13
يصعب مثلا الحديث عن قرن ذهبي في هذا الأمر. شهدت رعاية مرضى الاعتلال العقلي - التي جاءت كرياح تغيير في عصر التنوير الإسباني متأثرة بالطب العربي الإسباني (فنذكر أول مصحة لمرضى الاعتلال العقلي في أوروبا، وهي مصحة بلد الوليد عام 1409) - انهيارا متتابعا بسبب الدمار الذي أحدثته حرب الاستقلال (1803-1813)، ذلك في الوقت الذي كان يشهد نوعا من الحظوة في باقي دول أوروبا بدرجات مختلفة. فقد كان مرسوم من السلطة المحلية التي يديرها أحد القضاة كافيا لاحتجاز أي شخص دون أي شهادة طبية. ولم يستطع قانون عام 1822 - الذي صمم على النموذج الفرنسي - أن يفرض إصلاحاته على الرغم من التأكيدات المتكررة. كانت رعاية مرضى الاعتلال العقلي في مأزق، ما عدا بعض المحاولات المنفردة، مثل إنشاء مصحة الصليب المقدس ببرشلونة (حيث كان للمدير نفوذ وسلطة أوسع من الطبيب). وفي كتالونيا - التي كانت تشهد تقدما واسعا مقارنة بباقي البلاد - اتسعت حركة إنشاء المصحات الخاصة لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسبب تراجع الدعم الحكومي: مصحة تورلوناتيكا بمدينة لوريه دي مار (1844) وسان بوديليو دي يوبريجات (1854) ونوفا بيلين (1857) ... وفي كتالونيا أيضا، أنشئ عام 1863 أول معهد لدراسة الدماغ، والذي شدد بطريقة «ثورية» على أن يتولى مسئوليته بالكامل الطاقم الطبي. في برشلونة، ولدت أول مؤسسة تضم الأطباء النفسيين عام 1911. وفي مدريد، أنشئت أول مصحة خاصة للأمراض العقلية عام 1877. وفي باقي البلاد، كانت مصحات سان جون دي ديو تستقبل المرضى الفقراء، ولكنها لم تكن تكفي أعدادهم. أما تدريس الطب النفسي التقليدي المستوحى من المدرسة الفرنسية، فلم يبدأ في الاستقرار إلا متأخرا في القرن التاسع عشر، ولم يدخل الجامعة إلا كفرع من الطب الشرعي.
شرعت البرتغال
14
أيضا في محاكاة النموذج الأوروبي، ولكن بتطور مختلف. من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، كان يغلب على قطاع رعاية مرضى الاعتلال العقلي طابع القديس جون دي ديو؛ المولود عام 1595 في البرتغال ومؤسس تنظيم خيري وعلاجي. ولقد انتشر هذا التنظيم - على غرار دور الاحتجاز الجبري في عهد النظام القديم - في كافة أرجاء أوروبا، ولا سيما فرنسا تحت اسم تنظيم الإخوة للأعمال الخيرية. ولقد خصصت المصحات التابعة لهذا التنظيم مكانا لاستقبال مرضى الاعتلال العقلي بدءا من البرتغال وإسبانيا. إلا أن صيحة التحذير التي أطلقها الطبيب برناردينو أنطونيو جوميز عام 1844 - عقب جولته في مصحات الأمراض العقلية في أوروبا (حيث بدا له النموذج الألماني هو الأصلح) - تثبت أنه في مجال الرعاية العامة لمرضى الاعتلال العقلي لا يزال هناك الكثير لتحقيقه. فلم يكن هناك إلا مشفى كبير في لشبونة - ساو جوزيه تمتلك بالفعل مناطق مخصصة بمرضى الاعتلال العقلي. ولقد زار طبيب أمراض عقلية فرنسي مباني هذا المشفى في التاريخ نفسه، ووجدها رديئة، بينما اتسمت المؤسسة نفسها بالنظافة والأطباء بالتفاني.
15
وبعد الاستعلام عن هذا النقص في المصحات، وضع الطبيب عدة تفسيرات هامة: يأتي ثلاثة أرباع المرضى المحتجزين البالغ عددهم مائتين وواحدا وثمانين من لشبونة، بينما «يوجد في القرى والمدن - بما فيها لشبونة - مرضى اعتلال عقلي مسالمون، نتساهل مع وجودهم في الشوارع؛ لأنه لا توجد لدينا مؤسسة يمكنها استقبالهم.» أما «المرضى سيئو السلوك أو الخطرون»، فتضطر السلطات المحلية - نظرا لصعوبة نقلهم - إلى «حبسهم مؤقتا في السجون أو المشافي العادية». بينما يجري علاج مرضى الاعتلال العقلي «الأثرياء في منازلهم، أو يجري إرسالهم إلى بلد آخر». في عام 1849، افتتحت مصحة للأمراض العقلية بالفعل في لشبونة - ريافول - حيث يتم فقط استقبال المرضى الأثرياء الذين يمكن علاجهم. ولكن هذا لم يمنع أن أصبح ثلاثة أرباع هؤلاء المرضى ميئوسا من شفائهم. وعلى الرغم من افتتاح مصحة كوند دي فيريرا ببورتو عام 1881، ظل ثمانية آلاف مريض عقليا مطروحين في القرى أو في السجون، في انتظار أن يتوافر مكان لهم، ولذلك كانت الحاجة إلى قانون. ولقد ساهم الطبيب جي ماريا دي سينا بقوة في هذا الأمر عن طريق كتاباته وزيارته لمصحة شارنتون بفرنسا وأيضا مصحات فيينا وزيورخ. وبالفعل، صدر قانون في الخامس عشر من يوليو 1889، لينظم أخيرا خدمة مرضى الاعتلال العقلي على مستوى البلاد. وتأسس مشفى كبير يسع لستمائة مريض مزود بملحقين من غرف الاحتجاز للمرضى والمريضات ذوي النزعة الإجرامية، يتيح أيضا «تدريس علم الطب النفسي الإكلينيكي» في لشبونة، وأنشئ اثنان آخران أصغر حجما في كويمبرا وفي جزيرة ساو ميجيل (آسور). وأصبح المشفى القديم ريافول وآخر بني في بورتو مخصصين فقط لرعاية مصابي الصرع والبله ومرضى العته غير المؤذين من الجنسين.
وبالمقارنة مع البرازيل،
16
نتمكن من قياس مدى اختلاف العقليات الذي يوجد بين بلد قديم وآخر حديث. فحتى استقلالها عام 1822، كانت المستعمرة البرتغالية الضخمة تحتجز مرضى الاعتلال العقلي في المؤسسات الدينية، وخاصة مصحة سانتا كازا دي ميزيريكورديا بباهيا (السلفادور) فيما يسمى «كازينها دي دودو» (أي منازل صغيرة للمجانين). وبعد استقلالها، اتجهت البرازيل للطب الأوروبي الفرنسي بالتحديد. وبدأت حلمها لرعاية مرضى الاعتلال العقلي من داخل جمعية الطب والجراحة التي تأسست عام 1829. وقدم الطبيب دا كروز جوبيم عام 1830 - لجمعية الصحة العامة - تقريرا غاضبا عن المصير البائس لمرضى الاعتلال العقلي المحتجزين بمصحة سانتا كازا دي ميزيريكوديا: «لا يسعنا تصديق أن في ريو هذا القدر من الوحشية يمارس في مكان من المفترض أن يخفف من معاناة هؤلاء المرضى، الذي قد يصاب أي منا بما أصابهم.» أنشئت أول مؤسسة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي على الطراز الفرنسي عام 1852 في مدينة ريو دي جانيرو، والتي أصبحت مصحة وطنية عام 1890. وتوالى بناء المصحات خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بما فيها مصحة ساو باولو لمرضى الاعتلال العقلي عام 1898؛ وهي الكبرى على الإطلاق في أمريكا الجنوبية. وخصص أول كرسي أستاذية في الطب النفسي عام 1884، بناء على المدرسة الفرنسية، قبل أن يتحول اتجاهه في مطلع القرن العشرين إلى الطب النفسي الألماني. جاء التشريع متأخرا، فلم توضع أي لوائح محددة لطرق الاحتجاز إلا في عام 1893، وفي عام 1903، صدر أول قانون ينظم مسألة علاج مرضى الاعتلال العقلي بالكامل.
صفحة غير معروفة