تاريخ الماسونية القديم
الطور الأول: الماسونية1 العملية المحضة
من سنة 715ق.م-1000ب.م
كانت الماسونية في هذا الطور مقصورة على بناء الأبنية وما شاكلها، ولم يكن يقبل فيها إلا الذين يمارسون صناعة البناء بأنفسهم، ولا بأس إذا كانوا فوق ذلك على شيء من العلوم والآداب والفضيلة. على أنهم كثيرا ما كانوا يمارسون هذه الفضائل رسميا في اجتماعاتهم كما سترى. (1) مهد الماسونية ومؤسسها
إن مهد هذه الجمعية رومية، وأول اجتماع التئم تحت اسم البناية كان في سنة 715ق.م بأمر نوما بومبيليوس وتحت عنايته. وتفصيل ذلك أن رومية بعد موت بانيها «روملس» أصبحت في احتياج لمن يحكم فيها وينظم أحوالها، لا سيما وقد كان فيها من الأحزاب المتناظرة في طلب التبوء ما كان يخشى معه أن تنحط سطوتها، فتذهب فريسة المطامع والانقسام.
وبعد التداول في الأمر أقر السراة ورجال الدولة على أن يختاروا لهم ملكا من غير أبناء ملتهم، وأن يكون صابنيا.
وكان في ذلك العهد في صابنيا «من إيطاليا» رجل من الأشراف يدعى نوما بومبيليوس من الفضل والتقوى على جانب عظيم، وكان محبا للعزلة، كارها لما يسعى إليه الناس حبا بالسلطة والأثرة، عاملا على كبح شهواته، وكانت له زوجة تحب ما يحب وتكره ما يكره، فعاشا ثلاثة عشر عاما في «كورس»، ثم قضت نحبها فأسف نوما عليها كثيرا، فزاد كرها في الدنيا ورغبة في العزلة، فغادر المدينة وألف القفار وأوى إلى الكهوف، جاعلا نصب عينيه ألا ينفك عن التعبد والتقوى وتعديد صفات الآلهة، والتردد على الينابيع المقدسة.
فأقر الرومانيون على انتخابه ليحكم فيهم، فأنفذوا إليه اثنين من سراتهم ليبلغوه ما كان من إجماع الشعب على انتخابه، فقال لهم: «إني ممن يؤثرون هذا القفر على قصور رومية، فضلا عن أن السلطة - ولا سيما على الشعب الروماني - لمن الأمور الصعاب، فقد كان لي أن أعتبر بما صار إليه روملس وأنتم تعتقدون أنه سلالة الآلهة، فكيف بي وأنا رجل لم أعتد سياسة الملك، وربما إذا داهمكم سوء من عدو لا أقوى على دفعه، إنما أنتم في احتياج إلى رجل باسل اعتاد الغارات ودفع النازلات.» فأخذ الرسولان يستنهضان شعائره إلى إنقاذ رومية من نزاع الأمة، وأنه إذا فعل ذلك إنما يفعله إرضاء للآلهة التي اختارته، وما زالا على مثل ذلك حتى أجاب الطلب. فنهض للحال وذبح للآلهة ثم سار إلى المدينة، وذهب توا إلى رابية طاربيس ليستخير الآلهة، فجلس على حجر موليا وجهه الجنوب، وجعل على رأسه غطاء، ورئيس العيافة وراءه جاعلا يده اليمنى فوق رأسه مصليا، فنظر نوما إلى السماء متيمنا، فإذا ببعض الطيور مارة، فتفاءل الجميع واعتبروا ذلك دليلا على استحسان الآلهة ذلك الانتخاب، ثم سار نوما إلى البناء المعد له وأخذ في سياسة الملك وتوطيد الأمن، فوسع المدينة ومد أسوارها.
وكان هذا الملك يعتقد بإله واحد واجب الوجود غير متغير وغير منظور، ولا ريب أنه كان عضوا لإحدى الجمعيات السرية المقدسة في ذلك العهد، لأن مثل هذا الاعتقاد كان معدودا من التعاليم السرية لا يباح به إلا لمن يستحقه على ما مر بك. ويظهر من شدة التقوى والزهد اللذين كان عليهما نوما، أنه كان من المتعمقين في تلك الأسرار، ولعله كان من الكهنة العظام، ومما يؤيد ذلك أنه منع الرومانيين من تمثيل آلهتهم بصورة رجل أو بهيمة، وجعل قرابينهم محصورة في الخبز والعسل والخمر واللبن، ثم شاد المعابد ونظم الكهنة وأكثر من الاحتفالات الدينية، وبنى هيكلا للإله جانس رب الفطنة والتدبير، وأمر أن يغلق هذا الهيكل في أيام السلم ويفتح في زمن الحرب. وحرم الآباء حق التسلط المطلق على أولادهم بعد الإرشاد، واعتنى بأمر الحراثة اعتناء خصوصيا، فأقام لها دواوين خاصة بها، وفرض على الأهالي الاعتناء بها، وكان يعاقب الذين يهملونها.
ومما يهمنا ذكره هنا أنه جعل للصناعة في رومية شأنا مهما، فقسمها إلى حرف وطوائف، وجعل لكل حرفة تمثالا، وأعطى الجميع امتيازات، وسمح لكل طائفة أن تملك عقارا وأن تذخر مداخيلها في صناديقها تنفقها في سبيل احتفالات مقدسة تقيمها في أوقاتها. وكان في جملة تلك الطوائف طائفة البنائين، جعلها جماعات على نظام جماعات الديونيسيين الذين كانوا منتشرين قبل ذلك العهد بأجيال في سوريا ومصر وفارس والهند، وبنى لها مدارس مختصة بها دعاها «مدارس البنائين»، وعهد إليها وحدها بناء الهياكل الدينية، وما تحتاج إليه الدولة من القلاع والأسوار والمحلات العمومية. وجعل لهذه المدارس قوانين خصوصية وامتيازات لم تعط لغيرها، وجعل لها أن تضع شرائع لنفسها، وأن تقيم المعاهدات فيما بينها، وهي معافة من سائر أنواع الضرائب. وجعل على كل فئة من أولئك البنائين رئيسا دعاه «الأستاذ»، وتحته معاونون «منبهون» وكتبة وأمناء الخزنة وأصحاب الختم وغير ذلك. وكان لهم أطباء مخصوصون وخدمة من بينهم، وكانوا يفرقون الأعطيات شهريا، وكان عدد أعضاء كل مدرسة أو جمعية محدودا بحسب القانون ومعظمهم من اليونانيين. وكانوا يحافظون على أسرار صناعتهم وأشغالهم محافظة تامة، ويستعملون الرموز والإشارات، وكانوا يدعون بعضهم بعضا إخوة.
صفحة غير معروفة