المقدمة
تحيا الأمم بآدابها لأن الآداب ترقي المرء فوق الحياة المادية وتسمق به إلى المدارك الشريفة وتقربُه إلى عالم الأرواح وإلى الجمال الإلهي الذي منهُ يستعير كل مخلوق جماله. وعليهِ فأن أراد العاقل أن يعرف درجة التمدُن التي بلغها شعب من الشعوب يبحث عن انتشار الآداب بين أهلهِ ولذلك ترى المؤرخين يقدَمون في تاريخهم تاريخ الآداب على تاريخ الوقائع وربما أفردوا للآداب تاريخًا قائمًا بذاتهَ يثبت ما يختص بالعلوم والمعارف في كل ملَة مخبرًا عن نشأة الآداب بينها واتساع نطاقها وأسباب ترقيها ونتائجها الطيبة في إصلاح العموم وتحسين أخلاقهم ودفعهم إلى المشروعات الأثيرة والمساعي الخطيرة.
ومن عجيب أمور اللغة العربية أنك لا تجد حتى اليوم تاريخًا ممتعًا لآدابها مع وفرة كتبتها وتعدُد مصنفاتها في كل أبواب العلوم واتساع دائرة نفوذها إلى حدود الهند والصين ومجاهل أفريقية وسواحل أوربا وقد أحسَّ بهذا النقص مائة من المستشرقين المحدثين في فرنسة والنمسة وألمانية وإنكلترة وروسية وإيطالية فأرادوا نوعًا سدّ هذا الخلل ببعض التآليف التي أودعوها أوصاف العلوم العربيَّة وتراجم أصحابها وقائمة الكتب التي صنفوها. وكذلك جرى على آثارهم بعض كتبة الشرق في مصر فاستقوا من مناهلهم أخصهم المرحوم جرجي زيدان في كتابهِ تاريخ الآداب العربية الذي انتقدنا أقسَامهُ في مجلَّة المشرق.
على أن تلك التآليف مع فوائدها ليست سوى بواكير أعمال أوسع واكمن لا نزال إليها في حاجة ماسة فنتمنى أن تتألف فرقة من الأدباء بهذا المشروع الجليل فتتبع آثار اللغة العربية في كل أطوارها مباشرة بعد الجاهلية وبين القبائل المتفرقة في أنحاء الجزيرة تدوَن نشأة تلك اللغة وما طرأ عليها من الطوارئ في أوائل الإسلام وفي زمن
1 / 1