من ذي القعدة، فركب دجلة مجريا تياره في تيارها، حتى وصل إلى باب الرقة من السدة الشريفة ودارها. وقدم له فرس فركبها ودخل راكبا إلى دهليز صحن السلام، وحصن الإسلام. ثم نزل ومشى، والأمراء بين يديه بغير سلاح يمشون، إلى حيث الجلالة مقيمة، والدلالة بالقائم قائمة، والرسالة ملائمة، والإمامة دائمة، والنبوة مستمرة الإرث، والمروة مستقرة البعث. وستارة البهاء مسدولة على البهو، وطهارة الانتماء مجبولة بالزهو. والقائم بأمر الله جالس من وراء الستر، على سدة مشرفة مشرقة، في إيوان منه للجلال إيواء، ودار أرضها للإقبال سماء. وعلى كتفه وبيده البردة والقضيب النبويان، وهما بماء الطهر المحمدي رويان.
ولما قرب طغرلبك من المقر الأشرف، والمرقى المسجف، ورفعت ستارة البهو، وأنار وجه الخليفة، كالقمر في سدفة السدة الشريفة، أدى الفرض، وقبل الأرض. ثم مثل قائما للقائم، ووقف لترقب ما يقف عليه من المراسم. وصعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف فقال له الخليفة: أصعد ركن الدولة إليك ومعه محمد بن المنصور الكندري مفسرا ومترجما، ومعربا عنه ما كان معجما. ثم وضع لطغرلبك كرسي جلس عليه.
وفسر عميد الملك له تفويض الخليفة إليه. ثم قام طغرلبك إلى مقام الرفعة، ومكان الخلعة، واحتبى بعز الاحتباء، واجتاب خلع الاجتباء. وتوج وطوق وسور، وأفيضت عليه سبع خلع سود في زيق واحد، واتخذت له مملكة الأقاليم السبعة، وشرف بعمامة سمكية مذهبة، فجمع له بين تاجي العرب والعجم. وسما بهما وتسمى بالمتوج والمعمم، وقلد سيفا محلى بالذهب. فخرج في أحلى الحلي وأهيب الأهب. وعاد وجلس على الكرسي، ورام تقبيل الأرض، ولم يتمكن لموضع التاج الخسروي. وسأل مصافحة الخليفة فأعطاه يده دفعتين، فقلبها ووضعها على العين. وقلده سيفا آخر كان بين يديه، فتم له بتقليد السيفين تقلد ولاية الدولتين. فخاطبه بملك المشرق والمغرب، وأحضر عهده وقال: هذا عهدنا يقرأه عليك، محمد بن منصور بن محمد، صاحبنا ووديعتنا عندك، فاحفظه واحرسه، فإنه الثقة المأمون، وانهض في دعة الله محفوظا، وبعين الكلأة ملحوظا.
قال: ولأبي الفضل صردر في عميد الملك من قصيدة:
ملك إذا ما العزم حث جياده مرحت بأزهر شامخ العرنين
صفحة ١٩٠