناء المعابد والمستشفيات الخيرية آخرها المستشفى العباسي. وتضاعفت نفقات الأوقاف الخيرية على المبرات والإحسان. فكانت يوم تولي الأريكة الخديوية 8276 جنيها، فأصبحت للعام الماضي 65771 جنيها.
وبالإجمال فإن مصر بلغت في العصر العباسي الحالي ما لم تبلغ إليه في العصور الماضية، من حيث الرقي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري في ظل سمو الأمير أيده الله.
صفحة غير معروفة