هذا وقد خطت اللغتان المصرية والسومرية هذه الخطوات مفيدتين من اتصالهما بأمم أخرى عاونت على اختراع الأحرف الهجائية، بعد أن نهلت من فيضهما، وعلى هذا كانت الحروف الهجائية الصحيحة في العالم ثمرة امتزاج الكتابة السومرية بالكتابة الهيروغليفية، أما في الصين فإن الكتابة التصويرية لم تتطور إلى الأحرف الهجائية.
وليس بعجيب أن يفضي اختراع الحروف الهجائية إلى تقدم الحياة الاجتماعية، وأن يكون من آثاره تدوين الاتفاقات وتسجيل القوانين والأوامر وصيرورة الدول أوسع رقعة وثقافة ويقظة، وأن تنقل أوامر الملك والقسيس وأختامهما إلى غير المكان الذي يقيمان فيه.
وكان السومريون يعنون بصنع الأختام ويتأنقون في زخرفتها، وكان الأشراف والتجار يبصمون بها على الوثائق المحفورة على الطين، فتبقى على الزمن لا تمسها يد العفاء، وفي بابل كانت الكتابة المسمارية هي كتابة سكان بابل؛ لأن حروفها تشبه المسامير شكلا. (3) الطباعة
كان الناس في بيروه القديمة في «أمريكا الجنوبية» يعبرون عما يقصدون في رسائلهم بعقد العقد في الحبال، وتلوينها بألوان ذات معان خاصة، ولا يزال بعض العامة في مصر يعقدون عقدة في المنديل إذا كانوا يخشون النسيان، وبعض الخبازين يحزون العصا حزوزا بمقدار الرغفان، أما السقاءون فيرسمون على باب المنزل خطوطا عريضة كل خط رمز للواحد.
كانت الصور في بداية الصناعة تدل على الفكرة، ثم أخذت تتطور حتى صارت تدل على الصوت المنطوق.
وأخذ التقدم يطرد إلى أن اخترع بعضهم حروفا تدل على الحركة في الكلمة، إذ أمكن بنحو 30 علامة أن تبين أصوات أية لفظة إنسانية، وهذه العلامات هي الحروف الهجائية، والأرجح أن الفينيقيين هم أول من استعمل هذه الحروف؛ لأنهم كانوا أمة تجارية يحتاجون إلى ضبط حسابهم.
وكان الناس يكتبون على مواد عديدة، فكان الآشوريون يكتبون على قوالب من الآجر، وكانت المنشورات الحكومية تكتب على الحجر أو البرنز، وقد استعمل للكتابة أيضا عظم اللوح من البقر والغنم والإبل، وكذلك استعمل الخشب المصقول، وبعض الصفائح المغطاة بالشمع وجلود الحيوان بعد تجفيفها وتلوينها وكانت تسمى رقوقا.
وكانت مصر في ذلك الوقت تستعمل البردي، وهو نبات قد زال الآن من مصر، ولكنه ينبت في بعض أنحاء السودان، وكان اليابانيون والصينيون يصنعون ورقا جيدا قبل الميلاد المسيحي، وكانوا يصنعونه من الخرق والكتان والقطن ولحاء بعض الأشجار، وكانت الكتب تصنع صنعا، فكان الكتاب قطعة ورق مستطيلة تلف حول أسطوانة وتكتب على وجه واحد فقط، وفي القرون الوسطى حدث بعض التطور؛ إذ صارت الكتب تؤلف من أوراق مربعة مكتوبة على الوجهين، وكانت تلصق معا وتوضع بين دفتين من الخشب أو الرق أو المعدن، وكان كثيرا ما يدعم الناس دفتي الكتاب بقضبان من الفولاذ، فكانت الكتب لذلك ثقيلة كبيرة الخطر على من يتناولها، فقد حدث أن سقط كتاب على بترارك الشاعر فأذاه أذى كبيرا في ساقه، وكان الناس يعتقدون أنهم يحمون الكتب بهذه الطريقة من اللصوص، وقد ثبت في سنة 1515 أن مكتبة البندقية التي كان أسسها الكردينال بيساربون قد فقد منها نحو 400 كتاب؛ أي نصف مجموع ما فيها؛ وذلك لأن المستعيرين لم يردوا ما استعاروه، ولما أراد لويس الحادي عشر أن يستعير من كلية الطب في باريس كتابا عربيا في الطب، رفض أمين المكتبة أن يسلم الكتاب إلا بعد أن أخذ كأسا من الفضة رهنا عليه، وبعد أن يحصل على ضمان رجال حاشيته في رد الكتاب.
ثم إن أدوات الكتابة قد تحسنت بعدئذ فكانوا يكتبون بريش الأوز ثم استعملوا الفرشاة ثم القصب ثم الحديد، وصار الحبر الأسود يستعمل دون غيره وخصص الحبر الأحمر لكتابة العناوين، وكان كاتب العنوان إخصائيا في صناعته لا ينتمي إلى طبقة النساخ الذين يكتبون صفحات الكتاب، ثم هبطت أسعار الورق وعمم استعماله بين الناس، فقد جاء الورق من قلب آسيا، فحمله العرب الذين كانوا وسيلة الاتصال بين الشرق والغرب إلى أوروبا، وقد انتشر بعد الحروب الصليبية في الأقطار المحيطة بالبحر المتوسط، وكانت الأندلس أحد مراكز صناعة الورق، وأقدم أنواع الورق هو الآن في الإسكوريال في إسبانيا، وفي سنة 1221 أمر الإمبراطور فريدريك الثاني موظفيه ألا يكتبوا القوانين على الورق، وإنما يكتبونها على الرقوق، وفي القرن الرابع عشر انتشرت معامل الورق في فرنسا، وقد كان الورق يصنع باليد إلا حيث كان يمكن إدارة المصنع بالماء المنحدر، وكان نسخ الكتاب الواحد يحتاج إلى عدد كبير من النساخ، وقد نسخ كتاب عن الرسوم الإكليريكية فاحتاج نسخه إلى 21 شهرا، فلو حسبنا ما نحتاج إليه من الوقت؛ لكي ننسخ 3000 كتاب مثله لبلغ 5250 سنة؛ ولهذا السبب كان اقتناء الكتب يعد من ضروب الترف ولا يقدر عليه إلا كبار الكهنة والأشراف.
وكان الذي أدى في النهاية إلى اختراع الطباعة الحديثة، كثير من المخترعات التقت معا في نقطة واحدة، فاختراع الطباعة لم يحدث دفعة واحدة، وإنما جاء خاتمة لمخترعات كثيرة جعلت وجوده في حيز الممكنات، وكان أول ذلك انتشار صناعة الورق ثم الطبع بحفر الخشب، فقد كانت لفظة «الطباعة» معروفة في هولندا قبل ظهور الطباعة الحديثة؛ وذلك لأنهم كانوا يطبعون الصور على ورق اللعب، عن أصل من المعدن أو الخشب، قد حفرت فيه الصورة بارزة، وكانت الصور الكبيرة تطبع على هذا النحو ويطبع معها بيتان أو ثلاثة من الشعر، وكان هذا الفن معروفا في كوريا قبل المسيح، وشاع استعماله في النصف الأول من القرن الخامس عشر في أوروبا.
صفحة غير معروفة