وقد تجزأت هذه الولايات جملة مرات؛ حتى آل بها الأمر إلى أن صارت في الحقيقة كورا إدارية، ليس إلا، وكان عدد هذه الكور في العادة أربعة وأربعين، نصفها في الدلتا والنصف الآخر في الوادي، وكان القائم على رأس هذه الولايات زعماء يتولون الحكومة فيها بالوراثة، وقد حازوا في أيديهم جميع فروع السلطة من ملكية وعسكرية ودينية، ثم اتحد بعضها ببعض على توالي الأيام، وصارت كلها عبارة عن مملكتين متمايزتين؛ إحداهما مملكة الوجه البحري في الدلتا، والأخرى مملكة الوجه القبلي في الوادي؛ أي في حدود الفيوم إلى جبل السلسلة ثم إلى الشلال الأول.
وفي رواية لا تخلو غالبا من الصحة التاريخية أن منا أومينيس أحد عرفاء ولاية ثينيس، هو الذي حاز الشرف وأحرز الفخار بضمه المملكتين إلى بعضهما، وبتشييد دعائم الدولة المصرية عليهما، وكان ذلك في حدود سنة 5000 قبل المسيح. (3) الفرعون والكلام على العائلات: بحسب ترتيب مانيثون
كان الملك عند قدماء المصريين بمثابة ملكين اثنين في شخص واحد؛ لأنه كان سيد الوجه البحري وسيد الوجه القبلي. وأحب ألقابه لدى رعيته هو لفظة «فرعون» وهذا الاسم مشتق من اسم داريه الكبيرتين «بير-عوى» اللتين يتألف منهما قصره، وكل منهما رمز إلى إحدى مملكتيه. وكان من سلالة الآلهة مباشرة، ويدعو نفسه بابن الشمس؛ ولذلك كان له سلطة أحد الآلهة التي ليس لها حد تقف عنده، وكان القوم يقومون له في ظروف كثيرة بالتعظيم والإجلال على وجه هو أشبه بالعبادة منه بالتأدب المعتاد مع الملوك؛ فكانوا يبخرونه بالبخور ويهللون أمامه ويدعونه بدعوات دينية ويسجدون له ويقربون القربان إلى صوره وتماثيله ويتقربون إليها بالصلوات، فإذا مات قالوا «إنه طار ليلحق بقرص الشمس الذي هو جده»، وحينئذ يخلفه على سرير الملك أكبر أولاده، ويكون عادة من الذكور، ولكن الإناث كان لهن أيضا من حقوق الملك ما للذكور من غير فرق؛ فإذا انقرضت الذكور أو وقعت فتنة فقلبت دولتهم وأنزلتهم عن سرير الملك كان الفرعون الجديد يتزوج بمجرد ولايته بواحدة فأكثر من هذه الأميرات لتأتي بأولاد يكون بهم استمرار جنس الشمس في الوجود؛ ولذلك يؤكد المصريون بأن الذين حكموهم من مبدأ الأمر إنما هم أبناء عائلة واحدة توالت فروعها على عرش المملكة، فتكونت منها عائلات متوالية بمقدار عددهم، على أن المؤرخين منهم لم يتفقوا على عدد هذه العائلات ومدة حكمها وذلك لأن أحد هؤلاء المؤرخين وهو مانيثون
3
من سبنيطوس الذي كان في عصر بطليموس فيلادلف، وقد كتب لليونان تاريخ بلاده؛ قال إن عدد هذه العائلات واحد وثلاثون من عهد مينيس إلى أن افتتحها الإسكندر، وقد اختار الحديثون هذا التقسيم، ولو أنهم لم يقفوا على حقيقة أسبابه إلى الآن. وتمتاز كل عائلة عن الأخرى باسم البلد الذي خرجت منه، ولم تكن هذه العائلات سواء في الشوكة والاقتدار، ولكن المصريين كانوا يعتبرونهن كلهن متناسلات من الشمس تناسلا شرعيا صحيحا. وهذه العائلات تنقسم بالطبع إلى ثلاث طوائف تختلف مدة حكم كل منها عن الأخرى: (1)
فأقدمها وهي العائلة الأولى فالثانية إلى العاشرة قد حكمت في أيام كان مستقر الحياة السياسية والدينية فيها بالجزء من مصر الكائن في مدخل وادي النيل، وهذه هي الدولة القديمة أو العصر المنفي. (2)
وأما العشر عائلات التي جاءت بعدها فقد رفعت شأن الصعيد وأعلنت مكانته على الوجه البحري، فسمي عصرها بالعصر الطيبي، وقد أغارت الرعاة وهم العمالقة (العائلتان 15، 16) على أرض مصر في وسط ذلك العصر، فانقسمت الدولة إلى دولتين؛ وهما الدولة المتوسطة من العائلة العاشرة إلى العائلة الرابعة عشرة، والدولة الأخيرة من العائلة السابعة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين. (3)
ومن ابتداء العائلة الواحدة والعشرين كان لمدائن الدلتا الشأن والسيطرة على بلاد الصعيد، وكانت هي مقر الحكومة وفيها تصاريف السياسة في مصر، إلى أن أتاها المقدونيون وهذا هو العصر الذي حكمت فيه العائلة الصاوية. (4) الثلاث عائلات المنفية الأولى
لا يكاد يكون لدينا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنة 5000 وسنة 3500ق.م) وقد جاء في الروايات والنقول أن مينيس نظم مجرى النيل بجسور متينة مكينة فوق رأس الدلتا بقليل، وشيد على هذه الأرض المستحدثة مدينة منف أو منفيس واتخذها مقرا لحكومته، وعاصمة لمملكته، ولم يرد عن خلفائه إلا أحوال خصوصية وأشياء خوارق للعادات؛ مثل ظهور غرنوق له رأسان، والطاعون الجارف، وقحط توالى سبع سنين، وانفجار هوة عميقة على مقربة من مدينة بوباسطة ابتلعت كثيرا من الناس. ولذلك لا يمكن للإنسان إلى اليوم أن يحكم على معظم ملوك العائلتين «الأوليين الطيبيتين» هل كان لهم مسمى في عالم الوجود حقيقة أو أنهم من اختراع الوهم والخيال.
على أن الاسفنكس
صفحة غير معروفة