فقال عنه: إنه لا يزال حديث السن بحيث لا يتوقع منه كبير أمر، فضلا عن أن اختلاطه بالجند قد يفسد منه الأخلاق، ويؤدي إلى خرابه «أدبيا»، وفوق هذا وذاك فإن مسألة قيادة الجيش القرطجني في إسبانيا قد أصبحت من نوع الحق الوراثي فيما يظهر، ولم يكن هميلقار ملكا لكي يرث سلطته صهره أولا، ثم ابنه الذي متى وجد في الجيش يكون وجوده كمقدمة لاستيلائه على أزمة القيادة، عندما يموت هسدروبال أو يستعفي.
ويقول المؤرخ الروماني الذي ننقل عنه تفاصيل هذا الجدال: إن القوة قد انتصرت في آخر الأمر على الحكمة كالمعتاد، وجاءت نتيجة التصويت مؤيدة لمريدي إرسال هنيبال إلى إسبانيا، وهكذا ركب ذلك الفتى البحر بقلب مفعم بالجذل والمسرة، ولما وصل إلى إسبانيا حدثت ضوضاء ابتهاج في الجيش الذي كان تائقا إلى رؤية ذلك الابن؛ لأن الجنود كانوا يحبون والده حبا يقرب من العبادة، وقد صمموا على تحويل تلك المحبة إلى الابن إذا كان جديرا بذلك.
فلم تطأ قدماه المعسكر حتى برهن على أن هذا الشبل من ذلك الأسد، وحال وصوله قصر همه على واجبات وظيفته، وعمد إلى القيام بها بنشاط وصبر وتجرد، مما لفت الأبصار إليه وحمل الجند على التعلق به، فأصبح الرجل الفرد الذي أحرز محبة كل فرق الجيش. كان لباسه بسيطا وسلوكه شريفا بلا صلف ولا عجرفة ولا كبرياء، يأكل أبسط الأطعمة ولا يتطلب رفاهة، ولا يميل إلى البطالة واللذة، ولا يكلف أحد الأنفار ما ليس في طاقته، ولا يميز نفسه عنهم في شيء، ولا يحاول التملص مما يلحق بالجندي من العناء وشظف العيش.
ينام على الثرى بين الجنود ويؤاكلهم ويشاربهم، ويسير عند الهجوم في طليعتهم، ويكون آخر من يغادر أرض المعركة منهم عند الرجوع للاستراحة.
ويقول الرومانيون عنه: إنه فضلا عن هذه الصفات التي كان متحليا بها، قد عرف بالخشونة وغلاظة الكبد وقلة الرحمة في المعارك، وكان في معاملة الأعداء داهية وفي معالجتهم باقعة، وقد يكون الأمر كذلك؛ فمثل هذه الخلال كانت مما يرغب فيه جدا في ذلك الزمان، كما أنها مستحسنة كثيرا في هذا الزمان، على أنها في نظر الأعداء تعد من القبائح.
وكيفما كان الحال؛ فإن هنيبال أصبح محبوبا من الجيش الذي أحله محل الإجلال القريب من العبادة، فثابر على الاستزادة من الاختبار العسكري في السنوات الأولى من وجوده في الجيش، وعلى التوسع في التأثير والنفوذ، إلى أن اغتال أحد الوطنيين هسدروبال بغتة، وقتله انتقاما لوطنه، وحالما سكنت ضجة الحادثة ذهب قواد الجيش في طلب هنيبال، وأتوا به بالإكرام والتهليل إلى خيمة هسدروبال، وسلموا إليه مقاليد القيادة العامة بإجماع الآراء مبتهجين مهللين مستبشرين.
ولما بلغ النبأ قرطجنة أسرعت الحكومة فوافقت على عمل الجيش، وهكذا وجد هنيبال نفسه في أرفع درجات الرتب العسكرية، وبصيرورته قائدا عاما يفعل ما يريد ازدادت رغبته في محاربة الرومانيين، وتعاظم شوقه إلى امتحان قوته ودربته معهم في المعترك، إلا أن البلادين كانتا في سلام، وهما مرتبطتان بمعاهدات رسمية للمحافظة عليه.
وكان النهر إيباروس الحد الفاصل بين أملاك الأمتين في إسبانيا، فكان القسم الواقع شرقيه تحت سيطرة الدولة الرومانية، والقسم الكائن في الغرب منه تابعا لقرطجنة، ما عدا سوغانتوم التي كان موقعها في الغرب وهي حليفة الرومانيين، والقرطجنيون مقيدون بالمعاهدة مع الرومانيين للمحافظة عليها وتركها حرة مستقلة.
ولهذا لم يكن هنيبال قادرا على عبور نهر إيباروس ومهاجمة ساغونتوم من غير أن يعبث بالمعاهدة، وعلى هذا عقد النية على التحرك نحو ساغونتوم والزحف على الأمم القريبة منها ذلك؛ لأنه أدرك أن أفضل الوسائل المؤدية إلى الحرب مع الرومانيين هي الاقتراب من عاصمة محالفيهم، علما منه بأن دنو جيشه منها يبعث على الاحتجاج واللجاج، فيئول ذلك إلى اتقاد لظى الحرب التي يريدها.
ويقول الرومانيون: إن هنيبال كان داهية مكارا وذا دربة فائقة في إصلاء نيران الحروب، وفي الواقع أنه قد أبدى دراية متناهية في حركاته العسكرية، وانتصر بجيش قليل على جيش أكبر منه عددا بطريقة مدهشة وذلك في أول حروبه، فهو إذ كان عائدا من معركة انتصر فيها مثقلا بالغنائم والأسلاب، علم بزحف جيش على مؤخره يبلغ في العدد نحو المائة ألف رجل.
صفحة غير معروفة