المناقشة على الألفاظ مما لا يعود إلى جوهر العلم بفائدة، وهذا أمر عمت به البلوى في معظم كتب المتأخرين. (7)
التوسع في النظريات التي لا يجتني الطالب من ورائها فائدة عملية، مثل تنازعهم على إعراب جمع المذكر السالم هل هو بالحرف أم بالحركة المقدرة، وكذلك في إعراب الأسماء الخمسة أو الستة فقد ارتقت الآراء في ذلك إلى نحو العشرة، وتنازعهم هل المضاف إلى ياء المتكلم مجرور بالكسرة المقدرة أو الظاهرة، وأمثال ذلك كثيرة. (8)
الاعتماد على الأمثلة الجافة المكررة، وإهمال المهم من الشواهد التي هي مادة الكلام وعدة المتكلم، ولذلك نجد أن كتب ابن هشام من أنفع الكتب المصنفة في هذا الشأن من هذه الناحية؛ لما تشتمل عليه من الآيات الكثيرة والأحاديث البليغة والأمثال السائرة والأبيات الغزيرة. وأبعد الكتب عن هذه الطريقة كتب الأعاجم مثل: الإظهار للبرگوي، وشرح الملا جامي على الكافية، ولذلك نجدها قليلة الجدوى يقرؤها الطالب وكأنه لم يقرأها. وللشواهد أثر بليغ في تكوين ملكة البلاغة عند الطالب، ولذلك نجد كتب الأقدمين غاصة بها، وأقرب مثال في ذلك كتاب سيبويه فإنه يشتمل على أكثر من ألف بيت من الشعر، وعلى مئات الآيات والأمثال وعيون الأقوال، وهذه كتب الشواهد بين أيدينا نستمد منها الكثير من الفوائد، ولقد كتب أحد علماء المائة الثامنة شرحا ممتعا على كافية ابن الحاجب شحنه بالشواهد والفوائد، فجاء الشيخ عبد القادر البغدادي وشرح تلك الشواهد في كتابه المسمى «خزانة الأدب» شحنها بالفوائد الأدبية، والفرائد اللغوية، والنوادر النحوية والصرفية إلى غير ذلك مما يسمو بالطالب إلى المستوى الرفيع.
وقد عانى بعض المعاصرين التأليف في هذا العلم، وحاولوا تجريد مؤلفاتهم من العاهات التي تنوء بها بعض الكتب المتداولة فيه، ولكن أكثرهم وقف دون الغاية وعجز عن إتمام المعالجة، ولا تزال الهمم مصروفة إلى معالجة هذه الناحية وعلى الله قصد السبيل.
تأريخ علم البلاغة
«إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا من علم البيان الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري الشهد، ويريك بدائع الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر ... إلا أنك لن ترى - على ذلك - نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليه فيه، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون رديئة، وركبهم فيه جهل عظيم، وخطأ فاحش ...» من كلمة للشيخ عبد القاهر الجرجاني في صدر كتابه «دلائل الإعجاز».
يفهم أن علم البيان كان معروفا بهذا الاسم من قبل أن يضع عبد القاهر فيه كتابه هذا، وأن للناس في هذا العلم مقالات دائرة بين الاستقامة والعوج.
وقال أبو هلال بن عبد الله العسكري المتوفى سنة 395ه في مقدمة كتابه «الصناعتين»: «إن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ - بعد المعرفة بالله جل ثناؤه - علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة ... وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب، فينبغي من هذه الجهة أن يقدم اقتباس هذا العلم على سائر العلوم ... ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة ومناقب معروفة ...» ا.ه.
وبعد أن ذكر جملة من أقاويل علماء العربية وأبان ما فيها من الزيف والحطة، قال: «فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام في ما رأوه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل ومكانه من الشرف والنبل، وجدت الحاجة إليه ماسة والكتب المصنفة فيه قليلة، وكان أكبرها وأشهرها كتاب «البيان والتبيين» لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.»
إذا علمت هذا ثم رجعت البصر إلى كتاب الصناعتين نفسه وما يحتويه من الأبواب، ثم رجعت إلى كتاب «البيان والتبيين» وما يشتمل عليه من المباحث؛ يتبين لك أن ما يعنيه القوم من علم البلاغة غير ما نعنيه نحن اليوم منه، فإنهم كانوا يريدون به تلك المباحث التي تدور حول الخصائص التي ترفع قدر الكلام وتكسوه جمالا وجلالا، مع بيان العيوب التي تحط من قدر القول وتكسبه قبحا وسخافة، وبعبارة أخص: المباحث الدائرة حول حسنات القول وعيوبه، وكانت تلك المباحث مفرقة في مطاوي أبحاث كثيرة ليست من أصل الموضوع في شيء منبثة هنا وهناك غير وافية بالمرام.
صفحة غير معروفة