35 أمرا فقط صدر بناء على مبادرة السلطة الملكية، بينما 21 أمرا صدر بناء على مبادرة السلطات الكنسية (ضد بعض رجال الدين)، و97 أمرا صدر بناء على مبادرات العائلات، من ضمنها 11 حالة بسبب الجنون. نحن إذن بعيدون كل البعد عن «آلاف السجناء» الذين كانوا يعانون اليأس والملل والغم في الباستيل. وقد كانت القدرة الاستيعابية، في السجن كما في سائر الأماكن، أقل بكثير من الطلب.
أما مدينة كاين، عاصمة المنطقة الإدارية، فقد كانت تحتجز المختلين المعوزين في برج شاتيموان. يقدم هذا البرج المشيد فوق أحد الحصون، والذي بني في أواخر القرن السادس عشر وسرعان ما أصبح عديم النفع من وجهة النظر العسكرية، مثالا جيدا على «أبراج المجانين» التي نجدها منذ نهاية العصور الوسطى تقريبا في كل المدن الكبرى بالمملكة، حتى لا نقول في أوروبا بأكملها، والتي استمر استغلالها لهذا الغرض طوال عهد النظام القديم. (هكذا، في تورناي، تلك المدينة التي تارة ما تكون فرنسية، وتارة نمساوية، كان يتم استخدام بوابة مارفي كبرج للمجانين اعتبارا من القرن السادس عشر وحتى هدمه في عام 1770.) يعترينا الذهول أمام برج شاتيموان الماثل بارتفاعه البالغ 30 مترا، ومستوياته الثلاثة وجدرانه التي يبلغ سمكها سبعة أمتار؛ حيث جهزت غرف مصممة على شكل شبه منحرف لوضع قطع المدفعية الجديدة. في القرن السادس عشر، كان يجري حبس أسرى الحرب داخل هذا البرج بينما كان المشفى الرئيس بالمدينة يضع المجانين في برج آخر أقرب، وهو برج ماشار. ثم بدأ برج شاتيموان، خلال القرن السابع عشر، يحتكر تدريجيا احتجاز الحمقى الذين لا يريدهم المشفى الرئيس، ولا حاكم القصر (حينما يتعلق الأمر بالجنود العسكريين)، ولا السجن (حينما يتعلق الأمر بالمختلين عقليا الذين ألقي القبض عليهم بسبب تصرفاتهم السيئة). 80٪ من هؤلاء كان ينظر إليهم باعتبارهم يشكلون خطرا على الأمن العام أو يثيرون شغبا يخل بالنظام العام. في القرن الثامن عشر، تضاعفت عمليات الاعتقال في «برج المجانين»؛ لأن العائلات كانت تتوجه مباشرة إلى سلطة البلدية. في عام 1720، عين حارس للمبنى. وقد وقع في ذلك التاريخ إيصالا باستلام سبعة جنيهات، و17 فلسا، وستة دنانير «للتكفل بمصاريف رعاية تسعة أشخاص من المختلين عقليا، بالإضافة إلى خمسة وأربعين فلسا من أجل القش.» وكان المشفى الرئيس يتولى إعالة المختلين عقليا من الفقراء. أما الآخرون فكانت عائلاتهم تتكفل بمعيشتهم بدفع نفقة إقامة ضئيلة للغاية. وكان مستوى «الرفاهية» يتفاوت نسبيا تبعا للقيمة المدفوعة. كان الاثنا عشر مختلا المحتجزون هناك (رجال، وبشكل استثنائي، بعض النساء) يتم توزيعهم فيما بين القاعة العليا؛ حيث أعدت غرف خشبية، والزنازين المصممة داخل تجويف الحائط السميك، وغيابة السجن، حين لا تكون السراديب مغمورة بالمياه. منذ منتصف القرن الثامن عشر، بدأت العائلات تشكو من أوضاع الاحتجاز في البرج، متهمة الحارس بترك المختلين عقليا «مفتقرين إلى كل شيء» (إلا في حال إعطائه مزيدا من المال مقابل الطعام، والتدفئة، والإضاءة). كما اتهمت العائلات الحارس «بأنه يقوم بعرض المختلين عقليا للمتفرجين لكسب المال.» لقد كانت ظروف الاحتجاز مضنية ومحزنة، لدرجة أن تقريرا صادرا عن السلطات المحلية في عام 1766 أشار إلى وضع أحد هؤلاء المحبوسين على النحو التالي: «لقد نسينا هذا الرجل الذي ليس مجنونا، ولكنه قد يصبح كذلك.»
نجد النسب مماثلة في غالبية المناطق الإدارية الأخرى، كما في بلدية ريوم (منطقة أوفيرني) التي بلغ تعداد دور الاحتجاز بها حوالي عشرين دارا، من ضمنها خمس أو ست دور كانت تستقبل حمقى. الأمر نفسه في بريتاني (التي لم تكن مقسمة إلى مناطق إدارية، ولكنها كانت عبارة عن مقاطعة كبرى مؤلفة من ولايات، وتحظى بقدر أكبر من الاستقلالية)؛ حيث نجد الدار الواقعة في بلدية سان ميان، بالقرب من مدينة رين، التي كانت تستقبل الحجاج منذ القرون الوسطى والتي جعلها وضعها المختلط أشبه بالمشفى العام وبدار الاحتجاز في الوقت نفسه (حيث كانت تضم 45 محتجزا بموجب أمر ملكي في عام 1787، من بينهم 18 مختلا). في الأقاليم الجديدة، كما في دوقيات لورين وبار، كان احتجاز المختلين عقليا أكثر تمركزا؛ حيث تركز بالأكثر في ماريفيل، بالقرب من نانسي، بالنسبة إلى الرجال، وفي نوتردام دو روفوج في نانسي، بالنسبة إلى النساء.
في منطقة ميدي (جنوب فرنسا)، كانت المؤسسات الكبرى الأكثر تخصصا تشكل أيضا أماكن جذب للمنطقة بأسرها. وقد سبق أن رأينا ذلك فيما يتعلق بمشفى الحمقى في مارسيليا، وألبي، أو حتى في مشفى لا ترينيتيه (الثالوث الأقدس) بإكس آن بروفانس، والذي كان يعد مشفى عاما ودارا للاحتجاز في الوقت نفسه. ينبغي أن نذكر في هذا الصدد أيضا مشفى أوفر دو لا ميزيريكورد (عمل الرحمة) بأفينيون الذي تأسس في عام 1681 بإيعاز من نائب المفوض الباباوي. بعد «توظيف» محدود في المدينة، تضاعفت عمليات الاحتجاز خلال القرن الثامن عشر. في عام 1779، تلقت العائلات التي تعيش في هذه المقاطعة وتحتجز مختلا لديها (مما يدل على أن مثل هذه الحالات كانت موجودة بالفعل) منشورا باباويا يأمر بإحضاره إلى المشفى . وانطلقت صرخات مدوية تطالب محاكم التفتيش بضرورة تعديل المنشور. كان مشفى أفينيون، الذي يعد بالتأكيد سابقا لعصره، يطلب شهادة طبية لدى احتجاز أحد المختلين عقليا. تعود أقدم شهادة طبية معروفة إلى عام 1690: «أقر أنا الموقع أدناه، طبيب حاصل على شهادة الأستاذية في الطب من جامعة أفينيون، لمن يهمه الأمر، أن المدعوة فرانسواز جوساند مختلة عقليا، كما تبين لي من خلال توقيع الكشف الطبي عليها.»
أما في باريس، فلا بد على الرغم من ذلك الخروج من الإطار الإداري الوحيد والمعقد الذي أحاط بدور الاحتجاز الجبري لفهم مدى تنوع المؤسسات التي كانت تستقبل المختلين عقليا. ما هذه الدور التي انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر؟ وما عامل الجذب لديها؟ لقد سبق أن حظينا بالفعل بفرصة للحديث عن العلاقة المتداخلة التي ربطت بين المشفى الرئيس بباريس والدور الصغيرة، التي كانت بمنزلة مشفى ملحق مخصص للحالات المعدية والميئوس من شفائها. في المشفى الرئيس، الذي كان يحوي خمسة وعشرين جناحا مخصصة على وجه التحديد للمرضى على اختلاف أنواعهم (أطفال مرضى، ومصابين بالجدري، وغيرهم)، نجد «المجانين القابلين للعلاج» في جناحين بعيدين تماما أحدهما عن الآخر. الرجال في جناح سان لويس المكون من 42 سريرا، والنساء في جناح سانت جونفياف المكون من 32 سريرا. ولم يفصل بين هذا الجناح الأخير وبين ذاك المخصص «للمهتاجات» إلا حاجز. وفي جميع أرجاء المشفى الرئيس، كانت الأسرة، الموروثة عن القرون الوسطى، في معظمها كبيرة بحيث تسع أربعة أفراد. بإمكاننا أن نتخيل ما هي فرص شفاء المجانين (وبالأخص «المهتاجين») في ظل وضع مماثل يرغمهم على النوم أربعة في سرير واحد. ولكي يحظى الفرد بسرير منفصل ينام عليه وحده، يتعين أن يكون ذلك بناء على توصية، مثلما حدث في عام 1768 بالنسبة إلى ذاك القس «المختل العقل»، الذي أوصي «بوضعه في سرير منفردا». في مشفى باريس الرئيس على وجه الخصوص، مقارنة بالأماكن الأخرى، كان «المجانين يعانون من الضيق وعدم الراحة»، ولا سيما أن المشفى كان يستقبل الحالات الآتية من جميع الأقاليم. «منذ ما يقرب من عشرين عاما - نقرأ في سجل المداولات، بتاريخ 11 أغسطس 1780 - تزايد هذا المرض لدرجة أن الأجنحة المخصصة للمرضى من الجنسين لا تفرغ مطلقا، وتزايد بالتبعية عدد الحالات التي يمكن إرسالها إلى بيستر.» ورغم ذلك كان نظام العمل بالتناوب يسير بإيقاع سريع للغاية. وكان الحمقى يمكثون هناك شهرين على أقصى تقدير، قبل أن يصرح لهم بالخروج أو بالالتحاق بالمشفى الرئيس بباريس أو بالدور الصغيرة.
تعد هذه المؤسسة الأخيرة (التي كانت تضم، في عام 1787، 44 مختلا عقليا، من الرجال والنساء) بالأحرى مأوى لا يتلقى المجانين فيه أي علاج. فضلا عن ذلك، كان لا بد من إعداد شهادة تفيد بأن المختل العقلي تمت معالجته وبأن مرضه غير قابل للشفاء. وكان الحد الأدنى لنفقة الإقامة يستلزم دفع 300 جنيه. لقاء هذا المبلغ الزهيد، «الغرف أفضل بقليل من تلك الموجودة ببيستر». نحن هنا على أي حال في سياق تقديم خدمات رعاية بعيدة عن نمط الاحتجاز المؤسسي (أي خارج إطار المشفى العام ومنازل الاحتجاز الجبري). هذه هي حال ما يقرب من 20 نزلا خاصا ومدنيا في باريس، تلك الدور التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر لتلبي الطلب المتزايد من قبل العائلات القادرة على دفع تكلفة إقامة مرتفعة. وقد تركزت هذه المنشآت الصغيرة - والمتفردة في استقبال المختلين عقليا حصريا - في ضواحي سان أنطوان، وسان جاك، ومونمارتر. بعض هذه الدور لم يكن يستقبل سوى عدد محدود من النزلاء، والبعض الآخر - كل دار على حدة - كان يستقبل حوالي 30 نزيلا. بلغ عدد النزلاء إجمالا حوالي 300 مختل، كان «البله» (ندر وجود «مصابين بالهياج») هم الذين يشغلون في الأغلب هذه الدور في ظل انعدام الرقابة الإدارية.
يبقى إذن، فيما يتعلق بشق الاحتجاز هذه المرة، دور الاحتجاز الجبري والمشفى الرئيس. كانت دار شارنتون، على الرغم من بعدها النسبي، تتبع العاصمة. وقد كانت تكلفة الإقامة فيها مرتفعة (إذ كانت تتراوح ما بين 600 و1200 جنيه) تبعا للفئات المختلفة: النبلاء، والبرجوازيين، ورجال الدين، والجنود العسكريين، وقد كانت مصاريف إقامة هذه الفئة الأخيرة على نفقة الملك. وكانت هناك وحدة تمريض - مما يعد حدثا نادرا - للمختلين عقليا المرضى وحدهم. وكان سجنا الباستيل وفنسين يتخلصان من المجانين الذين يثيرون الشغب لديهم بإيداعهم دار شارنتون. وبالفعل كان يوجد مجانين في هذين السجنين الكبيرين.
لقد احتجز الباستيل وحده - ذلك السجن المتعدد الاستعمالات - خمسين مختلا في الفترة ما بين 1661 و1789.
10
في القرن الثامن عشر، كان قد تم وضع المختلين عقليا في السجون لعدم وجود أماكن أخرى (ذكر في بيان يعود إلى عام 1643 - وهو يعد أحد أوائل البيانات الصادرة عن الباستيل - أن عدد المختلين عقليا بلغ ثلاثة من بين إجمالي المسجونين البالغ عددهم عشرين سجينا، من ضمنهم «كاهن مخبول» و«رجل شرير مملوء خبثا»). هؤلاء المختلون عقليا الذين «كنا نحظى بشرف استقبالهم في سجن الباستيل»، كانوا يأتون أحيانا من إحدى دور الاحتجاز البعيدة؛ حيث لم يعد أحد يطيق وجودهم (وهذا دليل على القابلية العالية للاختراق المؤسسي). فكانوا ينقلون إلى الباستيل ريثما يهدئون. «هذا القصر ليس مخصصا لحبس هذه الأنواع من البشر»، يذكر بذلك وزير الديوان الملكي في عام 1715. ولكن، نجد أيضا في سجن الباستيل، وبأعداد لا حصر لها، جميع أولئك الذين سجنوا لاعتبارهم أشباه مجانين (الجواسيس الكذبة، وكاشفي المؤامرات الكاذبين، والمحتالين والنصابين، والقصاصين، و«أصحاب المشروعات»)، والذين أصبحوا مجانين بالفعل فور إغلاق بوابات الحصن الضخمة عليهم. نذكر على سبيل المثال، عام 1764، ذلك المدعو بوكيه الذي أمطر الوزراء وماركيز دي بومبادور برسائل فضح المؤامرات، أو ذلك النائب العام الأسبق بشاتليه الذي كتب في عام 1771 إلى الملك «اثني عشر خطابا بأسلوب ذميم للغاية»، وقد نقل هؤلاء، فور إقرار إصابتهم بالجنون، إلى شارنتون. وقد رحب القائد العام لشرطة باريس بهذا القرار ولا سيما أنه «سيسفر عن تقليل النفقات التي يدفعها الملك» (فليس هناك بالتأكيد كلفة إقامة واجبة الدفع في سجون الدولة؛ حيث إن السجناء ينتمون إلى طائفة «من يعيشون على خبز الملك»). وفي الوقت عينه، حرص هذا القائد نفسه على ألا تنطلي عليه ألاعيب المجانين الكذبة الذين ينوون الفرار من سجن الباستيل. «لا يخدعننا عبوس وجوههم وتعابيرها المصطنعة»، تلك هي النصيحة الصادرة من فرساي. في بعض الأحيان، كانت تنجح الحيلة بشكل يفوق توقعات الشخص المدعي: «لقد تظاهر بالجنون وأصبح مجنونا بالفعل.»
صفحة غير معروفة