ولكن على الرغم من هذه التطورات التي طرأت على العقيدة البشرية، فإن جذور تلك الاعتقادات ما تزال باقية وما يزال قسم من البشر يحتفظ بأصول العقائد الأولى وبصفات التفكير القديم، قبل عصر الحضارات ومن هؤلاء الصابئة.
جاء في القرآن الكريم في سورة البقرة:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ، الآية، وقد ذهب المفسرون في تفسير كلمة «الصابئة» مذاهب شتى لا نرى داعيا للبحث فيها، غير أننا نقول إن الصابئة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية الشريفة قد انقرضوا، فأصبح من المتعذر علينا بيان معتقدهم بالتفصيل.
وذكر أصحاب كتب الملل والنحل نوعا من الصابئة دعوهم «الصابئة الحرانية»، فظن البعض أن هؤلاء القوم من الصابئة الأقدمين، وهذا وهم وضلال، فقد ذكر ابن النديم في الصفحة ال 320 من فهرسته «طبعة أوروبا» أن المأمون اجتاز في أواخر أيامه ديار مصر يريد غزو بلاد الروم فتلقاه الناس يدعون. وكان بينهم جماعة من الحرانية، وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية وإرسال اللحى، فأنكر المأمون ذلك عليهم وسألهم هل هم من المسلمين أو اليهود أو النصارى، فأجابوه بالسلب، فسألهم هل لهم كتاب أو نبي، فأجابوه سلبا، فأراد قتلهم مشيرا إلى أنهم أصحاب الرأس في أيام والده الرشيد، فأجابوه بأنهم يدفعون الجزية، فقال لهم: أنتم كفرة ملاحدة والجزية تؤخذ ممن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله في كتابه المجيد. وطلب إليهم أن ينتحلوا الإسلام دينا لهم أو دينا آخر من الأديان التي جاء ذكرها في القرآن، وأمهلهم إلى عودته من غزو الروم. ويقول ابن النديم إن الحرانيين خافوا على حياتهم، فأسلم بعضهم وقص البعض الآخر شعره وصاروا في ولولة واضطراب، وجاءوا شيخا من شيوخ حران يطلبون نجوة لهم وقدموا إليه النذور والدراهم، فقال لهم: إذا عاد المأمون من رحلته وسألكم عن دينكم فقولوا له: نحن الصابئة، والصابئة اسم لدين ذكره الله في كتابه.
ويزيد ابن النديم على ما تقدم قائلا: إن المأمون مات في سفره «218ه/833م»، ولكن المسلمين عقبوا خطته حتى جعلوا الحراني يتظاهر بالإسلام. فإذا تزوج وولدت له امرأته ذكرا جعله مسلما، وإن جاءت إليه أنثى جعلها حرانية أو صابئة بالمعنى الذي أراده الشيخ الحراني لخلاصهم؛ وخلاصة قول ابن النديم أنه لم يكن في حران يوم اجتاز المأمون ديار مضر لغزو الروم صابئة، وليست للحرانيين الذين خرجوا لاستقباله فجرى ما جرى لهم؛ أية صلة بالصابئة، وهذا هو المراد عندنا .
وقد ذكر المسيو هنري بونيون في كتابه تحت عنوان «الفرقة الدستائية»، وهي المندائية التي اشتهر بها الصابئة الحاليون ما مضمونه: إن صاحب هذه الفرقة كان متسولا، وقد جاء من بلاد ما بين الزابين - يريد الزاب الأكبر والزاب الأصغر، وهما من أنهار العراق المعروفة - إلى ميسان - يريد جنوبي العراق - وكان مسيحيا اسمه «دبدا» واسم أمه «أم كشطا»، ثم توطن ضفاف نهر القاردن في جنوبي البصرة الحالية، وأسس ديانة جديدة مأخوذا معظمها من المارقيونيين والمانويين والكنتيين وغيرها من الفرق الصابئية القديمة، ثم توسعت هذه الطائفة على مر السنين وسموا بالصابئة؛ أي المغتسلة؛ لأن جميع طقوسهم الدينية لا تتم إلا بالارتماس في الماء الجاري. ا.ه.
تعتقد الصابئة أن المخلوق الأول لله كان روحانيا يدعى «هيي قدمايا»؛ أي الحي القديم، وأن الله خلقه وخلق معه عوالم كثيرة مملوءة بالنفوس المقدسة. ثم خلق الحي الثاني أو المخلوق الثاني وهو «هيي تنيائي»، وخلق معه كذلك عوامل مقدسة لا تحصى، ثم خلق المخلوق الثالث وهو «هيي تليثائي»، وخلق معه ما خلق مع سابقيه، وأن هذه النفوس تنقسم قسمين: «أنزي»؛ أي عوام، و«ملكي»؛ أي ملوك. ثم خلق عوالم سبعة تدعى «آلمي دهشوخا»؛ أي عوالم الظلام، وهي تستمد نورها من الشمس، وسكانها عوام وملوك أيضا، وأرضنا من جملتها.
أما هيئة الأرض فيرونها بشكل مربع وأنها ثابتة غير متحركة، وهي مقامة على هواءين: أحدهما خارجي والآخر داخلي، وتحت الأرض ماء انبسطت عليه، وأما السماء فيعتقدون أنها مكونة من سبع طبقات وأن الشمس تقع في الطبقة الرابعة والقمر في السابعة. ويرون أن الأرض والسماء مركبتان من مادتين هما: النار والماء، وكذلك الكائنات الحية فهي كلها مركبة من هذين العنصرين. ويعتقدون أن الله بعد أن أتم خلق الأرض ، أنزلت الملائكة من عالم الأنوار الذي يسمونه «آبي دنهورو» بذورا للأشجار، وفتحت طريقا للهواء ولماء الحياة، وفتحت طريقا آخر للنور تستمد منه الشمس أشعتها لتنير بقية الكواكب بالواسطة.
يسمي الصابئة آدم «كوره قدمايه»، ويقولون إن الله أرسل جبرائيل ويسمونه «إبتاهيل» إلى الأرض ؛ ليخلق آدم على صورته فخلقه على صورته من التراب، وخلق من ضلعه الأيسر حواء، ثم أنزل الروح في جسمي آدم وزوجته، وعلم الملائكة آدم كل ما في الأرض، ثم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس، ويسمونه «هادبيشة» قائلا: خلقتني من نار وخلقته من تراب فكيف أسجد له؟ فطرده الله من الجنة ولعنه.
وضع الصابئة للعالم تاريخا قدره 5873095 سنة أسندوه إلى أساطير.
صفحة غير معروفة