وسنتابع بحماس في هذا الفصل ما تم التوصل إليه من خلال هذه الأطروحة. تعتمد فكرة بيجو على تحديد إشكالية العلاقة بين الطب والفلسفة في العصر القديم، مع دراسة «الاستدلالات القياسية المميزة التي يقدمها الطب لعلم الأخلاق، ولا سيما ما يتعلق بمرض الروح »؛ حيث لا يقدم الطب استدلالا قياسيا فحسب، كما قلنا، وإنما هوية أيضا، بما أن «مرض الروح يأتي من خلال الجسد»، والجسد «هو المكان الذي تنفذ الروح من خلاله»، وهذا لا يحدث دون ألم.
في محاورة أفلاطون «طيمايوس»، يحدث مرض الروح، ويقصد به الحماقة أو الجنون، بسبب حالة الجسد، مع الفارق أنه إذا كانت الروح أقوى من الجسد، فإنها «تهزه بالكامل من الداخل»؛ وينتج عن ذلك الإصابة بالهوس أو بالمس الجنوني. أما إذا كان الجسد أقوى، فإن الروح تسقط «في أشد أنواع المرض؛ وهو الجهل» [نقيض الحكمة، أو نسيان الواقع] «لا أحد فاسد طوعا»؛ فكل عمل سيئ هو نتيجة لحكم خاطئ يجعلنا نؤثر الشر على الخير. أما جالينوس، وهو أكثر تشددا من أفلاطون وأرسطو اللذين أخذا بعين الاعتبار تأثير العوامل المادية والمعنوية عند تفسير دوافع الأفعال الإنسانية؛ فيرى أن مزاج الروح مرتبط بمزاج الجسد، وبناء على ذلك يمكن القول: إن أمراض الروح هي انعكاس لأمراض الجسد.
يرى القدماء أن أمراض الروح، أو بالأحرى الأمراض المشتركة بين الجسد والروح، تعد أمراضا عضوية. وأكثر هذه الأمراض الجسدية شيوعا هو التهاب الدماغ الذي يصاحبه حدوث حمى حادة أحد أعراضها الاضطراب العقلي. ومع الاتجاه التدريجي بين ما هو عضوي أو بدني نحو ما هو فلسفي، نجد الهوس (أي «الهياج» عند اللاتينيين). ونظرا لأن الهوس يعد مرضا وفي الوقت نفسه عرضا لأمراض أخرى (التهاب الدماغ، والملنخوليا)، فهو يمثل الجنون بامتياز؛ ولذلك سنتعمق في بحثه في إطار دراسات أبقراط وخلفائه في هذا الصدد. في الأصل، لم يكن لمصطلح «الهوس» أي مرجعية طبية بشكل خاص، وإنما كان مفهوما شائعا يشير إلى السلوك العنيف.
وقد ميز كل من أفلاطون وإيمبيدوكليس (في القرن الخامس قبل الميلاد) بين نوعين من الجنون؛ وهما: نوع سيئ، وهو الهوس الذي يصاحبه ولع جسدي؛ ونوع جيد، ملهم وسماوي. وهكذا أضاف الفلاسفة الإغريق معنى آخر للجنون، فضلا عن معناه المزدوج الذي قد يكون الخطيئة، وهو الجنون الذي قد يكون خلاقا. ويميز أفلاطون في محاورته «فيدر» بين أربعة أنواع من الجنون الإلهي كما يلي: الجنون النبوي والإله المسئول عنه أبوللو، والجنون المتعلق بالإدراك الحسي الأولي أو الجنون الطقسي والإله المسئول عنه ديونيسوس، وهو إله الكرمة والخمر والنشوة، والجنون الشعري المستلهم من ربات الإلهام والفنون، وأخيرا جنون الشهوة الجنسية المستوحى من الإلهة أفروديت والإله إيروس.
يقول سقراط لفيدر: «إن الهذيان، عندما يكون ممنوحا لنا كعطية إلهية، يمثل مصدر الخيرات الأعظم [...] ذلك أن الهبة الإلهية تفوق البراعة [الحكمة] البشرية» (من محاورة فيدر أو جمال الأرواح). وفي هذا السياق نفسه، أشار سقراط إلى الكاهنة بيثيا في معبد دلفي، والتي من المفترض أن ينطوي هذيانها ربما على النبوءات الموحى بها من الإله أبوللو. بالإضافة إلى ذلك، فالإنسان ليس بوسعه أن يكون ناظما جيدا للشعر «دون جنون الإلهام الممنوح من ربات الفنون [...]؛ لأن الشعر الذي ينظمه إنسان متزن ورابط الجأش دائما ما يتفوق عليه ذلك الشعر الذي يقرضه إنسان ملهم (بمعنى إنسان خاضع لسيطرة روح).» أما الجماهير التي لا تدرك أن هذا الإنسان ملهم، فهي تقول عنه: إنه مجنون.
ويشتق الفعل «يهذي»، من اللاتينية
delirare
وتعني «الخروج عن المسار الصحيح»، سواء بالتخريف (ومن هنا نشأت كلمة «هذيان» في القرن السادس عشر)، أو بالتنبؤ (تحدث أفلاطون عن «الهوس التنبئي»).
ومع الاتجاه المستمر نحو ما هو فلسفي، نذكر فيما يلي داء الكلب أو السعار. في نقطة التقاء بين الفلسفة والطب، يعد هذا الداء «اعتلالا جسديا يؤثر على جودة الروح» (كاليوس أوريليانوس، القرن الخامس الميلادي). وأخيرا، نأتي للسوداوية، التي تعد أكثر أمراض الروح ارتباطا بالفلسفة؛ حيث تتجلى بوضوح في هذا المرض العلاقة بين النفس والجسد. ونود في البداية أن نلقي الضوء على الأهمية التاريخية للسوداوية، والتي لن نكف عن الرجوع إليها تباعا. نبدأ بذكر الأهمية التي أولاها القدماء في الطب إلى المرة السوداء
melancholia ، التي يمكن أن تسبب بقطبيها المتناقضين اللذين يمزجان اللذة والألم (الحلو والمر)، عواصف أو فترات سكون.
صفحة غير معروفة