واتضح للرومانيين أنهم بدلا من اقتدارهم على تدمير قرطجنة بسهولة وبدون مقاومة، قد أصبحوا الآن في مأزق حرج، وأن عهد الحرب سيطول وأن الخطر بعد أن كان محيقا بأعدائهم قد أحاط بهم الآن، وقد صدق حدسهم فإن هذه الحرب التي أوقدوها بجورهم وتصلفهم قد طالت نحو السنتين أو الثلاث سنوات، وكانت حربا ضروسا كثيرة الهول عظيمة الويل على الجانبين، وأقبل بعدئذ سيبيو بجيش روماني جديد فكان بادئ ذي بدء قائدا من الدرجة الثانية، ولكن شجاعته وإقدامه وتدابيره المنقطعة النظير والأعمال الباهرة التي قام بها قد جعلته طائر الشهرة، محبوبا من الجنود والشعب الروماني.
ويقال إنه ذات يوم تمكن بشجاعته ودربته من إنقاذ فرقة علقت بأشراك العدو؛ بحيث تعذر عليها الإفلات، فلما نجت حملها عظيم امتنانه له على صنع إكليل من العشب وتتويج رأس سيبيو به، بين أصوات التهليل التي ضج بها الفضاء، وقام القرطجنيون في هذا العراك بأكثر مما تستطيعه قوات البشر للذود عن حياضهم، ولكن قلة عددهم ومعداتهم وحذق سيبيو وعظيم تأنيه والخطط التي رسمها للقتال بالتروي الذي عرف به قد ضيقت عليهم واسعات المذاهب تدريجا مع الأيام، وحصرتهم في مكان معلوم يضيق بضغط الرومانيين يوما عن يوم إلى أن أصبح الإفلات متعذرا عليهم بالكلية.
وكان سيبيو قد ابتنى رصيفا على الماء قريبا من المدينة، وأقام عليه المجانيق الهائلة لكي يضرب بها الأسوار، ففي ذات ليلة انسلت جماعة من القرطجنيين ومعهم مشاعل بأيديهم غير مشتعلة وأدوات لقدح النار عند الحاجة إلى ذلك، وقد وصلوا إلى الرصيف بالسباحة تارة وبالخوض طورا، وهكذا تمكنوا من الصعود إلى تلك الآلات أو المجانيق، فلما تدانوا منها على مسافة معلومة، قدحوا الزناد وأشعلوا ما كان معهم من المشاعل.
فهال ذلك جنود الرومانيين الذين كانوا يحرسون المجانيق، وفروا مذعورين لا يلوون على شيء عندما أبصروا تموجات النيران متدافعة على وجه الماء، وتركوا المجانيق، فأتاها القرطجنيون وألهبوا فيها النيران وتركوا مشاعلهم، وانقلبوا إلى البحر سابحين إلى حيث أتوا بدون أن يمسهم أذى، ولكن كل هذه الشجاعة التي أبدوها لم تفدهم شيئا؛ لأن سيبيو عاد فأصلح المجانيق في الحال، وثابر على الحصار كالأول.
على أننا نعجز عن وصف هذا العراك الطويل الهائل بتفاصيله كلها؛ ولهذا ننتقل دفعة واحدة إلى الدور النهائي الذي كان حسبما قال عنه المؤرخون فصولا من الرعب، لا يمكن وصفها كما هي في الحقيقة ولا تصديقها، فبعد أن قتل عدد كبير من المحاربين في الهجمات التي قاموا بها لدخول المدينة فضلا عن الألوف العديدة التي هلكت جوعا، والذين شربوا كئوس الردى من التعرض للبرد وغيره من الأخطار الملازمة لمثل ذلك الحصار - بعد كل هذه الغوائل والضربات المتلاحقة، تمكن جيش سيبيو من شق صفوف المدافعين والدخول إلى المدينة.
وكان بعض السكان عندئذ قد خاموا وعدلوا عن متابعة الجهاد، وأقروا على التسليم لرحمة الفاتح، وبعضهم كانوا كمن أصيب بجنون فثابروا على القتال مصممين إلى آخر دقيقة من حياتهم على عدم التسليم، وعلى الفتك بمن قدروا على قتله من أعدائهم المكروهين، وهكذا كانوا يحاربون متراجعين من شارع إلى شارع ومن زقاق إلى آخر أمام الرومانيين الهاجمين، إلى أن وصلوا إلى صرح المدينة وتهيئوا للحصار فيه.
وصعدت فرقة من جيش سيبيو إلى سطوح البيوت التي كانت مستوية كما هي اليوم في الشرق، وقاتلوا من وجدوه من رجال قرطجنة الذين كانوا يرمون الرومانيين بما اقتلعوه من الأحجار، وقسم من الجيش الروماني كان يسير في الشوارع مقابل من كان منه فوق السطوح، ويعجز كل تصور عن إدراك الصياح الشديد وضجة السلاح، وقرعة أدوات القتال الأخرى التي كانت تتصاعد من سائر أنحاء المدينة المأهولة بالناس، تتخلل ذلك أوامر الضباط الصادرة إلى جنودهم تحثهم وتستزيدهم إقداما، وأصوات الظفر المرتفعة من جماهير الفاتحين، فضلا عن صيحات الذعر والرعب الخارجة من أفواه النساء والأولاد وأنات الرجال المشرفين على الموت، وقد غاظهم دنوهم من المنية قبل إرواء الغليل من أعدائهم، فكانوا يعضون التراب من الألم وغيظ النفس التي لم تشتف بإدراك الثأر.
وبلغ المكان المعروف بحصن المدينة أشد المجاهدين شجاعة وإقداما، وفي طليعتهم القائد أسدروبال فاستولوا عليه، وقد كان ذلك الصرح قسما من المدينة على رابية وفي غاية التحصين، فزحف سيبيو إلى أن وقف أمام أسوار ذلك المكان، وأوقد النيران في منازل المدينة القريبة منه، فظلت النار تشتعل ستة أيام متوالية، ففتحت من الأسوار مكانا رحيبا دخلت منه عساكر الرومانيين لمكافحة القرطجنيين الذين في داخل الأسوار.
فلما رأى القرطجنيون ذلك علت صيحتهم؛ مما دل على أنهم يستثيرون شجاعة بعضهم بعضا للقيام بهجمة شديدة على الأعداء، وهكذا جرت معركة هائلة بين الفريقين وراء الأسوار تهالك فيها المتطاحنون إلى حد ما تستطيعه القوى البشرية، وكان هناك نحو ستة آلاف نفس من النساء والأولاد قد صمموا على الذهاب إلى سيبيو واسترحامه عنهم، فلما رأتهم زوجة أسدروبال سألته السماح لها بالذهاب معهم، فأنكر ذلك عليها.
وكان في ذلك الحصن جماعة من الرومانيين الذين أبقوا من المعسكر الروماني قبل ذلك بأيام، وقد أدركوا مما رأوه أنهم هالكون لا محالة إلا إذا جاهدوا مستميتين، فإلى هؤلاء الرومانيين الهاربين من جيشهم عهد أسدروبال في المحافظة على زوجته وأولاده، فاتخذوا لهم ملجأ في الهيكل الكبير الذي كان في وسط دائرة الحصن، وأخذوا معهم زوجة أسدروبال لينالها ما ينالهم.
صفحة غير معروفة