furor
التي هي بمعنى «جنون»). وهكذا فإن القرنين السابع عشر والثامن عشر لا يكفان عن التداخل أحدهما مع الآخر، على الرغم من كونهما يمثلان فترتين مختلفتين تماما فيما يتعلق بالاحتجاز؛ ولذا اعتمدت التقارير الصادرة (في وقت لاحق) عن تونون وهوارد وديبورت وبالأخص عن إسكيرول، والتي تحتوي على تصريحات إنسانية تعبر عن شعور كاتبيها بالاستياء والغضب حيال الوضع الإنساني المتردي لمؤسسات الحجز، باعتبارها مصادر تصف بموضوعية احتجاز المجانين. كما يتناقض تأكيد تلك «الحساسية الطبية» المبهمة، التي لم تنشأ إلا في ظل النظام القديم كتمهيد لتأكيد حالة الجنون الطبية التي ستصبح نتاجا للفلسفة الوضعية في مطلع القرن التاسع عشر، مع الاكتشاف الذي ينسبه فوكو خطأ إلى عالم فقهاء القانون والمتعلق بنمط تفكير طبي أصيل بشأن الجنون، ذلك التفكير، كما نكرر، الذي بدأ مع الثراء الذي نعرفه قبل عدة قرون من ميلاد المسيح.
ومن ثم سيكون عالم المختلين عقليا ابتكارا خاصا بالعصر الكلاسيكي يجمع في طياته بين الجنون واضطرابات السلوك، بحيث يكون هذان الاثنان مرتبطين به ارتباطا وثيقا ومدانين عما يصدر عنه من أخطاء. وقد عزز من هذا الرأي الفكرة القائلة بأن العقل والجنون في العصر الكلاسيكي كانا يتبعان الحكم الأخلاقي، بحيث يكون الجنون «حتما سلوكا لا إنسانيا»؛ ولذا لا يمكن معالجته بأسلوب إنساني. ويستفيض فوكو في الحديث عن الطبيعة الحيوانية للمجنون وما يرافقها من أقفاص وقيود، قائلا: «في العصر الكلاسيكي، شكل هذا الطابع [أي الطبيعة الحيوانية للمجنون] تجليا مدويا تحدد داخله المجنون باعتباره ذاتا غير مريضة.» هذه أكذوبة تامة. وقد تحققنا منها في القرون الوسطى، كما سنفعل الأمر عينه بالنسبة إلى النظام القديم.
هناك فكرة أخرى أكثر عمومية ، ولكنها محورية لدى فوكو: «إن اعتقال المختل عقليا مع المنحرف أو المهرطق يحد من واقعة الجنون، ولكنه يكشف عن إمكانية اللاعقل الأبدية. وهذا التهديد، في شكله المجرد والكوني، هو ما حاولت ممارسات الحجز التغلب عليه.»
في الجزء الثاني من أطروحته، ينحي ميشيل فوكو جانبا قضية الاحتجاز (الاعتقال الكبير) ليتعمق في التفكير الإبستمولوجي المعرفي بشأن معرفة الجنون في العصر الكلاسيكي. في الفصل الأول (المجنون في حديقة الأنواع)، يؤكد فوكو أن الجنون الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر (وهذه المرة نحن نتحدث بالفعل عن الجنون بمفهومه المرضي)، والذي «فقد الكثير من صفائه»، لا يمت بصلة لذاك الجنون القائم على «الفصل الصارم» في عصر النهضة. وهكذا «فإن فضاء التصنيفات ينفتح دون صعوبة على تحليل الجنون، والجنون بدوره يجد موقعه بشكل ذاتي من داخله.» للحفاظ على هذا الموقع، لا بد من حجب مرض الروح من جديد في العصور القديمة: «إن التساؤل حول الفصل بين الروح والجسم لم يولد داخل الطب الكلاسيكي، إنه قضية تم استيرادها حديثا استنادا إلى قصدية فلسفية.» وهو ما يؤكده فوكو بجعله من ذلك «الشيء الذي يضع الجسم والروح كليهما موضع تساؤل»، «إشكالية أضيفت، بشكل متأخر نسبيا، إلى تجربة الجنون» (!) مما يبرر إذن «تركها جانبا». إن إدراج الجنون في النوزوجرافيا الطبية لم يتم إلا في القرن الثامن عشر. بيد أن فوكو يجد صعوبة في شطب مساهمة القدماء بجرة قلم ويشير إليها، على الهامش، كأنها تتلخص في وضع «مفاهيم اصطلاحية بسيطة» (!) هكذا، تم اختزال النظريات الفكرية الرائعة بشأن المرض النفسي، والتي تمثل النتاج الفكري لأفلاطون وأرسطو ولوكريسيوس وسينيكا وجالينوس وكثيرين غيرهم في هذه العبارة.
يختتم فوكو هذا الجزء الثاني بالحديث عن «المواجهة بين الطبيب والمريض في العالم الخيالي للعلاج» (الفصل الرابع: «أطباء ومرضى»)، موضحا أنه، كما كان الحجز والاستشفاء منفصلين عن الطب، كذلك «لم يكن هناك تواصل حقيقي بين النظرية والعلاج» داخل هذا المجال العلمي نفسه. على العكس من ذلك، رأينا من قبل إلى أي درجة كانت الممارسة العلاجية للجنون قديمة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظريات الطبية، ولا سيما نظرية الأخلاط البشرية : حيث كانت العلاجات المفرغة أو الأدوية المكملة تستخدم لعلاج الاضطرابات الكمية، وكانت طرق المعالجة الإخلافية تستخدم للسيطرة على الاضطرابات النوعية. ليست هناك حاجة للتأكيد على الاتساق النظري للاستجابة العلاجية، بيد أن هذا الاتساق ليس بالضرورة مرادفا للفاعلية. لم يظهر أي من هذا لدى فوكو الذي رأى، بالطبع، أن مثل هذه الاستمرارية تتعارض وما يقدمه في أطروحته. فجل ما كان يهمه هو التأكيد على الطابع الوهمي لهذه الطرق العلاجية، مذكرا في هذا الصدد باللجوء إلى «ترياق» لم يكن له وجود قط في تاريخ الجنون (حتى الخربق، الذي تكرر ذكره لدى لافونتين، لم يشكل قط ترياقا ناجعا، إنما انتقل من كونه دواء مطهرا قوي المفعول إلى كونه مجرد صورة رمزية). كما يضيف فوكو إلى ما سبق الأفيون المعروف بخصائصه المهدئة منذ العصور القديمة، والمكونات الشعبية المختلفة (مثل مسحوق عظام الجماجم، والأحجار الكريمة) التي ورد ذكرها في البحوث الطبية الخاصة بالصيدلة والمستحضرات الدوائية في ذلك الزمن. على أي حال، ما يثير اهتمام الفيلسوف، ليس هو استعراض تاريخ الطب الثابت والمقرر (وإلا، فما الفائدة من بحثه وتناوله؟) وإنما «المخطوطات الرمزية التي ظلت حية تعاند الزمن، في طرق العلاج في العصر الكلاسيكي.» في الفصل الذي يتناول «معالجة الجنون»، سنتوقف مطولا عند هذه المسألة، وخاصة لبحث المعالجة المعنوية التي ينفي فوكو وجودها في القرن الثامن عشر، ليضعها بالأحرى في سياق القرن التاسع عشر في إطار الاتجاه «الأخلاقي» والمذهب «الوضعي» (وهو ما يشكل هدفه الأساسي)؛ حيث «ستنتظم السيكولوجيا (علم النفس)، باعتبارها وسيلة للشفاء، حول العقاب.» •••
أما الجزء الثالث والأخير من أطروحة ميشيل فوكو، فقد كرس لظهور الطب النفسي في «القرن التاسع عشر الوضعي». وسوف نقرؤه بالتفصيل عندما يحين الوقت لذلك، حرصا منا على الحفاظ، في هذه الدراسة الممتدة على فترة زمنية طويلة، على مخطط زمني بحت. وسيتعين أيضا وضع النتاج الفكري للفيلسوف المتمثل في هذا المؤلف ضمن نطاق الموجة المضادة للطب النفسي التي امتدت فيما بين عامي 1960 و1970.
الفصل الثاني
المشفى العام
ماذا عن «الاعتقال الكبير»، ذلك الحدث المفاجئ الذي كان له وقع الصاعقة والمتمثل في إنشاء المشفى العام بباريس في عام 1656؟ وما علاقة الحمقى بكل هذا؟ يعد عام 1656 عاما هاما في تاريخ الجنون والطب النفسي؛ مما يستوجب التوقف عنده بالبحث والتقصي والاستكشاف العميق. في الفترة نفسها تقريبا، انتشرت لوحة تحمل نقشا باللغات الفرنسية والهولندية والألمانية. وكانت تحمل العنوان التالي: «معلم الحجاج التنابلة، حضرة رئيس دير المعدمين الماكرين»، نرى في هذه الصورة متسولا قصير القامة، ملتحيا وماكرا، متشحا بلباس غريب أشبه بزي الحج، عبارة عن قبعة واسعة ووشاح مزدانين بزخارف كثيرة على هيئة محار سان جاك. تبدأ الرباعية بالبيت الشعري التالي: «يا له من حاج غريب يصلي بتراخ!» هذا الرسم الكاريكاتوري وغيره من الصور الهزلية والرسوم الساخرة التي طافت أرجاء أوروبا المسيحية تبدو غير متوافقة مع الروح الإنجيلية، ومتناقضة تماما مع الحماسة المتقدة لفعل الخير والإحسان، التي كانت دافعا أساسيا وراء إنشاء المشافي الأولى في القرون الوسطى، والتي كانت تنظر إلى الفقراء باعتبارهم أعضاء متألمة في جسد المسيح. فماذا حدث؟
صفحة غير معروفة