وهكذا يعتبر السبب المباشر في الاختلاف بين الدولتين واضحا؛ ألا وهو أن الولايات المتحدة كانت تمتلك مدارس أكثر من المكسيك. حققت مستعمرة نيو إنجلاند نسبة تقترب من 100٪ في معرفة القراءة والكتابة بين سكانها من الذكور خلال الفترة الاستعمارية، عن طريق مدارس تمولها الدولة وفرض التعليم الإجباري. قاد هوراس مان عملية تحديث التعليم في ماساتشوستس، وفي عام 1852 طبق نظام تعليمي على غرار النظام المطبق في بروسيا. انتشرت «حركة المدارس العامة» إلى الولايات الشمالية الأخرى، حيث كان التعليم يلبي حاجات الصناعة فيها. اكتسب التعليم العام طابعا أمريكيا مثلما كانت التعريفات الجمركية المرتفعة. في عام 1862، قدم عضو الكونجرس عن فيرمونت وهو جاستن سميث موريل - الذي كان يرعى مشروع قانون التعريفة الحمائية في العام السابق - مشروع قانون لمنح الأراضي الفيدرالية للولايات لتأسيس جامعات، ثم إنشاء أكثر من 70 «كلية على أراضي المنحة الحكومية». بين عامي 1910 و1940، شهدت «حركة المدرسة الثانوية» تأسيس مدارس ثانوية عامة في أنحاء البلاد، ومنذ الحرب العالمية الثانية، شهدت البلاد توسعا أكبر في إنشاء المدارس الثانوية والجامعات.
في المقابل، لم يكن هناك توسع مماثل في التعليم في المكسيك قبل القرن العشرين. أدت الثورة المكسيكية إلى ازدياد نسبة ارتياد المدارس، غير أنه في عام 1946 كان أكثر من نصف البالغين لا يزالون أميين. كان هناك توسع كبير في نشر التعليم على جميع المستويات خلال نصف القرن الماضي، ولكن بالنسبة للمكسيك، جاء التعليم متأخرا مدة قرنين.
لماذا انتهجت الولايات المتحدة والمكسيك مسارين متباينين؟ كان الطلب على امتلاك القدرة على القراءة والكتابة والمهارات الحسابية أكبر في الولايات المتحدة خلال الفترة الاستعمارية منه في المكسيك؛ نظرا لأن اقتصادات مستعمرات أمريكا الشمالية كانت اقتصادات تقوم على تصدير السلع الأساسية، وكان المستوطنون يتطلعون إلى بلوغ مستوى المعيشة الأوروبي عن طريق بيع قسط كبير من إنتاجهم لشراء السلع الاستهلاكية الإنجليزية، وكانت معرفة القراءة والكتاب تيسر من هذا النشاط التجاري. في المكسيك - على النقيض - كان السكان الأصليون أقل نشاطا على المستوى التجاري، ومن ثم لم يجدوا نفعا كبيرا لهذه المهارات.
كانت الحكومات أيضا أكثر حرصا على بناء المدارس في الولايات المتحدة من أمريكا اللاتينية. دعمت الاقتصادات القائمة على المساواة في نيو إنجلاند وإقليم الأطلسي الأوسط الكيانات السياسية الديمقراطية التي وفرت خدمات عامة مثل التعليم، والتي كانت مطلوبة على نطاق واسع. على النقيض ، كان يتولى إدارة المكسيك نخبة من الصفوة من المواطنين البيض والتي لم يخدم مصالحها نشر التعليم بين العامة؛ لذا ظل العامة غير متعلمين. كان مستوى اللامساواة مرتفعا، وكانت الحكومات في المكسيك تمثل نخبة صغيرة في الأنديز وفي المستعمرات التي قامت على استغلال عمالة العبيد مثل مستعمرات الكاريبي والبرازيل، وهو ما أدى إلى النتيجة نفسها: تعليم محدود في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية.
تقدم الولايات المتحدة مقارنة تكشف حقائق كثيرة؛ إذ إن أكثر مناطقها ازدهارا أثناء الفترة الاستعمارية قامت على استغلال عمالة العبيد، فلماذا لم تلق الولايات المتحدة مصير جامايكا أو البرازيل؟ بعد إلغاء العبودية وانتهاء عملية إعادة البناء ووضع أسس الجمهورية بعد الحرب الأهلية، سادت اللامساواة ولايات الجنوب أيضا، وكان يحكمها طبقة من النخبة التي لم تهتم بتعليم الأمريكيين من أصول أفريقية. ظلت نسبة الحصول على التعليم وجودة التعليم منخفضة حتى نهاية التمييز العنصري في ستينيات القرن العشرين، كان ذلك سببا رئيسيا في أن يصبح الجنوب أفقر المناطق في البلاد. إن الفارق الرئيسي بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية هو نسبة السكان الذين تعرضوا للإقصاء الاجتماعي. في الولايات المتحدة، شكل الأمريكيون من أصول أفريقية نسبة سبع إجمالي عدد السكان، بينما شكل السكان الأصليون والسود في أمريكا اللاتينية نسبة ثلثي عدد السكان الإجمالي، فلو كانت الولايات المتحدة تعاملت مع 70٪ من سكانها بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع الأمريكيين من أصول أفريقية، لما كانت النتيجة لتقتصر فقط على انتشار الظلم على نطاق أوسع، بل كانت تحقق الفشل على المستوى القومي؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن لتصبح قط أحد مراكز القوة الاقتصادية في ضوء هذا المقدار المحدود من التعليم.
الفصل السابع
أفريقيا
لا يعتبر فقر القارة الأفريقية أمرا جديدا؛ فقد كان إقليم أفريقيا جنوب الصحراء هو الأكثر فقرا في العالم في عام 1500، ولا يزال كذلك، رغم زيادة الدخل لكل فرد. يهدف هذا الفصل إلى تحديد البنى والأحداث العارضة التي أبقت على فقر أفريقيا كل هذه الفترة.
إن «القائمة القصيرة» للأسباب المحتملة طويلة، فلا تزال الأيديولوجية الاستعمارية تسيطر على بعض الدوائر الغربية، حيث يعزى فقر الأفارقة إلى كسلهم المتخيل أو افتقارهم إلى الذكاء، كما تشتمل التصورات الأكثر تعقيدا على أن التقاليد أو سيادة القيم غير التجارية تحد من قدرات الأفارقة، ولكن لا يصمد أي من هذه الادعاءات في وجه الفحص التاريخي للمسألة.
تعتبر التفسيرات المؤسساتية لأسباب فقر القارة الأفريقية من التفسيرات المفضلة أيضا. تعتبر تجارة العبيد تفسيرا رائجا، بل إن الدول الأكثر فقرا في القارة الأفريقية اليوم هي أكثر الدول التي كانت تصدر العبيد، لكن مع ذلك لا تزال الدول التي قاومت المستعبدين بكل ما أوتيت من قوة شديدة الفقر بمعايير اليوم، ومن ثم لا بد وأن هناك سببا آخر. يعتبر الاستعمار من التفسيرات المفضلة كذلك؛ حيث كان الاستعمار يهدف في كثير من البلاد إلى نقل الثروة من يد الأفارقة إلى الأوروبيين. ورغم حدوث بعض التطوير في ظل الحكم الاستعماري، إلا أن الإدارة الأوروبية لم تدشن النمو الاقتصادي الحديث في الدول الأفريقية. يرى منظرو نظرية التبعية أن السبب يكمن في العولمة الشديدة؛ حيث يرى هؤلاء أن تركيز القارة الأفريقية على تصدير المواد الأولية كان في غير صالح القارة على المدى الطويل. وأخيرا، أكد الكثير من المراقبين مؤخرا على عوامل الفساد، والتدخلات الحكومية، والحكم الشمولي للحكومات الأفريقية. إذا حلت حكومات تديرها إدارات أوروبية محل الدول الفاشلة، فمن شأن اقتصادات الدول الأفريقية أن تنطلق، لكن شريطة أن يديرها الأجانب بالطريقة الصحيحة هذه المرة.
صفحة غير معروفة