وهناك الأستاذ مراد عصفور مدير القسم الرياضي. وهو أيضا قد أرسلته الجمعية إلى الولايات المتحدة كي يتعلم ويعود للقاهرة لإدارة الرياضة في الجمعية، وأخيرا هناك السكرتير العام وهو الأستاذ نجيب قلادة. وهو شخصية محبية قد اندغمت حياته في الجمعية حتى لأظن أنه يحلم بها في نومه. وهو رجل متبصر يحسب للمستقبل كثيرا ولا يتهور.
أما الشخصيات الأمريكية التي عرفتها بالجمعية فكثيرة، أقتصر منها على ذكر اثنتين فقط. الأولى شخصية السكرتير العام للجمعيات في الشرق الأوسط وكان يدعى ولبر سمث. وكان أعرج قد قطعت ساقه إلى الفخذ منذ الشباب لأن الدرن كان قد ضرب في عظامها. وكان مع عرجه يسوق الأتومبيل ويلعب التنس ويخطف درجات السلم. وكان نشاطه عجيبا حتى بعد الثانية والستين. يقرأ ويلعب ويختلط بالأعضاء. وكثيرا ما كنت أتعجب لوفرة ثقافته مع وفرة اهتماماته بشئون الجمعية. وإني أذكر أني ناقشته أكثر من ساعة عن فولتير وقيمته في حركة التحرير والتنوير في أوروبا. وكان يقتني الكتب وينفق عليها في سخاء. ولم تكن المناقشة معه محدودة أو مقيدة في أي موضوع. وهذا هو روح النشاط في قاعة المكتبة على الدوام. وهذا هو بالطبع ما أدى إلى هواجس وزارة الداخلية وتدخلها للرقابة أيام الحرب.
وهناك شخصية أخرى هي جيمس كواي. وهو أمريكي بقامته ووجهه وأخلاقه وميوله. فقد كان معنا حين كنا نصطاف بالعريش، فكان ينزل البحر عريان كما ولدته أمه في حين كنا نحن نعجز عن التخلص من رواسب الحجاب فكنا لا ننزل البحر إلا بعد أن نتخذ الكلسونات. ومما يدل القارئ على أسلوب المعاملة الذي يتبعه هذا الأمريكي مع خادمه أنه - حين كان يمنح إجازته - وهي سنة كاملة يقضيها في الولايات المتحدة إزاء كل أربع سنوات يقضيها في القاهرة، كان خادمه يقضي هذه السنة بلا عمل ينتظر رجوعه. ومن الشعائر التي كان كواي يتبعها أيضا مع خادمه هذا أنه كان يدعوه هو وعائلته - عائلة الخادم - إلى مائدته وتقوم المسز كواي بتهيئة الطعام وتقديمه لهم باعتبارهم ضيوفا. وفي هذه المجاملة مغزى إخائي لا يستهان به.
وفي أثناء الحرب الكبرى الأخيرة تبرعت حكومة الولايات المتحدة بنحو ألف جنيه للمكتبة لشراء كتب أمريكية. وقد انتفعنا كثيرا بهذه الهبة.
وأخيرا أقول إنه إذا كانت الجمعية قد انتفعت بي باعتباري مرشدا ثقافيا فإني أنا أيضا قد انتفعت بها بالوقوف على اتجاهات الشبان ومشاكلهم. وعندما أذكر بعض هذه المشاكل وأنه كان لي بعض الفضل في إزالتها يغمرني سرور عظيم.
وقبل نحو أربعين سنة كنا لا نعرف غير القهوة مكانا نقعد فيه ونفر من البيت إليه. وكانت بيوتنا خالية من وسائل الراحة ولا نقول الرفاهية، سيئة الطراز في البناء سيئة الجوار سيئة الأثاث. وقد تحسنت هذه الحال شيئا بين الطبقة المتوسطة ولكنها ازدادت سوءا بين الطبقات الفقيرة. ومثل جمعيات الشبان المسيحية وأيضا نادي كوبري الليمون يعد ملاذا يلجأ إليه الشاب أو الصبي ويتعود فيه المطالعة والمناقشة والحديث وألعاب التسلية النظيفة. بل يتعلم فيه الاختلاط المهذب مع الجنس الآخر. وهذا ما لم نكن نحلم به في شبابنا. ولذلك نجد أن للشاب الذي قضى سنتين أو ثلاثا في عضوية الجمعية سمات لا تخطأ. فهو لبق متحدث أنيس لا يعرف القعود على القهوة، يدرس السياسة ويقتني الكتب، ولا يخجل ذلك الخجل المربك من الحديث إلى الجنس الآخر. وكل هذه العادات قد تعودها من الجمعية.
من الأفلام الماضية
نستطيع أن نجمع الضوء بالعدسة فتتلاقى أشعته المتفرقة في بؤرة هي أضوأ نورا وأكثف أشعة، وليست هناك عدسة للزمن حتى تجمع فيها ساعاته ودقائقه في ثانية أو ثوان ... ولكن وجداننا يقوم أحيانا في المآزق والضائقات مقام العدسة، بحيث نعيش في لحظة خاطفة سنين طويلة، كما يحدث مثلا عندما توشك على الغرق ويغشانا الماء ونتعلق بين الحياة والموت. ففي هذه الحال ينبسط أمامنا «فلم» من الذكريات التي مضت عليها السنين ...
كنت مرة على جزيرة وايت حوالي سنة 1908، في جنوب إنجلترا، وكنت أسير على شاطئ صخري هاو يرتفع أكثر من مائة متر ... وبينا أنا في سيري أتأمل البحر إذا بقطيع من الغنم تتقدمها كباش قد برزت قرونها في وحشية مروعة تتجه نحوي في هرولة طار لها عقلي فوثبت كي أتجنبها. ولكني في وثبتي رأيتني على حافة الهاوية أكاد أسقط. وفي تلك اللحظة الحرجة رأيت فلما من أفلام طفولتي يمر بذاكرتي في سرعة برقية.
فهنا مأزق من مآزق الحياة قل إن خلا أحد من تجربته أو ما يشبهه: خطر داهم يجمع ذكرياتنا في بؤرة تسطع منيرة في وجداننا ... ولذلك نذكرها طيلة حياتنا. ولكن هناك تجارب أخرى يتكاثف فيها الزمن وتتجمع في وجداننا. وهي أيضا نتيجة المأزق الحرج الذي لا يبلغ الموت ولكنه يدانيه في عمق الإحساس وتنبه الوجدان.
صفحة غير معروفة