وبعد مضي زمن قليل على تمليكها أعلمها عمها أن بعضا من حراس القصر يتآمرون على قتل الملك ويدبرون الحيل لإهلاكه، فأبلغت الملك ذلك ففحص عنه، وبعد أن تأكد صحته أمر بصلب المتآمرين، وكانت في كل أعمالها ملتزمة الحياد لا تظهر ميلا إلى شعبها، مع أنها كانت تحبه حبا عظيما، فتبعت في ذلك نصائح عمها مخافة أن تثير البغضاء والحسد في قلوب أشراف الفرس، فيسعون في إسقاطها وتنقلب النعمة نقمة عليها ووبالا على أمتها، ومع ما اتخذته من التدابير لإخفاء هذا الميل العظيم ظهر أخيرا، وظهرت معه عناية الله ببني إسرائيل في إقامة إستير ملكة على الفرس.
في ذاك الوقت كان الوزير الأول في المملكة رجل يسمى هامان الأجاجي، هذا كان محترما عند الشعب، وكان الملك يعزه ويظهر من إكرامه والاحتفاء به الشيء الكثير، حتى إنه أمر أن يسجد له خدام القصر، فكانوا يسجدون للأذقان ما عدا مردخاي عم إستير، فإنه لم يسجد له ترفعا من جثوه أمام رجل عماليقي يقل عنه معرفة وإدراكا، فاحتدم هامان غيظا وحنقا على مردخاي، ولا سيما بعد أن علم أنه يهودي وأضمر له ولشعبه الشر، وجعل يسعى في تدبير المكايد لإبادة يهود المملكة عن بكرة أبيهم، فأغرى الملك بذلك فوافقه على مشروعه وأصدر منشورا عموميا للحكام والولاة بقتل اليهود في اليوم الثالث عشر من الشهر من الصبي الصغير إلى الشيخ الكبير، وبلغ الخبر مدينة شوشن فخافوا خوفا عظيما ومزق مردخاي ثيابه حزنا، وكاد ينفطر غيظا من هامان كل ذلك جرى ولم يبلغ مسامع إستير شيء؛ لأنها كانت مع بقية نساء القصر في غرف متطرفة تحرس ليلا ونهارا، فلا يسمح لهن بالمداخلة في الشئون السياسية ولا لأحد بمقابلتهن، غير أنها علمت أن عمها منحرف الصحة متكدر حزين، فأرسلت تستعلم عنه فأخبرها بكل ما حدث وطلب منها أن تجتهد في مقابلة الملك، وتتضرع إليه أن يعفو عن شعبها وتبذل جهدها في إنقاذه.
ومن عادات ملوك الفرس المحفوظة أنهم كانوا يحكمون بالموت على أي شخص دخل عليهم دون استئذان ما لم يمدوا إليه قضيب الذهب علامة العفو والمغفرة، وقد ذكر المؤرخون أن السياف كان يبطش بمن يدخل بغير أن ينتظر أمر الملك، وكانت إستير تعرف جيدا مآل هذه الشريعة، غير أن حبها الشديد لعمها وتعلقها القوي بأمتها ودينها حملاها على مقابلة الملك والمخاطرة بحياتها لخلاص شعبها، وأكبر دليل على تقواها واتكالها على الله في جميع أعمالها أنها صامت هي وجواريها ثلاثة أيام، وطلبت من يهود المدينة أيضا أن يصوموا معها، وفي اليوم الثالث لبست ثيابا بديعة مطرزة من القصب ودخلت على الملك.
وكان يصحب إستير خادمتان، فكانت متكئة على إحداهما، أما الأخرى فكانت ترفع أذيال ثوبها، وهكذا حضرت أمام الملك واحمرار الخجل يعلو محياها والسرور والبهاء يكللان طلعتها الجميلة الزاهرة، إنما سمات الخوف أبت إلا أن تظهر عليها، وكان الملك جالسا في الدار الداخلية حيث مسكنه الخصوصي، ولا يقدر أحد على المكوث فيها إلا خصيانه، ومن كان عزيزا عنده، ولما وقع نظرها عليه ورأته جالسا على العرش تعلوه سمات الهيبة والوقار، وقد تقطب وجهه غيظا، لما دنت منه ارتمت بين ذراعي واحدة من وصيفاتها وقد أغمي عليها، فتأثر الملك من هذا المنظر ودبت فيه عواطف الحب والحنو، فوثب عن كرسيه وأخذها بين ذراعيه واضعا قضيب الذهب في يديها؛ ليؤكد لها أنه لا ينالها شر ولو كانت غير مراعية حرمة القانون.
وقد سلكت إستير في جميع أعمالها بذكاء غريب ونباهة قوية أوتيت بهما من العلاء، فإنها لما رجعت إلى نفسها من الإغماء لم تفاتح الملك بما كان يخالج فؤادها ولم تخبره بسبب مجيئها إليه؛ لأنها لو فعلت ذلك للحقها الفشل والخذل، ولكنها طلبت إليه أن يأتي هو وهامان إلى وليمة تعدها لهما، فرضي بذلك وأمر هامان أن يصحبه فسر هامان وعد دعوة إستير الملكة شرفا له ورفعة لمقامه، ولم تذكر إستير شيئا للملك في الوليمة الأولى، بل دعته إلى وليمة ثانية وفي أثنائها قصت عليه ما تعرفه عن هامان، وأخبرته بحقيقة الأمر وما أضمره من الشر لليهود، وأظهرت له بأجلى بيان رداءة وزيره وخبث طويته ونياته وفظاعة العمل الذي شرع في ارتكابه، فنجحت مساعيها وأثرت كلماتها في الملك تأثيرا شديدا، فانقلب على وزيره هامان، فأمر بصلب هذا الظالم الغشوم على ذات الخشبة التي كان أعدها لمردخاي ووهب جميع ما يملكه من مال وعقار إلى الملكة إستير، وقد رأى الملك مهارة مردخاي وجدارته وما طبع عليه من الصفات الحسنة، وتذكر خدماته السابقة ومن جملتها كشف الستار عن الدسيسة التي دبرها رجال القصر لاغتياله، فأعطاه وظيفة هامان بكل حقوقها وامتيازاتها.
ولما كان الأمر الذي أصدره الملك بقتل جميع اليهود لا يمكن إبطاله؛ لأن ذلك مغاير لسنة من سنن مادي وفارس، وهي أن أمر الملك لا يرد في أي حال من الأحوال، فكر أحشويروش في طريقة لتلافي هذا الخطب، وكانت إستير تلاحقه دائما وتريه فظاعة هذا العمل وما سيجلبه من العار والهوان على المملكة، وبعد التفكر طويلا أمر الملك فأرسلت كتابات لجميع يهود المملكة تؤذن لهم من قبله أن يجتمعوا في اليوم الثالث عشر من شهر آذار (وهو اليوم الذي عينه هامان لإيقاع الأذى بهم)، ويدافعوا عن أنفسهم ويقتلوا كل من يتعدى عليهم ويبادئهم بالعدوان، فعمل اليهود حسب إشارة الملك وقتلوا من أعدائهم في شوشن القصر وحدها ما ينيف عن خمسمائة رجل، ومن جملتهم أولاد هامان العشرة الذين صلبوا إرهابا للبقية، أما اليهود المتفرقون في المملكة فقد قتلوا في اليوم ذاته 75000 نفس مدافعة عن أنفسهم، غير أنهم لم يمدوا أيديهم إلى النهب والسلب، وقد وقع هذا الحادث العجيب العظيم في اليوم الثالث عشر من شهر آذار، فأنشأ مردخاي وإستير عيدا تذكارا لهذا الخلاص وعيدا أيضا اسمه عيد البوريم والاقتراع، ولا يزال اليهود إلى الآن يحتفلون بالعيد المذكور في 14 و15 آذار.
هذا بعض من سيرة إستير الشهيرة التي تكتب وإلى جانبها أسماء الذكاء والشجاعة وعلو الهمم وحب الأمة والوطن، وهي تعلمنا كيف يجب على الإنسان أن يحب شعبه ودينه، ويخاطر بحياته في المدافعة عنهما والذود عن حقوقهما المقدسة.
أما سفر إستير فهو من أصغر الأسفار التاريخية المذكورة في التوراة العبرانية وأحد الكتب المسماة «المجلة»، وتمتاز لغته العبرانية عن غيرها بما فيها من الكلام المحدث وعدم ذكر الله البتة، وهذا مما يدل على أن هذا السفر ترجم من تاريخ فارسي، وقد نسب تأليفه إلى عزرا ومردخاي وغيرهما من مشاهير اليهود، وكتب العلماء المعاصرون عدة مؤلفات في سيرة إستير منها كتاب بومفرتن بالألمانية، وكتاب رائدسون بالإنكليزية، وكتاب أوبرت بالفرنسوية، وقد نظم راسين الشاعر الفرنسوي الطائر الصيت سيرة إستير وجعلها رواية تمثيلية وحيدة في بابها، وكتب مثل ذلك بعض النبهاء في مصر وسورية بالعربية. (5) يوسيفوس
يوسيفوس المؤرخ الشهير.
إذا عدت رجال اليهود الذين نبغوا في العلوم والمعارف واشتهروا بعلو الهمم وسامي المدارك، فكانوا مثالا حميدا في حب الوطن والمدافعة عنه وتضحية حياتهم إعلاء لشأن أمتهم ورفع منارها عد يوسيفوس في طليعتهم جهادا، وكان من أشهرهم بلا منازعة، فمن لا يعرف هذا الاسم الشهير، وقد ملأ ذكره صفحات التاريخ، ومن لم يقرأ شيئا من كتاباته ومباحثه التاريخية المفيدة، ولا يخلو تاريخ مدقق منها، فيوسيفوس هو المؤرخ الذائع الصيت الذي قضى حياته باحثا ومنقبا، فاكتشف كثيرا من أسرار التاريخ الغامضة التي كان يعز الوقوف على مبادئها ونتائجها، وهو الذي أتى أعمالا مجيدة قرنت اسمه بالمجد وأذاعت في العالمين شهرته، فكم مرة خاطر بحياته ذائدا عن حقوق أمته ووطنه، ولا بد من إعلان ذلك تدوينا لذكره، بحيث يرى من ترجمته أنه كان جامعا بين بلاغة المؤرخ وتضلعه والحاكم العادل والقائد الخبير المحنك والقاضي المتشرع إلى غير ذلك من الخلال العزيزة المنال.
صفحة غير معروفة