والإخبار والاستخبار من غرائز بني الإنسان، ألا ترون الناس لا يقر لهم قرار عند وقوع حادث ما، حتى يسمعوا ويسمعوا أخباره- حتى لو لم يكن يعنيهم- ويشغلوا به أنفاسهم المعدودة، وحواسهم المحدودة، ويستبينوا مختلفات أنواع الأخبار، ومؤتلفات أجناس الآثار؛ فإذا بلغ خبر إلى مسامع أحد من الناس، كان كتمانه عسيرا عليه، ومن هنا كان الكتمان عادة وخلقا محمودا، ونادرا ما يقوى عليه أحد، لأن ذلك خلاف الغريزة الإنسانية، ولأن الحق تعالى خلق الإنسان محبا للإخبار والاستخبار، اللذين لا يصونان خزانة حفظ الأسرار عن الظهور، وشمس ودائع أسرار الأصدقاء عن كسوف الصروف، وتحصيصها بالانجلاء.
وعلى ذلك، فإن معرفة تواريخ وأخبار العالم تستلزم هذا الحب- حب الاستخبار والإخبار- الذي لو لم يكن مركبا في غرائز الآدميين، لما وصل للمتأخرين شيء من سنن وفضائل وأخبار وحكايات المتقدمين، ولبلغ خلل أحوال العالمين حدا لا يمكن تداركه، وسد طريق الراحة والدعة بالاقتداء بالماضين، وتلاشى بالفكر والحيرة قوام الأشباح ونظام الأرواح، ولما ظهرت آثار ثناء الأسلاف، على شعار ودثار الأرواح؛ ولانطمست أسرار البدائع والصنائع، باستار الفجائع والفظائع.
[10]
وأقسم المجد حقا لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر «1»
وعلى ما في معرفة التاريخ من فائدة عظيمة فإنه سهل التناول، ليس في الاستفادة منه كلفة أو مشقة لأن المعول في سائر العلوم إنما يقع على الحفظ والفهم، وهو في هذا العلم- التاريخ- يقع على الحفظ مطلقا؛ لأن ذلك الذي تعلمه يجعله قريبا من الوقائع والحوادث الواقعة، فيحصل له التذكر والاستعادة، ولميل النفس لذلك، فإن حفظ هذا العلم أسهل، والتجربة تشهد على ذلك، حيث يحفظ الناس من التواريخ
صفحة ٩٩