36
كان ذلك في عام 1979 وفوكو لا يزال على قيد الحياة، أما الآن فالحوار لا يزال متعلقا في الأغلب بالطابع التاريخي. ويتساءل الفيلسوف بلاندين كريجيل:
37
ما الذي يتبقى من ميشيل فوكو؟ ولماذا فوكو أكثر من آلتوسير ولاكان «اللذين تركا هما الآخرين أثرا لا يمحى على جيلنا؟ لماذا - من بين كل هذه الشخصيات - نختاره بالذات؟» ذلك لأن فوكو - على عكس الاثنين الآخرين - «كان بعيدا عن أي تصنيف سريع. ومن هنا، برز سحره الخاص والتأثير الجذاب الذي مارسه علينا جميعا، المتمثل في رفضه أن يتم تحديده أو قولبته في دور اجتماعي معين [...] ومن هذا التلاشي المقصود وهذه الحرية التي لفوكو، والتي تسمح بتأويلات مختلفة ومتعددة لأعماله، خرجت تعبيرات متناقضة ومتفرقة. أعاد فوكو الصوت للبائسين، مثلما أعاد بيكون اللون الأكثر بدائية، ليس للتقليل من شأن الثقافة وإلصاقها بعادات وقمع، وإنما للانتصار للبشرية التي اقتنصت حريتها: كان هذا هو ما علمنا إياه فوكو، وهذا هو ما يتبقى من عظمة أي كلمات أو لوحة انتهت بإعطائنا قدرا من السعادة.»
وفي هذا الاتجاه تحدثنا عن «الإنجيل وفقا لفوكو»، لدرجة أن كتابه «تاريخ الجنون» لا يتم تقديمه أبدا كسابقة تاريخية لحركة مناهضة الطب النفسي. إلا أن كبار الأطباء النفسيين المعاصرين لنظرية فوكو كانوا يتحدثون بوضوح، على عكس الجيل الشاب الذي أغرته «الحركة الثورية» التي للعصر وأخافته حالة الإرهاب الفكري التي ملأت الأجواء. في عام 1969، كانت الأيام السنوية لجريدة تطور الطب النفسي مخصصة «للتصور الأيديولوجي لتاريخ الجنون لميشيل فوكو».
38
ولقد قدم جورج دوميزون له «قراءة تاريخية» مشددا - على غرار هنري ستولمان (جنون أم مرض عقلي؟ دراسة نقدية ونفسية ومعرفية لمفاهيم ميشيل فوكو) - على «الغموض الدائم لمفهوم الجنون، الذي هو محور تفكير المؤلف.» هنا في الحقيقة تكمن نقطة الضعف، وسنجد في هذه التقارير نفس انتقاداتنا عند قراءة فوكو. «نادرا ما نأسف لأن عملا متفردا بجمال لغته، ورقة وجودة بعض تحليلاته، والحماس المذهل الذي يتطلب عملا غير محدود؛ تنتقص قيمته في النهاية بسبب غفلة مؤلفه عن الحقيقة الإكلينيكية في مجال العلاج النفسي» (ستولمان).
ومن جانبه، لم يكن هنري إي رقيقا (تعليقات نقدية حول تاريخ الجنون لميشيل فوكو): «إن هذا الفيلسوف المتبحر في مجال الطب، والدارس جيدا لبعض نقاط تاريخه، ولكن مدفوعا بمزاج سيئ تجاه الأطباء؛ قد شرع في إثبات أن «المرض العقلي» [...] ليس إلا تأثير قمع اتجاهات عدم التعقل عن طريق العقل والفضيلة ومصالح المجتمع. ومن هنا ينوي فوكو عدم الفصل بين الجنون (الذي يدور حوله وحده مجال الطب النفسي) وعدم التعقل [...] وهكذا، أصبح لدينا علم بالجريمة التي سيرتكبها الطب النفسي باستيلائه على مجال لا يتبعه: عدم التعقل العجيب [...] أي القول بأن الجنون إنما هو نتاج ثقافي يولد ولا يتطور إلا في هذا الحيز؛ حيث يدين العقل عدم التعقل. من مثل هذا المنظور - الذي نسميه «الأيديولوجي» - كون الشخص مجنونا أو كونه يبدو مجنونا أو موصوما بالجنون ليس له صلة بظاهرة طبيعية: فلكل شيء يحدث في التاريخ مثل في التطبيق العملي لمفهوم المرض العقلي وكأن «الباثولوجيا» الخاصة به مصطنعة بالكامل وعلاجه اجتماعي تماما. هذا بالطبع يعني التقليل من قيمة ما يتضمنه الموضوع من ثوابت متماسكة في «الخلل العقلي». إلا أن هذه المقاومة بالتحديد وهذا الثقل النفسي الباثولوجي هو الذي يمثل بالنسبة إلينا أساس الطب النفسي. [...] «فالمرض العقلي» هو مرض الواقع والحرية المقيدة - مثل الحلم - بفوضى الشخص الواعي؛ أي إنه يظهر تقريبا في مرضه العقلي عكس العلاقات التي تنظم عضويا الكائن الواعي داخل اللاوعي.»
ولم يكن هناك بد أمام الكتب النادرة التي تناولت تاريخ الجنون (لم تهتم جميعها إلا بالفترة المعاصرة) - التي تلت «تلك اللحظة» من الجنون وفقا لفوكو - من أن تتخذه مرجعا لها، مثل «نظام الطب النفسي: العصر الذهبي للطب العقلي»
39
صفحة غير معروفة