اتخذت الخطوة الأولى في عام 1905 عندما أسس مصنع ياواتا للصلب لأسباب استراتيجية . كان المصنع مملوكا للدولة وتطلب توفير الدعم لسنوات قبل أن يحقق أرباحا، وقد قدمت الحرب العالمية الأولى دعما للشركات اليابانية نظرا لانقطاع الواردات الأوروبية، وبعد الحرب، أجرت الهيئات العسكرية اليابانية أبحاثا مشتركة مع الشركات الخاصة، ودعمت الصناعات الرئيسية مثل صناعة السيارات والشاحنات والطائرات من خلال عقود التوريد. كانت الشركات القابضة تمتلك الشركات الكبرى، فضلا عن البنوك التي كانت تمولها. نسق هذا «الزايباتسو» (التحالف الصناعي) عمليات الإنتاج، وتولى توفير الاستثمارات للصناعة.
بينما كان الهدف من هذا التحالف الصناعي التعامل مع نقص رأس المال في اليابان من خلال زيادة معدلات الادخار والاستثمار، واجهت إدارة الشركات عامل الأسعار من خلال ابتكار التكنولوجيا المناسبة. ابتكرت الشركات الأمريكية التي تعمل في إطار اقتصاد مرتفع الأجور نظم إنتاج قائمة على خطوط التجميع التي تعتمد على الماكينات بصورة أساسية، والتي تقتصد في الأيدي العاملة. في المقابل، كانت الشركات اليابانية تقتصد في المواد الخام ورأس المال. كان أحد أشهر المنتجات اليابانية الطائرة المقاتلة ميتسوبيشي زيرو، ولم تتحقق السرعة القصوى للطائرة التي بلغت 500 كيلومتر في الساعة على ارتفاع 4000 متر من خلال زيادة قدرة محركها، بل عن طريق تخفيض وزنها. كان أحد التطورات المتميزة في ثلاثينيات القرن العشرين تبني استراتيجية «الإنتاج الآني»؛ أي إنه بدلا من إنتاج مخزون كبير من المكونات الصناعية، ومن ثم الحاجة إلى رأس مال لتمويلها، لجأت الشركات اليابانية إلى إنتاج المكونات الصناعية فقط عند الحاجة إليها، وقد أثبتت تقنية «الإنتاج الآني» نجاحها وإنتاجيتها العالية، حتى إنها صارت تطبق في السياقات التي يتوفر فيها رأس المال أو تلك التي لا يتوفر فيها.
على عكس روسيا القيصرية أو المكسيك، لم يكن الاستثمار الخارجي قناة ذات أهمية نسبيا لاستيراد التكنولوجيا الغربية، بدلا من ذلك أقامت الشركات اليابانية إدارات أبحاث وتطوير خاصة بها لنسخ التكنولوجيا الغربية وإعادة هندستها لتناسب الظروف اليابانية، وكانت الدولة تدعم الشركات. فعندما ثبت استحالة استيراد التوربينات الكهربائية من ألمانيا في عام 1914، حازت هيتاشي عقدا لتطوير توربين بقدرة 10 آلاف حصان لاستخدامه في أحد المشروعات الكهرومائية، ونظرا لأن أكبر توربين صنعته هيتاشي قبل ذلك كان بقوة 100 حصان، كان أمام الشركة الكثير لتتعلمه، وقد دعمت هذه التجربة القدرات الهندسية للشركة.
لم يكن تطبيق اليابان لنموذج التنمية القياسي ناجحا بالكامل. من جانب، نشأ مجتمع حضري يمتلك صناعات متقدمة، وزاد إجمالي الناتج المحلي للفرد من 737 دولارا أمريكيا في عام 1870، إلى 2874 دولارا أمريكيا في عام 1940، ونظرا لحالة الركود التي سادت معظم دول العالم الثالث، كانت هذه الإنجازات مبهرة. على الجانب الآخر، كان معدل نمو الدخل لكل فرد (2,0٪ سنويا) متواضعا، ولا يزيد كثيرا عن معدل النمو الأمريكي بمقدرا 1,5٪، ولو كانت هذه المعدلات قد استمرت بعد عام 1950، كان الأمر سيستغرق من اليابان 327 عاما للحاق بالولايات المتحدة، وهذه ليست بالسرعة الكافية.
انعكس هذا النمو البطيء في نقاط ضعف في سوق العمالة، مثلما كان الحال في روسيا والمكسيك. كانت الشركات الكبرى تدفع أجورا مرتفعة، فيما ظلت الأجور منخفضة للغاية في الزراعة والصناعات صغيرة الحجم؛ نظرا لضعف الطلب على العمالة. استمرت هذه القطاعات في الاعتماد على التكنولوجيا اليدوية أو الماكينات البسيطة. كانت هناك علاقة نفعية متبادلة بين القطاعات الحديثة والتقليدية: فإذا أمكن تنفيذ إحدى مراحل عملية الإنتاج الحديثة بأقل تكلفة، من خلال استخدام الأساليب اليدوية محدودة النطاق، كان يجري تعهيد تنفيذ هذه المرحلة إلى شركة صغيرة.
أمريكا اللاتينية
أجرت أمريكا اللاتينية أحدث التجارب في تطبيق النموذج القياسي، وقد بدأ ذلك في الوقت الذي اندمج فيه النصف الجنوبي من القارة في الاقتصاد العالمي.
كانت المكسيك والأنديز والبرازيل والكاريبي جزءا من الاقتصاد العالمي منذ القرن السادس عشر، بينما كان الجزء الجنوبي من أمريكا اللاتينية بعيدا للغاية عن أوروبا بما لا يسمح بالتجارة معها بصورة مربحة. بعد عام 1860، جعلت السفن البخارية من المربح تصدير القمح من الأرجنتين وأوروجواي، وتصدير السماد والنحاس من ساحل المحيط الهادئ للقارة. انضمت اللحوم إلى قائمة الصادرات في عام 1877، عندما حملت أول سفينة تحتوي على ثلاجات - سفينة «لو فريجورفيك» - لحم ضأن مجمد من بيونس آيريس إلى روان. ازدهرت الصادرات، وبدأت المنطقة في اجتذاب المستوطنين ورأس المال من أوروبا. بحلول عام 1900، صار المخروط الجنوبي أحد أكثر مناطق العالم ثراء، وما لبثت أن انضمت الأرجنتين إلى المكسيك في تطوير التصنيع.
كان كثير من دول أمريكا اللاتينية أصغر حجما من أن تصير دولا صناعية؛ لذا استمرت هذه الدول في تصدير المنتجات الأولية واستيراد المنتجات المصنعة، واستمرت كذلك على فقرها. على الجانب الآخر، أجرت الاقتصادات الكبرى تجارب على تطبيق نموذج التنمية القياسي في أواخر القرن التاسع عشر، وثابرت في تطبيقه حتى ثمانينيات القرن العشرين عندما أطلق عليه «إحلال الواردات بالتصنيع». أولا: أنشئ 90 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وتشيلي بحلول عام 1913. ثانيا: وفرت التعريفات الجمركية حماية لصناعات مثل صناعة المنسوجات والحديد. ثالثا: سارت دول أمريكا اللاتينية على النموذج الروسي مع توفير الاستثمارات من الخارج. رابعا: تمثلت هفوة أخرى في عدم توفير التعليم العام. كانت الأرجنتين الاستثناء الكبير في هذا الصدد؛ إذ فرضت التعليم الإجباري المجاني في عام 1884؛ ونتيجة لذلك جاءت الأرجنتين في مقدمة دول القارة (تتبعها مباشرة تشيلي)؛ حيث كان أكثر من نصف سكانها البالغين يعرفون القراءة والكتابة في عام 1900، مقارنة بربع السكان في المكسيك وفنزويلا والبرازيل.
تسارعت التنمية الصناعية محتمية بجدار التعريفات الجمركية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كما أضفت الأسعار المنخفضة للصادرات الزراعية من القارة ثقلا للمناقشات حول دعم التنمية الصناعية، وقد تحولت هذه الرغبات إلى عقيدة راسخة من خلال لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية تحت إشراف الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بريبيش. أكد تقرير «التنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية ومشكلاتها الأساسية» (1950) أن أسعار المنتجات الأولية التي تصدرها دول أمريكا اللاتينية كانت تنخفض مقارنة بأسعار الواردات المصنعة، وأوصى التقرير بدعم الدولة للصناعة لمواجهة هذه المشكلة. كانت «نظرية التبعية» مؤثرة إلى حد كبير على الرغم من جدلية ادعاءاتها. خذ مثلا بالأمثلة المذكورة في هذا الكتاب؛ على سبيل المثال، يتوافق تاريخ زيت النخيل والكاكاو مع النظرية؛ نظرا لانخفاض أسعارهما مقارنة بسعر الأقمشة القطنية منذ منتصف القرن التاسع عشر (الشكلان
صفحة غير معروفة