تدمير قرطجنة
قلنا إنه بعد انتهاء الحرب القرطجنية الثانية عقد نوع من الصلح بين البلادين دام نحو خمسين عاما، ومن المعلوم أنه في غضون هذا الزمن قام في رومية وفي قرطجنة نوابغ من الرجال كانوا منذ الصغر قد تشربوا الكره الشديد الذي شعر به أهل كل بلاد نحو الأخرى متوارثينه خلفا عن سلف، وغني عن البيان أن هنيبال طيلة عمره وفي كل ما كان يدبره من المكايد في سوريا ضد رومية كان العامل الأكبر على إبقاء نار الحقد مستعرة في رومية على الاسم القرطجني.
أجل، إن حكومة قرطجنة قد تبرأت من أعماله وتدابيره، وأعلنت مقاومتها لكل مؤامراته، إلا أن رومية كانت تدرك أن عمل قرطجنة هذا ناتج عن عدم اعتقادها بمقدرة هنيبال على إبراز تلك المكايد والمؤامرات من حيز الفكر إلى دائرة الفعل؛ ولهذا لم تكن للرومانيين ثقة بإخلاص القرطجنيين وأمانتهم، ومن أجل هذا لم يكن بين الشعبين وفاق حقيقي أو صلح ثابت أكيد.
زد على هذا ما كان يبدو بين الفريقين من حين إلى آخر من الخلاف المؤدي إلى زيادة النزاع والشقاق، فإذا ألقى القارئ نظرة على الخارطة يرى بلادا غربي قرطجنة اسمها نوميديا، ومساحة هذه البلاد مائة ميل عرضا ويمتد طولها في الداخلية بضع مئات من الأميال، وهي إقليم كثير الخصب والثروة وفيها مدن عرفت بغناها المفرط وقوتها، وكان سكانها ميالين إلى الحروب ومشهورين بما عندهم من الفرسان البارعين.
وقد قال عنهم المؤرخون إنهم كانوا يمتطون صهوات جيادهم إلى حومة الوغى بلا سروج، وأحيانا بدون لجم فيديرونها بأصواتهم فقط، فإذا جرت بهم ثبتوا على متونها كأنهم ولدوا هناك بالنظر إلى ما كانوا عليه من الدربة والتمرن، وقد ورد ذكر هؤلاء النوماديين في روايات هنيبال عن حملاته، وفي كتب المؤرخين الحربيين من سائر العصور.
وكان في جملة ملوك نوميديا ملك انحاز إلى جانب الرومانيين في الحرب القرطجنية الثانية، وكان اسمه مسانيا، جرت بينه وبين ملك المقاطعة المجاورة لنوميديا منازعات وحروب، واسم الملك هذا سيفاكس، ومع أن الملك مسانيا كان مواليا للرومانيين؛ فإن سيفاكس كان مناصرا للقرطجنيين، وكل واحد من الملكين كان في انحيازه إلى أحد الفريقين يتوقع من فريقه مناصرته على قهر الملك الآخر.
وظهر أن حلفاء مسانيا قد برهنوا على أنهم الحزب الأقوى، ففي نهاية الحرب القرطجنية الثانية عندما عقد الصلح وسطرت شروطه، نتج عن تلك الشروط اتساع مملكة مسانيا، وأيد الرومانيون ما زيد على أملاكه، واشترطوا على أهل قرطجنة ألا يمسوه بسوء بوجه من الوجوه، ومن المعلوم أن الحكومات التي على شكل حكومتي رومية وقرطجنة كثيرا ما يكون فيها حزبان قويان يجاهد واحدهما ضد الآخر لإحراز القوة والسيادة، وكان في رومية حزبان فاختلفا في شأن الخطة التي يجب الجري عليها فيما يتعلق بقرطجنة - أحدهما كان ميالا إلى السلم كيفما حصل، والآخر يدعو إلى الحرب على الدوام، وعلى مثل ذلك كانت الحال في قرطجنة، فإن أحد حزبيها كان يشير بمسالمة رومية وإرضائها في كل أمر وتحاشي إغضابها، والحزب الآخر الذي كان يشعر بثقل وطأة الرومانيين يدعو دائما أبدا إلى خلق الأسباب المؤدية إلى النزاع، ومقاومة عدوتهم اللدودة كأنهم يتمنون شبوب نار الحرب بين المدينتين مرة أخرى.
وانقضت خمسون سنة - كما تقدم البيان - على ختام حرب هنيبال، ففي غضون هذه المدة كان سيبيو - وهو الذي قهر هنيبال - قد اختفى من مسرح السياسة، وكان مسانيا ملك نوميديا نفسه قد شاخ وتقدم في الأيام فأصبح عمره فوق الثمانين سنة، إلا أنه احتفظ بالقوة والنشاط اللتين اتصف بهما في ريعان شبابه، فجمع هذا جيشا جرارا وامتطى جواده - كما كان يفعل جنوده - بدون سرج، وجال من مكان إلى آخر بين الصفوف يأمر وينهى ويتم تدابير المعركة.
وكان اسم القائد القرطجني في هذه الحروب أسدروبال، والاسم هذا كان كثير الاستعمال في قرطجنة ولا سيما عند أصدقاء هنيبال وأسرته وأقاربه، وقد يكون الذي سمي به قد ناله من والديه لإحياء ذكر شقيق هنيبال الذي قتل بعد اجتيازه جبال الألب؛ لأنه في غضون الخمسين سنة التي ساد فيها السلام بين الشعبين قد توفر الوقت لمولود جديد لكي يبلغ سن المراهقة، وفي كل حال فقد علمنا أن أسدروبال الجديد قد ورث كل ما عرف عن سميه من الكره الشديد لرومية.
وعلى هذا كان هو وحزبه يتحينون الفرص؛ لكي يتفوقوا على خصومهم في قرطجنة، فأدركوا ذلك، وفي الحال استغنموا وقت انتقال السلطة إليهم؛ ليجددوا ولو عرضا وباستتار العراك مع رومية، فنفوا الزعماء المعارضين وحشدوا جيشا اقتاده أسدروبال بالذات وزحفوا به لمحاربة الملك مسانيا. ومن غرائب المفارقات أن هنيبال نفسه أوقد نيران الحرب مع رومية بمثل هذه الطريقة وذلك بالسعي إلى محاربة حليف رومية.
صفحة غير معروفة