لم يقتصر التطور الأمريكي على صناعة المنسوجات القطنية فحسب؛ ففي عام 1782، أنشأ أوليفر إيفانز مصنع الدقيق الآلي الأول. قبل القرن التاسع عشر، كانت آلية إطلاق النار في المسدسات والبنادق تصمم وفق الطلب، وكان على صانع الأسلحة التوفيق بين المكونات المختلفة بغرض ضمان عمل آلية الإطلاق بسلاسة. كان الفرنسي أونريه بلون والأمريكي إيلي ويتني أول من جربا استخدام أجزاء متبادلة وفكرا في ذلك، بيد أن ذلك لم يكن ممكنا على نطاق واسع حتى اختراع ماكينة التفريز حوالي عام 1816. صنعت مصانع الأسلحة التابعة للحكومة الأمريكية في سبرنجفيلد وهاربرز فيري في عشرينيات القرن التاسع عشر أجزاء متبادلة بغرض استخدامها في البنادق. أبهرت الأسلحة الأمريكية التي عرضت في معرض كريستال بالاس في عام 1851 البريطانيين، حتى إنهم أرسلوا بعثة لدراسة «النظام الأمريكي». انتقلت فكرة تبادل القطع في الأسلحة إلى شركات تصنيع السلاح الخاصة مثل كولت، ثم إلى مصنعي الساعات في منتصف القرن التاسع عشر، ثم إلى الدراجات، وماكينات الخياطة، والماكينات الزراعية، وأخيرا إلى السيارات حيث كانت الأجزاء المتبادلة تمثل عنصرا مكونا أساسيا في نظام خط إنتاج فورد. اعتمد نجاح الاقتصاد الأمريكي على تطبيق الاختراعات الهندسية المبتكرة عبر القطاع الصناعي بأكمله، وكان الدافع إلى الميكنة هو ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة، وقد تطلب تحقيق النجاح توافر عدد كبير من المخترعين المحتملين، وهذا التفاعل بين بروز التحديات والاستجابة لها هو ما جعل من الولايات المتحدة رائدة العالم في الإنتاجية بحلول الحرب العالمية الأولى.
الاستقلال: أمريكا اللاتينية
دامت الإمبراطورية الإسبانية لفترة 300 عام كتحالف بين الملكية وطبقة الصفوة من المستعمرين البيض. حاول ملوك البوربون الإسبان إقامة دولة اقتصادية-عسكرية حديثة في القرن الثامن عشر، بيد أن طلباتهم للحصول على العائدات كانت تقابل بالمقاومة في المستعمرات، ولكن كان يخفف من حدة رفض أوامر مدريد الانقسامات العرقية والاقتصادية في المجتمع الاستعماري. كانت الهجمات واسعة النطاق على البيض وممتلكاتهم، أثناء ثورة توباك أمارو في بيرو في عام 1780، أحد التحذيرات غير السارة الكثيرة بشأن المخاطر الكامنة في قاعدة الهرم الاجتماعي، وقد حصلت أمريكا الإسبانية على الاستقلال بحكم الأمر الواقع نظرا لغزو نابليون لإسبانيا في عام 1808، وثبت أن إعادة تأسيس الإمبراطورية أمر مستحيل. في المكسيك - على سبيل المثال - قاد ميجيل هيدالجو ثورة للسكان الأصليين في عام 1810 ضد حكم «البننسولارز» (البيض من مواليد إسبانيا)، وبينما راق الأمر للكريوليين (البيض من مواليد المكسيك) في البداية، حال عنف السكان الأصليين ضد البيض بصورة عامة من قيام حركة تمرد موحدة ضد إسبانيا، وقضي على التمرد في نهاية المطاف. وقد تحقق الاستقلال في عام 1821 من خلال انقلاب قام به الكريوليون للحفاظ على امتيازاتهم، والتي رأوا أنها تتهدد جراء صعود الليبرالية في إسبانيا.
أدى الاستقلال إلى عقود من الركود الاقتصادي التي تضرب بجذورها في معضلات المجتمع الاستعماري. كانت المنافسة الدولية المتزايدة تقوض القطاع الصناعي المكسيكي بالفعل في نهاية القرن الثامن عشر، وكانت النتيجة هي الانصراف عن التصنيع، مثلما حدث في الهند. ويوضح ألكسندر فون هومبولت ذلك قائلا: «كان يحتفى بمدينة بويبلا فيما سبق لمنتجاتها الجيدة من الفخار والقبعات.» مع «بداية القرن الثامن عشر»، أحيت الصادرات «من هاتين الصناعتين التجارة بين أكابولكو وبيرو»، ولكن دمرت الواردات الأوروبية هذه التجارة:
في الوقت الحاضر، لا يوجد أي اتصال بين بويبلا وليما، كما انخفض إنتاج الصناعات الفخارية كثيرا، بسبب انخفاض أسعار المنتجات الحجرية والخزفية الأوروبية التي تستورد عبر ميناء فيراكروز. ومن بين 46 مصنعا كان قائما في عام 1793، لم يتبق سوى 16 مصنعا للمنتجات الفخارية، ومصنعين لصناعات الزجاج في عام 1802.
انخفضت الأجور الحقيقية من قيمة بلغت ضعف الحد الأدنى من متطلبات الحياة في عام 1780، إلى قيمة الحد الأدنى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
تأثرت صناعات المنسوجات أيضا بصورة سلبية بسبب الواردات البريطانية. كانت معظم الأقمشة المكسيكية مصنوعة من الصوف، فيما كانت الأقمشة القطنية تستورد من كتالونيا، وعندما أدى حظر بريطانيا للتجارة مع إسبانيا إلى قطع الواردات الإسبانية في تسعينيات القرن الثامن عشر، ازدهر إنتاج الأقمشة القطنية في بويبلا. دام ذلك الازدهار وقتا قصيرا حيث تواصل استيراد المنتجات الإسبانية بعد عام 1804، وأغرقت البلاد بالأقمشة القطنية البريطانية الرخيصة بعد الاستقلال، فانهارت صناعة القطن المكسيكية. كان رد الفعل إزاء ذلك هو تنفيذ إحدى صور النظام الأمريكي الذي وضعه هنري كلاي ومقترحات ليست في ألمانيا. فرض لوكاس ألامان - وزير الشئون الداخلية والخارجية آنذاك - تعريفة جمركية على واردات المنسوجات القطنية، وخصص بعض العائدات لصالح مصرف بانكو دي أفيو الذي تولى تمويل شراء المعدات للمصانع الجديدة، ولكن لم يتم إنشاء سوق وطنية حيث ظلت التعريفات المفروضة بين الولايات وبعضها، ولم يبذل جهد كبير لتطوير النقل، فضلا عن إهمال التعليم العام أيضا.
كانت محصلة هذا الأسلوب المتباين على القدر نفسه من التباين. فمن جانب، أقيم ما يقرب من 35 مصنعا لنسج القطن في الفترة بين عامي 1835 و1843. تعافت الأجور الحقيقية بعد عام 1840. ولكن على الجانب الآخر، لم يتوفر دافع كاف لوجود صناعة هندسية قوية؛ حيث كانت الماكينات تستورد، مثلما كان المهندسون الذين كانوا يركبون أجزاء هذه الماكينات ويشرفون على تشغيلها، بالإضافة إلى ذلك، لم تثمر هذه المصانع عن شيء؛ إذ كسدت الصناعة في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت عمليات التطوير في الصناعات الأخرى هزيلة، ومن ثم فلم يكن الوضع يشير إلى تقدم بصفة عامة كما كان الحال في الولايات المتحدة.
وقعت فترة الازدهار الاقتصادي التالية خلال مرحلة الحكم الديكتاتوري لبورفيريو دياز بين عامي 1877 و1911. اعتمد دياز على استراتيجية التنمية في القرن التاسع عشر بصورة أكثر حماسة من لوكاس ألامان. نشأت سوق وطنية من خلال وضع برنامج شامل لإنشاء خطوط السكك الحديدية وإلغاء الضرائب على السلع العابرة للحدود بين الولايات. استخدمت التعريفات الجمركية لدعم الصناعات المكسيكية. تمثلت إحدى الأفكار الخلاقة في وضع السياسات في الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية بدلا من الاعتماد على بنوك الاستثمار الوطنية للحصول على رأس المال. صار الاستثمار الخارجي أيضا وسيلة لإدخال التكنولوجيا المتقدمة إلى البلاد.
حققت التنمية الاقتصادية في عصر بورفيريو دياز نجاحا غير مكتمل. من جانب، تحقق نمو صناعي باهر؛ فارتفع إجمالي الناتج المحلي لكل فرد من 674 دولارا أمريكيا في عام 1870، إلى 1707 دولارات أمريكية في عام 1911. وعلى الجانب الآخر، كان الإسهام المحلي في التقدم التكنولوجي ضئيلا؛ حيث إن المهندسين الأجانب كانوا يركبون الماكينات المصممة في الخارج في المصانع، وهذا الغياب التكنولوجي كان يعني في نهاية المطاف عدم انتشار ثمار التنمية فيما وراء الصناعات التي تدعمها الدولة، بالإضافة إلى ذلك، لم توزع مكاسب النمو بصورة واسعة على الجميع؛ فكانت الأجور الحقيقية تسير في اتجاه انخفاض في ظل حكم دياز، ثم اندلعت الثورة في عام 1911.
صفحة غير معروفة