فلم يجد هنيبال سوى طريقة واحدة يتذرع بها إلى إيقاد جذوة الشر، ألا وهي التهجم على حلفاء الرومانيين، وهي أفضل الطرق التي عرضت له وعمل بها، وكانت ساغونتوم مدينة غنية وقوية جدا، وهي قائمة على مسافة ميل من شاطئ البحر، وهكذا استمر الهجوم على المدينة ودفاع سكانها عنها وقتا طويلا، بلغ فيه الجهاد منتهى ما في مقدرة البشر، وقد عرض هنيبال نفسه للخطر في ذلك الهجوم مرارا عديدة، فتدانى مرة وهو يدير شئون القتال ويلاحظ أمر تقريب آلات الرماية من السور، فأصابته حربة رمي بها من نوافذ السور في فخذه، فخرقت اللحم وجرحته جرحا بليغا فوقع على الأرض لساعته، واحتمله جنوده إلى مكان بعيد عن ساحة القتال.
وبقي أياما طويلة طريح الفراش يعاني ألم الجرح، وقد انحلت قواه لما فقده من الدم، وكان جنوده في غضون ذلك على أحر من الجمر خوفا عليه، وبلغ منهم انشغال البال والاحتساب حدا حملهم على إبطال الحركات الحربية. على أنهم حالما علموا أن هنيبال قد تعافى، جددوا الهجوم بأوفر شجاعة وبإقدام أعظم مما عرف عنهم قبل ذلك.
وكان سلاح الحروب في تلك الأيام مختلفا عما نعرفه اليوم، ومنه نوع من السلاح يصفه مؤرخ قديم ، وقد رأى أهل ساغونتوم يستخدمونه في هذا الحصار بما يجعله أشبه بأسلحة هذه الأيام النارية، اسمه «فالاريكا»، وهو أشبه بالمزارق مؤلف من عمود خشبي في رأسه حربة حديدية، «ولعله الرمح المعروف عند العرب». وكان طول حربته ثلاث أقدام، فهذا المزراق كان يرمى من يد أحد الجنود، أو بواسطة آلة تدفعه شديدة نحو العدو.
وأهم ما فيه مما يختلف عن الرماح: أنهم يضعون قريبا من رأسه الحديدي حزمة من القنب ملفوفة عليه مشربة بالزفت وغيره من الأشياء القابلة للالتهاب، وكانوا يشعلونها قبل رمي المزراق، فعندما ينطلق نحو العدو تزداد ناره اشتعالا بفعل الريح، فتندلع منه ألسنة اللهيب، فإذا أصاب ترس الجندي المتصدي له انغرز فيه بحيث لا يمكن انتزاعه منه، فيضطر الجندي إلى نزع الترس وتركه على الأرض.
وبينما كان سكان ساغونتوم يدافعون عن أنفسهم جهد إمكانهم، ويتفانون في الذود عن مدينتهم ضد عدوهم القوي المخيف، كان الرسل الذين وجهوهم إلى رومية قد وصلوا، وعرضوا على مجلس الشيوخ الروماني ما يخشونه من هجوم الأعداء على مدينتهم - إذ كانوا غير عالمين بأنها هوجمت - وتضرعوا إليه لاتخاذ أقوى التدابير لمنع ما يتوقعونه من الهجوم.
فقر رأي المجلس الروماني على إرسال سفراء إلى هانيبال؛ ليسألوه عما ينوي القيام به ويحذروه من عواقب مهاجمة ساغونتوم، فلما وصل أولئك السفراء إلى الشاطئ القريب من ساغونتوم، وجدوا الحرب قائمة على ساق وقدم والمدينة في حصار شديد، فحاروا في أمرهم وتشاوروا بينهم في الذي يفعلونه.
ومن المعلوم أن الأفضل للخارجي أو للذي يرتكب مخالفة ألا يسمع أمرا قد صمم قبل سماعه على عدم العمل به، وهكذا أبى هنيبال ببراعته التي يسميها القرطجنيون دهاء، ويسميها الرومانيون خداعا ومكرا أن يقابل سفراء رومية، فوجه إليهم من حذرهم من الدنو إلى معسكره قائلا إن البلاد في حالة اضطراب، بحيث لا تكون سلامتهم مضمونة إذا هم نزلوا إلى البر، فضلا عن أنه لا يستطيع مقابلتهم أو الإصغاء لما يريدون عرضه عليه؛ لأنه في شغل شاغل بالحركات الحربية عن كل مفاوضة أو جدال في أي أمر كان.
وأدرك هنيبال في الوقت نفسه أن السفراء الذين خيب آمالهم وقابلهم بمثل تلك المقابلة الفظة، والذين رأوا أن الحرب قد استعرت وأن ساغونتوم محصورة وفي أشد ما يكون من الضيق، لا بد أن يسرعوا المسير إلى قرطجنة؛ ليطالبوا الحكومة هناك بما قدموا لأجله، وعرف أيضا أن هانو وحزبه المعادي له سوف ينتصرون للرومانيين، ويحاولون إفساد خطته عليه.
فسارع إلى إرسال سفرائه إلى قرطجنة؛ لكي يستميلوا الحكومة إليه في مجلس الشيوخ، ويحرضوهم على رفض مطاليب الرومانيين، ويتيحوا للحرب بين رومية وقرطجنة العود إلى ما كانت عليه، فصح ما خمنه ووصل سفراء رومية إلى قرطجنة، وهناك حظوا بالمثول أمام مجلس الشيوخ، وعرضوا عليه دعواهم قائلين: إن هانيبال قد شهر حربا على ساغونتوم، مخالفا بذلك المعاهدة المنعقدة بين رومية وقرطجنة، وأنه قد أبى مقابلتهم أو الإصغاء لما أراد إبلاغه إياه مجلس الشيوخ الروماني بواسطتهم.
وطلبوا من الحكومة القرطجنية التبرؤ من عمله وتسليمه إليهم؛ لكي ينال الجزاء العادل على مخالفته المعاهدة واعتدائه على حليفة الرومانيين، ومن المعلوم أن ممالئي هنيبال في المجلس كانوا يبذلون جهودهم في حمل الحكومة على رفض طلب الرومانيين باحتقار واستنكاف. أما حزب هانو من أعداء هنيبال، فكانوا يقولون: إن مطالب الرومانيين معقولة وعادلة.
صفحة غير معروفة