لعل هذا التأويل الوضعي التحليلي لجابر يحمل تخريجا أو تحميلا زائدا يصعب قبوله، لكنه على أية حال لا يفتقر للمبررات.
ذلك أن جابرا آمن إيمانا راسخا بقوة الألفاظ وجدوى البحث في دلالتها، حتى رأى أن كتابه «الحدود» الذي يعنى فيه بتعريف الألفاظ والمصطلحات، هو أهم كتبه؛ لأنه بمثابة معجم وجب أن يداوم الباحث على الرجوع إليه - إن كان يفضل دائما الرجوع إلى كتبه جميعا ككل متكامل.
وكان الحد العلمي عند جابر هو القول الوجيز الدال على كنه المحدود دلالة حاصرة، ولم يزد جابر في تعريفه للحدود شيئا عما قاله أرسطو من تعريف بالجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، وفي هذا نجد بعدا منطقيا خالصا شديد الوضوح، وأيضا شديد الدلالة على منحى عقلية جابر العلمية؛ إذ يحمد لجابر كثيرا اهتمامه بمسألة الحدود ودقة المصطلح. إن هذا البعد الإيجابي من العوامل التي تبرر منزلة جابر في تاريخ العلم.
ولا بد من الإشارة إلى العمل الجاد للدكتور عبد الأمير الأعسم «المصطلح الفلسفي عند العرب»؛ حيث ينحو باللائمة على بدء الباحثين توثيق المصطلح العربي بكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي وأمثاله من مصادر متأخرة، الصحيح عند الأعسم هو توثيق المصطلحات بالعود إلى جابر بن حيان والكندي والفارابي وابن سينا.
33
فلكل من هؤلاء نص أسس المصطلح عند العرب، وواضح أن جابرا هو الرائد الأول زمانيا يتصدرهم جميعا؛ لأن كتابه «الحدود» هو لغة اصطلاحية ازدهرت وقامت بدور كبير في نشأة المصطلحات الفلسفية عن العرب، وقد أردف الأعسم دعواه بالتحقيق الجيد للنصوص المشار إليها، ومنها بالطبع كتاب الحدود. (راجع الهامش رقم 14).
والأعسم بذلك يريد «أن يلغي الاعتقاد السائد في اضمحلال الدور الفلسفي لجابر في نشأة المصطلح الفلسفي لغلبة الاتجاه العلمي على مؤلفاته التي وصلتنا.»
34
وإذ نعود نحن إلى علم الكيمياء، وموضوعها الكائن في الوجود أو الأنطولوجيا، نجد مصداق قول الأعسم، في معاناتنا من غلبة بعد فلسفي خالص إلى درجة تنال كثيرا من علمية هذا العلم. فقد سار جابر في اتجاه يتبناه فلاسفة قبله وبعده، مؤداه الاستدلال على خصائص العالم من خصائص اللغة، على أساس أن اللغة تطابق طبائع الأشياء أو - كما ذكرنا - تركيب الكلام يلزم أن يكون مساويا لكل ما في العالم.
وطالما أن اللغة - في نظر جابر - مسايرة لطبائع الأشياء، وجب أن يكون لكل حرف ما يقابله من هذه الطبائع، وقد صنف جابر الحروف تصنيفا معينا حسب ترتيبها (أبجد هوز حطي كلمن صحفت قرشت ...) بحيث يدل كل حرف على طبيعة معينة، فتفهم طبيعة الشيء من مجرد حروف اسمه! إذ يدل على الحرارة: «أ ه ط م ق»، وعلى البرودة: «و ي» ... إلخ.
صفحة غير معروفة