خطبة الكتاب
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
القسم الخامس
خطبة الكتاب
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
صفحة غير معروفة
القسم الرابع
القسم الخامس
تاريخ الفيوم
تاريخ الفيوم
تأليف
إبراهيم رمزي
خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي حفظ لرسوله تاريخ الأول، وقص عليه أخبار من مضى من الدول، وصلاة وسلاما على خير الأصفياء، وآله وصحبه وجميع الأنبياء، أما بعد: فإن التاريخ من أحسن ما يطالعه الإنسان؛ ليعتبر بمن سبقه في غابر الزمان، فإنه مرآة يرى فيها المتأخرون ما قام به المتقدمون، من أعمال وآثار، وعلم واختبار، فيلتقط منه أبناء هذا الجيل محاسن ما قاموا به من زمن طويل، ويتمسكون بمحمود الخصال، وممدوح الخلال، وينبذون المضر من العوائد؛ فتحصل لهم بذلك أعظم الفوائد، إذ إن عمر الإنسان قصير، ومكثه في هذه الدار الفانية ليس بكثير، وإذا فرضنا أنه عمر ألف سنة، ولم يأخذه في طول حياته نوم ولا سنة، مكدا في الجد والاجتهاد، ليحصل على ما به يستفاد؛ لرجع بعد ذلك بالإعياء، وحفظ شيئا وغابت عنه أشياء، ورحم الله من قال في مثل هذا المجال:
ليس بإنسان ولا عاقل
صفحة غير معروفة
من لم يع التاريخ في صدره
ومن درى أخبار من قبله
أضاف أعمارا إلى عمره
ولذلك دعاني حب وطني الخصوصي - وهو مديرية الفيوم - أن أقوم له بخدمة تجمع ما تفرق من تاريخه في كتاب يرجع إليه المؤرخون عموما وأهل هذه المديرية خصوصا فيما يريدون معرفته من أخبارها وآثارها، وما اشتهر فيها من الرجال من قديم الزمان إلى الآن، وما اشتهرت به من المحاصيل وأنواعها، وجباية الأموال فيها، وأصل مؤسسيها، وتاريخ بحيرة موريس، وسبب إنشائها، ومن أنشأها، والترعة المسماة ببحر يوسف، وما أتى في كل ذلك من أقوال قدماء المؤرخين، كل ذلك نسنده إلى من رواه من مدوني الأخبار والآثار لكيلا ينسب إلينا ميل نحو فكر مخصوص ما لم نر وجه ثبوته ظاهرا كالشمس.
وقد اعتمدنا على أن نقسم هذا التاريخ إلى خمسة أقسام: فالقسم الأول: يحتوي على تاريخ الفيوم منذ نشأتها إلى ما قبل تولية المغفور له محمد علي باشا، والقسم الثاني: منذ تولية هذا البطل إلى آخر سنة 1894 ميلادية الموافقة لسنة 1312 هجرية، والقسم الثالث: يحتوي على أشهر العلماء والأدباء والأولياء، وما قيل في الفيوم من نظم ونثر، والقسم الرابع: يحتوي على موقع مديرية الفيوم الجغرافي، وأسماء مدنها وقراها، وعدد أهاليها وأطيانها وترعها، وإحصائية عن أهم محاصيلها، وما بها من فروع الدواوين والمصالح الأميرية، وتجار المدينة، وأسماء ذواتها، وأشهر ما بها من المحلات والجمعيات، وغير ذلك مما يهم ذكره.
والقسم الخامس: يحتوي على صور رؤساء الدواوين وبعض كبار الخدمة، وجملة من أعيان وذوات الفيوم، مع ملخص تراجم ذوي الصور، وأشهر ما وقع لهم في سيرتهم.
هذه هي أقسام الكتاب، ولا يخفى أن كثيرا من الدول والأقطار لا يمكن تسلسل تاريخ حكامها أو ما كانت عليه أحوالها، فلا لوم إذا لم نلم بتسلسل تاريخ أحوال الفيوم سنة سنة أو حاكما حاكما؛ لأن هذا من أصعب الأمور، وخصوصا في إقليم صغير كمديريتنا، وبالأخص في الزمن القديم، إذ إن المؤرخ ليس إلها حتى يحيط بالغيب، ومعلوم أن نفس تاريخ مصر القديم غامض جدا فكيف بمديرية تابعة لها؟ فالمؤرخ رجل يقتبس من التواريخ القديمة ما يختص بموضوع تأليفه، وليس له أن يخلق شيئا من عنده. فغاية ما في الأمر بالنسبة لتاريخنا أننا جمعنا ما قيل عن هذه المديرية في تاريخها القديم مما قاله قدماء المؤرخين وغيرهم، مثل تاريخ الرجل الشهير هيرودوتس، وخطط المقريزي، وكتاب حضرة أحمد بك كمال، وغيرهم من مؤلفي العرب وخلافهم.
وأما تاريخ الفيوم الحديث فنأخذه من المصادر الرسمية، والتآليف الحديثة فيما يختص بالجغرافيا، ومن أفواه أصدق الرواة الثقات الذين عمروا منذ آخر عهد المغفور له محمد علي باشا إلى الآن، ولا نثق منهم إلا بالسليم العقل، القوي الإدراك، الخالي الغرض، مع إثبات ما حصل في زماننا وشاهدناه عيانا.
وقد كان بودنا أن نضع صور جميع أعيان مديريتنا، فأعلناهم باستحضارها لنا لنقشها على معدن حتى يمكن طبعها ضمن هذا التاريخ لزيادة الفائدة، وتخليد الأثر والذكرى، كما جرت عادة المتمدنين في بلادهم، فالبعض أعطانا صورته مشفوعة بالشكر والممنونية، والبعض الآخر أبى كل الإباء، ولما تصفحنا ضمائر بعض هؤلاء الذين لم يريدوا قال فريق: «إن هذا من المحرمات شرعا»، فحاولنا إقناعهم بأن الشريعة الغراء لم تحرم ذلك، فلم يكن منهم إلا الصد وعدم الرد، فتركنا هؤلاء على ما هم عليه من الأفكار، وفريق آخر قال: «إننا لسنا من الوزراء ولا الملوك ولا الأمراء، فما معنى تصويرنا في تاريخ؟!» فقلنا لهم: «نعم، كان يصح قولكم إذا كان كتابنا تاريخا عاما لمصر، فحينئذ لا يكون لوضع صورتكم معنى، ولكن ما دام كتابنا مقتصرا على مديريتنا فوضع صورة أعيانها ورؤساء حكومتها من الكماليات المستحسنة في ذلك التاريخ، خصوصا وأن وضع ترجمة صاحب الصورة ستكون عنوانا لأعماله في المستقبل وتخليدا لاسمه، الأمر الذي إن لم تكن له فائدة في الحاضر فستكون له أهمية في المستقبل»، فلم يقبل هؤلاء أيضا فتركناهم وشأنهم، واقتصرنا على وضع صور من تفضل علينا منهم.
هذا ما أردنا أن نقوم به لمديريتنا. على أننا لا نريد على هذه الخدمة من أحد جزاء ولا شكورا، غير أننا نرجو ممن يتصفح كتابنا أن يغض الطرف عما يراه به من الخطأ والخطل، إذ الإنسان محل الهفوات والعصمة لله وحده. والسلام.
صفحة غير معروفة
القسم الأول
تحقيق اسم الفيوم
إن الذي حفر بحيرة موريس هو الملك أمنمحعت الثالث أحد ملوك العائلة الثانية عشرة، وهو من الرعاة، وكان اسم زوجته «سبك نفرورع»، ووجد في الآثار القديمة أن اسم الفيوم القديم «بي سبك»، فلا يبعد أن يكونوا قد وضعوا اسم الفيوم على اسم زوجة الملك المذكورة. وكانت الفيوم أيضا باسم «بيومع» أي مدينة اليم، واسم الفيوم بالهرمسية «بايوم» أو «فايوم».
ومن هذا يعرف أن الذين قالوا إن اسم الفيوم مأخوذ من قولهم: «ألف يوم» قد أخطئوا كثيرا، وتحرير هذا الزعم على قولهم: «إن سيدنا يوسف لما بنى الفيوم في جملة أيام اختلفوا في أنها سبعون يوما أو أربعة أشهر، وجاء الملك فرآها فسأل يوسف: في كم يوم بنيتها وحفرت ترعتها؟ فقال: في كذا من الأيام. فاستغرب الملك قوله وقال: إن هذا عمل يستغرق على الأقل ألف يوم. فدعوها باسم الفيوم.»
مع أننا لو تصفحنا التواريخ لوجدنا أن أمنمحعت الثالث كان موجودا قبل سيدنا يوسف بزمن طويل، وقد سميت الفيوم «بايوم» أو «فايوم» في زمن أمنمحعت المذكور، أي قبل ميلاد سيدنا يوسف كما ثبت ذلك من آثار الأقدمين، فإذن لا صحة لقول القائل بأن اسمها مأخوذ من «ألف يوم».
ومعنى «بايوم» أو «فايوم» بلد البحر، ولفظ الفيوم محرف عن هذين الاسمين، ومضاف إليه «ال» أداة التعريف.
أقوال هيرودتس عن الفيوم ومحتوياتها
هيرودتس هو رجل يوناني اشتهر بعلم تاريخ الأقدمين، وقد ساح في أغلب البلاد التي دون تاريخها وأخذ عن أهلها، ما ساعده على كتابة تاريخه، توفي هذا الرجل المؤرخ منذ 2200 سنة، قال في تاريخه فيما يختص بالفيوم ما يأتي - نقلناه مع إضافة بعض بيانات: «وقال لي الكهنة - أي كهنة المصريين: إنه لم يكن من هؤلاء الملوك - أي ملوك العائلة الثانية عشرة - واحد امتاز بأعمال عظيمة ولا بأثر جليل إلا موريس - يعني أمنمحعت الثالث - وهو آخرهم فإنه اشتهر بآثار كثيرة؛ لأنه بنى دهليز هيكل فلكانوس الذي إلى جهة الشمال، وحفر بحيرة سأذكر مساحتها فيما بعد، وأنه أنشأ أهراما سأذكر كبرها حينما آتي على ذكر البحيرة.» ا.ه.
وقال في موضع آخر من تاريخه ما نصه:
وأنا أذكر الآن ما جرى في مصر بحسب إقرار المصريين أنفسهم وسائر الأمم، وأضيف على ذلك ما شهدته بنفسي.
صفحة غير معروفة
بعد موت سيتوس الذي كان ملكا وكاهنا لفلكانوس معا، تمتع المصريون بحريتهم، ولكن إذ كانوا لا يقدرون أن يلبثوا برهة بلا ملك اختاروا اثني عشر ملكا، وقسموا مصر إلى اثني عشر قسما، جعلوا كل ملك لقسم منها، وصار الاتحاد بين هؤلاء الملوك بالزواج، وتعاهدوا ألا يضروا بعضهم بعضا، وألا يطمع الواحد بملك الآخر، وأن يبقوا دائما متحدين بالمحبة الصادقة. وكانت الغاية من هذه المعاهدة أن يتقوا ويثبتوا بإزاء كل خطر يعرض؛ لأنه منذ أول ملكهم بلغهم وحي أن من يقدم منهم سكيبا في هيكل فلكانوس بكأس من نحاس يملك على كل مصر، ولذلك كانوا يجتمعون في كل الهياكل.
وأرادوا أيضا أن يبنوا أثرا على نفقتهم جميعا، فلما تم عزمهم بنوا بربى فوق بحيرة موريس بقليل وقرب مدينة التماسيح، وقد رأيت هذا البناء فوجدته يفوق وصف الواصفين، فكل أعمال الأغارقة وكل أبنيتهم لا تشبهه لا من جهة الشغل ولا من جهة النفقة، بل جميعها دونه بكثير، وهياكل أفسس وساموس تستحق المدح. وأما الأهرام فهي فوق كل ما يقال عنها، كل واحد منها خصوصا يمكن أن يقابل بأعظم أبنية الأغارقة. على أن البربى يفوق الأهرام نفسها - البربى هي المسماة لابيرانتا - فهو مؤلف من اثنتي عشرة دارا تحدق بها أسوار أبوابها متقابلة، ستة منها إلى الشمال وستة إلى الجنوب، وكلها متلاصقة، وحول الجميع سور واحد، ومنازلها مزدوجة، منها ألف وخمسمئة غرفة تحت الأرض وألف وخمسمئة فوق الأرض، وكلها ثلاثة آلاف. وقد دخلت المنازل العليا وجلت فيها، ولذلك أتكلم عنها بتحقيق لأني شاهدتها بعيني، وأما التي تحت الأرض فلا أعرف عنها إلا ما قيل لي؛ لأن المصريين المتولين أمرها لم يسمحوا لي أن أراها؛ لأنها على قولهم متخذة مدافن للتماسيح المقدسة والملوك الذين بنوا هذا البناء كله، فلا أتكلم إذن عن المنازل السفلى إلا نقلا عن كلام الناس، وأما العليا فقد رأيتها وأحسبها كأعظم ما عمل البشر في سالف الأزمان.
فلا يزداد الإنسان إلا تعجبا من اختلاف المسالك المتعرجة المؤدية من الدور إلى المنازل، والمنافذ المؤدية منها إلى دور آخر، وكل مجموع من تلك المنازل مؤلف من غرف كثيرة، تنتهي إلى معابر يوصل منها إلى منازل أخرى، تجتاز غرفها للوصول إلى دور آخر، وسقف كل مجموع المنازل من حجر وكذلك الجدران، وهذه كلها منقوشة بصور مسنمة.
وحول كل دار صف من الأساطين حجرها أبيض، متقنة الإحكام، وفي الزاوية التي ينتهي بها البربى يوجد هرم علوه خمسون أورجية، قد حفرت عليه صور كبيرة لبعض الحيوانات ، ويوصل إليه بمدخل تحت الأرض.
ومهما كان هذا البربى عجيبا، فإن بحيرة موريس القريبة إليه أعجب منه؛ محيطها ثلاثة آلاف وستمئة استادة عبارة عن ستين سخينة، أي أن استدارتها بمقدار مسافة ساحل مصر كلها من جهة البحر، وهذه البحيرة الممتدة طولا من الشمال إلى الجنوب عمقها خمسون أورجية في عمق موضع منها، وقد حفرت بأيدي الناس والدليل منها نفسها فإنه يشاهد في وسطها تقريبا هرمان علو كل منهما فوق الماء خمسون أورجية وخمسون تحت الماء، وعلى كل منهما تمثال ضخم جالس على عرش، فطول كل من هذين الهرمين مئة أورجية، فمئة أورجية تكون استادة أي ستة بليثرات؛ لأن الأورجية ستة أقدام أو أربع أذرع والقدم أربع قبضات والذراع ست قبضات.
ومياه بحيرة موريس ليست من نبع؛ لأن الأرض التي فيها جافة جدا وقاحلة، بل يؤتى بها من النيل بترعة بينهما، فتجري من النيل إلى البحيرة مدة ستة أشهر، ومن البحيرة إلى النهر ستة الأشهر الأخرى، وفي مدة رجوع المياه منها إلى النهر يكون من الصيد في البحيرة ضريبة للخزينة الملوكية وزنة فضة كل يوم، لكن في الستة أشهر التي تدخلها المياه من النيل لا تكون الضريبة إلا عشرين منا - الوزنة عبارة عن 5400 درهم والمنا 90 درهما - فيكون مدخول الصيد السنوي للخزينة 296000 درهم، وكلها تنفق على حلي الملكة وعطرها.
وللبحيرة عطفة من جهة الغرب، وتتجه إلى وسط الأرض على موازاة طول الجبل فوق منف، وتتفرغ مياهها لمنفعة أهالي البلاد في خليج «سيرته» من ليبيا بواسطة قناة من تحت الأرض. ولكوني لم أر في موضع ما استخرج من التراب عند حفر البحيرة، وكنت مشتاقا لمعرفة مكان وجوده سألت أهل البلاد الذين هم أقرب إلى البحيرة من غيرهم، فلم يصعب علي تصديقهم أكثر مما صعب علي تصديق الخبر عما فعل أهل نينوى مدينة الآشوريين من نحو هذا، وذلك أن لصوصا أرادوا سرقة كنوز سردنابال ملك نينوى، وكانت وفيرة جدا، ومكنوزة في مكان تحت الأرض، فابتدءوا يحفرون الأرض من موضع سكناهم، وقد اتخذوا التدابير وعرفوا المسافة بتحقيق تام، فاستمروا يحفرون إلى أن وصلوا إلى قصر الملك، وعند دخول الليل كانوا يأخذون التراب ويلقونه في دجلة وهو يجري على طول مدينة نينوى، وبقوا هكذا في عملهم إلى أن بلغوا غايتهم. وهكذا على ما سمعت عمل أهل مصر، لكن الفرق أنهم لم يكونوا يحفرون البحيرة ليلا بل في النهار، وكلما حفروا شيئا كانوا ينقلون التراب ويلقونه في النيل فيبدده، وعلى هذه الطريقة كان حفر البحيرة إذا صدق أهل البلاد. ا.ه.
وقال في موضع آخر، ويؤخذ من قوله إن أهل الفيوم كانوا يعبدون التمساح، كما يتضح ذلك من عبارته الآتية:
وبعض المصريين يحسبون التماسيح مقدسة، وبعضهم يطاردونها ويقتلونها، فالذين يسكنون نواحي طيوة وبحيرة موريس يحترمونها احتراما شديدا، وكلهم يأخذون تمساحا صغيرا يربونه ويعلمونه أن يحتمل مس اليد، ويعلقون في أذنه حلقا من ذهب أو حجارة مقلدة، ويجعلون في قائمتيه الأماميتين أساور، ويطعمونه من لحم الذبائح وأطعمة أخرى مفروضة، ويعتنون به ما دام حيا، وإذا مات يحنطونه ويضعونه في تابوت مقدس. انتهى كلام هيرودتس.
أقوال المقريزي في خططه عن الفيوم
صفحة غير معروفة
نقلنا أقوال هذا المؤرخ العربي الشهير مع بعض تصرف واختصار. قال تحت هذا العنوان «خليج الفيوم والمنهى»: «مما حفره نبي الله يوسف الصديق - عليه السلام - عندما عمر الفيوم كما هو مذكور في خبر الفيوم من هذا الكتاب، وهو مشتق من النيل لا ينقطع جريه أبدا، وإذا قابل النيل ناحية دورة سريام التي تعرف اليوم بدورة الشريف «ديروط» يعني ابن ثعلب النايب في أيام الظاهر بيبرس، تشعبت منه في غربيه شعبة تسمى المنهى تستقل نهرا يصل إلى الفيوم، وهو الآن عرف ببحر يوسف، وهو نهر لا ينقطع جريانه في جميع السنة، فيسقي الفيوم عامته سقيا دائما، ثم ينجز فضل مائه في بحيرة هناك. ومن العجب أن ينقطع ماؤه من فوهته، ثم يكون له بلل دون المكان المندى، ثم يجري جريا ضعيفا دون مكان البلل، ثم يستقل نهرا جاريا لا يقطع إلا بالسفن، ويتشعب منه أنهار، وينقسم قسما يعم الفيوم يسقي قراه ومزارعه وبساتينه وعامة أماكنه، والله أعلم.» ا.ه.
وقال تحت هذا العنوان «ذكر مدينة الفيوم»: «اعلم أن موضع الفيوم مكان مغيض ماء النيل، فلما ولي السيد يوسف الصديق - عليه السلام - تدبير أمور مصر عمرها، قال ابن وصيف شاه: «ثم ملك الريان بن الوليد وهو فرعون يوسف، والقبط تسميه نهراوش، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق، جميل الوجه، عاقلا، متمكنا، فوعد بالجميل، وأسقط عن الناس خراج ثلاث سنين، وفرق المال في الخاص والعام، وملك على البلد رجلا من أهل بيته يقال له أطفين، وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز، فأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من فضة يجلس عليه، ويغدو فيه ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال والكتاب بين يديه، فكفى نهراوش ما خلف ستره، وقام بجميع أموره وخلاه للذته، فانغمس نهراوش في لهوه، ولم ينظر في عمل، ولا ظهر للناس حينا، والبلد عامر وهو لا يسأل عن شيء. وعمل له مجالس من زجاج ملون وحولها ماء فيه أسماك مفرطة وبلور ملون، فكان إذا وقعت الشمس عليه ظهر له شعاع عجيب، وعملت له عدة منتزهات على عدد أيام السنة، فكان في كل يوم في موضع منها، وعمل له في كل موضع من الآنية والفرش ما ليس لغيره.
فاتصل بملوك النواحي تشاغله بلذته وتدبير أطفين، فسار ملك من العماليق يقال له أبو قابوس عاكر بن يخوم إلى مصر، ونزل على حدودها، فجهز إليه العزيز جيشا عليه قائد يقال له بريانس، فأقام يحاربه ثلاث سنين، فظفر به العمليقي وقتله، وهدم الأعلام والمصانع وقوي طمعه في البلد، فاجتمع الناس إلى قصر الملك واستغاثوا، فخرج إليهم وعرض جيوشه، وخرج في ستمئة ألف مقاتل سوى الأتباع، فالتقوا من وراء الحوف، وكان بينهما قتال شديد، فانهزم العملقي وتبعه نهراوش إلى حد الشام. وبالجملة فقد هاج في صدره حب الحرب، فضرب السودان إلى أن تجاوز بلاد الدمدم الذين يأكلون الناس وغيرهم، حتى خافه جميع الملوك، وتخلص من القول بأنه منغمس في اللذات، ثم رجع إلى بلاده فوجد العزيز المسمى أطفين متوليا الأمور كما تركه، وحينئذ حدث ليوسف السجن بعد أن راودته امرأة العزيز إلى آخر القصة. وبعدها مات العزيز والريان منعكف على الملاذ، وحصل يوسف على خزائن مصر أيام الخصب والجدب، ثم ولي يوسف الأحكام في مصر.
وفي وقته - أي وقت الريان المسمى نهراوش - عمل يوسف الفيوم، فإن أهل مصر كانوا وشوا به إلى الملك، وقالوا قد كبر ونقص نفعه فاختبره، فقال له: «إني وهبت هذه الناحية لابنتي وكانت مغايض للماء، فدبرها لها»، فعملها يوسف، واحتال للمياه حتى أخرجها، وقلع أوحالها، وساق المنهى وبنى اللاهون، وجعل الماء فيها مقسوما موزونا، وفرغ منها في شهور أربعة فعجبوا من حكمته.
ويقال في خبر بناء يوسف - عليه السلام - مدينة الفيوم إنه لما وزر لفرعون ثلاثين سنة عزله، فقال: «لم عزلتني؟» فقال: «لم أعزلك لريبة ولا أنسى بركتك، ولكن آبائي عهدوا إلي أن لا يتولى لنا وزير أكثر من ثلاثين سنة، وإنا نخشى أن يتأصل الوزير حتى يدبر على الملك»، فقال له يوسف: «قد علمت نصحي لك حتى صيرت ديار مصر كلها ملكا لك، فأقطعني أرضا تكون لقوتي وقوت أهلي وعشيرتي.» فقال له فرعون: «اختر حيث شئت.» فمشى يوسف في قفار الأرض حتى رأى أرض الفيوم، وفيها جبل حائل بين النيل وبينها، فوزن ماء النيل حتى رأى أن قاعها يركبه النيل، فخرق خرقا في ذلك الجبل، وساق الماء فيه إلى الفيوم، فسقى الأرض وعمل في جوانب الماء ثلاثمئة وستين قرية على عدد أيام السنة، وشحنها بالغلال والأقوات التي ازدرعها، فكان إذا نقص النيل ووقع الجوع بأرض مصر، باع كل يوم ما جمعه في قرية من قرى ال فيوم، حتى ملك مصر لنفسه كما جمعها للملك؛ فعظم شأن يوسف وكثر ماله، فرده الملك بعد مدة إلى وزارته، وتوفي وهو وزير، فأوصى بخروج جثته إلى الأرض المقدسة، فخرج بها هارون بن أفرايم بن يوسف في مئة ألف من بني إسرائيل، فهزمته الجبابرة فيما بين مصر والشام، وهلك أكثر من معه، وعاد بمن بقي معه إلى مصر، فأقاموا بها حتى بعث الله موسى بن عمران - عليه السلام - إلى فرعون رسولا، فخرج ببني إسرائيل من مصر ومعه جثة يوسف - عليه السلام - وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم.
وقيل: كان سبب ذلك أن يوسف - عليه السلام - لما ملك مصر، وعظمت منزلته من فرعون، وجاوز سنه مئة سنة، قال وزراء الملك له: «إن يوسف قل علمه وتغير عقله ونفدت حكمته»، فعنفهم فرعون، ورد عليهم مقالتهم، وأساء اللفظ لهم، فكفوا ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين فقال لهم: «هلموا ما شئتم من أي شيء اختبروه به.» وكان بلد الفيوم يومئذ يدعى الجوبة، وإنما كانت لمصالة ماء الصعيد وفضوله، فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف، فقالوا لفرعون: «سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها، ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك، وخراجا إلى خراجك.» فدعا يوسف فقال: «تعلم مكان ابنتي فلانة مني، وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها بلدا، وإني لم أصب لها إلا الجوبة، وذلك أنه بلد بعيد قريب لا يرى بوجه من الوجوه إلا من غابة أو صحراء، وكذلك ليست هي تؤتى من ناحية من النواحي من مصر إلا من مفازة وصحراء، فالفيوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد؛ لأن مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلا من صحراء أو مفازة.» قال: «وقد اقتطعتها إياها، فلا تتركن وجها ولا نظرا إلا بلغته.» فقال يوسف: «نعم أيها الملك، متى أردت ذلك فابعث إلي، فإني إن شاء الله فاعل ذلك.» قال: «أحبه إلي وأرفعه أعجله.»
فأوحي إلى يوسف أن تحفر ثلاثة خلج: خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا، وخليجا شرقيا من كذا إلى موضع كذا، وخليجا غربيا من موضع كذا إلى موضع كذا، فوضع يوسف العمال فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون إلى اللاهون، وأمر البنائين أن يحفروا اللاهون، وحفر خليج الفيوم وهو الخليج الشرقي، وحفر خليجا بقرية يقال لها بنهمت من قرى الفيوم وهو الخليج الغربي، فخرج ماؤها من الخليج الشرقي، فصب في النيل، وخرج من الخليج الغربي فصب في صحراء بنهمت إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء، ثم أدخلها الفعلة فقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء وأخرجه منها، وكان ذلك ابتداء جري النيل. وقد صارت أرض الجوبة نقية برية، وارتفع ماء النيل فدخل في رأس المنهى فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاهون فقطعه إلى الفيوم، فدخل خليجها فسقاها فصارت لجة من النيل. وخرج إليها الملك ووزراؤه، وكان هذا كله في سبعين يوما، فلما نظر إليها الملك قال لوزرائه أولئك: «هذا عمل ألف يوم» فسميت الفيوم، وأقامت تزرع كما تزرع غوايط مصر.
قال: وقد سمعت في استخراج الفيوم غير هذا: أن يوسف - عليه السلام - ملك مصر وهو ابن ثلاثين، فأقام يدبرها أربعين سنة، فقال أهل مصر: قد كبر يوسف واختلف رأيه، فعزلوه. وقالوا: اختر لنفسك من الموات أرضا تقطعها لنفسك وتصلحها وتعمل رأيك فيها، فإن رأينا من رأيك وحسن تدبيرك ما نعلم أنك في زيادة من عقلك رددناك إلى ملكك. فاعترض البرية في نواحي مصر، فاختار موضع الفيوم فأعطيها، فشق إليها خليج المنهى من النيل حتى أدخله الفيوم كلها، وفرغ من حفر ذلك كله في سنة. قال يزيد بن أبي حبيب: وبلغنا أنه إنما عمل ذلك بالوحي، وقوي على ذلك بكثرة الفعلة والأعوان، فنظروا فإذا الذي أحياه يوسف من الفيوم لا يعلمون له بمصر كلها مثلا ولا نظيرا، فقالوا: «ما كان يوسف قط أفضل عقلا ولا رأيا ولا تدبيرا منه اليوم»، فردوا إليه الملك فأقام ستين سنة تمام مئة سنة، حتى مات وهو ابن ثلاثين ومئة سنة.
ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك وأنه إنما كان ذلك على المحنة منهم له، فقال للملك: «عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت» فقال له الملك: «وما ذاك؟» قال: «أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت، وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية - وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر - فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض، لا يكون في ذلك زيادة ولا نقص، وأصير لكل قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلا فيه، وأصير مطاطئا للمرتفع ومرتفعا للمطاطئ بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها قبضات، فلا يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره.» فقال له فرعون: «هذا من ملكوت السماء؟» قال: «نعم.» فبدأ يوسف فأمر ببنيان القرى وحدد لها حدودا، وكانت أول قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون، ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر، فلما فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض ووزن الماء، ومن يومئذ حدثت الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك، وكان أول من قاس النيل بمصر يوسف، ووضع مقياسا بمنف. قال جامعه: وفي التوراة إن فرعون ألزم بني إسرائيل البناء وضرب اللبن فبنوا له عدة مدن محصنة منها فيفوم. قال الشارح: هي الفيوم.» ا.ه.
وقال تحت هذا العنوان «ذكر ما قيل في الفيوم وخلجانها وضياعها»: «قال اليعقوبي: كان يقال في متقدم الأيام: مصر والفيوم؛ لجلالة الفيوم وكثرة عمارتها، وبها القمح الموصوف، وبها يعمل الخيش. وحكى المسعودي أن معنى الفيوم ألف يوم. قال القضاعي: الفيوم، وهي مدينة دبرها يوسف - عليه السلام - بالوحي، وكانت ثلاثمئة وستين ضيعة تمير كل ضيعة منها مصر يوما واحدا، فكانت تمير مصر السنة، وكانت تروى من اثنتي عشرة ذراعا، ولا يستبحر ما زاد على ذلك، فإن يوسف - عليه السلام - اتخذ لهم مجرى ورتبه ليدوم لهم دخول الماء فيه، وقومه بالحجارة المنضدة، وبنى به اللاهون. وقال ابن رضوان: الفيوم يخزن فيه ماء النيل، ويزرع عليه مرات في السنة، حتى إنك ترى هذا الماء إذا خلا يغير لون النيل وطعمه، وأكثر ما تحدث هذه الحالة في البحيرة التي تكون في أيام القيظ سفط ونهيا، وصاعدا إلى ما يلي الفيوم، وهذه حالة تزيد في رداءة أهل المدينة - يعني مصر - ولا سيما إذا هبت ريح الجنوب، فإن الفيوم في جنوب مدينة مصر على مسافة بعيدة من أرضها.»
صفحة غير معروفة
وقال القاضي السعيد أبو الحسن علي ابن القاضي المؤتمن بقية الدولة أبي عمرو عثمان بن يوسف القرشي المخزومي في كتاب «المنهاج في علم الخراج»:
وهذه الأعمال من أحسن الأشياء تدبيرا وأوسعها أرضا، وأجودها قطرا، وإنما غلب على بعضها الخراب لخلوها من أهلها، واستيلاء الرمل على كثير من أرضها، وقد وقفت على دستور عمله أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن الحسن فذكر خلجان الأعمال المدثورة وما عليها من الضياع، وقد أوردته ها هنا، وإن كان منه ما قد دثر، ومنه ما تغيرت أسماؤه، ومنه ما جهلت مواضعه بالدثور ولكن أوردته ليعلم منه حال الغامر الآن، ويستقصي به من له رغبة في عمارة ما يقدر عليه من الغامر، وفي إيراده مصلحة ليعلم شرب كل موضع ونسخته - دستور - على ما أوضحه الكشف من حال الخلج الأمهات بمدينة الفيوم، وما لها من المواضع، وشرب كل ضيعة منها، ورسمها في السد والفتح والتعديل والتحرير، وزمان ذلك عمل في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وأربعمئة. نبتدئ بعون الله وحسن توفيقه بذكر حال البحر الأعظم الذي منه هذه الخلج، فنذكر مادته التي صلاحه بصلاحها: «خليج الفيوم الأعظم»: يصل الماء إلى هذا الخليج من البحر الصغير المعروف بالمنهى ذي الحجر اليوسفي، وفوقه هذا البحر عند الجبل المعروف بكرسي الساحرة من أعمال الأشمونين، ومنه شرب بعض الضياع الأشمونية والقسية والأهناسية، وعلى جانبيه ضياع كثيرة شربها منه وشرب كروم ماله كروم منها. قال الحجر اليوسفي، والحجر اليوسفي جدار مبنى بالطوب والجير المعروف عند المتقدمين بالصاروج وهو الجير والزيت، وبناؤه من الشمال إلى الجنوب، ويتصل من نهايته من الجنوب بجدار بناؤه مثل بنائه على استقامة من الغرب إلى الشرق، ويحصره ميلان منه في نهايته وطوله مئتا ذراع بذراع العمل، ويتصل بهذا الجدار على طول ثمانين ذراعا منه من جهة الغرب نهاية الجدار الأعظم من الجنوب. وفائدة بناء الجدار الأعظم رد الماء إذا انتهى إلى حدود اثنتي عشرة ذراعا إلى مدينة الفيوم، وطول ما يتصل منه الجدار الذي من جهة الغرب إلى الشرق ثم يتصل بالميل ثم ينخفض من حدود هذا الميل إلى ميل مثله يقابله من جهة الشمال؛ خمسون ذراعا، وبعد ما بين هذين الميلين وهو المنخفض مئة ذراع وعشر أذرع، ومقدار المنخفض منه أربع أذرع. وهذا المنخفض هو الذي يسد بجسر من حشيش يسمى لبشا، وعرض ما يجري عليه الماء وهو موضع اللبش وما قابله إلى جهة الشرق أربعون ذراعا، وعليه مسك اللبش الثاني، ويتصل بهذا الميل إلى جهة الشمال ما طوله ثلاثمئة واثنان وسبعون ذراعا، ثم يتصل به على نهاية هذا الطول جدار يمر على استقامته إلى الحجر مبني بالحجر طوله على استقامته إلى جهة الشرق مئة ذراع، ثم ينخفض أيضا من حيث يتصل بهذا الجدار ما طوله عشرون ذراعا، وقدر المنخفض منه ذراعان، وهذا المنخفض أيضا يسد بجسر حشيش يسمى اللكيد، وطول بقية الجدار إلى نهايته من جهة الشمال مئة وست وثلاثون ذراعا، وقبالة هذا بطوله منه مبلط، وفيه قناطر مبنية بالحجر كانت قديمة ترد الماء إلى الفيوم من الخليج القديم الذي عنده السدود اليوم، وكان عليها أبواب، وعدتها عشر قناطر قديمة، فيكون جميع ذرع الجدار الأعظم من نهايته سبعمئة واثنين وسبعين ذراعا بذراع العمل دون الجدار المعترض من الغرب إلى الشرق.
ويمر هذا الجدار الأعظم من كلتا جهتيه جميعا حتى يتصل بالجبل، فتوجد آثاره في القيظ مرورا على غير استقامة، وعرضه مختلف، وكلما انتهى إلى سطحه قل عرضه، وعرض أعلاه مع الظاهر من أسفله جميعا ست عشرة ذراعا، وفيه منافس يخرج منها الماء، وهي برابخ زجاج ملونة يشبه المينا وأزرق وسليماني، وهو من العجائب الحسنة في عظم البناء وإتقانه؛ لأنه من الأبنية اللاحقة بمنارة الإسكندرية وبناء الأهرام، فمن معجزته أن النيل يمر عليه من عهد يوسف - عليه السلام - إلى هذه الغاية وما تغير عن مستقره، ويدخل الماء من هذا البحر في هذا الزمان إلى مدينة الفيوم من خليجها الأعظم ما بين أرض الضيعتين المعروفتين بدمونة واللاهون، ومنه شرب هاتين الضيعتين وغيرها سيحا، ومنه شرب كرومها بالدواليب على أعناق البقر، وإن قصر النيل عن الصعود إلى سوادها سقيت منه على أعناق البقر وزرعت.
وينتهي في الخليج الأعظم إلى خليج يعرف بخليج الأواسي، وليس عليه رسم في سد ولا فتح ولا تعديل، وينتهي إلى الضيعة المعروفة ببياض، فيملأ بركها وغيرها من البرك، وللبرك مقاسم يصل إلى كل مقسم منها لغايته ومقدار شرب ما عليه، وينتهي إلى الضيعة المعروفة بالأوسية الكبرى، فمنه شربها من مقسمين لها، وبرسمها باب ومنه يشرب نخلها وشجرها، وعلى هذا الحد طاحونة تعمل بالماء، ثم ينتهي إلى ثلاثة مقاسم آخرها الضيعة المعروفة بمرطبنة، منها مقسم لها، ومقسم لقبالات عدة، والمقسم الثالث يسقي أحد أحياء النخل، وبهذا الحي سواق وبساتين قد خربت وجميز جائر به، وكان بها بيوت في أقنية النخل، ثم ينتهي إلى حي ثان على صفة الأول، ثم ينتهي إلى الضيعة المعروفة بالجوبة فيملأ بركها، وينتهي إلى ثلاثة مقاسم في صف وفوقها خليج معطل، ويشرب من هذه المقاسم عدة ضياع، ثم ينتهي الماء من هذا الخليج إلى البطس، وهو نهايته. وعلى الخليج الأعظم بعد هذا أباليز شربها منه من أفواه لها سيحا، فإذا نضب ماء النيل نصب على أفواهها برسم صيد السمك شباك.
ثم ينتهي الخليج الأعظم على يمنة من يريد الفيوم إلى خليج يعرف ب «خليج سمسطوس»، منه شرب سمسطوس وغيرها، وأباليز كثيرة تجاوز الصحراء من المشرق منه ومن قبليه، وهو ما بين هذا الخليج وخليج الأواسي. ثم ينتهي الخليج الأعظم أيضا إلى «خليج ذهالة»، ومنه شرب عدة ضياع، وعليه يزرع الأرز وغيره. ثم ينتهي الأعظم إلى ثلاثة خلج، ثم ينتهي إلى «خليج بينطاوة»، وبهذا الخليج ثلاثة أبواب قديمة يوسفية، سعة كل باب منها ذراعان بذراع العمل، ويمر فيه الماء وينتهي أيضا إلى بابين يوسفيين. ورسم هذا الخليج أن يسد هو وسائر المطاطية على استقبال عشر تخلو من هاتور إلى سلخه، ويفتح على استقبال كيهك إلى عشر تبقى منه، ثم يسد إلى عشر تخلو من طوبة ، ثم يفتح ليلة الغطاس إلى سلخ طوبة، ثم يسد على استقبال أمشير إلى عشر تبقى منه، ثم يفتح لعشر تبقى منه إلى عشر تخلو من برمهات، ثم يفتح إلى عشر تخلو من برمودة، ثم يعدل في موضعه، وقد خرب ما على بحريه من الضياع، ويشرب منه عدة ضياع. ولهذا الخليج مفيض تحت الجبل بقبو، ويخرج منه الماء في زمان تكاثره.
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى «خليج دله»، وهو من المطاطية، وحكمه في السد والفتح والتعديل والتحسين كما تقدم، وهو على يسرة من يريد المدينة، وله بابان يوسفيان مبنيان بالحجر سعة كل منهما ذراعان وربع، ومنه شرب عدة ضياع أمهات وغيرها، وفي وسطه مفيض لزمان الاستبحار يفتح فيفيض الماء إلى البركة العظمى، وفي أقصى هذه البركة أيضا مفيض له أبواب يقال إنها كانت من حديد، فإذا زادت فتحت الأبواب فيمضي الماء إلى الغرب، وقيل إنه يمر إلى سنترية، وكان على هذين الخليجين بساتين وكروم كثيرة تشرب على أعناق البقر.
وينتهي الخليج الأعظم إلى «خليج المجنونة»، سمي بذلك لعظم ما يصير إليه من الماء، وحكمه في السد وغيره على ما ذكر، ومنه شرب ضياع كثيرة، وبه تدار طواحين، وإليه تصير مصالات مياه الضياع القبلية، وإلى بركة في أقصى مدينة الفيوم تجاور الجبل المعروف بأبي قطران، ويلقي ما ينصب من مصالات الضياع البحرية فيها وهي البركة العظمى.
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى «خليج تلالة»، وله بابان يوسفيان متينان مبنيان بالحجر، سعة كل منهما ذراعان وثلثا ذراع، وليس فيه رسم سد ولا فتح ولا تعديل ولا تحييز إلا في تقصير النيل فإنه يحيز بحشيش، ومنه شرب طوائف المدينة وعدة أراض وضياع، وفيه فوهة خليج البطش الذي إليه مفاضل المياه، وفيه أبواب تسد حتى يصعد الماء إلى أراض مرتفعة بقدر معلوم، وإذا حدث بالسد حدث يفسده كانت النفقة عليه من الضياع التي تشرب منه بقدر استحقاقها. ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى خلجان من جانبيه في قبليه وبحريه، ثم ينتهي إلى «خليج سموه»، وهو على يمنة من يريد مدينة الفيوم، وهو من المطاطئة، وله بابان يوسفيان سعة كل منهما ذراعان ونصف، وحكمه حكم ما تقدم، ومنه شرب طوائف كثيرة وعدة ضياع، وينتهي إلى أربعة مقاسم بأبواب، وإلى خلجان تسقي ضياعا كثيرة، منها «خليج تبدود» فيه عين حلوة فإذا سد هذا الخليج سقى منها أراضي ما جاورها، وظهرت هذه العين لما عدم الماء، وحفر هذا الموضع ليعمل بئرا فظهرت منه هذه العين، فاكتفي بها.
ثم ينتهي الخليج الأعظم إلى خلجان بها شاذروانات ومقاسم قديمة، وبها أبواب يوسفية بها رسوم في السد والفتح، يشرب منها ضياع كثيرة، ورسم الترع أن يسد جميعها على استقبال عشرة أيام تخلو من هاتور إلى سلخه، وتفتح على استقبال كيهك مدة عشرين يوما، ثم تفتح لعشر تبقى منه إلى الغطاس، وتفتح يوم الغطاس إلى سلخ طوبة، وتسد على استقبال أمشير عشرين يوما، ثم تفتح لعشر تبقى منه إلى عشرين من برمهات، وتفتح عشرة أيام تخلو من برمودة، ثم تعدل فيهتم بعمارتها، ولهم في التعديل قسم تعطى منه كل ناحية شربها بالعدل بقوانين معروفة عندهم. وقد اختصرت أسماء الضياع التي ذكرها لخراب أكثرها الآن، والله أعلم. ا.ه.
وقال تحت هذا العنوان «ذكر فتح الفيوم ومبلغ خراجها وما فيها من المرافق»:
صفحة غير معروفة
قال ابن عبد الحكم: «فلما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حولها، فأقامت الفيوم سنة لا يعلم المسلمون بمكانها حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفي، فلما سلكوا في المجابة لم يروا شيئا فهموا بالانصراف، فقالوا: «لا تعجلوا، سيروا، فإن كان قد كذب فما أقدركم على ما أردتم»، فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم، فهجموا عليها فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم. قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفي وهو صاحب الأشقر على فرسه ينفض المجابة، ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره بذلك. قال: ويقال: بل بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصعيد، فسار حتى أتى القيس فنزل بها، وبه سميت القيس، فراث على عمرو خبره، فقال ربيعة بن حبيش: كفيت، فركب فرسه فأجاز عليه البحر وكانت أنثى، فأتاه بالخبر. ويقال: إنه أجاز من ناحية الشرقية حتى انتهى إلى الفيوم، وكان يقال لفرسه الأعمى، والله أعلم.»
وقال ابن الكندي في كتاب «فضائل مصر»: «ومنها كورة الفيوم، وهي ثلاثمئة وستون قرية، دبرت على أيام السنة، لا تنقص عن الري، فإن قصر النيل في سنة من السنين مار بلد مصر كل يوم قرية، وليس في الدنيا ما بني بالوحي غير هذه الكورة، ولا بالدنيا بلد أنفس منه ولا أخصب، ولا أكثر خيرا، ولا أغزر أنهارا، ولو قايسنا بأنهار الفيوم أنهار البصرة ودمشق لكان لنا بذلك الفضل. ولقد عد جماعة من أهل العقل والمعرفة مرافق الفيوم وخيرها فإذا هي لا تحصى، فتركوا ذلك وعدوا ما فيها من المباح مما ليس عليه ملك لأحد من مسلم ولا معاهد يستعين به القوي والضعيف، فإذا هو فوق السبعين صنفا.»
وقال ابن زولاق في كتاب «الدلائل على أمراء مصر» عن الكندي: «وعقدت لكافور الإخشيدي الفيوم في هذه السنة، يعني سنة ست وخمسين وثلاثمئة، ستمئة ألف دينار ونيفا وعشرين ألف دينار. وقال القاضي الفاضل في كتاب «متجددات الحوادث»، ومن خطه نقلت: إن الفيوم بلغت في سنة خمس وثمانين وخمسمئة مبلغ مئة ألف واثنين وخمسين ألف دينار وسبعمئة وثلاثة دنانير. وقال البكري: والفيوم معروف هناك يغل في كل يوم ألفي مثقال ذهبا.» انتهى كلام المقريزي.
أما المقريزي فاسمه أحمد بن عبد الصمد تقي الدين المقريزي، وكان شيخا عالما، إماما بارعا، مؤرخا مشهورا، ولد سنة 760 للهجرة، وتوفي بمصر سنة 845، ولي حسبة القاهرة من قبل الملك الظاهر برقوق، وتنقل في عدة وظائف دينية إلى أن توفي، رحمه الله!
أقوال حضرة أحمد بك كمال في «العقد الثمين»
أحمد بك كمال أحد موظفي مصلحة الآثار التاريخية الآن، هو عالم فاضل من علماء اللغة الهيروجليفية - لغة المصريين القدماء - و«العقد الثمين» هو كتاب جليل الفائدة، يتضمن تاريخ الفراعنة من أول ملوكهم الذين عرفوا إلى الآن وآثارهم. وقد جاء فيه عن بحيرة موريس ما أثبتناه بنصه تحت هذا العنوان «ذكر مآثر الملك أمنمحعت الثالث»:
اعلم أن العمارات الجسيمة التي شيدها هذا الملك في الفيوم شيدت له ذكرا مخلدا واسما مؤبدا، وذلك أنه لا يخفى على أحد أمر النيل بالنسبة لوادي مصر من حيث إنه إذا انقطعت زيادته عن عادتها بقيت بعض الأراضي الزراعية من غير ري فصار لا ينتفع بها، وإن زاد فيضانه عن المعتاد قطع الجسور وغرق القرى وأضر بالأراضي، ولذا صارت مصر مترددة بين هاتين الآفتين، فلما عرف هذا الملك منه المضار أراد أن يتداركها فوجد في الصحراء الغربية من مصر بادية عظيمة تصلح أراضيها للزراعة، تعرف الآن بوادي الفيوم، كانت تتصل بوادي النيل الأصلي بقطعة أرض كالبرزخ، وفي وسطها قطعة أرض مستوية، سطحها يضاهي سطح الأراضي المصرية، وفي جانبها الغربي أرض منخفضة ومتسعة جدا تغمرها مياه البحيرة الطبيعية المعروفة الآن ببركة قارون، طولها أكثر من عشرة فراسخ، وأمر بحفر بركة في وسط قطعة الأرض المستوية تبلغ مساحة سطحها عشرة ملايين متر مربع لخزن المياه فيها، وسيأتي الكلام على اسمها واسم الفيوم.
فإن كانت زيادة النيل ضعيفة فتحت البركة فيخرج من المياه المخزونة فيها ما يكفي لري مزارع بادية الفيوم، بل وسائر أراضي الجانب الأيسر من النيل إلى البحر الأبيض. وإن كان فيضان النيل كثيرا جدا بحيث يخشى منه إفساد الجسور، صرف القدر الزائد عن المنافع الضرورية إلى تلك البركة الصناعية، فإن طفحت فيها المياه انصرف ما زاد عنها إلى بحيرة قارون بواسطة قنطرة تسد وتفتح بحسب الحاجة. وكانت الحكومة تعين في كل سنة قبل ارتفاع مياه النيل مأمورين يتوجهون إلى النوبة لاستكشاف زيادة النيل جهة سمنه وقمنه، ولذا يرى في تلك الجهة نقوش بالقلم البربائي معناها:
إلى هنا وصل ارتفاع النيل في السنة الرابعة عشرة من حكم الملك «أمنمحعت» الثالث، خلد ذكره!
وذكر جناب «لبسيوس» أن فيضان النيل في عصر العائلة الثانية عشرة كان يزيد عن أكثر فيضانه الآن جهة سمنه وقمنه ثمانية أمتار وسبعة عشر سنتيمترا، وأن زيادته المتوسطة في عصر «أمنمحعت» الثالث تزيد عن فيضانه الحالي سبعة أمتار، فيتضح لك مما تقدم أن بركة قارون كانت طبيعية وبركة موريس صناعية، وكانت الأولى كثيرة الأسماك، والثانية يصب فيها ماء النيل من ترعتين وقت زيادته، ثم يحجز فيها بواسطة سد، فإذا كان وقت الشرق فتح هذا السد فيسقي الأراضي المجاورة لبركة موريس، وكانت إحدى هاتين الترعتين تتفرع من النيل بجانبه الغربي، ثم تجري تجاه بحر يوسف الحالي، وكان باب السد موضوعا في مجمع الترعتين. والترعة الثانية كانت تجري جهة الشمال، وكانت معدة لتوزيع المياه على الأرض عند الشرق، وكان في وسط بركة موريس الصناعية هرمان في كل منهما تمثال جالس، فالهرم الأول كان فيه تمثال الملك «أمنمحعت» يشاهد بركته التي حفرها، والثاني كان فيه تمثال زوجته المسماة «سبك نفرورع»، وقد وجد رسم هذه البركة في صحيفة موجودة بمتحف بولاق، وسمتها اليونانيون باسم «موريس»، وأصلها «مري»، ومعناها بحيرة، وكان من عوائد اليونانيين أن يضعوا حرف السين آخر أسماء الأعلام، فلذا حولوها إلى موريس وقالوا بحيرة موريس، زاعمين أن موريس اسم لأحد الفراعنة المصريين، وليس بشيء.
صفحة غير معروفة
وأما الفيوم فأصلها «بايوم» أو «فايوم»، ومعناها بالهرمسية بلد البحر، ثم عربها العرب فقالوا الفيوم، وأطلقوه على نفس الإقليم تسمية للأرض باسم الماء الذي أخصبها باقتراح الملك «أمنمحعت» الثالث، ومن أعمال هذا الملك السراي الشهيرة باسم «لابيرانتا»، وتسمى بالقلم الهرمسي «لابوراحونت»، ومعناها «معبد فم البحيرة»، وكان ينعقد فيها مجلس الأعيان من كهنة المصريين للمداولة في أمور السياسة، ويوجد بداخلها اثنتا عشرة رحبة متقابلة الأبواب؛ ست على الشمال وست على اليمين، وهذه السراي محدقة من الخارج بسور كبير، وفيها ثلاثة آلاف أودة، منها ألف وخمسمئة في الدور الأول، وألف وخمسمئة فوقها في الدور الثاني، وفيها أيضا إيوانات ورحبات، وجميعها مسقوفة بالحجارة، ومقامة على أعمدة من الحجر الأبيض منتظمة الصفوف، وفي آخر هذه السراي هرم مزين بالرسومات العجيبة والأشكال الغريبة يتوصل إليه بسرداب تحت الأرض، وفيه دفن «أمنمحعت» الثالث.
وذكر إسترابون أن الأماكن التي داخل تلك السراي كانت بعدد أقسام ديار مصر القديمة، فكان لمندوب كل قسم محل مخصوص، فيجتمعون فيها إما على أمر الملك أو على مقتضى قانون البلد لكي يتداولوا في أحوال بلادهم كوضع الرسوم والأموال وتغيير الملك أو العائلة، وهذه السراي موضوعة في الجهة الشرقية من بحيرة موريس على ربوة واسعة مربعة طولها مئتا متر وعرضها مئة وستون مترا، وكانت وجهتها المطلة على بحيرة موريس مصنوعة بالحجر الأبيض فإن دخلها إنسان ضل عن الطريق ولم يهتد للخروج منها لكثرة أماكنها، وأحجارها مجلوبة من وادي الحمامات، بدليل ما وجد على صخور الوادي المذكور من النقوش الدالة على أنه في السنة التاسعة من حكم الملك أمنمحعت الثالث توجه هذا الملك بنفسه إلى هذا الوادي لجلب الحجارة للعمارة الجاري العمل فيها بمدينة الفيوم، وصنع تمثال نفسه على شكل جالس ارتفاعه خمس أذرع، وهو المذكور آنفا. ويرى أيضا في وادى الحمامات نقوش أخرى تفيد أن هذا الملك أرسل هناك جماعة من المهندسين لمباشرة قطع ونحت الأحجار ولعمل التماثيل المطلوبة له، ووجد فيه أيضا نقوش من أعمال بعض رجال دولته يفهم منها أن لهذا الملك مآثر كثيرة، منها استخراج بعض المعادن من جزيرة جبل الطور وأخصها معدن الفيروزج، ومنها أنه قاتل الزنج، وفتح بلادا كثيرة. ا.ه.
وقال بهامش من هذا الكتاب:
نقل عن هيرودت الذي مات منذ 2200 سنة، قاس بركة موريس فوجد عمقها 88 مترا، ومحيط دائرتها 700 كيلو متر. وذكر إسترابون أن هذه البركة كانت تروي هذه الأراضي المجاورة لها مدة ستة شهور في كل سنة من طوبة إلى بئونة. وقال «وايت هاوس»: إنه يمكن إحياء هذه البركة بإلغاء قناطر اللاهون، فتجري مياه النيل مدة فيضانه في مضيق جبال اللاهون حتى تفيض على جميع وادي الفيوم فتعمه من جبل سدمنت إلى جبال بركة قارون، ومن طامية إلى قصر قارون، ثم تصب في بركة اكتشفها هو بنفسه بوادي ميه والريان منخفضة عن بحر يوسف بمئتين وخمسين قدما، وبذلك تتجدد البركة المذكورة التي كانت في قديم الزمان تغطي وادي الفيوم ووادي ميه والريان والأراضي المنخفضة في جهة الغرق، فأصبحت تلك الجهات أرضا زراعية بانحسار المياه عنها، ولكن لو غطتها المياه كما كانت من قبل بإصلاح بركة موريس، لأمكن استعواضها بأراض زراعية تتخلف من بركة قارون بمنع المياه عنها. وقد اكتشف أيضا وايت هاوس آثار مدن قديمة في الناحية الغربية من الغرق والشرقية من طامية والريان، يستنتج منها أن تلك الجهات كانت معمورة في العصر القديم. ا.ه.
نبذة من تاريخ البغدادي
هذا المؤرخ هو عبد اللطيف البغدادي السائح الشهير، حضر بمصر في أواخر القرن السادس من الهجرة، وشاهد بها في عامي 597 و598 هجرية من الأهوال الشديدة بسبب القحط الذي حصل من شح النيل في هذين العامين ما يشيب الأطفال، حيث كثر النهب والسلب حتى فرغت المؤن، ونفدت الحيوانات، ولم يجد الناس ما يأكلونه حتى أكلوا بعضهم، وفشا ذلك في سائر القطر المصري، وصارت الأم تأكل ابنها وابنتها، ولم يقدر الحاكم إذ ذاك على منع هذه الأهوال بسبب عدم وجود ما يكفي الناس لسد الرمق، ومات الناس جوعا في كثير من أنحاء القطر.
ولم تكن هذه الأمور مختصة بالفيوم، ولكننا أتينا بها لأنها دليل على أن الفيوم في ذلك العهد وقع في تلك الأحوال، وأكلت فيه اللحوم البشرية، فقد قال هذا المؤرخ في نبذة من كتابه المسمى «كتاب الإفادة والاعتبار» ما نصه:
وهذه البلية التي شرحناها وجدت في جميع بلاد مصر، ليس فيها بلد إلا وقد أكل فيه الناس أكلا ذريعا من أسوان وقوص والفيوم والمحلة وإسكندرية ودمياط وسائر النواحي. ا.ه.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب:
وأما القتل والفتك في النواحي فكثير فاش في كل فج، ولا سيما طريقي الفيوم والإسكندرية، وقد كان بطريق الفيوم أناس في مراكب يرخصون الأجرة على الركاب، فإذا توسطوا بهم الطرق ذبحوهم، وتساهموا أسلابهم.
صفحة غير معروفة
انتهى كلام البغدادي.
نبذة من تاريخ الجبرتي عن حادثة مهمة
الجبرتي هو العالم الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، سمى تاريخه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، توفي في القرن الثالث عشر من الهجرة، قال في حوادث سنة 1217 هجرية ما نصه:
وردت الأخبار بأن الغز القبالي نهبوا الفيوم، وقبضوا أموالها، ونهبوا أغلالها ومواشيها، وحرقوا البلاد التي عصت عليهم، وقتلوا أناسها حتى قتلوا من بلدة واحدة مئة وخمسين نفرا، وأما العثمانية الكائنة بالفيوم فإنهم تحصنوا بالبلدة، وعملوا لهم متاريس بالمدينة، وأقاموا داخلها.
انتهى كلام الجبرتي.
وقد وجدنا أقوالا كثيرة تدخل في هذا القسم في كثير من الكتب القديمة بين تواريخ وتفاسير، ولكن بالنسبة لأن كل ما بتلك الكتب مذكور فيما أثبتناه، فاكتفينا به خوفا من التكرار الموجب للتطويل الممل بدون فائدة.
زمن المماليك إلى تولية المغفور له محمد علي باشا
قلنا في أول تاريخنا إننا نأتي في القسم الأول على تاريخ الفيوم من ابتداء ما عرفت في قديم الزمان إلى ما قبل تولية المغفور له محمد علي باشا، ولكنه يدخل تحت هذا تاريخها في أيام حكم المماليك «الغز». وحيث إننا لم نعثر فيما وصلنا إليه من التواريخ على شيء يختص بالفيوم، فقد أغفلنا هذه المدة، غير أنه يمكننا الحكم بأنها تقلبت في النعيم والشقاء بحسب تقلب دول المماليك المذكورة، وبأنها كانت في آخر عهد المماليك مقسمة إلى ولايات كما حصل ذلك في أغلب مديريات القطر، فإنه يقال إنه كان كل رجل من هؤلاء المماليك له عزوة أو رجال يستبد بالحكم في جملة قرى، وهكذا غيره حتى كنت تجد في مديرية واحدة جملة حكومات لكل واحدة منها حاكم مستقل يحكم في أهلها بالقتل والنهب والسلب وغير ذلك، وكان لكل حكومة من هذه الحكومات راية مخصوصة تخالف راية الأخرى، وكانت لا يمر عليها زمن حتى تقوم الحكومة منها على الأخرى فتسيل الدماء سيل العرم، فلو قدر الله ببقاء هذه الحالة في البلاد لما بقي من الناس إلا النزر القليل، وكانت الفيوم على هذه الحالة أيضا إلا أن الله ذو رحمة بخلقه وهو القادر القاهر .
وقدر الله بدخول الفرنسيس في القطر، وقد سمعنا أن قد حضر منهم حكام في الفيوم. هذا ما وصل إليه علمنا بهذه المدة، والله أعلم.
القسم الثاني
صفحة غير معروفة
تولى محمد علي باشا على القطر وهو خاو على عرشه قاعا صفصفا، إذ كان العدل فيه اسما بلا مسمى لكثرة ما حدث من الحروب الداخلية التي مر ذكرها، فهدأت الأحوال بالأتراك الذين أرسلهم هذا الهمام إلى المديريات فجاء الفيوم بعضهم، إلا أنهم كانوا يحكمون ويقضون في الدعاوى بدون كتابة ولا قيد.
وقد وجدنا في الخطط الجديدة التوفيقية للمرحوم علي باشا مبارك أن خورشيد باشا السناري كان مأمورا على الفيوم سنة 1236، ووجدنا أيضا أن عبد الله أغا المطرطارسي من أهل مطرطارس كان ناظر قسم الفيوم في مدة العزيز المرحوم محمد علي، ثم صار مأمورا على جميع بلاد الفيوم، وقال إنه كان من الجبارين.
وممن حكم الفيوم في مدة محمد علي باشا المرحوم جعفر بك والد المرحومين مصطفى بك جعفر ومحمد بك جعفر، وممن حكمها أيضا في ذلك الزمن المرحوم علي أفندي رمزي شقيق المرحوم محمد أفندي رمزي جد مؤلف هذا التاريخ، وممن حكمها أيضا المرحوم عمر بك والمرحوم «علي الدش».
وأتى على الفيوم حين من الدهر لم يكن الحاكم فيها واحدا، بل كانت نظارات أقسام. وممن كانوا نظارا في أقسام الفيوم زمن المغفور له محمد علي باشا من أهل الفيوم؛ كل من الحاج نصر عتمان من بني عتمان، ودرويش عليوة من سنهور، وإبراهيم عمارة من سيلة، وشعبان خميس من هوارة عجلان، وحسن مؤمن من طبهار، وعفيفي الدهشان من أهريت.
وكان من هؤلاء البعض زمن الأقاليم الوسطى، والأقاليم الوسطى كانت تحكم على ثلاث مديريات: المنيا وبني سويف والفيوم، وكان مركزها بندر الفشن التابع الآن لمديرية المنيا، وكان للأقاليم مفتش ووكيل، وفي كل مديرية من هذه المديريات نظار أقسام تابعون لتفتيش الأقاليم في الخطابات والخزينة والأحكام.
وممن عينوا مفتشين للأقاليم الوسطى حسن بك الشهير بأبي نشانين، وأحمد باشا طاهر، وخليل باشا رائف الشهير بإمبراطور. وممن عينوا وكلاء لتفتيش الأقاليم علي أفندي رمزي السابق ذكره. وبقيت الفيوم تابعة للأقاليم الوسطى إلى سنة 1266ه/1850م، حيث انفصلت الفيوم وبني سويف من تبعية تلك الأقاليم، وعين لهما مدير خاص بهما.
فرز بني سويف والفيوم من الأقاليم الوسطى
في سنة 1266ه/1850م فصلت الفيوم وبني سويف عن الأقاليم الوسطى وصارتا مديرية واحدة، وتعين لها أحمد بك شكري مديرا، وفي سنة 1267ه/1851م تعين بدله حسين باشا أمير الأمراء، وفي سنة 1268ه/1852م تعين بعده محمد بك الخوربطلي، ثم بعده محمد بك معجون، وفي سنة 1269ه/1852م تعين لها جعفر مظهر باشا الفيومي، وكان رجلا عاقلا عادلا عفوفا.
وفي سنة 1270ه/1854م تعين لها يعقوب بك مملوك سعيد باشا، وفي سنة 1273ه/1857م تعين حسين باشا أبو أصبع، وفي نفس السنة المذكورة تعين رستم بك، وفيها أيضا تعين عارف بك إلى سنة 1274ه/1858م، التي فصلت فيها مديرية الفيوم عن بني سويف، وصارت كل مديرية قائمة بنفسها.
وفي خلال هذه المدة كانت مديرية الفيوم قسما من القسمين المكونين للمديريتين، وكان الحاكم بها يسمى تارة ناظر قسم وتارة ملاحظا أو مأمور إدارة.
صفحة غير معروفة
وممن مكث كثيرا من هؤلاء يوسف أفندي الملاحظ، فإنه بقي ملاحظا تارة وناظر قسم تارة منذ كانت الفيوم تابعة للأقاليم الوسطى إلى أن فصلت وجعلت مع بني سويف، وكانت مدة حكمه أكثر من 16 سنة تقريبا. وفي سنة 1273ه تعين مصطفى بك رياض مأمورا لإدارة الفيوم - وهو صاحب الدولة مصطفى رياض باشا الآن - ثم تعين بعده عبد الرحمن بك إلى أن انفصلت الفيوم من بني سويف في سنة 84ه كما ذكر.
انفصال الفيوم عن بني سويف
انفصلت الفيوم عن بني سويف وصارت مديرية قائمة بنفسها في سنة 1274ه/1858م، وتعين لها مصطفى بك راتب مديرا، وبقي إلى أن توفي سنة 1278ه/1862م، ثم تعين بعده عباس بك رحمي، وفي سنة 1280ه/1863م تعين محمد بك مهدي قبطان، وبقي إلى أن أضيفت الفيوم على بني سويف في السنة المذكورة.
تبعية الفيوم لبني سويف مرة ثانية
في سنة 1280ه/1863م أضيفت الفيوم على بني سويف وعين لهما مدير عمومي، فكان في السنة المذكورة حسن باشا شركس، ثم عين بعده إبراهيم باشا أدهم الفريق، ثم عين بعده حسن بك الشريعي، وبقي هذا إلى أن انفصلت الفيوم عن بني سويف أخيرا في سنة 1286ه/1869م.
وفي خلال هذه المدة كان مركز المديريتين بندر بني سويف، وكان في الفيوم حاكم باسم مأمور إدارة، ففي سنة 80ه المذكورة سابقا عين علي أفندي هادي، وفي سنة 1283ه/1866م عين بدلا عنه أحمد أفندي يوسف، وفي سنة 1285ه/1868م عين بدلا عنه إبراهيم بك الشريعي، وبقي إلى أن انفصلت الفيوم عن بني سويف كما ذكر.
انفصال الفيوم عن بني سويف آخر مرة
في سنة 1286ه/1869م انفصلت الفيوم عن بني سويف انفصالها الأخير، وعين علاء الدين بك مديرا لها.
وفي السنة المذكورة عين مراد باشا رفعت مديرا بدلا عنه، وبقي هذا إلى سنة 1882 ميلادية 1299 هجرية حيث قامت الثورة العرابية، فلمناسبة كونه من الحزب الخديوي عزل وعين بدلا عنه يعقوب بك صبري، ولما خمدت الثورة وهدأت الفتنة عاد مراد باشا مديرا وعزل يعقوب بك صبري، وبقي مراد باشا إلى آخر سنة 1887م/1304ه حيث نقل إلى مديرية المنوفية في أوائل سنة 1888 ميلادية.
ومراد باشا المذكور رجل شركسي الأصل، بسيط الأخلاق، سهل المعاشرة، أقام بالفيوم في كل مدته الطويلة التي تبلغ 18 سنة والناس يميلون إليه، وقد كان من دأبه السعي في الصلح بين المتخاصمين ولو كان الذي بينهما دم قتيل.
صفحة غير معروفة
وفي سنة 1888 ميلادية 1305 هجرية عين محمد بك رفعت بدلا عنه، وفي نفس السنة المذكورة عين لطيف بك سليم بدلا عنه، وفي 2 نوفمبر سنة 1889م/9 ربيع أول سنة 1307ه عين محمود بك صبري مديرا للفيوم، وبقي إلى 15 نوفمبر سنة 1894م/16 جمادى الأولى سنة 1312ه، ثم نقل مديرا للمنوفية، وسنأتي على ترجمة هذا الفاضل في القسم الخامس من هذا التاريخ، وقد وضعنا صورته في أول الصور التي سندونها في آخر الكتاب.
وفي 15 نوفمبر سنة 1894م/16 جمادى الأولى سنة 1312ه المذكورة عين عدلي بك يكن مديرا للفيوم وهو مديرها الحالي، وسنأتي على ترجمته وصورته أيضا.
صفة الحكومة في كل هذه الأزمان
في مدة المغفور له محمد علي باشا كان المدير هو الحاكم والفاصل في كل الدعاوى بدون قيدها في دفاتر، ثم رتبت أقلام القضايا فصار ناظر القلم يجري تحقيق القضايا تحت ملاحظة المدير، وبعد تمام تحقيقها يحيلها على مجالس كانت متبعة في جميع أحكامها القانون العثماني، ثم ألغيت هذه المجالس واسمها الآن المجالس الملغاة، ونظمت المحاكم الأهلية الموجودة الآن في أغسطس سنة 1889م/1307ه، فوجدت بالفيوم محكمة جزئية يجوز لها الحكم في المواد المدنية التي لا تتجاوز قيمتها المئة جنيه، وتحكم في المخالفات والجنح، أما الجنايات فلها قاض يحققها ثم يحيلها على محكمة بني سويف الابتدائية الكلية.
أما الإدارة الآن ورئيسها المدير، فلم يبق لها من الفصل في دعاوى الخصومات شيء بل صارت مختصة بالنظر في التحصيلات والأمن العام بفروعه وأملاك الحكومة.
ولقد مضت فترة من زمن حكم جناب الخديو الأسبق كان النفوذ فيها لمفتشي الدائرة السنية، فكان بيدهم الحل والعقد في الرفت والتعيين وغير ذلك، وكان أقوى النفوذ في يد رشوان باشا مفتش الدائرة السنية بالفيوم، فقد كان جبارا مستحلا لأموال الناس.
أما العرب فكان لهم حاكم مخصوص يقال له السنجق أو الكاشف، وتحت يده أربعمئة عسكري، وكان يقال لهذه العساكر بين العامة «الربعمية» نظرا لعددهم، وفي الحكومة «الباشي بوزق»، كل ذلك في مدة محمد علي باشا، فكانت هذه الفئة تحكم بين العرب في خصوماتهم التي تقع بينهم أو بين بعضهم وبعض الفلاحين.
الأطيان وضرائبها
كانت الضرائب على الأطيان الخراجية لآخر مدة محمد علي باشا لا تزيد عن 50 قرشا، وما زالت تزيد حتى بلغت 136 فما دون ذلك، وهي الضرائب المربوطة إلى الآن.
أما العشوري فكان يعطي أولا رزقة بلا مال، وما زال كذلك في مدة محمد علي باشا وعباس باشا الأول حتى ولي سعيد باشا، فربطت عليه ضرائب أدناها 8 قروش وأعلاها 20 قرشا، وما زالت تزداد حتى بلغ أعلاها الآن 77 قرشا.
صفحة غير معروفة
وكان تحصيل هذه الأموال في مدة محمد علي باشا من نفس المحاصيل، فكان للحكومة أشوان بمديريتنا يورد فيها الأهالي جميع الأصناف الزراعية بدلا عن الضرائب، والحكومة تبيعها بمعرفتها، وفضلا عن أصناف الحبوب فقد كانوا يوردون السمن والصوف والكتان. وبعد مدة ألزمت الحكومة الأهالي بتوريد الأموال نقودا، وما زالت تحصل بغير ترتيب، وفي عهد وزارة صاحب الدولة مصطفى رياض باشا رتبت على أقساط بحسب أزمان المحاصيل.
وفي سنة 1237ه/1822م عملت مساحة عمومية عن أطيان الفيوم، وما زالت معتبرة حتى سنة 1270ه/1854م، وفي هذه السنة عملت مساحة عمومية فزاد عدد الأطيان نصف ضعف عن المساحة السابقة، ومساحة سنة 70 المذكورة هي المعتبرة إلى الآن.
حادثة العرب
تولى المغفور له سعيد باشا سنة 1270ه/1854م والشقاوة سائدة من العربان على الأهالي، فلما كانت سنة 1271ه أمر بأخذ السلاح من العربان لتبطل شقاوتهم وأن تؤخذ منهم الجهادية، فعصى عرب مديرية المنيا أوامر الحكومة وتوقفوا عن دفع الأموال، وزادت شقاوتهم حتى قاوموا رجال الحكومة وثاروا، وكان زعيم ثورتهم هناك عمار المصري عمدة عربان الفوائد، واستمر عصيانهم إلى أن أمرت الحكومة بالقبض على رؤسائهم، فقبض على السعدي والد لملوم بك السعدي وعبد النبي كيشار وهما أخوان، وشنقا في مدينة الفيوم، وضرب كثير من أعوانهما بالمدفع في ناحية كارخانة النيلة المعروفة الآن بالكلخانة، وبعد ذلك تجمع عربان الفيوم بقصد المهاجرة إلى الغرب تحت إمرة صميدة الجبالي، فخطب هذا فيهم بما مفاده: «إننا لم نزل نتعشم بأن نرجع إلى مصر، ولا غنى لنا عنها، فالحذر من السلب والنهب، والحذر من عمل ما يخل بالراحة بأي وجه من الوجوه، فإننا سنبارح مصر خوفا من حكومتها لا كرها فيها، فلا تأتوا ما يجعلها في المستقبل حاقدة علينا»، ثم اجتمعت القبائل على ساحل بركة قارون، ومنها هاجروا إلى الغرب عن طريق الواحات، وبعد مدة عادوا إذ أمنتهم الحكومة فيما بعد وصفحت عنهم.
السكة الحديدية بالفيوم
في سنة 1287ه/1870م أنشئ فرع سكة الحديد الموصل من الواسطة إلى مدينة الفيوم، ومن المدينة إلى أبي كساه، وأنشئت بعد محطة الواسطة محطة الفيوم ثم أبشواي ثم أبو كساه، وفي هذه السنين الأخيرة أنشئت بين الواسطة والعدوة محطة سيلة، وبين المدينة وأبشواي محطة سينرو، ثم مد فرع للسكة الحديدية من الفيوم إلى سنورس، وأنشئ فيه محطتان بيهمو وسنورس، ومصلحة سكة الحديد شارعة في مد فرع آخر من المدينة إلى الغرق.
قناطر اللاهون
قال المرحوم علي باشا مبارك في تأليفه المسمى ب «الخطط الجديدة التوفيقية»:
قنطرة اللاهون القديمة عرضها سبع وعشرون ذراعا، منها اثنتا عشرة ذراعا بنيت في زمن المرحوم العزيز محمد علي وهي الجهة الشرقية، وأما الغربية فقديمة من بناء الظاهر بيبرس كما دلت عليه نقوش التواريخ التي وجدت عليها حين البناء، وهي ثلاث عيون، سعة كل عين ثلاث أذرع ونصف، وارتفاعها سبع أذرع، والعين البحرية فرشها منخفض عن العينين الأخريين بقدر ذراع ونصف بذراع المهندس؛ لحبس ما يلزم لبلاد الفيوم من المياه وقت انتهاء نقصان النيل، فإن الماء يجري منها حينئذ، ويجف من العينين الأخريين، وبناء تلك القناطر من الحجر الدستور والزوايا الحديد والرصاص، وقد أجري الكشف عنها سنة 1259 هجرية، فوجد فرشها مختلا من تأثير المياه، ودخل الماء تحت البناء القديم جميعه بحيث صار معلقا، وخشي على القنطرة من السقوط فيحصل الضرر لبلاد الفيوم، فصدر الأمر بعمل قنطرة أخرى احتياطا فبنيت في شرقيها، وجعل فرشها متصلا بفرش القنطرة القديمة الأمامي، وجعلت ثلاث عيون كالأولى، وصار فرش الجميع واحدا، وقد بنى أحمد باشا طاهر فوق قنطرة اللاهون من جهة الغرب قصرا كان ينزل به، وكان العزيز محمد علي يستريح فيه عند توجهه إلى الفيوم. ا.ه.
قضية الدهشان
صفحة غير معروفة
في يوم الثلاثاء 7 رمضان سنة 1305 قتل المرحوم مصطفى بك واصف مدير هرر سابقا بمنزل خليل الدهشان عمدة أهريت بناحية أهريت، وادعى خليل المذكور أنه قتل من طلق ناري أتى من خارج المنزل، فاشتبهت الحكومة في هذه الدعوى، وعينت الداخلية «قومسيونا» لجنة لتحقيق وضبط الواقعة، وكان مركبا من حضرة أحمد بك حشمت رئيس محكمة المنصورة حينذاك بصفة رئيس، وحضرة محمود بك صبري نائب مفتش عموم البوليس، وأحمد خيري بك قاضي بمحكمة مصر الأهلية حينذاك، بصفة أعضاء، فحققوا الدعوى، ورفعوا إلى الداخلية تقريرا مؤداه حصر الشبهة في خليل وخير الله الدهشان.
فصدر أمر عال في 20 سبتمبر سنة 1888 / 14 محرم سنة 1306، بتشكيل محكمة مخصوصة بمدينة الفيوم مؤلفة من عبد الحميد باشا صادق بصفة رئيس، ومن أحمد بليغ بك وإبراهيم نجيب بك وسليمان رءوف بك بصفة أعضاء، للحكم في هذه المادة.
وقد تشكلت بالفعل، وبعد سماع المرافعة من النيابة العمومية ومن وكلاء المتهمين، وسماع شهادة الشهود، حكمت نهائيا على كل من خليل وخير الله الدهشان بالإعدام شنقا، وشنقا بالفعل وقضي الأمر.
وقد لغط الناس كثيرا بأن هذا الحكم غير عادل قولا بأن القاتل لا بد أن يكون واحدا من الاثنين، فكيف يقتل الاثنان؟ ونسب الناس الحكومة إلى غير العدل؛ نظرا لكون الأمر العالي الصادر بهذا الخصوص قد حتم أن يكون الحكم نهائيا لا استئناف له، وربما كان رأي الحكومة في ذلك إرهاب العمد من الطغيان، وعملا بقولهم: «إعدام البعض في حياة الكل جائز»، ومع هذا فقد قال الله تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب .
تشريف ولاة مصر للفيوم
لقد شرف مديرية الفيوم من ولاة مصر المرحوم محمد علي باشا مرتين، والمغفور له سعيد باشا مرتين: مرة وهو ولي عهد الحكومة المصرية، ومرة وهو والي مصر، فخرج من مصر في المرة الأخيرة مع معسكره إلى أن وصل أرض سيلة من مديرية الفيوم، وعسكر هناك، فخف لمقابلته الحكام، ثم رجع من تلك النقطة. وزار الفيوم المغفور له محمد توفيق باشا ثلاث مرار، وأقيمت له من الزينات الفاخرة ما يبهر الأبصار، وقد أنعم في المرة الأولى على كثير من ذوات الفيوم بالنياشين. وزارها سمو العزيز عباس باشا حلمي الثاني - أيد الله حكمه - في 26 يناير سنة 1894 ميلادية، فهرع الناس من ذوات وأعيان وحكام لاستقبال سموه، وأقيمت له الزينات الفاخرة فلا زالت سحائب أفضاله تتوالى على القطر عموما والفيوم خصوصا ما تعاقب الجديدان وأشرق النيران.
القسم الثالث
نذكر هنا تراجم أشهر العلماء الذين وجدنا سيرتهم كما وعدنا في خطبة تاريخنا، ثم نذكر من الأولياء ترجمة الصوفي، وجملة صغيرة عن الروبي، ونبقي ذكر بقية الأولياء إلى القسم الرابع، حيث نذكر أشهر الأضرحة؛ وذلك لأننا لم نقف على تراجمهم، ثم نذكر بعض النثر والنظم مما يختص بالفيوم.
العالم ابن سعيد الفيومي
صفحة غير معروفة
ذكر المقريزي في خططه عند الكلام على تاريخ اليهود وأعيادهم أسماء جماعة من علماء اليهود منهم العالم ابن سعيد الفيومي، وهو على ما ذكر في كتاب الفهرست لأبي الفرج كان من علماء اليهود وأفاضلهم المتمكنين من اللغة العبرانية، وتزعم اليهود أنها لم تر مثله، واسمه سعيد الفيومي ويقال سعد، وله من الكتب كتاب المبادي، وكتاب الشرائع، وكتاب تفسير أشعيا، وكتاب تفسير التوراة نسقا بلا شرح، وكتاب الأمثال وهو عشر مقالات، وكتاب تفسير أحكام داود، وكتاب تفسير النكت وهو تفسير زبور داود - عليه السلام - وكتاب تفسير السفر الثالث من النصف الآخر من التوراة مشروح، وكتاب تفسير كتاب أيوب، وكتاب إقامة الصلوات والشرائع، وكتاب العبور وهو التاريخ.
العالم الشيخ شعبان الفيومي
هو الفاضل الشيخ شعبان الفيومي الأزهري الشافعي الإمام الفقيه المتضلع بالعلوم الشرعية، شيخ الأزهر، ما قرأ عليه أحد إلا انتفع به وحصلت له بركته. ولد بالفيوم سنة خمسة عشر وألف هجرية تقريبا، وحفظ القرآن، ودخل إلى مصر وأخذ عمن بها من أكابر العلماء كالشهاب القليوبي، والشمس الشوبري، وكان ملازما لهما سنين عديدة، وكان يستغرق أوقاته في إقراء العلم والتدريس في العلوم النافعة، وكان يقرأ عليه كل يوم ما ينيف عن مئة طالب، وله في كل يوم ثلاثة دروس حافلة: واحد بعد الفجر إلى قرب طلوع الشمس، والثاني بعد الظهر، والثالث بعد العصر، وهذا دأبه دائما، وكان يجتمع فيها من طلبة العلم خلق كثير، وكان محافظا على الجلوس في الأزهر لا يخرج منه إلا لحاجة، وكان يستحضر كتب الفقه المتداولة بين المصريين، وتخرج به كثير من العلماء، منهم العلامة منصور الطوخي ، وإبراهيم البرماوي، وعطية الشورى، وغيرهم.
وكان قليل الكلام، كثير الاحتشام، لا يتردد إلى أحد، معظما عند العلماء، مشهورا بالورع، وكان إذا قرأ القرآن يكاد يغيب عن حواسه، وكان كثير الدعاء لمن يقرأ عليه، ولا يسمع منه كلام إلا في تقرير مسائل العلم، وكان إذا مر في السوق يمر مسرعا مطرق الرأس. وله كرامات ظاهرة، منها أن رجلا تسلط عليه فكان إذا مر مطرقا يحاكيه ويتمثل به ويطرق رأسه مثله، فأتى إليه ذات يوم وهو مطرق ففعل مثله وأطرق رأسه فلم يقدر على رفعه ولا تحريكه يمينا ولا شمالا، ثم أتى إليه واعتذر وتاب فعفا عنه ودعا له فعافاه الله تعالى ببركته، ومنها الاستقامة في جميع الأحوال التي هي أوفى كرامة. توفي بمصر في جماد الأول سنة خمس وسبعين وألف، ودفن بتربة المجاورين، رحمه الله!
العالم الشيخ عبد البر الفيومي
هو عبد البر بن عبد القادر بن محمود بن أحمد بن زين الفيومي العوفي الحنفي، أحد أدباء الزمان الموفقين وفضلائه البارعين، كان كثير الفضل، جم الفائدة، شاعرا مطبوعا، مقتدرا على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، حسن الإبداع للمعاني، مخالطا لكبار العلماء والأدباء، معدودا من جملتهم، أخذ العلم بمصر عن الشيخ أحمد الوارشي الصديقي، والأدب عن الشيخ محمد الحموي، والقراءات عن الشيخ عبد الرحمن اليمني، وفارق وطنه فحج أولا وأخذ بمكة عن ابن علان الصديقي، وكتب له إجازة مؤرخة بأواخر ذي الحجة سنة اثنين وأربعين وألف، ثم دخل دمشق وحلب في سنة ثمان وأربعين، وأخذ بحلب عن النجم الحلفاوي الأنصاري، ولزمه للقراءة عليه في شرح الدرر في الفقه مع حاشية الواني، وشرح ابن ملك على المنار مع حواشيه الثلاث لعزمي زاده، وقرأ كمال والرضا ابن الحنبلي الحلبي، وشرح الجامي مع حاشيته لعبد الغفور، ومختصر المعاني مع حاشيته للخطائي. ثم خرج إلى الروم فورد مورد العلامة أبي السعود الشعراني وقرأ عنده جامع الأصول للربيع اليمني، وهو في تحرير الأحاديث، وشرح الهمزية لابن حجر بتمامه، ونصف سيرة الخميس أو قريبا منه، وجانبا من فتاوى قاضي خان، وبعض فرائض السراجية، وكثيرا من مباحث التفسير، وأجازه، ولزم الشهاب الخفاجي فقرأ عليه بعض شرح المفتاح للتفتازاني، وبعض شرح نفسه على الشفا، وكتب له خطه على هامش الكتابين.
ولما ولي قضاء مصر استصحبه معه إلى صلة رحمه، واستنابه بين بابي الفتح والنصر، وصيره معيدا لدرسه في حاشيته على تفسير البيضاوي وفي شرح صحيح مسلم للنووي، وأخذ بالروم عن المولى يوسف بن أبي الفتح الدمشقي إمام السلطان، وولى من المناصب إفتاء الشافعية بالقدس مع المدرسة الصلاحية، ودخل دمشق وأقام بها في حجرة بجامع المرادية نحو سنتين، ولم يقدر على الدخول إلى القدس خوفا من الشيخ عمر بن أبي اللطف مفتي الشافعية قبلهم، ثم لما مات الشيخ عمر ترحل إليها، ومكث بها أياما، ولما لم ينل حظه من أهلها ترك الفتوى والتدريس ورأى المصلحة في الرجوع إلى الروم، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم انتظم في سلك الموالي، فولي بعض مناصب، ومات وهو معزول. وله تآليف كثيرة حسنة الوضع، أشهرها كتاب «منتزه العيون والألباب في بعض المتأخرين من أهل الآداب»، جعله على طريقة الريحانة، إلا أنه رتبه على حروف المعجم، وجمع فيه بين شعراء الريحانة وشعراء المدائح الذي ألفه التقي الفارسكوري، وزاد من عنده بعض متقدمين وبعض عصريين، وهو مجموع لطيف، وفيه يقول الأديب يوسف البديعي:
كتاب ذي الفضل عبد البر منتزه ال
عيون أحسن تأليف ومنتخب
حوى محاسن أقوام كلامهم
صفحة غير معروفة
في النظم والنثر يلفي زبدة الأدب
رأي البديعي ما فيه فحقق أن
ما مثل رونقه في سائر الكتب
وله حاشية على شرح الهمزية لابن حجر صغيرة الحجم، وكتاب بلوغ الأدب والوسول بالتشرف بذكر نسب الرسول، وكتاب اللطائف المغنية في فضل الحرمين وما حولهما من الأماكن الشريفة، وكتاب حسن الصنيع في علم البديع، وله بديعية على حرف النون وشرحها، ومطلعها:
لما تذكرت سفح الخيف والبان
أهل دمعي وروى روضة البان
وله رسالة في التوشيع سماها إرشاد المطيع، ورسالة سماها مشكاة الاستنارة في معنى حديث الاستخارة، ورسالة في القلم، وأخرى في السيف، وله شعر كثير غالبه مسبوك في قالب الإجادة وعليه رونق الانسجام والبلاغة، فمن ذلك قوله:
تبدى مليك الحسن في مجلس البسط
بقد كغصن البان أو ألف الخط
وأبدى على شرط المحبة حجة
صفحة غير معروفة
مسلمة أحكامها قط ما تخطى
ومن شرطه في الخد قبلة عاشق
فكان مداد الحسن في ذلك الشرط
ومن لطائف شعره قوله في الغزل:
لي حبيب قد سالماه
عذبا وطرفاه سالماه
فيا خليلاي عذر صب
جودا وإلا فسالماه
فالطرف هام من التجافي
طول الليالي قد سال ماه
صفحة غير معروفة
وساكن القلب مذ رآه
يهيم بالوجد سال ما هو
الأول ساء بالهمز مقصور للشعر، ولمى أي للريق فاعل، وإساءته منعه لوراده، والثاني ماض والألف للتثنية، والثالث أمر الاثنين، والرابع من الإسالة والماء قصر للضرورة، والخامس من السؤال سهلت الهمزة ضرورة، وما سؤال على سبيل تجاهل العارف.
وله قصيدة ميمية عارض بها ميمية شيخ الإسلام أبي السعود العمادي التي مطلعها:
أبعد سليمى مطلب مرام
وغير هواها لوعة وغرام
ومطلع قصيدته هو هذا:
أهيل النقى هل بالديار مقام؟
وهل حي سلمى مسكن ومقام؟
وهي طويلة تنيف على ثمانين بيتا، وقد تضمنت حكما كثيرة، ولولا طولها لذكرتها كلها، وقد ختم كتابه المنتزه بها، ولم يذكر بعدها إلا تاريخ ابتداء إنشائه لهذا الكتاب، وهو يوم الخميس سادس عشر صفر سنة خمس وخمسين، وتاريخ الفراغ من تبييضه كله وهو يوم الأحد الحادي والعشرين من المحرم سنة ستين وألف، وكانت وفاته سنة إحدى وسبعين وألف بقسطنطينية.
صفحة غير معروفة
العالم أحمد بن أحمد العطشي الفيومي
هو الإمام الفاضل أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عامر الفيومي الشافعي، كان من أحد المتصدرين بجامع ابن طيلون، وكان له معرفة في الفقه والمعقول والأدب، وكان يخبر عن نفسه أنه يحفظ اثني عشر ألف بيت من شواهد العربية وغيرها، أخذ عن الأشياخ المتقدمين، وكان إنسانا حسنا، منور الوجه والشيبة، مات في سادس جمادى الثانية عن نيف وثمانين سنة بعد المئة والألف.
العالم الشيخ إبراهيم الفيومي
هو الإمام المحدث الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي، شيخ الجامع الأزهر، تفقه على الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي، قرأ عليه الرسالة وشرحها، وكان معيدا له، وتلبس بالمشيخة بعد موت الشيخ محمد شنن، ومولده سنة اثنتين وستين وألف، وأخذ عن الشبراملسي والزرقاني والشهاب أحمد البشبيشي والجزائرلي الحنفي، وأخذ الحديث عن الشيخ يحيى الشاوي وعبد القادر الواطي، وعبد الرحمن الأجهوري، وإبراهيم البرماوي وآخرين، وله شرح على العزية في مجلدين. توفي سنة سبع وثلاثين ومئة وألف عن خمس وسبعين سنة.
العالم الشيخ سليمان الفيومي
هو الأستاذ الشيخ سليمان الفيومي المالكي، حفظ القرآن وجاور برواق الفيمة بالأزهر، ولازم الشيخ الصعيدي في أول مجاورته، فكان يمشي خلف حمار الشيخ وعليه دراعة من صوف وشملة صفراء، ثم حضر دروسه ودروس الشيخ الدردير واختلط مع المنشدين، وكان صوته حسنا، وكان يذهب معهم إلى بيوت الأعيان في الليالي، وينشد معهم ويقرأ الأعشار فيعجبون منه، ويكرمونه زيادة على غيره، ثم اجتمع على بعض الأمراء المعروفين بالبرقوقية من ذرية السلطان برقوق، وكانوا نظارا على أوقاف السلطان المذكور، فراج أمره، وكثرت معارفه بالأغوات الطواشية، فتوصل بهم إلى نساء الأمراء، وصار له زيادة قبول عندهن وعند أزواجهن، وصار يتوكل لهم في القضايا والدعاوى، وتجمل بالملابس وركب البغال.
وتزوج بامرأة بناحية قنطرة الأمير حسين، وسكن بدارها، وماتت وهي على ذمته فورثها، ثم لما مات الشيخ محمد العقاد تعين لمشيخة رواق الفيمة، وبنى له محمد بك المعروف بالمبدول دارا عظيمة بحارة عابدين، فاشتهر ذكره وعلا شأنه وطار صيته، وسافر في بعض مقتضيات الأمراء إلى دار السلطنة، ثم عاد إلى مصر فأقبلت عليه الهدايا من الأمراء والأعيان والأغوات والحريمات، واعتنوا بشأنه، وزوجته الست زليخا زوجة إبراهيم بك الكبير بنت عبد الله الرومي، فتصرف في أوقاف أبيها، وكان من ضمنها عزب البر تجاه رشيد فاشتهر بالبلاد البحرية والقبلية.
وكان كريم النفس جدا يجود بما عنده مع حسن المعاشرة والبشاشة والتواضع والمواساة للكبير والصغير والجليل والحقير، وطعامه مبذول للواردين، ومن أتى إلى منزله لحاجة أو زائرا لا يمكنه من الذهاب حتى يتغدى أو يتعشى، وإذا سأله أحد حاجة قضاها كائنة ما كانت، ومما اتفق مرارا أنه يركب من الصباح في قضاء حوائج الناس فلا يعود إلا بعد العشاء الأخيرة.
ثم حضر حسن باشا الجزائرلي إلى مصر، وارتحل الأمراء المصريون إلى الصعيد، وأحاط بدورهم، وطلب الأموال من نسائهم، وقبض على أولادهم، وأنزلهم في سوق المزاد، فالتجأ إليه الكثير من نساء الأمراء الكبار فأواهن واجتهد بنفسه في حمايتهن والرفق بهن مدة إقامة حسن باشا بمصر، وكذلك في إمارة إسماعيل بك، ثم لما رجع أزواجهن بعد الطاعون إلى إمارتهم ازداد عندهم قبولا، فكان يدخل بيت الأمير ويطلع محل الحريم ويجلس معهن ويكرمونه، ولم يزل على هذه الحالة إلى أن طرق الفرنسوية البلاد المصرية وأخرجوا منها الأمراء، وخرجت النساء من بيوتهن، وذهبن إليه أفواجا أفواجا حتى امتلأت داره وما حولها من الدور، وتصدى وتداخل في الفرنسوية ودافع عنهن، وأقمن بداره شهورا، وأخذ أمانا لكثير من الأمراء المصرية وأحضرهم إليها، وأحبته الفرنسوية وقبلت شفاعته، وقررته في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين.
ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه ورتبوا على مشايخ كل بلدة شيخا ترجع أمور البلد ومشايخها إليه، فجعلوه شيخ المشايخ، وبقي على ذلك إلى أن انفضت أيامهم وحضرت العثمانية وهو في عداد العلماء والرءوس، وافر الحرمة، شهير الذكر.
صفحة غير معروفة