أما القديس توما الأكويني، فقد أعلنها صراحة قائلا: «إن الشيطان يستطيع إيقاف استخدام العقل تماما وذلك بالتشويش على الخيال والشهوة الحسية، كما يتجلى ذلك لدى المصابين بمس شيطاني.» وهنا يبرز سؤال يطرح نفسه: ما الذي ينبغي أن نفهمه من ذلك التعبير الأخير؟ هناك طرق عديدة يمكن للإنسان أن يكون من خلالها ضحية للشيطان، أو بالأحرى لعدد لا يحصى من الشياطين المساعدين، فقليلون للغاية هم أولئك الذين ينالون شرف أن يخاطبهم شخصيا إبليس بذاته. هناك شياطين سادية وشهوانية، تدعى الجاثوم أو الحضون (كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني
incubus
وتعني الكابوس)، وهي أرواح شريرة أو شياطين تهاجم الفتيات الجميلات في الليل وتغتصبهن في أثناء نومهن، خاصة إن كانت هؤلاء الفتيات قد نذرن العفة. وتوجد أيضا، ولكن بأعداد أقل، شياطين أنثوية تدعى السقوبة (وتعني وفقا للأصل الاشتقاقي للكلمة: «الاستلقاء تحت») وهي تهاجم الرجال. بيد أن الممسوس «الحقيقي» هو الذي يكون له وحده شيطان معين يستحوذ عليه ويتملكه بشكل كامل، فيدخل هذا الشيطان في الجسم ويزعم أنه لن يخرج منه أبدا، ويتسبب في إصابة ضحيته بمس جنوني يجعلها ترتكب آلاف الحماقات.
ومع ذلك، تعد لفظة «ممسوس» تعبيرا مبهما، كما هي الحال بالنسبة إلى لفظة «شيطاني» التي كانت، في العصور الوسطى، مرادفا لكلمة «أحمق أو مخبول». بل إن المعجم الطبي نفسه يستبدل أحيانا بكلمة «هوس» كلمة «شيطان» أو «روح شريرة». وكان يجري اقتياد المصابين بمس شيطاني إلى الأديرة للحج. وبالطبع، لا تخلو قصص معجزات الشفاء من ذكر، بل وتسليط الضوء على حالات المس الشيطاني التي كان يعاني منها أولئك الذين يتم اصطحابهم للحج. فها هي أودلين، تلك الفتاة التي أحضرها والداها على نقالة إلى ضريح القديس جيبريان. ولقد تضرع هذان الأبوان إلى الله وتوسلا إلى القديس بحرارة لدرجة أن «الشيطان أطاع وبسرعة خاطفة، خرج من [الفتاة].» امرأة شابة أخرى تم اقتيادها إلى كنيسة القديس إيجولف: «وفي اليوم الثالث، حررها الشهيد العظيم من قبضة الشيطان وأعاد إليها رشدها الذي كانت قد فقدته.» وهناك أيضا بيير دي فولينيو، ذلك المجنون الهائج، الذي كان عليه أكثر من شيطان في آن واحد. وحينما نقل إلى ضريح القديس فرنسيس الأسيزي، تركته الشياطين عند أول تلامس مع القبر.
6
إن مجموعة الصور والرسوم والأيقونات التي ترجع إلى القرون الوسطى مليئة بتلك المشاهد الباعثة على التقوى التي تصور إنسانا مصابا بمس شيطاني، مكبلا بالسلاسل، أشعث الشعر وغير منسق الهيئة، ثائرا وهائجا بشكل واضح، وهو يلفظ شيطانه ويطرده عن طريق الفم. نجد على أحد النقوش التي ترجع إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي صورة للقديسة رادجوند، ملكة الفرنجة في القرن السادس ومؤسسة دير سانت كروا (أي الصليب المقدس) الذي يقع بالقرب من بواتييه، وهي تخرج شيطانا من جسد فتاة شابة ممسوسة. وتظهر الفتاة في هذا النقش موثقة إلى أحد الأعمدة ولا يكاد يستر جسدها شيء. كما يظهر على أحد الأختام، الذي يرجع إلى القرن الرابع عشر، ويخص دير القديس تيبيري، الواقع بالقرب من بلدية أجد الفرنسية، نقشا يصور القديس جاثيا، وأمامه إنسان ممسوس يخرج من فمه شيطان. وفي بعض الأحيان، نجد المسيح هو الذي يتدخل بنفسه مباشرة.
على الرغم من ذلك، يبدو أن هذه الفكرة المهيمنة ظلت سائدة لوقت طويل (في الواقع طوال القرون الوسطى تقريبا) سواء بشكل رسمي أو مجازي، وكائنة جنبا إلى جنب مع الجنون المرضي الذي يختص به الأطباء، بل إنها كانت في بعض الأحيان تحل محله. فلم يعد هناك اعتقاد في الشفاء الطبي وإنما في معجزات الشفاء. منذ ذلك الحين، لم تعد الحرب التي يخوضها الله وقديسوه من صانعي المعجزات موجهة ضد مرض جسدي («جسدي» من وجهة النظر الطبية السائدة في القرون الوسطى)، وإنما ضد الشر الأبدي، متجسدا في الشيطان أو إبليس بذاته. في نهاية المطاف، نجد أن التسلسل المنطقي يفرض نفسه، فالمجنون المنفصل تماما عن الله، والذي يعد نموذجا مناقضا للتقوى والورع والحكمة (بالطبع، جنون الصليب بعيد كل البعد عما نقول)؛ يقود إلى المجنون الذي يصير غلافه الجسدي، الشاغر نوعا ما، مسكنا للشيطان.
لقد كنا حتى الآن بصدد الحديث عن المعتقدات الشعبية التي تتصف بالتسامح إلى حد بعيد، والتي ظلت على هذه الحال إلى أن تغير المشهد المجتمعي والديني في القرون الأخيرة من العصور الوسطى. وقد سنحت لنا الفرصة بالفعل للإشارة إلى ذلك الشعور بالقلق والخوف من نهاية الأزمنة الذي تملك هذه الحضارة، بيد أنه لا بد من التركيز بشكل أكبر على تزايد البدع والهرطقات التي أضحت مكونا رئيسا، لا يستهان به، في تلك الحضارة. وبالطبع، سادت هذه البدع والهرطقات طيلة القرون الوسطى. غير أن بدعة الكاثاريون أدت، في عام 1231، إلى إنشاء محاكم استثنائية، وهي محاكم التفتيش. ولكن هذا لم يمنع المؤمنين بالحكم الألفي، ومواكب حركة المتسوطين، والمذاهب المتعددة، وأولئك المجانين في حب الله؛ من التبشير بقرب نهاية الأزمنة، ولم يحل دون قيام أكثريتهم بشن هجوم عنيف على الكنيسة. وقد أبدت محاكم التفتيش ردود أفعال على قدر هذه الأحداث. ففي عام 1372 على سبيل المثال، حكم على بعض الهراطقة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «أخوية الروح الحرة» بالصعود إلى المحرقة؛ لأنهم رفضوا وأنكروا وساطة الكنيسة. وأخيرا، فإن الانشقاق الغربي الكبير الذي دام من عام 1378 إلى عام 1417، وحرم خلاله اثنان من الباباوات أحدهما الآخر، ثم ما نتج عن ذلك من انعقاد مجامع دينية متعددة، علاوة على ظهور بدع وهرطقات جديدة ذات طابع وطني وثوري، كل هذه العوامل ألقت بظلالها على العقول وأثارت بلبلة في الضمائر.
لم يكن من المستغرب، في مثل هذا المناخ، أن يقوى نفوذ الشيطان وأن تشتعل المحارق في جميع أنحاء أوروبا. فالهرطقة والشعوذة تسيران على خطى واحدة. ازدهر علم دراسة الشياطين مع ظهور (مطرقة الساحرات)، الذي نشر في عام 1486، على أثر مرسوم بابوي يأمر بالكشف عن الساحرات؛ لأن النساء هن المعنيات بالطبع. ففي المحاكمات المتعلقة بالسحر والشعوذة، التي تضاعفت منذ ذلك الحين واستمرت حتى منتصف القرن السابع عشر، نجد مقابل كل أربع نساء رجلا واحدا. إن «وباء السحر» ذاك، الذي كان سيدوم لمدة 150 عاما، لم ينشأ، وفقا لآر إتش روبنز،
7
صفحة غير معروفة