وقد تقاسم الظافرون أراضيها وقام على أطلالها مملكتان كبيرتان وهما؛ مملكة الماديين ومملكة الكلدانيين، فأخذ سياكسار بلاد آشور الحقيقية وملحقاتها، وأما نابوبولاصر فقد جمع إلى ملكه على بابل سيادته على أرض الجزيرة والشام وفلسطين، بل قد زعم أنه يمد حدود ملكه إلى ما وراء برزخ السويس، واعتبر ملوك مصر تابعين لكلديا لأنهم كانوا تابعين لنينوي بضعة أعوام. (2) واقعة كركميش في سنة 605
فبعد أن تغلب على آشور كان أول همه استرجاع الأقاليم الشامية التي كان نخاو قد افتتحها منذ قليل، فجرد الكتائب وحشد الجيوش وأرسلها مع ولده نابوكومونوزور
1
ولم يذهب بها هو لأنه كان متوغلا في الشيخوخة، فلا يستطيع مباشرة القتال، وقد حصلت الموقعة في كركميش على التخوم قريبا من الفرات، وانهزم المصريون شر هزيمة فخسروا الشام كلها من جبال طوروس إلى حدود بلاد العرب الحجرية. وقد تقدم نابوكودونوزور في فتوحاته وانتصاراته فوصل إلى مدينة الفرما، وبينما كان على أهبة الدخول في أراضي الدلتا وإذا بنعي أبيه قد جاءه، فثبت مكانه وعقد محالفة مع نخاو خشية من أن يظهر ببلاد كلديا مناظر له يطالب بالملك، ثم عجل بالرجوع إلى بابل عن طريق الصحراء، وكان أمناء الديانة قد تولوا الأعمال وإدارة البلاد بالنيابة عنه؛ بحيث لم يكن عليه إلا أن يظهر في عاصمة بلاده ليبايعه الناس وينادوا به ملكا مطاعا نافذ الأمر. (3) فتوحات نابوكودنوزور
هذا الرجل هو بطل المملكة الكلدانية، والملك الوحيد الذي يصح أن تتباهى به بلاد كلديا وتجعله بإزاء الفاتحين الكبار من ملوك مصر وآشور وفارس ولولاه لم يكن لبابل في التاريخ ذكر إلا بالعلم والزخرف والصناعة، ولكنها اشتهرت بسببه في جميع أنحاء المشرق بما حازه من الانتصار وما ناله من الشوكة والاقتدار، وقد حافظ على السلم دواما، ومع الملوك الماديين سياكسار واستياج، ولكنه جالد الفينيقيين واليهود المصريين مجالدات طويلة.
وكان له من هذه الجهة مشابهة بما ناله ملوك آشور من قبله بقرن تقريبا، وقد علم الاختبار الفراعنة أن امتلاك منف وطيبة هو الغاية القصوى والغرض الوحيد الذي تطمح إليه أبصار الفاتحين من أهل آسيا، فإن «نابوكودونوزور » لما استولى على بلاد الشام كان يخشى منه دواما على مصر، كما كانت الحال مع سرجون وسنحاريب وآشوربانيبال؛ فلذلك كان من الواجب على ملوك العائلة السادسة والعشرين أن يفعلوا كما فعل الملوك الأتيوبيون الذين سبقوهم؛ فيعملوا على معاكسة الكلدانيين بأن يوغروا عليهم صدور أهل فينيقية ويهوذا وجميع الممالك الصغيرة التي ما زالت باقية إلى هذا العهد، ويثيروا فيهم روح البغض للكلدانيين ومجاهرتهم لهم به مجاهرة قليلة أو كثيرة، فلم ينفك نخاو (من سنة 605 إلى سنة 595) وإيريس (من سنة 589 إلى سنة 569) عن تقوية عزائم ملوك يهوذا وصور وموآب بالدسائس والدراهم؛ بل كانا في بعض الأحيان يعدانهم بأنهما يعززان جانبهم بالقوة والاقتدار ولكنهما لم ينجحا في منع سقوط أورشليم (سنة 589). ونفى قسم من اليهود على أن صور دفعت جميع هجمات الكلدانيين مع محاصرتهم لها مدة ثلاث عشرة سنة واعترفت فينيقية كلها بسيادة الفرعون إيريس مدة من الزمان (في حدود سنة 572).
نعم، إن أماسيس ما لبث أن فقد كل ما فتحه سلفه (في سنة 568 تقريبا) ولكنه عرف كيف يحافظ على مملكته ويجعلها في مأمن من هجوم الأعداء، وخلاصة القول أن نابوكودونوزور لم ينجح في توسيع نطاق سلطانه مثل ما اتصل إليه من قبله آشور أخي الدين أو آشوربانيبال مثلا، وقد حالت بلاد مادي في الشمال ومصر في الجنوب الغربي دون امتداد دولته على أن هذه المملكة الضيقة تدل أحسن من الدول الآشورية على ما نعنيه نحن اليوم بدولة عظيمة؛ فإن إدارة الأحكام فيها كانت بحسب الطريقة التي اتبعها تغلا ثفلاصر الثالث وسرجون قبل ذلك بأقل من قرن ونصف؛ أي إن شئون الحكومة تكون مباشرة في يد بعض قواد الفاتح المنتصر، وفضلا عن ذلك فإن هذه الطريقة صارت عامة وواضحة في جميع أنحاء الدولة أكثر مما في السابق. نعم إن جماعة من الأمراء الأخاذيين كانوا لا يزالون في أراضي كلديا، وكان كثير من المدائن أو القبائل حافظة لعائلاتها الملوكية ونظاماتها الدستورية، ولكن أغلب البلدان المفتتحة كانت عمالات حقيقية تحتلها الجنود، ويدير شئونها حكام يرسلون إليها من بابل. (4) أعمال نابوكودونوزور
بقي هذا الملك مشهورا في تاريخ الأزمان القديمة ببناياته العظيمة بقدر ما ذاع صيته بحروبه وانتصاراته، فإن بابل كانت لاقت شدائد وأهوالا من الآشوريين في القرن الذي سقطت بعده نينوي؛ وذلك لأن سنحاريب أمر بنهبها، وكذلك آشوربانيبال من بعده، وذلك بصرف النظر عن الحصار، والسلب الجزئي اللذين قاستهما أثناء الفتن المستديمة، فاستعمل نابوكودونوزور في ترميمها الأسارى العديدين الذين أسرهم في حروبه؛ حتى جعلها من أفخر مدائن الدنيا بأسرها (شكل
12-1 )، فكان في وسط المدينة البرج الهائل ذو الطباق السبع المعروف باسم زجورات المخصص للإله بعل، وفوقه تمثال هذا الإله، وهو من الذهب الإبريز، وارتفاعه أربعون قدما، ويرتقي إليه الإنسان على سلم يذهب في استدارة والتفاف.
شكل 12-1:
صفحة غير معروفة