ومنذ 12 ألف سنة كان الإنسان يعرف كيف ينثر البذر على الأرض، وكيف يحرثها ويدرسها ويحصدها ويستخلص حبوبها ويطحنها ويخبزها، مستعينا بحرارة الشمس، فلما عرف كيف يوقد النار كان يعدها في حفرة يضع فوقها العجين منشورا رقيقا جدا، ومستديرا لكي ينضج في سرعة وفي أقل العناء، ولعل هذا هو الأصل فيما نعرفه الآن من الرقاق، ومن المحتمل أن يكون الإنسان قد عرف الطحن قبل أن يعرف الزراعة؛ لأنه كان يحصل على الحبوب برية وحشية من إنتاج الأرض في غير زراعة أو غرس من أحد.
ويقال إن فكرة الزراعة؛ أي نثر الإنسان البذور بيده على الأرض، قد اقترنت بفكرة أخرى، هي التضحية بدم إنسان، وخاصة إنسانا محترما، له منزلة الإله أو الملك أو ابن أو بنت لأحدهما، وذلك حين يقبل موسم الزراعة، كما تحدث عن هذا السير چ. چ. فريزر في كتابه «الغصن الذهبي»، ولم يكن الإنسان قد عرف التقاويم ولا ما هي السنة، ولعله عرف الشهور القمرية من نظرته إلى السماء معجبا بالنجوم أو متخذا منها هاديا في سيره، ثم عرف تحديد المواسم الزراعية، وظهر بين مواطنيه السحرة والمنجمون ورجال الدين.
هذا ويطلق العالمان إيليوت سميث وريفرز اسم «الثقافة الهيليوليتيكية»؛ أي الشمسية الحجرية، على ما كانت هذه الجماعات والأمم الساذجة تعرفه منذ 12 ألف سنة أو 15 ألف على سواحل البحر المتوسط وغرب آسيا، وقد انتقلت جماعات من هؤلاء السكان إلى شرق الباسفيك ثم إلى أمريكا ممتزجين بالمنغوليين الذين جاءوا من الشمال، وقد زاد المهاجرون علما فعرفوا بناء المساكن والمعابد والأهرام والوشم والختان وتحنيط جثث الموتى وشيئا من الفلك، وقد ظهرت هذه الحضارة البدائية في المناطق المعتدلة والقريبة من الحارة من ستونهينج وإسبانيا إلى المكسيك وبيرو.
الفصل الحادي والعشرون
العواطف الجنسية
تلك الميول القائمة بين الإنسان والإنسان وبين الذكر والأنثى ، وبين الإنسان وبعض أنواع الحيوان، هذه كلها «عواطف»، على رأسها «العواطف الجنسية»، التي من عواقبها وثمارها الحب والزواج وما يدور بين العاشقين والزوجين من ألوان المخاصرة والمعانقة والقبلة، وبين الأقربين والأصدقاء من صلات المودة، وما يتفتق عن المجتمع الإنساني من حلقات الرقص ومجالس الطرب والموسيقى، وما ينبعث في النفس من آيات السرور والضحك، ومن أجل هذا أرصدنا هذا الفصل لكي نتحدث هنا عن العواطف. (1) الحب
الحب قديم جدا، فهو قائم على رنين ملحق بالجهاز الصوتي، وممتد إلى غور اليد ومعين الذكر على إيجاد منفس له إلى الصرخة المحبة المرددة الفاتنة للأنثى، التي ليس لديها هذا الجهاز، ومن هنا كانت قانعة، بأن تصغي إلى ذلك الصوت وهي بعيدة عن مصدره إلى أن يستولي عليها تأثيره المطرد فتستجيب إلى هذا النداء، أو قل هذه الأغنية؛ إذ إن ذكور جميع أنواع الحيوان ومنه الحشرات تتولى «الإذاعة»، أما إناثه فتصغي إليها، ويحدث مثل هذا في القردة العليا والإنسان؛ إذ تتبع الفتيات نداء الفتى وأغنيته، وفي السادسة عشرة؛ أي في سن البلوغ، تستيقظ الغدد الجنسية وتشرع في تأدية مهمتها، وتبرز مواد كيماوية «الهرمونات»، التي تمضي في مجرى الدم، فتتسع الحنجرة وتتأثر الأحبال الصوتية ويخشن الصوت، ويشعر الفتى البالغ بالحياء حين ينظر إلى الفتاة ويفكر في حبها، وتتسع حنجرتها قليلا.
ويؤدي هذا إلى أن يتبعها، جاهدا في الاستحواذ عليها، وفي الشعوب الهمجية يقترن هذا السعي باستعمال العنف، وقد تقاوم الأنثى إلى أن تستسلم من الإعياء. (2) الزواج
عندنا أن الزواج على الصورة التي نعرفها الآن لم يعرفه الإنسان البدائي، ذلك أن المفروض أنه لم يكن يعرف للأسرة نظاما ثابتا ولا للعلاقات الجنسية حرمة، وليس ببعيد أو بمستغرب أنه كان يتصل اتصالا جنسيا بأمه وجدته وأخواته وبناته وحفيداته، غير أن غريزة التملك والاستئثار قد هدته، على تعاقب الدهور والقرون، إلى الحرص، ولو إلى وقت قصير، على إحدى النساء باختطافها والهرب بها بعيدا عن مواطنيه ومساكنيه، خاصة حين يكون مرغوبا فيها من أنداده ولداته أو غيرهم.
ولقد كان الإنسان البدائي يعقد زواجه على من يشاء أو من يستطيع أن يقربه من النساء في غيرما تفريق بين الأقارب والأصهار كما قدمنا، فيقترن الرجل بأخته وابنته وأمه وحماته، وقد اقترن «آدم» بامرأة من ضلعه «حواء»، واقترن أولاده بأخواتهم، وتزوج «إبراهيم» من أخته لأبيه، واقترن أخوه «ناحور» بأخت أخيه «حارام» أو بابنة أخته، واقترن «يعقوب» بأختين معا، وكان الأثينيون يجيزون الاقتران بالأخوات لأب والاسبرطيون بالأخوات لأم، والمصريون والآشوريون بالإخوة والأخوات لأب أو أم.
صفحة غير معروفة