عن ظاهرة فولكلورية (بالمعنى الاشتقاقي لكلمة «فولكلور»؛ أي «علم الشعوب»)، وإنما نشأ عن هرطقة مسيحية حقيقية انبثقت من جديد عن الوثنية القديمة.
في سياق هذه الهستيريا الجماعية، لم يبق أمام النظرية الشيطانية للجنون، التي كانت قائمة بالفعل ولكن لم تكن قد بزغت بعد، إلا أن تتبلور وتبدأ في جذب الانتباه. وقد عارض جاك ديبار - الذي توفي عام 1458، وكان يدرس الطب في باريس - مماثلة الجنون بالشيطان، قائلا: «من الشائع لدى العامة وبعض علماء اللاهوت القول بأن المصابين بالسوداوية أو بالهوس لديهم شيطان يسكن الجسد، وهو ما يصدقه المرضى في أغلب الأحيان ويجاهرون به. أولئك الذين يؤمنون بهذه الأفكار المبتذلة لا يسعون، من أجل علاج مرضهم، للحصول على مساعدة من قبل الأطباء، وإنما يطلبون عون القديسين المعروف عنهم أن الله قد منحهم القدرة على طرد وإخراج الشياطين.» فضلا عن ذلك، أدان ديبار موضة اللجوء إلى التنجيم التي استفحلت في المجتمع، لدرجة أنها أصبحت منذ ذلك الحين تؤثر بشكل عميق على تشخيصات وتقديرات الأطباء فيما يتعلق بمدى خطورة أو حدة المرض وتطوراته واحتمالات الشفاء.
أما الراهب الدومينيكاني الألماني يوهانس نيدر، فقد اكتفى في كتابه «عش النمل»، الذي نشر في عام 1475، بطرح إشكالية الموضوع، وذلك عن طريق قيامه، في مؤلفه، بخلق حوار بين عالم لاهوت وخصم له؛ حيث يتناولان في نقاشهما أعمال السحر والتعاويذ المؤذية والخرافات، فيجتهد أحدهما لتفسير كل شيء وفقا لأسباب طبيعية، أما الآخر فينبري في تفسير هذه الأمور وفقا لتدخلات شيطانية. وسواء أكان ذلك الأمر مرده اعتقاد أم واقع، قد يحدث المس الشيطاني نتيجة «تهيؤ سوداوي». وهكذا بلغت الحظوة التي نالها مصطلح «السوداوية» في العصور الوسطى، لدى علماء اللاهوت والأطباء على حد سواء؛ أوجها. وربما يكون هناك ثمة ألفة معينة بين السوداوية والشيطان. هذا التآلف لا يتعلق بالمجانين المصابين بالسوداوية فحسب، وإنما يشمل أيضا الطبائع التي تلونت بنفس هذا المزاج. يعطي أمبرواز باريه وصفا مطولا للشخص المصاب بالسوداوية على النحو التالي: «لديه وجه أسمر أو ضارب إلى السواد، ونظرة متقلبة، شرس وزائغ وشارد الذهن، حزين، كئيب ومتجهم [...] أولئك الأشخاص الذين يعانون من السوداوية، تكون أجسامهم باردة وقاسية وخشنة الملمس، وتنتابهم أضغاث أحلام مروعة وأفكار رهيبة عند النوم؛ إذ يرون في بعض الأحيان شياطين، أو ثعابين، أو قصورا مظلمة، أو قبورا وجثثا وأشياء أخرى مماثلة.»
8
فكيف لا يعشش الشيطان داخل إنسان يشبهه بالفعل؟ «وفقا لما كتبه جون تاكسيل، إن الأجساد التي يتملكها الشيطان داخليا تعاني من الكآبة والسوداوية؛ لأن هذا المزاج هو المستقر الحقيقي الذي يسعد فيه الشيطان ويجد به لذته، ومن خلاله يحدث آثارا شديدة الغرابة.»
9
وبطبيعة الحال، وخلافا لفرضية راسخة، ليس ثمة تشابه، وفقا للمنظور الجدلي للمحققين في محاكم التفتيش، بين الشعوذة والجنون؛ فهذا يتطلب أن يكون الأحمق قد عقد اتفاق تحالف مع إبليس، وهو ما يعد، من وجهة نظر محقق محكمة التفتيش، أمرا مستحيلا؛ لأن المجنون، حسب التعريف، لا يملك حرية الإرادة. وربما كان يتعين أيضا على المحققين أن يطرحوا مسألة الجنون لدى المتهمين بممارسة السحر. في القرن السادس عشر، حيث كانت مطاردة الساحرات والمشعوذات على أشدها، ها هو مونتين يدلي بشهادته في هذا الشأن قائلا: «قبل بضع سنوات، مررت بأراض تابعة لأحد الأمراء الذي تفضل وسمح لي؛ إكراما لخاطري وإمعانا في نفي شكوكي، بأن أرى في حضرته، وفي مكان خاص، نحو عشرة أو اثني عشر سجينا من هذا النوع [المشعوذين] ومن بينهم ساحرة عجوز، مشعوذة حقيقية بما بها من قبح وتشوه ودمامة، وذات شهرة واسعة في هذه المهنة منذ أمد بعيد، ثم عاينت الأدلة والبراهين واستمعت إلى اعترافات حرة [...] وفي النهاية، أمرت، وفقا لما تقتضيه الأمانة، بأن يحضروا لهم بالأحرى الخربق بدلا من الشوكران؛ لأنهم بدوا لي مجانين وليسوا مذنبين ...»
كما أعرب جواكيم دو بيليه عن استيائه من هذا الضلال الجماعي. قضى جواكيم الفترة من 1553 إلى 1557 في روما، حيث كان يتبع عمه الكاردينال. وهناك، سنحت له الفرصة أن يشاهد مرور عدد من مواكب الحج التي يقتادون فيها بعض الممسوسين. وقد تأثر بهذا المشهد تأثرا عميقا، لدرجة أنه خصص له أغنية قصيرة (سونيتة) (في ديوانه الشعري
Regrets ؛ أي «الندم») ووجهها إلى صديقه ريمي دولسين، الذي كان يعمل طبيبا:
دولسين، عندما أرى في بعض الأحيان هؤلاء الفتيات المسكينات،
صفحة غير معروفة