تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
تصانيف
وصل خبر المصاب الجلل الذي حل بالجيش العثماني في لوله بورغاز إلى لندرا وباريس قبل أن يصل إلى الأستانة نفسها، فإنه لم يتصل بالسفارات إلا في هزيع متأخر من ليل الأحد 3 نوفمبر، ولم يعلم الترك متسع الخطب إلا صباح الاثنين (أي بعد المعركة بأربعة أيام)، حين صدر البلاغ الرسمي وكانت السماء غائمة محزنة في ذاك الصباح، وهاك معنى البلاغ: «إن النجاح في جميع الأنحاء وقت الحرب أمر غير ممكن، والأمة التي تخوض حربا يجب عليها أن تقبل مع الحزم التام جميع النتائج التي تنجم عنها، وهو مبدأ لا يجوز إغفاله أو نسيانه، وعليه يجب اجتناب الغلو في الطرب عند النجاح كما يجب التزام الحزم والصبر عند الفشل. فإن جيشنا مثلا بقي منصورا في مقاومة البلقانيين المتحالفين بجهة يانيه وجهة أشقودره. ولكن الجيش الشرقي في جهات ويزه ولوله بورغاز رأى أن يتقهقر إلى جتالجه ليكون أقوى على الدفاع منه في تلك الجهات، وأنه لمن المقرر الطبيعي أن نبذل كل ما في وسعنا لصيانة مصالح الوطن.»
صدر هذا البلاغ الرسمي، وفي يوم صدوره أخذت المحطة تلفظ على العاصمة العثمانية جموعا من ذوي الأعضاء المبتورة والجسوم النحيلة الدامية، فينسلون في الشوارع والرحبات العامة وهم صفر عاطلو الوجوه من نور الصحة، وبرد نوفمبر يقرس جلودهم: أولئك هم جرحى الحرب، يقصون من أخبارها ما يحزن القلب ويورث الكرب ويمثل نصب العيون مجمل أهوالها، وإني لا أزال أسمع حتى الساعة صوت شاب في المستشفى الفرنساوي اسمه رياض بك يقص علي ما رأت عيناه من المشاهد. وحكاية هذا الشاب أنه ذهب مع وفد الصليب الأحمر إلى ساحة القتال للعناية بالجرحى، ولكنه لم يستطع أن يضبط عنان شوقه إلى القتال حين دوي المدفع في لوله بورغاز، فنزع من ذراعه شارة الصليب الأحمر وأخذ بندقية أحد العساكر وهب يقاتل كسائر الجنود، فأصابته رصاصة كسرت كتفه فتقهقر، ثم أرسل مع العائدين إلى الأستانة، وكان من قوله لي: «إننا لم نخط في الوحل بل كنا نخوض بحيرات من الدماء. ولما دخلت أحد الخنادق التي كان يحتلها البلغاريون وجدتني على آكام من الجثث ... إن جنودنا البائسين يحتاجون إلى القوت، فقد رأيت بينهم من بقي أربعة أيام بلا أكل، فكيف تطلب من أمثال هؤلاء قوة معنوية ما داموا لا يملكون قوة جثمانية؟ زد على هذا كله أن الأمراض ستنضم إلى ذاك العذاب؛ لأن سهل جورلو يشبه مستودعا كبيرا من الأشلاء ...»
غير أن حكايات المتقاتلين على هولها لم تكن أدعى إلى الحزن من المشهد الذي وقع تحت أنظارنا، فإن سكان الأستانة يبلغون نحو مليون و500 ألف، منهم نحو مليون من الأروام واليهود والشرقيين والأوروبيين، فلا يمكن مع هذا الاختلاط أن نرى وحدة نفسية بينهم، بل نحن لم نر العطف الذي يحق لأمة منكوبة أن تراه، فإنك لم تجد يونانيا (عثمانيا) رضي بأن يقفل دكانه ولا شرقيا كف عن الذهاب إلى قهوات الرقص، ولا فندقا أوروبيا فكر في منع الرقص ساعة تناول الشاي، بل كنت ترى الجرحى المرتجفين بردا الممتقعين لونا يسيرون في جهات «بيرا» على ألحان الموسيقات وخطرات الراقصين والراقصات.
بل كنت ترى ما هو أقبح من ذاك كله، ترى أناسا يرقبون أخبار فشل الجيش ليذيعوها في الأنحاء، وبعضهم كان يستنبطها. ألا إن تركيا لا تستحق هذا كله، لا تستحق أن تصاب بالفشل في عاصمتها ومن أيدي سكانها قبل أن تصاب بسيف عدوها، فيالها من عبرة للذين شهدوا تلك الساعات الفاجعة ... فعلينا أن نتذكرها، وأن نقيم حراسة قوية حول وطننا فلا ندعن الأجانب يزدحمون معنا جنبا إلى جنب، ولا نكتفين بحماية تجارتنا وقت السلم من الغزوات الخارجية بل يجب أن نصون وحدتنا النفسية ليكون فرحنا أو حزننا واحدا في وقت الحرب.
ثم وصف جموع المهاجرين الذين قدموا من تراقيه وصفا يثير الشجون ويسيل الشئون، فقال: إن بينهم عددا كبيرا من النساء والأطفال وهم على أسوأ حال، وأنهم كانوا ينامون في الشوارع والساحات وحول المساجد، فلا يجدون من سقف سوى السماء ولا غطاء سوى الهواء، حتى خيل للناظر أنه رجع ألف سنة إلى وراء، أو أنه يشهد هجرة الغوليين القدماء. فلما رأت الحكومة ذاك المشهد الأليم أخذت تهتم بتسفيرهم إلى جهات أشقودره وبروسة وشواطئ البحر الأسود.
أما سفراء الدول فإنهم اغتنموا فرصة لوله بورغاز ورجوع الجيش العثماني إلى جتالجه ليطلبوا من حكوماتهم زيادة البوارج الحربية الراسية في قرن الذهب أمام الأستانة، فلبت حكوماتهم هذا الطلب وأخذت البوارج ترد مختلفة الرايات على مياه البوسفور، وصار هذا الأسطول المختلط ينزل إلى المدينة بعد الظهر من كل يوم 200 بحري، ورأينا الطرادة الإنكليزية «يرموث» تخاطب بتلغراف ماركوني محطة بولدو في إنكلترا، وتتلقى به خلاصة الحوادث السياسية والمالية والرياضية حتى نتيجة لعب الكرة ... وكان الأتراك ينظرون إليهم بعين الصابر الحزين، ولما أرسلت فرنسا البارجة المسماة «ليون غمبتا »، ذهب جماعة من شبانهم إلى السفارة الفرنساوية وشكروا الجمهورية؛
8
لأن اسم غمبتا هو عنوان الدفاع عن الوطن.
وأما كامل باشا الذي كان صدرا أعظم يوم لوله بورغاز فإنه لما علم بالخطب مساء 3 نوفمبر قال لمن أخبره به: «كنت أفضل الموت على سماع هذا الخبر»، ثم جمع مجلس وكلاء الدولة وقرر معه أن يطلب تعضيد أوروبا في إيقاف رحى القتال، وأمر نورد نجيان أفندي وزير الخارجية بالذهاب إلى السفارة الفرنساوية ليطلب بواسطتها إلى الموسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الحالي أن يسعى لدى أوروبا في إيقاف الحرب، فذهب الوزير وهو عالم أن هذا السعي لا يجدي نفعا، وأن الحرب ستبقى حتى يعترف أحد الفريقين بالعجز، وقال في حديث رواه رئيس تحرير الماتين: «لو كان هذا الوقت وقت السخر والتهكم، لاكتفيت بأن ألصق على جدران الأستانة وأنشر على صدور الصحف التركية ذاك البلاغ الذي قالت فيه أوروبا: إنها لا تسمح بأي تغيير في أراضي البلقان، ثم أزيد عليه صور سبع وعشرين معاهدة عقدتها الدول الأوروبية وضمنت فيها سلامة الأراضي العثمانية»، ثم روى ما جرى بعد أن قهر جيش أدهم باشا اليونان سنة 1897، وهو «أن قيصر الروس أرسل وقتئذ إلى السلطان المخلوع تلغرافا خاصا طلب فيه إيقاف الجيش العثماني الذي كان مستعدا للزحف على أثينا، ثم ذهب سفراء الدول أنفسهم إلى وزير الخارجية العثمانية للتناقش معه في مسألة الصلح، فهل كان هذا كله من الحقوق الدولية؟ إن الحقوق الدولية تغير بتغيير الأزمان والأمم والمخاوف التي تداخل أوروبا من الغالب أو من نفسها.»
ولما ذهب السفراء بعد ذاك الخبر الأليم لمقابلة كامل باشا ومفاوضته في شأن الأمن، قال لهم: «إني سأدافع عن النظام في الأستانة حتى النهاية، أما إذا سمحت الدول بغزو الأستانة واستولى اليأس على الأهالي، فإني ألقى تبعة ما يجري حينئذ على وجدان أوروبا، ولا تحسبوا أنني أترك الأستانة مع سلطاني؛ فهو يفضل أن يقتل في قصره، وأنا أفضل أن أقتل في ديواني على مزايلة الأستانة.»
صفحة غير معروفة