تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
تصانيف
تلك المسائل وغيرها (أي تعذيب اليهود) تتطلب تحقيقا مختلطا، وشرف المسيحية والحضارة أيضا يتطلب تحقيقا كاملا.
وهنا نحبس القلم عن إيراد بقية الأخبار المؤلمة، ونؤكد للقارئ أن بين أيدينا من الرسائل الشبيهة بما ذكرنا ما يملأ مجلدا كبيرا، وجلها من مصادر غير عثمانية تختلف في مبانيها وتتفق في معانيها؛ أي الإحراق والإغراق والنهب والسلب وهتك أعراض النساء والفتك بالضعفاء والأبرياء، وما شاكلها من الأعمال التي تنزل بالإنسانية وتحط من قدر المدنية، وتظهر حقيقة الذين سلوا سيوفهم لخدمة العدل والحرية ... (2) ما ينسب إلى العثمانيين
أما الجنود العثمانية فقد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب أنها فتكت بجماعة من الأبرياء أيام تقهقرت أمام الجيش اليوناني، ثم طالعنا في كتاب الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الصحيفة الآتية:
رأيت مشهدا فاجعا، رأيت أوتومبيل فيه ضابطان جريحان ماتا من شدة البرد، وبلغ عدد الذين ماتوا في هذا الليل نحو 2000، أما أنا فلم أسر على «طريق النزع والاحتضار» الذي اتبعه الجيش التركي المتقهقر، بل درت دورة تبلغ نحو 10 كيلومترات من الجهة الجنوبية، راكبا على جوادي بقصد أن أرى قرية أصبو، وهي إحدى القرى المسيحية العديدة التي أحرقتها الجنود التركية، ولما بلغتها لم أجد إلا أطلالا وخرائب، ولم تكتف تلك الجنود بإحراق المنازل بل ذبحت الأهالي المخلدين إلى السكينة، ولقد رأيتهم يدفنون ثمانين من أولئك المساكين وأبصرت بعيني بعض الجثث مطروحة، وطفلا رضيعا سحقت ميمنة وجهه بضربة شديدة من خشبة بندقية أو رفسة بكعب، وفتاة بين السادسة والسابعة من العمر مخروقة الجسم بحربة، وكان الناظر يبصر أيضا بعض جثث أخرى تحت الأنقاض؛ لأن الجنود ذبحت كل من وجدت ولم تبق إلا على عشر من الفتيات ...
وحدث أن خمسين من الأهالي لجئوا إلى إحدى الكنائس فأحاط الجانون بهم ثم أحرقوهم فيها، وكان أدلائي جماعة من الشيوخ الذين هربوا قبل وصول الجنود، وبينهم واحد يبكي بكاء يفطر الفؤاد؛ لأنه خسر كل آله وماله.
أما في سراي فإن الجنود التركية لم تجد وقتا لسفك الدم، ولكنها صبت جام الانتقام على كنيسة يونانية صغيرة، فكسرت ثرياتها بالعصي ومزقت الصور ورمت بالأقذار في المحل المقدس وشوت اللحم هناك ومزقت الإنجيل.
وأشار الموسيو هوشوختر في كتابه إلى إحراق القرى أيضا، وطالعنا عدة رسائل في وصف فظائع العصابات الألبانية، وهي كلها لا تخرج عما ذكرنا من تلك الأعمال الوحشية. •••
غير أنه يجب علينا أن نثبت هنا خدمة للحقيقة والتاريخ أن الرسائل التي وقعت إلينا منذ ابتداء الحرب في شأن الفظائع البلقانية هي أضعاف أضعاف الرسائل والفصول المتعلقة بالفظائع التركية والألبانية؛ ولذاك ارتفعت أصوات كثيرة من بلاد الحرية والمدنية اعتراضا على البلقانيين، فقد نشر الموسيو بيير لوتي الكاتب الفرنساوي الكبير رسائل عديدة في الطعن على جمود أوروبا أمام الفظائع البلقانية، ثم ألف منها ومن غيرها كتابه المسمى «تركيا المحتضرة». وإذا قيل أن بيير لوتي مشهور بغلوه في الدفاع عن الأتراك، قدمنا للمعترض شطرا من المقدمة الآتية التي وضعها السير أدام بلوك رئيس مجلس إدارة الديون العمومية، فإن هذا المالي الذي لم يشتهر بتطرف أو غلو كتب في صدر تقرير عن الفظائع يقول:
كان من المنتظر أن الضغائن الجنسية والدينية التي أوقظت في مقدونيا مدة الخمس والعشرين سنة الماضية، والتي لا تعزى إلى سوء الإدارة العثمانية وحده - تزداد شدة عند نشوب الحرب، وأسذج ساذج كان يستطيع الإنباء بالنتائج التي لا بد أن تتبع التجاء ممالك البلقان إلى السيف.
قاست مقدونيا في الأشهر القليلة الماضية أكثر مما كانت تقاسيه من سوء الإدارة العثمانية لو دامت سنين جمة. فقد أضيف إلى فظائع حرب هلك فيها مئات ألوف من الرجال إبادة سكان مقدونيا المسلمين، فإن الحرب الحاضرة قامت سوقها بلا اكتراث لقواعد الحروب المعترف بها عند الأمم المتمدنة، وليس من السهل أن نجد لها مثيلا في الحروب الحديثة بين الممالك الحضرية.
صفحة غير معروفة