بقي عمير بن عمار على إمارة البصرة إلى سنة 239ه، فتولى إمارتها محمد بن رجا، وفي أيامه فسدت أحوال البصرة، واختلفت كلمة أهلها، وقامت بينهم الفتن، وانقسموا إلى فرقتين (البلالية والسعدية) وآلت تلك الفتن إلى القتال داخل المدينة، ثم ثاروا على أميرهم محمد بن رجا، وطردوه، وأخرجوا المسجونين، ونهبوا بيت المال وبيوت بعض المثرين، وظلت البصرة فوضى، ودامت الفتن والمعارك بين أهلها إلى أن قتل الخليفة المتوكل في سامرا في سنة 247ه، وتولى بعده ابنه المنتصر بالله، ثم مات في سنة 248ه، وتولى الخلافة المستعين بالله، ثم خلع في سنة 252ه وبويع المعتز، ومضت على خلافته سنة واحدة، والفوضى ضاربة أطنابها بالبصرة، وقد تولى إمارتها في هذه المدة جماعة من الولاة، فلم يتمكنوا من إصلاح الحال ولا استقام أحد منهم شهورا؛ بل كان بعضهم يستقيل، وبعضهم يعزل، ومنهم من يطرد، ومنهم من يقتل، ثم سكنت تلك الفتن في سنة 253ه. (أ) استيلاء الزنوج على البصرة
لم يكد البصريون يستريحون من تلك الفتن التي طحنتهم وجلبت عليهم ضروب النوائب حتى ظهر في سنة 254ه رجل ادعى الغيب ، وزعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن الإمام علي، وجمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ، فالتف حوله منهم نحو الألفين فقوي بهم، وعاث في بادية البصرة فسادا، ثم قصد البصرة فاضطر البصريون إلى قتاله، فحدثت بين الفريقين عدة معارك حتى تمكن البصريون من صده بعد أن قتل منهم أكثر من ألف رجل.
ولما انسحب صاحب الزنج عن البصرة نهب أكثر القرى، وأحرق بعضها، وكان قد تولى الخلافة المهتدي في سنة 255ه، وبلغته أعمال صاحب الزنج، فأرسل في السنة نفسها أميرا على البصرة الأحوص الباهلي، وسير معه جيشا كبيرا بقيادة جعلان التركي لقتال الزنوج؛ فحدثت بين الطرفين حروب عديدة فاز في آخرها صاحب الزنج، واضطر القائد جعلان إلى تحصين البصرة والدفاع عنها، وألف البصريون جيشا منهم فكان فرقتين - السعدية والهلالية، وعلى إثر ذلك هجم الزنوج على البصرة في سنة 256ه في الوقت الذي تولى فيه الخلافة المعتمد على الله، فجرت بين الزنوج وبين البصريين حروب عنيفة دامت أحد عشر يوما، انتهت باندحار الزنوج،
46
فعادوا عن البصرة، ولكنهم نهبوا قراها وأحرقوا بعضها، وقاتلوا سكان أبي الخصيب أربعة أيام حتى استولوا على قريتهم وأحرقوا دورها ونهبوا ما فيها وأعملوا السيف في أهلها، وقد قتل في هذه الحادثة أكثر من خمسة آلاف رجل من البصريين، ثم حمل الزنوج على الأبلة فقاتلهم أهلها فانخذلوا، واستولى الزنوج على المدينة، ثم انسحبوا منها.
فلما كانت سنة 257ه أرسل الخليفة المعتمد على الله جيشا كبيرا بقيادة سعيد بن صالح الحاجب لقتال الزنوج، فالتقى بهم سعيد فانتصر عليهم وفتك بهم، ولكنهم لموا شعثهم، وهجموا عليه هجمة المستميت، فانهزمت عساكره بعد أن قتل منهم عدد كبير، واضطر القائد سعيد إلى الهرب، فقتل، فاستولى الزنوج على معسكره، فبلغ ذلك الخليفة، فولى في أواخر هذه السنة على البصرة منصور بن جعفر الخياط، وأرسله بجيش كبير، فحدثت بينه وبين الزنوج معركة هائلة في محل يبعد عن البصرة ثلاث ساعات، فانجلت عن انتصار الزنوج، فأغرقوا سفن الخليفة، وأتلفوا من فيها من الجنود والأموال، ووقع القائد منصور قتيلا.
وعلى إثر اندحار جيش القائد منصور وقتله استولى الزنوج على الأهواز والأبلة وعبادان وواسط، وقوي أمرهم، واشتدت شوكتهم، فأعادوا الكرة على البصرة، فاجتمع البصريون، وألفوا منهم جيشا بلغ عدده عشرين ألف مقاتل، وخرجوا للدفاع، فدامت الحرب بينهم وبين الزنوج ثمانية أيام بلياليها، وكانت حرب دموية هائلة أسفرت عن انكسار البصريين، فاستولى الزنوج على البصرة بعد أن قتل من البصريين عدد كبير، وذلك في أواخر سنة 257ه.
ولما دخل الزنوج البصرة انهزم منها عدد كثير من البصريين، واختفى الناس في دورهم، فنهب الزنوج المدينة، وأحرقوا أكثر دورها، ودام النهب والسلب والقتل والتخريب والتدمير ثلاثة أيام، ثم أعلن قائدهم الأمان، ونادى مناديه باجتماع الناس في المسجد لاستماع الأوامر فاجتمعوا - وكانوا على ما قيل نحو مائة ألف نسمة - فأمر بقتلهم، وبإحراق المسجد وهدمه، فأعمل أصحابه السيف في البصريين، فلم ينج منهم إلا من فر.
وبلغ الخليفة المعتمد خبر سقوط البصرة بيد الزنوج، واستفحال أمرهم، فجهز جيشا كبيرا، وسيره بقيادة أحمد المولد - ويروى: محمد - فاندحر أحمد، واضطر الخليفة إلى تجهيز جيش آخر في سنة 258، وأرسله بقيادة مفلح، فأصاب مفلحا سهم فقتله، فانهزم جيشه، فأرسل الخليفة أخاه أبا أحمد طلحة الملقب بالموفق بالله، وسيره بجيش كثيف، وكتب إلى بغداد وغيرها من المدن العراقية يأمر الولاة بجمع الجيوش وإرسالها مددا للموفق.
فسار الموفق حتى وصل نهر معقل - بالقرب من البصرة - والتقى بالزنوج هناك، فجرت بينه وبينهم حروب عنيفة اندحر في آخرها الزنوج، ووقع كثير منهم في الأسر، وفيهم قائدهم يحيى بن محمد البحراني، فإنه وقع أسيرا في قبضة الموفق، فأرسله إلى بغداد، ومنها أرسل إلى سامرا، فأمر الخليفة بقتله.
صفحة غير معروفة