تأليف
سلامة موسى
العالم طيب ... إني أبارك على الحياة.
رامبو
المقدمة
ميلاد كل منا هو مغامرة مع القدر، نخرج إلى العالم بكفاءات وراثية لا تتغير من أبوين لم نخترهما. ونعيش في وسط، تتكون فيه نفوسنا وتملى علينا فيه العقائد وطرز السلوك، قبل أن نستطيع أن نغيره. ثم تتوالى علينا الحوادث التي تقرر اتجاهاتنا في الحياة وتقع بنا الكوارث التي نتكيف بها وننزل على مقتضياتها. وعلى الرغم من أننا جميعا نصاغ في قالب البشرية، فإن كلا منا فذ في هذه الدنيا قد كتبت حظوظه - أو أكثرها - قبل أن يولد، إن خيرا وإن شرا. ولذلك فإن قصة كل منا هي قصة فذة مفردة تستحق أن تروى وتقرأ.
وكلنا يحب أن يتحدث عن نفسه، وأحيانا يسرف ويدمن في هذا الحديث حتى يثقل على إخوانه. ولكن - مع ذلك - لا تكاد تخلو حياة إنسان مما يجدر ذكره للمغزى أو العبرة إلا إذا كانت حياة أبله قد مرت الاختبارات دون أن ينفعل بها. وواضح أن مثل هذه الحياة لا تزيد كثيرا - من حيث المغزى أو العبرة - على حياة البقول.
وأحيانا تضطرب العصور التي يعيش فيها المجتمع، فيبعث هذا الاضطراب وجدانا - أي وعيا - بالأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع؛ فيذكو، حتى العقل الخامد. ويتنبه، حتى القلب الغافل. ونأخذ جميعا في التساؤل والاستطلاع، ونرفض التسليم بالقيم السابقة أو الطاعة للتقاليد الموروثة. ثم نتطلع إلى المستقبل ونحاول أن نخترع الأساليب الجديدة للعيش.
وقد قضيت عمري إلى الآن 1947، وهو يقارب الستين، في بقعة مضطربة من هذا الكوكب، هي مصر. وعشت هذا العمر وأنا أرى انتقالها المتعثر من الشرق إلى الغرب؛ أي من آسيا إلى أوروبا. وعاينت مخاضها وهي تلد هذا المجتمع الجديد الذي لا يزال طفلا يحبو، كما عاينت كفاحها للإنجليز المستعمرين وللرجعيين المصريين. وكل هذا يستحق أن يروى وأن يقف عليه الجيل الجديد.
وأنا إذن في هذه السيرة لست مؤرخا لنفسي فقط؛ إذ إني حين أترجم بحياتي وأصف للقارئ كيف تكونت شخصيتي وكيف ربيت نفسي، بل حين أعزو إلى نفسي بعض الفضل في تحطيم المعابر التي كانت تصل يومنا بأمسنا، أي بالقرون المظلمة، وتحاول ربط تاريخ الغد الحافل بالاقتحام والشجاعة والرؤيا بتاريخ الأمس وهو مأساة حالكة بالظلم والفاقة والجهل والجبن، في كل ذلك إنما أروي تاريخ العصر الذي عشت فيه وتاريخ الجيل الذي كنت أحد أفراده.
صفحة غير معروفة