La Jon quiere » إن عصر سليمان القانوني لم يكن له نظير سواء من جهة الفنون والآداب أو من جهة المفاخر الحربية سوى عصر لويس الرابع عشر في فرنسا مع الفرق بأن دور سليمان انتهى كما بدأ في عنجهية الظفر، ولم تكن نهايته إدبارا وبدايته إقبالا، ولم يعهد أن السلطنة العثمانية أنجبت في عصر من الأعصر من أعاظم الرجال بقدر ما أنجبت في عهد السلطان سليمان، فقد نبغ فيها من رجال السياسة إبراهيم باشا ورستم باشا وصقولي باشا. ومن رجال البحر خير الدين بربروس، وورغوت، ودراغوت، وبيالي. ومن قادة الجيوش فرهاد باشا، وأرسلان باشا، وحمزة باشا، وميكال أوغلي. ومن كتاب السلطنة جلال زاده، ومحمد إيغري عبدي. ومن الفقهاء، أبو السعود أفندي، وابن كمال باشا.
ونبغ في عصره من الشعراء، عبد الباقي الذي كان عند الأتراك كما كان المتنبي عند العرب وحافظ عند الفرس، وكان السلطان سليمان يجل عبد الباقي إجلالا زائدا ويجعله حلية عصره، ولما كان السلطان سليمان نفسه شاعرا فقد بعث إليه بأبيات يلقبه فيها بشاعر آل عثمان. ومن شعراء ذلك الوقت يحيى بك الذي رثى الأمير مصطفى ابن السلطان سليمان ولم يحقد عليه السلطان بسبب ذلك بل خصص له مرتبا، ومن شعراء ذلك العصر فضولي، والرواني، والسامعي، وغيرهم، ومن مآثر السلطان سليمان المعدودة جامع السليمانية الذي لا يوجد بناء أجل ولا أدق منه في أبنية آل عثمان، وكذلك جامع السليمية الذي بني على قبر السلطان سليم الأول، وجوامع محمد وجهانغير في غلطة، وجامع السلطانة الخاصكي. وفي زمانه جرى إصلاح قناة المياه المسماة ب«قناة يوستنيانيوس» في استانبول، وكذلك جدد السلطان سليمان قناة جديدة على الحنايا إلى دار السلطنة، ولو شاء الكاتب أن يحصي جميع مآثر السلطان سليمان مع الأبنية الفخمة والآثار الخالدة لاحتاج إلى كتاب كبير، وهو مع ذلك إنما تخصص بالقوانين حتى أطلق عليه المؤرخون اسم «القانوني» وكان له مزيد الاعتناء برتب العلماء وتوفير الجرايات لهم، وإغنائهم عن الناس، وقد ميزهم في أمور كثيرة وهذا دأب جميع آل عثمان.
وله قوانين كانت في غاية الحكمة لولاها لم تكن السلطنة العثمانية بلغت ما بلغته من السعادة في زمانه، فإن الحروب بينه وبين دول النصرانية وبين دول آسيا أيضا كانت متصلة، وكانت الجيوش تتلو الجيوش والزحوف تتبع الزحوف وجميعها تقدر بمئات الألوف من العساكر، فلو لم تكن البلاد معمورة والنعم موفورة والأرزاق فائضة والخيرات لم يكن يتيسر للسلطان قضاء نصف قرن في الجهاد المستمر وتعبئة الجيوش الجرارة بدون استنزاف حياة المملكة، والحقيقة أن السلطان وجه عناية خاصة إلى مسألة تنظيم المالية وترتيب الخراج بشكل يفي باحتياجات الدولة بدون أن يرهق الرعية، وبلغت وارادات السلطنة في أيامه نحو من تسعة ملايين وعشرين ألف دوكة، هذا عدا واردات الخزانة الخاصة التي كانت تبلغ أيضا خمسة ملايين دوكة، هذا ولما بلغ سليمان سن الكبر صار قليل الخروج على الديوان وصار الوزراء يستبدون ويسترسلون إلى شهواتهم، وفي هذا أصاب سليمان من الانتقاد ما أصاب عبد الرحمن الناصر الأموي الذي يشبه سليمان في طول مدة حكمه، بل تولى عدة سنوات زيادة على حكم سليمان، ويشبهه في سعة ملكه وعظمة أعماله وتوالي فتوحاته وسعادة الرعية في ظله، ولكنه في آخر الأمر اعتمد على خواصه وأخلد إلى الراحة، فشكا الرعية من عماله وتناولوه باللوم وأشرعوا إليه أسنة الانتقاد، ولكنه لم يمنع هذا أن يكون عبد الرحمن الناصر وسليمان القانوني كل منهما نسيج وحده وأن يكون مفخرة من مفاخر الإسلام الكبرى.
وجاء في «شذرات الذهب» أنه في سنة 974 كما في «النور السافر» أو 975 كما في كتاب «الأعلام» توفي السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان الحادي عشر من ملوك آل عثمان، قال في الأعلام: كان سلطانا سعيدا ملكا أيده الله بنصر الإسلام تأييدا، ولي السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان سليم خان في سنة ست وعشرين وتسع مئة، وجلس على تخت السلطنة وما دلي أنف أحد، ولا أريق في ذلك محجمة من دم، ومولده الشريف سنة تسع مئة، واستمر في السلطنة تسعا وأربعين سنة، وهو سلطان غاز في سبيل الله، مجاهد لنصرة دين الله، مرغم أنوف عداه، بلسان سيفه وسنان قناه، كان مؤيدا في حروبه ومغازيه مسددا في آرائه ومغازيه، مسعودا في معانيه ومغانيه، مشهودا في وقائعه ومراميه، أيان سلك ملك وأنى توجه فتح وفتك، وأين سافر سفر وسفك، وصلت سراياه إلى أقصى الشرق والغرب وافتتح البلدان الشاسعة الواسعة بالقهر والحرب، وأخذ الكفار والملاحدة بقوة الطعان والضرب، وكان مجدد دين هذه الأمة المحمدية في القرن العاشر مع الفضل الباهر والعلم الزاهر والأدب الغض الذي يقصر عن شأوه كل أديب وشاعر. إن نظم فعقود الجواهر أو نثر فمنثور الأزاهر، وإن نطق قلد الأعناق نفائس الدر الفاخر، له ديوان فائق بالتركي وآخر عديم النظير بالفارسي، تتداولهما بلغاء الزمان، وتعجز أن تنسج على منوالهم فضلاء الدوران، وكان رءوفا شفوقا، صادقا صدوقا، إذا قال صدق وإذا قيل له صدق، لا يعرف الغل والخداع، بل يتحاشى عن سوء الطباع، ولا يعرف المكر ولا النفاق ولا مساوئ الأخلاق، بل كان صافي الفؤاد صادق الاعتقاد منور الباطن كامل الإيمان سليم القلب خالص الجنان.
وما تناهيت في بثي محاسنه
إلا وأكثر مما قلت ما أدع
وأطال صاحب الأعلام في ترجمته وترجمة أولاده، وذكر غزواته، فذكر له أربع عشرة غزوة انتصر وفتح في جميعها، وذكر كثيرا من مآثره، فمن ذلك الصدقة الرومية التي هي الآن مادة حياة أهل الحرمين الشريفيين فإنه أضاف إليها من خزائنه الخاصة مبلغا كبيرا، ومنها صدقات الجوالي، ومعناها ما يؤخذ من أهل الذمة في مقابلة استمرارهم في بلاد الإسلام تحت الذمة وعدم جلائهم عنها، وهي من أجل الأموال ولأجل حلها جعلت وظائف للعلماء والصلحاء والمتقاعدين من الكبراء، ومنها أجراء العيون، ومن أعظمها أجرا عين عرفات إلى مكة المشرفة، ومنها بمكة المدارس الأربع، ومنها تكيته ومدرسته العظيمة بمرجة دمشق، إلى غير ذلك مما لا يحصى، فرحمه الله رحمة واسعة. انتهى ملخصا ومن أراد البسط الزائد فيراجع الأعلام.
قلت: كان سليمان القانوني يجمع أحيانا بين الأضداد فإنه قد اشتهر عنه من الرأفة والعفو ما لا خلاف فيه، كما أنه ثبت كونه أمر بقتل أولاده الذين بلغه أنهم كانوا يريدون أن يخلعوه، والملك كما يقال عقيم، فلا تنفع في جانب الاستئثار بالملك رأفة ولا شفقة، وهذا من وجوه الشبه أيضا بين السلطان سليمان القانوني والخليفة عبد الرحمن الناصر الأموي الذي قتل أيضا ابنه، وكان الحامل له على قتله سبب أشبه بالسبب الذي حمل السلطان سليمان على قتل ابنه مصطفى وهو وقوع الناس به، وحوم القلوب عليه واشتهاره بالعلوم والآداب.
هذا وقد رثى السلطان سليم المفتي أبو السعود العمادي الشهير ب«مرثية هي وإن كانت من شعر العلماء وعلى لهجة الفقهاء فهي لا تخرج عن طبقة الشعر العالي قال:
أصوت صاعقة أم نفخة الصور
صفحة غير معروفة