وأما العهد الجديد فان التناقضات واقعة فيه من كل مكان، فمنه أناجيل رفضتها الكنيسة بالمرة، ومنه أناجيل لم ترفضها الكنيسة بالمرة ولكنها لم تدخلها في الكتب الكنسية المعول عليها، ومنها الأناجيل الأربعة التي قررت المجامع العمل بها، وليس رفض الكنيسة لبعض الأناجيل وبعض التواريخ المتعلقة بها بالعهد الجديد دليلا كافيا على عدم صحتها، لأن الكنيسة تنفي كل ما هو خارج منها عن عقيدتهم، ودليل ذلك أن ما ينفيه الكاثوليك مثلا قد يثبته البروتستانت، فالاختلافات بين الأناجيل المردودة والأناجيل المصدقة لا تكاد تحصى. وأهم من هذا أن الأناجيل المصدقة والمعول عليها هي أيضا لم تسلم من الاختلافات ولا من الأخطاء كما أجمع على ذلك العلماء الأوروبيون الذين محصوها.
وقد يعترف العلماء المسيحيون أيضا بوقوع الاختلاف فيها، لكنهم يردونه إلى التأويل ويجعلونه من الأعراض التي لا تمس جوهر الحقيقة، وهذا فيه نظر. وعلى فرص جواز هذا القول فإن وجوه الاعتراض الكثير الواقع على الأناجيل من جهة العلماء المدققين غير المؤمنين بالدين المسيحي إنما هي من مخالفة روايتها للسنن الطبيعية، ومن جهة كونها إنشاء جماعة إن لم يجز وصفهم بالكذب لم يجز وصفهم بالعلم، وها كله لا ينفي ما يجب من حرمة التوراة وتقديسهما وفقا لما في القرآن العظيم الذي يوجب لهما هذه الحرمة من حيث وجودهما الأصلي، ولكنه لم يضمن صحة نسخ التوراة ونسخ الإنجيل التي تعاورتها أيدي الناس بالحذف والتبديل بحسب الأهواء والله تعالى من وراء العلم.
تاريخ العرب الأولين
تعليق على ما جاء في السطر 18 من الصفحة 23 من الجزء الأول من ابن خلدون
لا يزال المؤرخون عموما، والمتخصصون في تاريخ الأمم السامية، متفقين على كون تاريخ العرب القدماء غامضا، وأنه لا يزال مفتقرا إلى وثائق كثيرة تجلو حقيقته، ولقد عثروا على كتابات غير قليلة كشفت بعض نواح منه، إلا أن كثيرا من هذه الكتابات لا يزال مجهولا، وما دام هذا القسم من الكتابات لا يزال مغيبا فلا يزال تاريخ العرب الأولين ناقصا. والآن تجد معول المؤرخين في هذا التاريخ على بعض الكتابات التي تمكنوا من حلها في بلاد العرب، وعلى ما هو وارد في تواريخ الأمم الأخرى من بابليين وأشوريين ومصريين وعبرانيين ويونانيين ورومانيين، وكذلك على ما هو وارد عن علماء الإسلام بشأن عرب الجاهلية.
وقد جاء في الكتابات البابلية الخزفية التي عثروا عليها ما يدل على وجود ملك اسمه «مانيوم» كان ملكا على «ماغان» أو بلاد العرب الشرقية. ويظنون أن «ماغان» هذه هي معان، كما أنه ورد في محل آخر ذكر «ملوخ» الذي يظن أن منه اشتق اسم العمالقة. وكان السومريون ذوي علاقات مع هؤلاء . ثبت إذن وجود العمالقة في التاريخ منذ ألفين وخمس مئة سنة قبل المسيح. فأما الكتابات التي عثروا عليها في جزيرة العرب فهي ترجع إلى ألف سنة فأكثر قبل المسيح، وأكثر من خدم العلم في كشف هذه الكتابات المنقوشة على الصخور هو بحسب ما ورد بالانسكلوبيدية الإسلامية «يوسف هاليفى
Gosephe Halevy » و«أدوار غلازر
Edoird Glaser » وهذه الكتابات تنقسم إلى قسمين بحسب اللغة؛ فالأول هي المعينية، والثاني هي السبئية نسبة إلى معين وسبأ، وهما قبيلان يقال إنهما من حضر موت. وفى سنة الخمس مئة قبل المسيح كان ملوك مأرب في اليمن يطلق عليهم لقب ملوك سبأ، ثم ظهر بعدهم الحميريون وتمكنوا في مأرب أيضا. وفى نحو السنة الثلاث مئة قبل المسيح كان يقال للواحد من هؤلاء ملك سبأ وذي ريدان وحضر موت، ثم أضافوا إلى ذلك اللقب جملة «وعربهم في الجبل وتهامة» وبقي ملك الحميريين هؤلاء إلى ما بعد استيلاء الأحباش على اليمن أي في القرن الرابع بعد المسيح إلى القرن السادس.
وقد وجد العلماء كتابات منقوشة على الصخور من ذلك العهد. وكان غلازر الأنف الذكر هو الذي كشف الكتابة الطويلة المتعلقة بسيل العرم، أي انفكاك سد مأرب، وهو الحادث العظيم الذي وقع في سنة خمس مئة وثلاث وأربعين بعد المسيح وهذه الكتابة كتبها أبرهة ونصها:
بقوة الرحمان «رحمانان» ولطفه ورحمته وبمسيحه والروح القدس نقشت هذه الكتابة على الحجر بأمر أبرهة الوالي من قبل الملك اليكسومى «وامفيس ذى يبامان» ملك سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنات وعربهم في الوعر والسهل.
صفحة غير معروفة