أوضح الأب شارل ليون روبن، الذي ترجم من الإنجليزية مؤلفا عن مشفى بيت لحم (بدلام) للمجانين بلندن،
17
أن «فن شفاء المجانين لا يزال في مهده». لا بد من الاهتمام بدراسة «معنويات المرضى» غالبا أكثر من الاهتمام بصحتهم الجسدية، ومتابعة أي فكر تطرأ على بالهم أو أي استدلالات منطقية، وتمييز اللحظات والمناسبات التي تنقطع فيها هذه السلسلة الفكرية، و«علينا أن نكتشف أي شعور عنيف من شأنه إحداث فوضى واضطراب، وأن نعرف كيف نتقرب من وجهات نظرهم وأذواقهم وأهوائهم؛ بحيث يتسنى لنا دائما إخضاع إرادتهم وإجبارها على الرضوخ، والسيطرة على مشاعرهم وأفكارهم وتأملاتهم [...] هذا الفن المجهول هو ما سيحث المختل عقليا بشكل تدريجي ودون أن يشعر على معرفة الأفكار والاستدلالات المنطقية التي تزعجه وتسبب له تشويشا واضطرابا.»
انضم جوزيف داكين (1757-1815) - محب للأعمال الخيرية وعضو بالجماعة الماسونية، وطبيب غامض من شامبيري - إلى هذا التيار حين نشر في عام 1791 «فلسفة الجنون». العنوان وحده بمنزلة بيان تأسيسي لتيار جديد. ما الذي يقصده داكين بكلمة «الفلسفة»، التي يرى أنها «ربما تمثل المساعدة الوحيدة التي يمكن تقديمها في علاج الجنون»؟ يقدم داكين نفسه - وهو ما لا يرد في العنوان - بصفته ممارسا يواجه المشكلات التي يطرحها المجانين الميئوس من شفائهم الذين يتولى علاجهم في مأوى شامبيري، وليس بصفته عالما نظريا. كما يشير إلى نفسه أيضا باعتباره من أنصار تيار الإنسانية وحب العمل الخيري؛ نظرا لأنه يهدي كتابه للإنسانية، «ذلك أن الجنون هو اللوحة التي تجسد أعظم شر يصيب الحياة، والإحسان هو أعظم دواء له.» «هلموا إذن، أيها البشر الفخورون والمتغطرسون، يا من تحتقرون نظراءكم، ادخلوا معي هذه الحجرات الضيقة البشعة [...] تحسروا على ما أصاب النظام الطبيعي من تشوه وتدمير مماثل!»
يقر داكين بأن احتمال شفاء الجنون ضعيف. وتقع مسئولية ذلك في المقام الأول على عاتق الأطباء. «بعض الأطباء لديهم، لعلاج هذا المرض، نمط معين يتبعونه في جميع الحالات تقريبا، وحين يستنفدون كل علمهم، وينفرون المرضى سواء بسبب كمية الأدوية أو بسبب صرف أدوية خاطئة لهم، وحين يصابون تماما كمرضاهم في نهاية المطاف بالضجر والإرهاق؛ فإنهم يتخلون عن المرضى ويتركونهم يواجهون مصيرهم المشئوم، إلى أن تقرر العناية الإلهية إراحة العالم منهم.» بيد أن داكين لم يرفض كليا طرق علاج الجنون الرئيسة (باستثناء الخربق)، ولكنه يرى انعدام قيمتها إلا إذا اقترنت ب «صحة الروح»، التي «من المفترض أن يكون لها وحدها تأثير كبير على عقل هؤلاء المرضى أكثر من كل العوامل الفيزيائية التي تم الاستعانة بها حتى الآن.» ويشكل كل من النظام الغذائي الذي يتبعه المجانين و«نمط المعيشة» بشكل عام جزءا أساسيا من العلاج، تماما كإنشاء مصحات خاصة، ولم يستفض داكين في تناول هذه النقطة. وتركزت تطلعاته على الطبيب بالتأكيد، الطبيب الفيلسوف. «لن أقول أبدا، مثل جان جاك روسو، إن الطب يأتي من دون الطبيب. وإنما أزعم على العكس من ذلك أن الطبيب يأتي مع الطب، ولكن مع ذلك الطب المجرد من الهراء ومن الدجل والشعوذة، ولا سيما من العقاقير والتراكيب. أود أن يأتي الطبيب مزودا بفكر الملاحظة الذي يتيح له مراقبة مسار الطبيعة؛ من أجل تعزيز سبلها، وتيسير خطاها في حال سيرها على الطريق السليم، أو تقويم انحرافها في حال سلوكها طريقا خاطئا.»
يعود داكين، في ختام مؤلفه، إلى ما يعنيه ب «فلسفة الجنون»، التي يقصد بها اجتماع وسائل يكون معها «أقل عدد من أدوية الصيدلة» لازما. فلا بد من إظهار قدر من الصبر، والرفق، والاهتمام والتقدير، و«الحذر المستنير»، و«الأفكار المنطقية والأقوال المعزية» خلال «فترات الصحو التي يتمتع بها المرضى في بعض الأحيان [...] وأزعم أن المساعدات المعنوية ربما يجب أن تكون هي الوسائل الوحيدة التي ينبغي الاستعانة بها.»
النموذج الإنجليزي
يثني داكين، مثل أغلبية زملائه الفرنسيين، على الأطباء الإنجليز قائلا: «ما من أمة حتى الآن وفرت مثل ما وفره الإنجليز من رعاية طبية، ولا حققت مثل ما حققوه من نجاح باهر في شفاء المجانين.» وقد أقرت لجنة التسول بأن «فرنسا متأخرة كثيرا فيما يتعلق بهذا النوع من العلاج عن جميع الممالك المجاورة وخاصة إنجلترا . أمامنا، في هذا الصدد، دروس عظيمة لنتعلمها من إنسانية الإنجليز المستنيرة؛ إذ تجمع مشافي المجانين لديهم كافة المزايا، وكل وسائل الراحة، وجميع وسائل الشفاء التي قد يبتغيها المرء أو يتوقعها.» ولقد أرسلت اللجنة في الثالث والعشرين من أبريل 1790 استبيانا إلى الدكتور هانتر، أحد مؤسسي مشفى المجانين بيورك، لمعرفة الطريقة المتبعة لعلاج الجنون؛ حيث «تجري الاستعانة بالوسائل الأكثر رفقا التي أثبتت نجاحها في تحقيق الشفاء، حتى بالنسبة إلى المرضى عقليا الأشد هياجا.» ولم تتلق اللجنة جوابا عن هذا الاستبيان، على الرغم من أنها عاودت إرساله بعد ذلك بستة أشهر.
لماذا تتمتع إنجلترا بهذه السمعة الطيبة؟ يعزى ذلك جزئيا إلى إسهامها النظري، بدءا بما قدمه ويليس في هذا المجال، ولكن قدرتها على ربط الجانب النظري بالجانب العملي هي التي حظيت على وجه الخصوص بالإشادة في جميع أنحاء أوروبا.
18
صفحة غير معروفة