قال: فنابت النوائب. وظهرت العجائب. وفارق الجمهور من بيننا، جماعة نشأوا على طباعنا، وكالوا بصاعنا. وكانوا معنا في المكتب، وأخذوا حظا وافرا من الفقه والأدب. وكان منهم رجل من أهل الري، وساح في العالم، وكانت صناعته الكتابة، فخفى أمره، حتى ظهر وقام، فأقام من الفتنة كل قيامة، واستولى في مدة قريبة على حصون وقلاع منيعة. وبدأ من القتل والفتك بأمور شنيعة. وخفيت عن الناس أحوالهم، ودامت حتى استتبت على استتار، بسبب أن لم يكن للدولة أصحاب أخبار.
وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم من الملوك، إنهم لم يخلو جانبا من صاحب خبر وبريد فلم يخف عندهم أخبار الأداني والأقاصي، وحال الطائع والعاصي.
حتى ولا في الدولة السلجقية ألب أرسلان محمد بن داود، ففاوضه نظام الملك في هذا الأمر، فأجابه أنه لا حاجة بنا إلى صاحب خبر، فإن الدنيا لا تخلوا كل بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء. فإذا نقل إلينا صاحب الخبر، وكان له غرض، أخرج الصديق في صورة العدو، والعدو في صورة الصديق. فأسقط السلطان هذا الرسم لأجل ما وقع له من الوهم، فلم يشعر إلا بظهور القوم، وقد استحكمت قواعدهم، واستوثقت معاقدهم، وخافوا السبل، وأجالوا على الأكابر الأجل. وكان الواحد منهم يهجم على كثير، وهو يعلم أنه يقتل فيقتله غيلة، ولم يجد أحد من الملوك في حفظ نفسه منهم حيلة.
فصار الناس فيهم فريقين، وفمنهم من جاهرهم بالعداوة والمقارعة، ومنهم من عاهدهم على المسالمة والموادعة. فمن عاداهم، خاف من فتكهم، ومن سالمهم، نسب إلى شركهم في شركهم.
وكان الناس منهم على خطر عظيم من الجبهتين. فأول ما بدأوا بقتل نظام الملك، ثم اتسع الخرق، وتفاقم الفتق. ولما كانوا قد تجمعوا من كل صنف، تطرقت إلى جميع أصناف الناس التهم، ودب إلى البري السقم. وتوفرت على التوقي الهمم، وتعين على السلطان أن يكاشفهم مدافعا، لئلا ينسبه العوام وأهل الدين إلى الإلحاد وفساد الاعتقاد. كما جرى على ملك كرمان، فإن الرعية اتهموه بالميل إلى القوم، فبطشوا به وقتلوه، وأقاموا ملكا آخر مقامه، وسيأتي بعض الأحوال في أيام السلاطين الذين ولوا.
صفحة ٢٢٦