قلتم لنا إله قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا مكان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليس لنا عقول
حتى تحف بك الريبة في حقيقة عقيدته في الله - سبحانه وتعالى - فهو يسلم بأنه - سبحانه وتعالى - حكيم، ولكن عقله يأبى عليه أن يسلم بأنه بلا زمان أو مكان! فكيف كل هذا؟ كيف يمكن أن نعتقد بأن الله حكيم، وأنه علة العلل ومبدع الأشياء، ثم في الوقت نفسه يشارك المعلولات في صفاتها من الحد بالزمان والمكان؟ السبب في ذلك يمكن تعليله.
ارجع معي أيها الباحث المتريث برهة إلى النظر في حالات جسمك الطبيعية، وسايرني هنيهة في بحث طبيعي منطقي نخرج منه بنتيجة تعلل لنا السبب في أن أبا العلاء يسلم بأن الله حكيم، ثم لا يستطيع أن يسلم بأنه بلا مكان ولا زمان.
أنت إنسان تبصر وتلمس وتسمع وتذوق وتشم، وليس فيك من صفات تدل على وجودك غير هذه الصفات التي اصطلح على تسميتها بالحواس الخمس، وأنت في هذه الآونة تقلب بين يديك كرة من الحديد الأصم، هي مادة اصطلحت على تسميتها حديدا، سائل نفسك بعد ذلك كيف يمكن أن تعرف أن هذه الكرة خارجة عن حيزك؟ تعرف ذلك لأنك تراها وتلمسها وتسمع رنينها إذا ألقيتها على الأرض، وقد تذوقها إذا وجدت لها عندك طعما، وقد تشمها إذا كانت تنبعث منها رائحة، فإذا فرضت أنك فقدت حاسة البصر فإنه يتعذر عليك أن تراها، وإذا فقدت حاسة اللمس تعذر عليك أن تشعر بها، وإذا فقدت حاسة السمع استعصى عليك أن تسمع رنينها إذا ما أصابت جسما صلبا تلقى عليه، إذن يترتب على هذا أنك لا تعرف لهذه الكرة من وجود خارج عن حيزك إلا من طريق حواسك، وإذن فكل ما تدرك من وجود الكرة راجع إلى إدراكات كائنة فيك، وليست خارجة عن حيزك، وعلى هذا يتعين عليك القول بأن فقدان الحواس يمنع عليك أن تدرك للكرة وجودا حقيقيا خارجا عن حيزك، مع أنك مع كل هذا لا تستطيع مطلقا أن تعتقد بأن الكرة ليست خارجة عن حيزك وعن وجودك المادي؛ ذلك لأن عقلك قد ركب عن أن يمضي معتقدا بأنها خارجة عنك بعيدة عن وجودك، وأن لها وجودا آخر غير وجودك، على هذا جبل الإنسان وعلى هذا تركب عقله، فإذا اعتقد شخص ساعة بأن الكرة في حيزه داخلة في وجوده وأخذ يؤدي عمله سائرا على هذا الاعتقاد، فعندها نقول بأن ميزان العقل قد اختل وتفككت ألفته؛ ذلك لأن العقل ألفة، لا بل لن تسلم إلا بأن الكرة تشغل من المكان حيزا خارجا عن حيز جسم الإنسان الشاعر بوجودها من طريق حواسه، هذا أمر سلم به كل المشتغلين بالعلم الطبيعي كما سلم به كل المناطقة، فلنتركه هنيهة إلى بحث آخر يمت إليه بآصرة قريبة.
في الفلسفة الحديثة اصطلاح وضعنا له «الفكرة الناسوتية» ترجمة، ولست أعلم مقدار انطباق هذه الترجمة على الواقع، غير أني أستعمل الاصطلاح هنا ترجمة لكلمة «إنثروبومورفزم»؛ أي الفكرة الفلسفية القائلة بتزويد الله - سبحانه وتعالى - بشيء من الخصائص الإنسانية والصفات البشرية، على أن مضينا في الاعتقاد بأن الله لن تخرج صفاته - تجلت عن الشبائه - عن أشياء تتحيز في أذهاننا حسب نماذجنا العقلية لأمر فيه من الخرق بقدر ما نقول بأن الشمس تدور حول الأرض أو أن اثنين واثنين لا يكونان أربعة أو بقدر ما ننكر وجود المحسوسات ، أمر يتنافى لدى أول وهلة مع اعتقادنا بأن الله مخالف للحوادث بمقتضى أنه علتها الأولى، غير أننا مع كل هذا لا نستطيع أن نكون في موجد الأشياء فكرة غير مصبوبة في قالب تصوره لنا نماذجنا العقلية؛ لأن هذا يخرج عن طوق الذوات الفانية.
صفحة غير معروفة