وليس من الضروري أن يكون هناك خطر متوقع، ولكن لا بد أن يكون هناك ألم يحز كأنه الموت. كنت ذات مرة في باريس أجلس على قهوة ومعي إخوان نتحدث عن السياسة. فتطور الحديث إلى نقاش حام. فاحتد أحد الشبان الفرنسيين علي لأني خالفته وقال لي: «لا تناقش ... ليس لك هذا الحق. الإنجليز أسيادكم!»
وتبالهت. وتضاحكت ... ولكني شعرت كأنما شربت سما، وأن أمعائي تتمزق. ونهضت وقصدت إلى غرفتي، وانبطحت على السرير وأنا أبكي. وبعد ذلك لم أكن أصدم في أي مدينة في أوروبا بأي شخص أقل مصادمة إلا ويهتف بي صوت داخلي: «الإنجليز أسيادكم!» فأذل وأتمزق.
وفي الحرب الكبرى الأولى كان شبابنا يؤخذون قسرا من القرى فيربطون بالحبال وينقلون إلى فلسطين. وكان الكثيرون منهم يموتون أو يعودون وهم حطامات بشرية، قد فقدوا أنفع أعضائهم. وذات يوم كنت على محطة الزقازيق فإذا بي أرى شابا لم يبلغ العشرين، وإلى جانبه شيخ هرم كأنه أب أو عم لهذا الشاب. وكان الشيخ دائب الكلام في حرارة وعطف، حتى كاد رأسه يمس وجه الشاب، فاقتربت منهما. ولكني فزعت من هول ما رأيت، وما زلت أفزع من هذه الذكرى ... فقد كان الشاب فاقد البصر من غبار فلسطين وسينا، وعاد أعمى لا يرى نور النهار ... وكان الشيخ يواسيه بكلمات كاذبة، والشاب ينصت في جمود وصمت كأنه لا يسمع.
وأحسست - وبيني وبينهما أقل من مترين - كأني مجرم، وكأني مسئول عن هذه الكارثة التي نزلت بهذا الشاب. وجف حلقي وودت أن أقول للشيخ شيئا. ولكن جمود الشاب جمدني. وبقينا ثلاثتنا على هذه الحال، إلى أن جاء القطار الذي حملهما إلى قريتهما ...
وقد مضى على هذه الحادثة نحو 28 سنة. ولكني عندما أخلو لنفسي، يعود «الفلم» فينبسط أمامي وأستعيد كل كلمة وأرى كل حركة من حركات الشيخ المواسي والشاب الأعمى. ثم تتمزق أمعائي عندما أفكر في دخوله قريته واستقبال أمه أو أخته له واستقباله لهم.
وكنت حوالي سنة 1917 في المنصورة. وسئمت من جلسة طالت على إحدى القهوات التي تشرف على النيل، فنهضت عند الغروب وصرت أجول على غير هدى في الشوارع والأزقة. فلما عتم المساء أخذت طريقي إلى القهوة ...
فبينا أنا أسير الهوينا إذا بي أسمع صوتا خافتا ظننت أنه يصدر من أحد المنازل، ولكن الصوت كان مع خفوته قريبا. فتلفت حولي فرأيت شيئا ضئيل الجسم حسبته كلبا أو قطا. فاقتربت منه فسمعت صوتا يقول في خلط واضطراب: «ملوخية ... ملوخية باللحمة ... عيش وملوخية ... بدي آكل ... أنا جعانة: عيش وملوخية ...»
ودنوت من هذه الأشلاء المكومة الملفوفة في الخرق. فوجدتها امرأة قد اسحتالت من الفاقة والبؤس إلى حطام لا يعقل. ووقفت إلى جانبها أسمع أنين الجوع وبكاء المعدة ... ثم قصدت من فوري إلى مطعم فاشتريت لها طلبتها وعدت مع صبي المطعم إليها، وأخذنا نحن الاثنين نعرض عليها ما أحضرناه من الملوخية واللحم، وأكلت المسكينة في ضعف وارتباك ... ولكنها لم تأت على ربع الرغيف، وظني أنها كانت في أيامها الأخيرة ...
وكلما جاءت العتمة عقب الغروب وضاقت نفسي لسبب ما عادت هذه الذكرى تضيء في مخيلتي فأتنهد أسفا على ذلك الحطام البشري الذي ظننته أول الأمر كلبا أو قطا.
وفي صرخة الموت عذوبة تفتن النفس، وفي الموت نفسه فتنة كأنها صحوة الوجدان، حتى لنحس أن يقظتنا إنما هي حلم نصحو منه عندما نقف إزاء من نحب وهو في النزع الأخير.
صفحة غير معروفة