وبدءا من عام 1660، تقرر أن «يخصص مكان لاحتجاز المجانين سواء الموجودون بالفعل بالمشفى العام أو الذين سيلتحقون بالمشفى المذكور فيما بعد.» وفقا لما ورد في «إحدى الخرائط الخاصة بتصميم المشفى العام»، والتي أعدت في عام 1658، كان هناك اقتراح يقضي بجمع «المحتجزين» في مجمع معماري واحد. ولكن مشروع التنظيم المكاني هذا لم ير النور قط؛ نظرا لأن مؤسسة سالبيتريير عنيت فيما بعد باستضافة النساء والأطفال حديثي السن، بينما عنيت مؤسسة بيستر باستقبال الرجال. ولكن هذا لا ينفي أن الهدف كان مثيرا للاهتمام إلى حد كبير. كان هناك جدار متوسط ومن الأمام كنيسة واسعة مبنية على شكل صليب، وهي نفسها منقسمة إلى جزأين، يفصل بين الجنسين بشكل متماثل. وقد خصص القسم الأكبر من المباني للمحتجزين العاملين (في البستنة، والأعمال اليدوية والنجارة وصناعة الأقفال، بالإضافة إلى تخصيص قسم مهم للمصانع)؛ مما يدل على أننا ما زلنا نعيش في وهم احتجاز المتسولين الأصحاء. ومع ذلك، كانت هناك بعض الفئات التي تمثل أقليات، والتي لم يكن يسمح باختلاطها بالفئات الأخرى. نشير في هذا الصدد إلى أنه كان يتم، في المؤسسات الخاصة بالرجال، تخصيص أقسام منفصلة لإيواء «العاجزين»، و«المصابين بالتهاب العقد السلي» (بشكل عام المصابين بالأمراض الجلدية المعروفة في ذلك الوقت على اختلاف أنواعها ووخامتها: الجرب، والسعفة، والتورم الالتهابي سلي المنشأ أو ما يعرف بسل العقد اللمفاوية، وغيرها)، والمكفوفين، وأخيرا «المختلين عقليا» والمصابين بالصرع الذي يطلق عليه «داء القديس يوحنا»، كل على حدة. ونلاحظ أنه جرى بالفعل التفريق بعناية بين الصرع والجنون. كما نلاحظ أن المكانة التي احتلها الجنون بين الأمراض الأخرى تظهر إلى أي مدى أصبح ينظر إليه وفق معيار طبي.
فيما يتعلق بالمؤسسات الخاصة بالنساء، كانت النسوة «المعتوهات والمصابات بالصرع» يتشاركن الفناء نفسه، ولكن يسكن في مبان منفصلة بعضها عن بعض.
لنتوقف عند مؤسسة سالبيتريير، كما شيدت في الواقع وكما يمكن أن نتأملها في نهاية القرن السابع عشر. تعد هذه المؤسسة إلى حد كبير أهم منشآت المشفى العام: فقد كانت تضم 5276 سيدة وطفلا ... فيما يخص شق الاحتجاز بمعناه الصارم والدقيق، بإمكاننا أن نحصي 465 «عاهرة» ومتشردة، بالإضافة إلى 380 امرأة ما بين جانحة، وفاسقة، وداعرة. أما فيما يتعلق بشق المساعدة، نجد ما لا يقل عن 1894 طفلا دون سن الخامسة عشرة، و594 امرأة ما بين «عجائز كفيفات أو كسيحات»، و329 فتاة دون سن السادسة عشرة عاجزات أو مصابات بأمراض جلدية. نحصي أيضا من بين النساء اللائي تلقين المساعدة 92 «مريضة بالصرع من مختلف الأعمار»، و300 امرأة ما بين «مجنونات هائجات أو مختلات عقليا مسالمات». كان الأمر إذن أشبه ب «حي حقيقي للمختلات عقليا». وقد تزايد عددهن بالنسبة إلى العدد الإجمالي على النحو التالي: 22 من 700 في عام 1657، و146 من 3963 في عام 1679، و226 من 4000 في عام 1690. وهكذا ارتفعت نسبتهم من 3٪ إلى 6٪.
10
في منتصف القرن الثامن عشر، وصلت مؤسسة سالبيتريير إلى أعلى مستوى سكاني لها؛ حيث بلغ عدد المقيمين بها 7800 سيدة وطفل في عام 1769، من بينهم 700 امرأة مجنونة (بلغت النسبة إذن حوالي 10٪). وهو ما يعد عددا إجماليا ضخما في هذه الفترة، ويشكل بالتأكيد أعلى نسبة تركز في أوروبا، حتى لو لم يكن ممكنا النظر إلى مؤسسة سالبيتريير باعتبارها بمنزلة مشفى كبير للمجانين (ففي نهاية الأمر، 90٪ من نزلاء سالبيتريير لم يكونوا من المختلين عقليا). سوف نتطرق فيما بعد إلى الآليات التي أدت إلى وجود هذا العدد الكبير، ولا صلة لها بآليات المشفى العام في حد ذاته. وهكذا فرض بناء جديد نفسه في كل الأحوال. في عام 1760، بدأ تأسيس أولى الغرف الفردية في الطابق الأرضي؛ حيث كان يجري احتجاز الهائجين المضطربين، بينما كان «المختلون عقليا» والمصابون بالصرع يبقون في المهاجع القديمة.
وعلى أي حال، لم تكن الرعاية الطبية تحتل موقع الصدارة في مؤسسة سالبيتريير؛ بدليل وجود مطالب في عام 1769 لتأسيس مشفى جدير بهذا الاسم. لقد اجتاح الجرب المهاجع. أما فيما يتعلق بالمجنونات والمصابات بالصرع، فإذا كان أحد لم يفكر في التشكيك في إصابتهن بالمرض، فإن أحدا لم يفكر أيضا في علاج مرض يعد عضالا إذا لم تتم معالجته في بدايته (في المشفى الرئيس على وجه الخصوص). وأقل ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن المجنونات المحاصرات في دوامة الاحتجاز لسن في المراحل الأولى من الإصابة بالمرض. وأخيرا، فإن الأخوات ومدبرات المنزل البالغ عددهن مائة، بالإضافة إلى الخادمات البالغ عددهن 350 (واللواتي عين من بين الفتيات المحتجزات وكن يتقاضين أجرهن بحصولهن على حصة مضاعفة من الغذاء) كان لديهن بالفعل ما يكفي من المهام التي يتعين القيام بها فيما يتعلق بتوزيع العمل في المهاجع (العجائز كن يقمن بغزل القنب، والشابات كن يتولين «الحياكة والتطريز»)، وقوافل المرور الطويل على العنابر لتغيير الشراشف وتجميع الملابس المعدة للغسيل وتوزيع الأطعمة داخل مؤسسة سالبيتريير المترامية الأطراف، هذا بالإضافة إلى الإشراف والمراقبة، دون أن ننسى أيضا المحافظة على الطقوس الخاصة بالصلاة في كل مكان، والاهتمام بالقراءات الدينية، وإقامة القداسات اليومية ...
كان وجود المجانين من الرجال في بيستر مشابها لوجود المجنونات في سالبيتريير. منذ العام الأول لاشتغال مؤسسة بيستر، انقسم المعوزون الستمائة تقريبا الذين تجمعوا داخلها إلى فئات مماثلة لتلك التي كانت موجودة بمؤسسة سالبيتريير. من بين هذه الفئات، كان هناك 20 مجنونا و16 مريضا بالصرع. كما هي الحال في سالبيتريير، كان عدد المجانين والصرعى يتزايد بالتزامن مع التوسع في البناء. في عام 1701، كان هناك 65 مجنونا و42 مصروعا من بين إجمالي المحتجزين البالغ عددهم 1500 في ذلك الوقت. وفي عام 1726، بلغ عدد المجانين والمصابين بالصرع 208 من بين إجمالي عدد المحتجزين البالغ 2454، وهو رقم أقل بشكل كبير من مثيله في مؤسسة سالبيتريير، ويمثل نسبة تتراوح ما بين 7 و8٪ من إجمالي عدد النزلاء في بيستر.
11
كانت منطقة «المختلين عقليا أو المجانين»، المعروفة على وجه التدقيق باسم («القطاع» السابع، أو حي سان بري)، «تتألف من غرف متعددة». في المنطقة التي كان يطلق عليها «المبنى الجديد» («القطاع» السادس)، نجد عنبرا مخصصا للمصابين بالخرف بالطابق الأرضي، وآخر للمعاتيه بالطابق الثاني (سان فرانسوا)، وآخر للمصابين بالصرع بالطابق الثالث (سان فياكر). وتجدر الإشارة إلى أن المصابين بالصرع، كان ينظر إليهم على أنهم «ليسوا مجانين على الإطلاق»، علاوة على أنهم الوحيدون الذين كان لديهم الحق في حضور القداس. ومع ذلك، نجد في مكان آخر داخل مؤسسة بيستر مهجعين؛ أحدهما مخصص ل «السذج الأبرياء»، والآخر ل «المكفوفين والمغفلين». كما هي الحال في مؤسسة سالبيتريير، يقصد بالمصابين بخرف الشيخوخة (وهو مصطلح حديث للغاية بالطبع) أولئك المحتجزون الذين لم يدخلوا مؤسسة بيستر بصفتهم حمقى، وإنما أصيبوا بهذا الخلل العقلي مع تقدمهم في العمر.
لقد تحدثنا عن الكثير من الأمور، بعضها شديد البشاعة، فيما يتعلق بالأوضاع المعيشية، أو بالأحرى ظروف البقاء، في مؤسسة بيستر. وسوف نعود فيما بعد إلى بيستر للحديث عن الخطاب الخيري بها. ومما لا شك فيه أن الأوضاع في بيستر كانت أكثر تدنيا عما هي عليه في مؤسسة سالبيتريير. وقد شددت الحراسة وفرض ممارسات وحشية؛ نظرا لأن الرجال كانوا يشكلون خطورة كبيرة، سواء على صعيد المجرمين والجانحين أو على صعيد المجانين الذين كان يتم احتجازهم في حجرات ضيقة لا تتعدى مساحتها مترين مربعين، موجودة غالبا في القبو حيث لا تصلها تدفئة ولا تهوية جيدة، وكان يتم تكبيلهم بالحبال بل وبالأغلال عند أول بادرة تدل على الهياج، وكانوا ينامون في معالف حجرية ملاصقة للجدار ومفروشة بقش الشيلم الذي نادرا ما كان يجري تجديده أو تزويده بأغطية. والمجانين الذين كانوا يقومون في أغلب الأحيان بتمزيق ملابسهم، كانت لا توزع عليهم إلا الملابس المستعملة من قبل السجناء. قلة نادرة هم من كانوا يملكون القدرة على التنزه في أفنية الحي، ولم يكن ذلك بدافع القسوة بقدر ما كان ناجما عن نقص في الموظفين (فلم يكن هناك إلا ستة أفراد يعملون بدوام جزئي في خدمة أكثر من 150 مجنونا، بالقطاع السابع). وكثيرون كانوا يجدون أنفسهم مضطرين في فترات الازدحام إلى تشارك غرفة واحدة مع نزيل آخر، أو إلى النوم في أسرة كبيرة يتقاسمها أربعة أو خمسة أو حتى ستة أشخاص في العنابر. وتعطي اللوائح الداخلية الانطباع بأنه كان يتم تقديم كمية مناسبة من الغذاء، ولكن في هذا المجال على وجه الخصوص، شتان ما بين الوعود والواقع، كما سوف نرى فيما يتعلق بالمصحات في القرن التاسع عشر.
صفحة غير معروفة