قال ابن خلدون:
إذا نظرنا إلى التاريخ من جهة شكله الخارجي وجدنا مهمته تقييد الحوادث التي تتابعت على مر الأعصار، وتعاقب الأدوار، مما كانت الأجيال الماضية شاهدة له، وإنه لأجل سرد هذه الحوادث تنقحت العبارات، وتطرز الإنشاء بحلى البلاغة، وبهذا التاريخ زهت مجالس الأدب، وتداعى إليها الناس من كل حدب، والتاريخ هو الذي يعلمنا كيف تقلبت الأحوال على جميع الكائنات، وهو الذي منه يعرف بناء الممالك، وكيفية عمارة الأمم لهذه الأرض. كل أمة إلى المدة المقدرة لها من الحياة، فأما من جهة الأسرار الباطنة لعلم التاريخ، فأعظم أسراره هو البحث عن الحوادث إلى درجة اليقين بها، والتأمل في الأسباب التي أنشأتها وفى كيفية جريانها وتطورها، فالتاريخ بالجملة إنما هو فرع من فروع الفلسفة، وهو جدير بأن يجعل في عداد العلوم الجليلة التي لها المكانة الأولى.
فأنت ترى أن التاريخ في نظر ابن خلدون هو عبارة عن تمحيص الحوادث والبحث عن أسبابها. وهذان الأمران يستلزمان معرفة أحوال الشعوب والبصر بطبيعة العمران، وكان ابن خلدون يرى العمران في زمانه قد أجحف به النقصان وأكدى كما أرى، فيذهب إلى أن المدنيات قد أشرقت شموسها على العالم من مشارق متعددة ولكنه قد غاب الكثير منها وانطوى بدثور المعالم، فهو يقول: إن العلوم التي وصلت إلينا هي أقل من العلوم التي لم تصل إلينا؛ فأين علوم الفرس، والكلدانيين، والبابليين، والأشوريين، والأقباط القدماء، فإنها كلها قد ذهبت. ولم يبق من العلوم التي وصلت إلينا سوى علوم اليونانيين التي انتهت إلينا بسبب اجتهاد الخليفة المأمون في ترجمتها وإنفاقه الأموال الطائلة عليها.
وقد عقب كارادوفو على كلام ابن خلدون هذا بقوله: إن فيه شيئا من المبالغة لأنه قد وصل إلى المسلمين أشياء، لا تنكر أهميتها من معارف الفرس، والهنود واليهود. ولكنه على كل حال كلام يدل على سعة علم ابن خلدون من جهة العلم بالمدنية البشرية.
ثم إن ابن خلدون يتكلم عن الاجتماع البشري فيقول: إن أساس الاجتماع الإنساني إنما هو ضعف الإنسان منفردا بنفسه، فانه إذا عاش وحده فلا يكون مليئا بالقيام كما يلزم له من أجل قوام معيشته، بل لو عاش وحده لما قدر أن يثبت في وجه حيوان واحد من الوحوش المفترسة. ثم إن الاجتماع يستلزم السلطان الذي هو في الحقيقة عبارة عن وازع يزع اعتداء الناس بعضهم على بعض، فلا بد فيما بينهم من سلطة متينة كافية لردع اعتداء المعتدين، فهذا في الأصل هو منشأ السلطان قال: وهذا غير محصور في الآدميين، بل هو يوجد في الحيوانات أيضا، فقد تحقق عند بعضها - مثل النحل والجراد، وغيرهما - وجود رئاسة عليا ينقاد إليها أفراد ذلك النوع، ويكون لصاحب تلك الرئاسة امتياز في الشكل أو بسطة خاصة في الجسم. والفرق بين الإنسان والحيوان هو أن الحيوان ينقاد إلى تلك الرئاسة بمجرد غريزة مركوزة في فطرته، وأن الإنسان ينقاد إلى هذه الرئاسة بناء على تفكر وروية.
وقد أطال ابن خلدون البحث في تأثير الأقاليم بطباع البشر، وأورد على ذلك الأمثال، واستخلص منها أن الأقاليم المعتدلة أحسن الأقاليم سكانا، بخلاف الإقليم الأول والثاني والسادس والسابع، فإن أهلها يسكنون في بيوت من القصب أو الطين وأكثر طعامهم من الذرة أو الحشائش، وهم في الغالب عراة الأجسام، وإذا اكتسوا فإنما يخصفون على أبدانهم من ورق الأشجار. فأما الأقاليم المتوسطة فأهلها عندهم مزية التعديل في الأمور واتخاذ الأليق من التدابير، والأليق من مظاهر الحياة. وعندهم العلوم والصناعات والأمر والنهي، والنظام والملك، وفيهم ظهر الأنبياء وتأسست الدول والممالك، وسنت القوانين، ووضعت العلوم، وتشيدت الأمصار وغرست المغارس، وحرثت المحارث، وتولدت الصناعات النفيسة، وترفهت المعيشة، وإنما الأمم التي تنسب إلى هذه الأقاليم هي العرب، والرومان، والفرس، والإسرائيليون، واليونان، والهند، والصين.
وقد أمعن ابن خلدون في البحث عن أسباب اختلاف المشارب والأذواق في البشر، فهو يتساءل لماذا الزنوج مثلا تغلب عليهم الخفة والطرب؟ وقد بحث عن ذلك من قبله المسعودي صاحب التاريخ المسمى «مروج الذهب» فقال: إن هذا يوجد عند الأمم التي يسهل عليها القوت، بعكس الأمم التي تضرب في المناطق الباردة التي لا يسهل فيها إيجاد الغذاء. وضرب ابن خلدون مثلا مدينة «فاس» فقال: إنها لكونها محاطة بالبلاد الباردة تجد الواحد من أهلها سائرا وهو مطرق رأسه في الأرض يظهر للناس أنه حزين، وذلك من شدة تفكره في العواقب، وقد يبلغ فيهم الاحتياط للمستقبل أنهم يخزنون الحنطة اللازمة لهم إلى مدة سنين، وهم مع ذلك يذهبون كل يوم إلى الأسواق لابتياع لوازم معيشتهم! ثم قال: إن لأنواع الأطعمة تأثيرات متنوعة في طباع البشر، فمن الأقوام من يعيشون في أرضين دارة بالخيرات، وتتوافر لديهم الآلات، فتكثر عندهم الحبوب والثمار، بينما غيرهم يقل عندهم هذا النوع من القوت فيكتفون لأجل معيشتهم بلحوم المواشي وألبانها، وتقل عندهم الأخلاط. قال: وإن قلة الأخلاط تزيد الناس بسطة في العلم والجسم، فأجساد هؤلاء الشعوب أنعم وأقوى، وأكثر تناسبا، وعقولهم أسمى وأسرع استنتاجا، وأذهانهم أشد لحظا وثقوبا.
فالقناعة عند ابن خلدون وشظف العيش هما من أحسن الفضائل التي يكمل بها الإنسان. وهذا الفيلسوف غالب عليه الافتتان بسذاجة المعيشة، وبرغم أنه كان مترفا متبحرا في العلوم، عارفا بقدر الصناعات، تراه يحمد دائما معيشة البداوة، ويراها أقرب إلى الطبيعة البشرية، وهو يقول: إن البداوة أصل، والحضارة فرع وإن الأمصار إنما عمرت بأهل البادية، وإن هؤلاء هم أحسن أخلاقا من أهل المدن لأنهم يحمون أنفسهم بأنفسهم. والحال أن أهل المدن ينغمسون في النعيم ويتركون لولاة المدن مهمة حماية أنفسهم وأموالهم، فالمدن والحواضر تعيش في ظلال حامياتها وأسوارها، بينما سكان البوادي يأنفون من السكنى وراء الأسوار، وتحت خفارة الجنود، ويرون أنفسهم أكفأ للقيام بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، وهم دائما على حذر شديد لا يعرفون النوم إلا غرارا، لأنهم أبدا يلقون السمع حتى إذا سمعوا أقل نبأة هبوا مستعدين لمقابلة الخطر الواقع، وهكذا تصير فيهم هذه العادة طبيعة خامسة.
والذي يظهر من كلام ابن خلدون، أنه كان نزاعا إلى المجد، ميالا بطبيعته إلى الاستقلال وشمم الأنف، وهو يقول: إن الشعوب لا ينبغي أن تكون على العموم سلسة القياد، مسرعة إلى تأدية الضرائب للملوك، ويقول أيضا: إن القبائل التي ليس لها حظ من المدنية هي أقوم على فتح الفتوحات من غيرها، ولقد ساق الله تعالى بني إسرائيل إلى الصحراء وأخرهم في بادية التيه أربعين سنة حتى يعتادوا الاستقلال ويتمكنوا من فتح أرض الميعاد. وللدول عند ابن خلدون أعمار كأعمار البشر، فالدولة عنده تنشأ وتشب ثم تكتمل ثم تدخل في سن الشيخوخة - أي تهزم - ثم تأخذ بالتردي - أي أرذل العمر - وهو يعرض للدولة 120 سنة من نشأتها إلى انقراضها، وهنا قد قصر ابن خلدون كثيرا من آماد الدول. ثم يقول: عندما تنشأ الدول ينتقل الناس من البوادي إلى الحواضر، ويأخذون بعادات أهلها الذين يكونون تغلبوا عليهم؛ فلما تغلب العرب على فارس، وكانوا يجهلون مآخذ الحضارة ومنازعها، قيل إنهم وجدوا في مخازن كسرى أشياء لم يعرفوها، ووضعوا الكافور في العجين مكان الملح، ثم تعلموا دقائق المدنية شيئا فشيئا من الفرس، ولكن هذه الخشونة لا يطول في العادة أمرها، بل أولئك الذين كانوا من أبناء الصحراء تراهم ينقلبون من الخشونة إلى الترف، ولا يلبثون أن يتأنقوا في المأكل والمشرب، والملبس والمفرش، والمركب واتخاذ الآنية النفيسة، وامتهاد البسط الوثيرة، ولأجل إيجاد هذه الأسباب كلها لم يكن لهم بد من أنواع الصناعة، وإفنان الفنون، وكلما تعددت أسباب الترف تعددت الصناعات بقدرها.
قال: وإذا أدرك الهرم دولة من الدول بدأت سلطتها المركزية بالضعف، وأخذ حكام الأطراف بالتمرد عليها. والخروج عن طاعتها. وقال: إن تأسيس الدول سابق لتأسيس الحواضر، وذلك لأن بناء المدن يستلزم إيجاد الصناع، والعملة الذين لا مفر لهم من أن يفيئوا إلى ظل نظام ثابت. وهنا يتكلم ابن خلدون بكلام طويل على الصناعة والتجارة ويقول: إن تقدم الصناعة إنما يكون على نسبة استبحار العمران ويقول: إن الصناعات المبنية على الضرورات - كالخياطة والحدادة والنجارة... إلخ - تتيسر في كل مكان. ولكن الصناعات التي تتعلق بالترف لا توجد إلا في المدن التي قد زخر عمرانها، ففيها تجد الصاغة والزجاجين والعطارين والطباخين وما أشبه ذلك. وفى المدن وحدها توجد الحمامات التي هي من لوازم الترف ورفاهة المعيشة.
صفحة غير معروفة