فلم تكن ميادين قتالهم الحقيقية في هذه النواحي بل في كوماجين وفي آسيا الصغرى وبابل وعيلام والشام، فقد أعدم آشورنازرهابال ما كان قد بقي من شوكة الخيثي، وجالد سلمناصر ملكي دمشق بتهدد الثالث وحزايل، وظهر عليهما وأخذ الجزية من أكاب ملك إسرائيل.
وقد استجمع هؤلاء الملوك الآشوريون جميع الصفات اللازمة للمقاتلين والمجاهدين كأحسن ما يكون من قوة جسدية ونشاط وحذق وثبات جأش وشجاعة صادقة وبأس شديد ، فكانوا يجالدون بأنفسهم الأثوار الوحشية والآساد، وقد كانت كثيرة في تلك البقاع على أن هذه الفضائل الجميلة كانت تحف بها كل رذيلة ورذيلة. فكان أولئك الرجال سفاكين للدماء قد أشربت قلوبهم العنفوان والبهتان وانهمكوا في اللذات البهيمية، وتعمقوا في الختل والخداع والغدر والخيانة، واتصفوا بالكبرياء والقساوة. فكانوا أينما ساروا يهدمون المدائن ويحرقونها ويخوزقون من يعصاهم من الرؤساء أو يكشطون جلودهم وهم على قيد الحياة؛ فلذلك بقوا هم وأممهم متوغلين دواما في الهمجية والتوحش مع ما كان لهم من بهاء التمدن الخارجي ورونق الحضارة الظاهرية. (4) تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة 745-726ق.م)
ثم تقلص ظل دولتهم بعد الملك رامانيراري الثالث مدة قرن ونصف تقريبا، وضعفت مملكتهم حتى صارت منحصرة في أراضي آشور الحقيقية؛ حتى إذا جاء تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة 745 إلى سنة 726) أعادها إلى ما كان لها من رفعة الشأن، فإنه أخذ بابل ودمشق وعاث في أرض إسرائيل، ونقل أهاليها إلى بلاد آشور، وقد شرع في تخريب مملكة السمرة، واقتفى أثره في ذلك ابنه سلمناصر الخامس (من سنة 726 إلى سنة 721). وتم تدميرها على يد سرجون (في سنة 721ق.م) ولم يكن سرجون هذا من سلالة العائلة الملوكية مثل سلفائه الذين وليهم، فأسس عائلة جديدة وصلت آشور في أيامها إلى أوج الفخار ونهاية العز والاقتدار، وكان ملوك آشور إلى عهده يدركون معنى الفوز والانتصار بمثل ما يدركه فراعنة العائلة الثامنة عشرة؛ أي إن النصر هو عبارة عن سلب المغلوب كما يشاء الغالب، وضرب الجزية عليه، وأما بلاده فلا تدخل في حوزة المنتصر ولا تندرج ضمن مملكته. أما تغلا ثفلاصر الثالث وسرجون وخلفائهما فقد كان همهم استلحاق البلاد واستعمارها، فكانت الأقطار التي يرون فائدة في حفظها يخلعون العائلات الحاكمة فيها، ويضعون بها جنودا من الأسارى الذين أصلهم من بلاد بعيدة، ثم يعهدون بحكومتها إلى بعض من قواد الآشوريين، ويلزمون أهاليها بالخدمة العسكرية بحيث يجندون منهم في كل عام عددا معينا من الشبان، وكانت المدائن تدفع ضريبة معلومة من المحصولات ومن المعادن. (5) السرجونيون (721-606ق.م)
حكم سرجون مدة ست عشرة سنة قضى معظمها في حرب تكاد تكون واحدة، امتدت في أرمينية حيث قاومه الملك أورسا مقاومة عنيفة، وفي مادي والشام؛ حيث أخضع ممالك الخيثي وجعلها عمالات تابعة لمملكته، وفي فينيقية ويهوذا، حيث ردع الملك حزقيا عن الطموح إلى الجهاد والقتال. وقد أراد الملك سباقون الأتيوبي بعد تملكه على مصر أن يتداخل في أمور الفلسطينيين، فكسر سرجون جنوده في رافيا سنة 720. وكانت بلاد بابل أهم النقط التي تولى فيها الحرب والكفاح، وقد ظهرت في الوجود أمة جديدة هي أمة الكلدانيين؛ تألفت من اجتماع القبائل الآرامية القاطنة على مصاب نهر دجلة والفرات، وجعلوا لهم سيطرة على المدائن القديمة، بل إن أحد ملوكهم وهو ميروداخيالادان نجح في الاستيلاء على بابل، وكانت هذه الأمة ذات عزيمة وصلابة؛ جمعت بين الفضائل والرذائل التي امتازت بها في القدم أمم دجلة والفرات، وقد أوقع تغلا ثفلاصر بملكهم ميروداخيالادان (في سنة 732) ثم هزمه سرجون، مع أن عيلام كانت تساعده وتعاضده، فاضطر لأن يلتجئ إلى البطائح ويحتمي فيها. وحكم سرجون في بابل إلى أن أدركته المنية في سنة 705.
وقد حارب خليفته سنحاريب (من سنة 705 إلى سنة 681ق.م) أخصامه الذين أتينا على ذكرهم، فانتصر في أول الأمر على ميروداخبالادان (في سنة 703)، وعلى المصريين (في سنة 702)، ولكنه لم يقيض له الظفر بحزقيا، بل اضطر للعدول عن إخضاع مملكة يهوذا بعد أن خسر فيها جيشا بكيفية لا يعلم كنهها، ولا تعرف حقيقتها (في سنة 701) كما سبق لنا ذكرها، وبقيت مدة حكمه يتوالى فيها الجلاد مع ملوك عيلام وكلديا، وكانت نهاية ذلك الاستيلاء على بابل ونهبها. أما ولده أشرحدون (آشر أخي الدين) (من سنة 681 إلى سنة 668) فقد ظهر على العرب، وأخذ مصر من يد طهراق الأتيوبي (في سنة 272)، وأما حفيده آشوربانيبال (من سنة 668 إلى سنة 625) فقد خرجت مصر من يده، ولكنه انتصر على عيلام بعد أن احتدمت نيران القتال مدة عشرين سنة من الزمان (شكل
11-1 ) على أن جميع هذه الانتصارات أنهكت بلاد آشور، وأضعفت قوتها بدلا من أن تأتيها بالفائدة، فقد اتسع نطاقها بالسرعة لما كانت أخصامها عبارة عن قبائل هي بين الهمجية والمدنية، أو ممالك لا قوام لها ولا منعة فيها، وذلك في بلاد الشام وفلسطين وكلديا، ولكنها صارت من عهد سرجون واقفة بإزاء ممالك منتظمة تنظيما يشابه تنظيمها في الثبات ورسوخ القدم، وتوطيد الدعائم، وقادرة على مقاومتها، بل وعلى هزيمتها والانتصار عليها، فإن أرمينية ومصر وعيلام أوقفت سير كتائبها، وجعلت بينها وبين بقية العالم حجابا منيعا لم تتمكن قط من النفوذ منه، نعم إن سرجون وخلفاءه قد فازوا على ملوك هذه الدول الثلاث، ولكن ظفرهم كان وقتيا يمحوه في الغالب ما يحل بهم من الهزيمة والمصائب، وقد طردوا من مصر، ومن أرمينية، ونفذت قواهم بسبب انتصارهم في عيلام.
شكل 11-1:
آشوربانيبال - نقلا عن رسم بارز على حجر في المتحف البريطاني.
خلاصة ما تقدم (1)
إن بلاد آشور واقعة على ضفتي دجلة، والقسم الشرقي منها متوفرة فيه الثروة والري، وفيها ثلاث مدائن قديمة جدا وهي؛ نينوي وكلخ وأربله أما الكور الغربية فهي فقيرة قليلة الخصب، وقصبتها الآشور وهي أقدم المدائن الملوكية الآشورية. (2)
صفحة غير معروفة