ولكن شهدت الإسكندرية حفظ التراث الإغريقي النظري وتلقيحه بالتراث المصري العملي، فكانت النتيجة في القرنين السابقين على ميلاد المسيح، واحدة من أهم مراحل العلم القديم وأكثرها توهجا وتألقا، في الرياضيات وفي الطب والكيمياء والفيزياء، والتقانة (التكنولوجيا) ... وبعد أن خبت جذوة الإبداع العلمي في الإسكندرية انكب الرهبان على ترجمة النصوص الإغريقية إلى السريانية ... لكن انتشرت العناصر الغنوصية الهرمسية، وكانت الإسكندرية مرتعا للا عقلانيات شتى - وقفنا على أبعاد منها - اقتحمت كيمياء جابر التجريبية العتيدة، ففي النهاية تسلم العرب حين سادوا الأرضين كل هذا الميراث،
48
ليستوعبوه ويتجاوزوه، لتكون ملحمتهم العلمية التي نعرض الآن للمشهد الأساسي من فصلها الكيميائي. •••
لم تكن الكيمياء بالنسبة للعرب كالشعر، بل هي كالفلسفة والرياضة، بمعنى أن الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها الإسلام ونزول الوحي في المجتمع القبلي، ومتوالياته الحضارية، لم تطورها كما طورت الشعر أو القيم أو النظم الحاكمة، بل أوجدتها إيجادا. أجل! لم يعرف العرب في جاهليتهم الكيمياء البتة، ثم عرفوها في نهضتهم المنطلقة بعد الفتوحات الإسلامية، على وجه التحديد فتح مصر.
وحين عرف العرب الكيمياء، كان أول علم من أعلامها هو خالد بن يزيد بن معاوية (حوالي 625-704م) الملقب بحكيم بني أمية لعشقه العلم والعرفان، تاركا عرش الخلافة، لقد تعلم على يد راهب يدعى ماريانس الرومي جعله يتعلق بعلوم الكيمياء والطب والنجوم، ويستحضر جماعة من فلاسفة مصر الذين أتقنوا العربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة - أي الكيمياء - من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وكانت هذه - كما يجمع الثقات كابن النديم - أول ترجمة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
كان خالد فاضلا في نفسه محبا للعلم، اشتغل بالصنعة (الكيمياء) وأجرى تجارب، وأول من كتب فيها من العرب، ومن مصنفاته الكيميائية كتاب الحرارات وكتاب الصحيفة الكبير والصحيفة الصغير، ووصيته إلى ابنه في علم الصنعة، والفردوس وهو ديوان شعر في الكيمياء، يقول فيه عنها:
49
هي الصنعة المضروب من دون نيلها
من الرمز أسوار تشيب النواصيا
ولكنها أدنى إذا كان عالما
صفحة غير معروفة